شهد التاريخ البشري كثيرًا من الطغاة الظلمة العابثين بعقول شعوبهم، والوالغين في دمائهم بما جبلوا عليه من الدهاء والمكر والخداع والمراوغة، والصيد في الماء الكدر. وهذه الشريحة من الحكّام و الجبابرة يستخفون أقوامهم وبعقولهم، فتطيعهم على حساب مصالحها وأموالها ودمائها. ومن هؤلاء الطغاة في العصور الغابرة فرعون الذي يقول الله تعالى عنه في محكم تنزيله: ﴿فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ﴾ [الزخرف:54]؛ فقد بلغ فرعون من استخفافه بعقول قومه نهايتَه، واستجهلهم، فأطاعوه لضعف عقولهم وخفة أحلامهم، ومشوا وراءه مثل قطعان الماشية تخضع لراعيها، وتمشي وراء قائدها حيث سار بها ذات اليمين وذات الشمال.
وما أكثر الطغاة المستبدّين من الحكّام والقيادات في كل عصر على شاكلة فرعون وإخوانه، ممن يستخفون بعقول شعوبهم، ويستبدّون بهم، ويرون أنفسهم فوق كل نصح ونقد واعتراض، يرون أن الرأي رأيهم، والمذهب ما ذهبوا إليه في صالح رعيتهم وشعوبهم التي فقدت حريتها واختيارها، كما حكى القرآن الكريم عن فرعون، الذي كان يقول بملء فمه، ويتبجّح به: ﴿مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾ [غافر: 29].
ومثل هذا الحاكم المستبدّ يبلغ من الكبر والعنجهية والغطرسة ما يجعله يتبنى المذهب الإقصائي لكل من خالفه، ويستميت في إسكان كل نأمة خلاف، والقضاء على كل بادرة معارضة، واستئصال جذورها بكل ما يملك من قوة ومال ومنصب وجاه، وحيلة ومكر ودهاء ضاربًا عرضَ الحائط بجميع الأعراف والقواعد والدساتير والمثل السائدة في البلاد، فلا احترام عنده لغيره، و لا معنى للتعددية في قاموسه، ولايفتح قلبه وعقله وسمعه وبصره لمئات من العبر والنصائح والمثلات. يقول القرآن الكريم حكاية عن فرعون موسى: ﴿أَمۡ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٞ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ٥٢ فَلَوۡلَآ أُلۡقِيَ عَلَيۡهِ أَسۡوِرَةٞ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَآءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ مُقۡتَرِنِينَ﴾ [الزخرف:52-53].
تجد هذا القبيل من الحكام والجبابرة – الذين يدعون لأنفسهم صكًّا سرمديًّا وحقًّا مقدسًا يبيح لهم سرقة خيار شعوبهم ومصادرة رغبتها- يجردون أقوامهم وشعوبهم من كل ما يؤدي بهم إلى المعرفة؛ و الكشف عن الحقائق و واقع الأمر، حتى ينسوها فلايطلبوا إزاحة الستار عنها، ويؤكد لهم أنه قد تولى البحث والطلب والاستكناه والاستخبار والتلمس والتحري، فكفاهم وشفاهم، ولا أحد أكثر منه سعيًا لمصالحهم، وتحقيقًا لما ترنوا إليه نفوسهم، يقول الله تعالى حكايةً عن فرعون: ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣٨ وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ إِلَيۡنَا لَا يُرۡجَعُونَ﴾ [القصص:38-39]، أراد فرعون أن يريهم أنه قد أحاط بكل شيء حق علمًا، فلو كان ثمة إله غيره لعلمه، فإذا لم يعلمه فلا إله غيره. وقد كانوا يرونه العالم الفاضل الذي مهما قاله فهو الحق، ومهما أمر أطاعوه. ويرى كل من عداه من المعارضين سخيف الكلام، مختل العقل، موبوءًا في تفكيره، غير مستقيم ما يأتي به، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا﴾ [الإسراء:101].
ويؤدّي بهذا الطاغية غطرسته وكبرياؤه؛ بل حمقه وسفهه إلى أن يتحدى الذي خلقه من تراب، وأخرج من بطن أمه، لايعلم شيئًا، ولم يكن شيئًا مذكورًا، يقول الله تعالى حكايةً عن فرعون: ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ﴾ [غافر:26]. … أبدى فرعون خوفه من تبديل موسى دين قومه أو إظهار الفساد فيهم، وهذا القول بعينه قول كل ظالم جبار عالٍ في الأرض، مهلك للحرث والنسل، مفسد فيها، عن كل مصلح وداعية. وهي كلمة الباطل الكُلاح في وجه الحق الوضاء الأبلج، وهو ما يراوغ به كل خبيث ماكر خادع في وجه الإيمان الساكن الهادئ. والمشهد يتكرر كلما يحدث صراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والفضيلة والرذيلة، مع اختلاف الأزمان والعصور وتواليها وتتابعها، فهذه العلة قديمة لايخلو منها حقبة من الأحقاب، ويمر بها العالم بين الحين والآخر.
* * * أبو عائض القاسمي المباركفوري
مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47