بهذا العدد من المجلة يستهل عام هجري جديد مخلفًا وراءه عامًا هجريًّا مضى بما فيه من حلو ومر. وبهذا التحول من عام إلى عام جديد يستعيد المسلمون ذكريات الماضي المجيد، ذكريات محمد وصحبه، ذكريات الأنصار والمهاجرة. وبهذه الهجرة بدأت ملامح الدولة الإسلامية التي قامت على العدل بين البشر: الصغير والكبير، والملك والصعلوك، والفقير والثري، والشريف والوضيع، والقريب والبعيد؛ و الانتصاف للمظلومين والمضطهدين الذين ذاقوا أنواع الويلات على أيدي بني جنسهم، الذين يأكلون كما يأكلون،ويشربون كما يشربون.

         لقد كانت الهجرة دليلا صارخًا على أن رسول الله ﷺ كان في دعوته  مترفعًا عن جميع المطامع والأهداف المادية، والنواحي الاقتصادية؛ فإنه يستحيل أن يوجه أحد حدثًا من أحداث الهجرة وأسبابها ونتائجها بالنواحي المادية والأغراض الاقتصادية؛ فقد كانت العوامل الروحية هي المهيمنة عليها جميعًا، وهي التي كانت تسيطر على مشاعره وأفكاره وتصرفاته هو وأصحابه.

         فمن يخفى عليه أن خصوم محمد ﷺ وأعداءه اللِّدَاد الذين كانوايتعطشون إلى دمائه، ويتربصون به ريب المنون، ويمكرون به ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ﴿وَإِذۡ ‌يَمۡكُرُ ‌بِكَ ‌ٱلَّذِينَ ‌كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. نعم، هؤلاء الأعداء أنفسهم عرضوا عليه كل ما يسيل له لعاب قادة الدنيا وحكامها وملوكها وحواشيهم.

         اجتمع أشراف قريش، وأرسلوا إلى محمد، فجاءهم، فكلموه، وأبدوا قلقهم على ما يقوم به محمد، ثم عرضوا عليه المغريات، وقالوا له: «فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك».

         ولكن هل رضخ محمد لمغرياتهم؟ هل استمالت قلبه واستهوته المناصب والأموال والجاه والملك؟ لا، والله، كان محمد يقول لهم قولًا واحدًا ثابتًا ثبوت الجبال الراسيات، لايحيد عنه قيد شعرة، ولايتزحزح عنه قيد أنملة. تقف الدنيا تصغي بسمعها إلى ما تنطق به شفاه محمد، ويقف التاريخ ينصت إلى الكلمة الخالدة الفاصلة الحاسمة التي يتوقف عليها مصير الإنسانية وتاريخ الحضارة البشرية. قال لهم محمد ﷺ: «ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم؛ ولكن الله بعثني إليكم رسولًا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

         فهذا رد محمد الحاسم، وهذه دعوة محمد، وهذا الذي كان يطلبه محمد من أم القرى ومن حولها، ومن في الأرض جميعًا، لايريد منهم على دعوته جزاء ولا شكورا: ﴿قُلۡ ‌مَآ ‌أَسۡـَٔلُكُمۡ ‌عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلٗا﴾ [الفرقان:57].                                                                                      [التحرير] (تحريرًا في الساعة الرابعة والنصف مساء من يوم الخميس: 18/ذي القعدة 1444هـ= 8/يونيو2023م)

مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48

Related Posts