تحكي لنا كتب التاريخ والسير والتراجم قصة شاب من شباب المسلمين الأول، قصة تحمل في ثناياها كثيرًا من العبر والعظات، وكثيرًا من الدروس لشبابنا اليوم، وهي قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه، شاب بعثه النبي ﷺ إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر إليها، بعثه أولَ داعية إلى الإسلام؛ ليقرئ أهلها القرآن، ويعلمهم توجيهات الإسلام وشرائعه، ويفقههم في دينهم، و يؤمهم في صلوات الجمعة. كان مصعب بن عمر فتى مكة جمالًا وشبابًا، وكان أعطر أهل مكة، وكانت أمه مليئة ثرية تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقها وأغلاها و أجملها. وذكره رسول الله ﷺ ذات يوم فقال: ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمةً، و لا أرق حلةً، ولا أنعم نعمةً من مصعب بن عمير». ويبلغه دعوة الإسلام بمكة المكرمة، فيسلم و يصدق إسلامه ويحسن، ويتكتم على إيمانه خوفًا من أهله وذويه وقومه. ثم هاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها، وعاد حين عادوا إلى مكة. وبعد أن أسلم تبدل مصعب نفسًا بنفسٍ، لاتكاد تعرف، وأذاب شمس الإسلام ما كان عليه من طلاء الكفر والشرك والغنى والثروة في بيته: من زينة ورياش وأثاث، ونشب وتلاد. وأقبل مصعب بن عمير ذات يوم والنبي ﷺ في جمع من أصحابه، وعلى مصعب قطعة من نمرة، قد وصلها بإهاب قد رَدَّنَه ثم وصله إليها. فلما رآه أصحاب رسول الله ﷺ تذكروا ما كان عليه، وما صار إليه، فنكسوا رؤوسهم رحمةً له، ليس عندهم ما يُغَيِّرُوْنَ عَنْه. فسلم فرد عليه النبي -ﷺ- وأحسن عليه الثناء، وقال: «الحمد لله، لَيقلب الدنيا بأهلها. لقد رأيت هذا -يعني مصعبًا- وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيمًا منه. ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله».
استشهد مصعب بن عمير يوم أحد، ولم يأكل من أجره شيئًا، فعن خباب رضي الله عنه، قال: هاجرنا مع النبي ﷺ نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها، قتل يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، «فأمرنا النبي ﷺ أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر».
سبحان الله، فتى قريش مالًا وجمالًا وعطرًا وشبابًا لايجدون له ما يكفنونه فيه! هذه صورة لشباب الإسلام في مكة المكرمة حين كان الإسلام يعاني الضغوط، وأهلُه يتعرضون لأنواع من البلايا والمتاعب: ضرب،وحبس، وإهانة، واضطهاد وتشريد؛ ولكنهم صبروا، وصمدوا لها كالجبال الراسيات، صورة من أروع صور التضحيات والبطولات ابتغاء مرضاة الله تعالى وإعلاء كلمته سبحانه.
وصورة أخرى نراها كل يوم لشباب اليوم، شباب لهو ولعب، ولغو من القول والعمل، يميل كالغصن مع هوى نفسه، ويَلِغُ في ملذات الحياة وترفها ونعيمها، وشهوات السمع والبصر، وما توفر له من النشوة والمال والثراء، وخبب البازل الأمون، والسيارات الفارهة؛ كل ذلك جعل على بصره غشاوة، فلايرى ما يجب عليه تجاه دينه وقبل ذلك تجاه نفسه، وأهله وذويه؛ وعلى أذنيه وقرًا، فلايكاد يسمع داعي الحق والدين، وما فيه صلاحه وفلاحه، وخيره في الدنيا والآخرة، و ران على قلبه ما يعمل من السيئات، وما يجترح من الشنائع والخطيئات، ولايهمه إلا نفسه: من حسن هندامه، وقصة شعره وتسريحه، وتقاطيع ثيابه وتفاصيلها، والنظر في عطفيه، وإشباع نهمته في هذه الدنيا الفانية.
وذات يوم كنت في طريقي إلى السوق لأشتري بعض حوائج البيت؛ فإذا أنا بشاب غر ريان من ماء الشباب والصبا، يختال في مشيته مرحًا كأنما يصعد في السماء أو يبلغ الجبال طولًا أو يخرق الأرض خرقًا يستحيل معه التئامها، وتعزُّ عودتها إلى حالتها الطبيعية، فاستوقفني قصة شعره: قصة إنجليزية أو فرنسية أو سَمِّهَا ما شِئْت من أعاجيب الأسماء وأنكرها، قصة تبعث النفور و الاشمئزاز في نفس الناظر إليها، وعلى جسده ثوب مخرق من على ركبتيه فظننت أنه ألهاه عن خرقه اشتغاله في أمور البيت أو شؤون الأمة الإسلامية التي تئن تحت أرزاء الويلات والنكبات في شتى بقاع الأرض. فدنوت إليه وهمست في أذنيه ببعض ما خالجني من أمره، ورابني من شأنه.فإذا هو سادر في غلوائه وغفلته، موغل في سكرته، لايفكر فيما يجني سلوكه على نفسه، وعلى أبناء دينه وجنسه من الآفات و المصائب والنوازل، يميل مع كل ريح، ويستهويه كل صبيح، وإن أذاقه ذلك صابًا وعلقمًا. وكأنه يتمثل بقول الشاعر:
فلأخلعن ثوب الوقار عن الصبا
ولألبسن ثوب الهوى متبخترًا
ولأشربن كأس الصبابة علقمًا
حتى أعاطي كأس وصلٍ سكرا
إن كثيرًا من شباب اليوم يتهافتون على كل ما يدعو إلى الخنا والفساد والفواحش، من كتب ودواوين، وقصص وروايات، وأفلام ومجلات وجرائد، وصحف، وإذاعة، وتلفزيون و سينما، و مسرحيات وفيديوهات، يركز جلها على الإثارة، ويفتنُّ في ضروب مخاطبة الغريزة، ومعاداة الدين و توجيهاته، ومعارضته على طول الخط وعرضه، بصورة خافية ومكشوفة؛ تحمل في الغالب على الميوعة والسفور، والتحلل، والتنمر على الفطرة البشرية، وعلى توجيهات الدين الإسلامي الحنيف الذي فطر الله تعالى الناس عليه؛ وتدعو إلى التهليل والتطبيل لكل خبيث وخبث، وخنا وفجور، فأصبح الشاب كما قيل:
بَطِيءٍ عَنِ الْجُلّى سَريعٍ إلى الخَنَا
ذَلولٍ بِأَجْمَاعِ الرّجالِ مُلَهَّدِ
فلم يجلب عليه إلا ما وصفه الشاعر:
هَوَان الحَيَاةِ، وذُلّ المَمَاتِ
وكلا أراه طَعَامًا وَبِيْلًا
أيها الشاب المسلم، اتق الله في نفسك وفي أمتك، وإياك وأن ترتع في هذا المرتع الوخيم؛ فإنه لايجر عليك إلا الخراب في الدنيا، وغضب الله تعالى في الآخرة، وتندم حيث لامندم:
ولَتَعْرِفَنَّ خَلائِقًا مَشْمُولَةً
ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ
- * *
أبو عائض القاسمي المباركفوري
مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48