يقول محمد بن سلّام – بالتشديد- بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله (المتوفى:232هـ) في كتابه القيم: «طبقات فحول الشعراء»: «أخبرني عيسى بن يزيد بن دأب بإسناد له عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال لي عمر: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. قلت: وكان كذلك؟ قال: كان لايعاظل بين الكلام، ولا يتبع وحشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه».

         ما أحسن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصف الشاعر زهير بن أبي سلمى، و تعليله لإيثاره أبياته ليستمع على لسان عبد الله بن عباس رضي الله عنه. فالإطراء في المدح، وكيل الثناء لمن لايستحقه، ولايستوجبه من الخصال المبغوضة عند الله تعالى. وهذه الخصلة الشنيعة أصبحت ظاهرةً سائدةً في المجتمع البشري المسلم بلهَ غيره. ويستوي في ذلك الأفراد و الجماعات حتى بعض القيادات التي يحسن الناس الظن بها، وتحل في قلوبهم مكانا أسمى و أجل من سفاسف الأمور وخصال الدون. فكم منا من يمدح صاحبه بما ليس فيه، ويبالغ في إطرائه وكيل الثناء له؟ ويخرج في مدحه عن الحد المعقول، فيدخل في باب المغالاة؟ وما أكثر من يحب أن يُحمد لما يفعل، ويمطر عليه الناسُ وابلأ من المدح والثناء العاطر بما لم يتصف به، وربما لم يخطر بباله الاتصاف به، وأشارت الآية القرآنية إلى فشو هذه الظاهرة في المنافقين وغيرهم في فاتحة الإسلام، فيقول الله تعالى: ﴿لَا ‌تَحۡسَبَنَّ ‌ٱلَّذِينَ ‌يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [آل عمران:188].

         كم شهد كاتب هذه السطور، وناس آخرون في كثير من الحفلات الدينية وغير الدينية التي تعقد من حين لآخر في مختلف أصقاع البلاد ونواحيها بهدف الترغيب في الخصال الحميدة، والتقيد بالشعائر الإسلامية، والتحلي بالأخلاق النبيلة، أن مقدم البرنامج يصف الخطيب أو المقرئ بما ليس فيه معشار ما وصفه به، ويلقبه بألقاب فارغة لامعنى لها، ولايصدق على الذي قيل له من قريب أو بعيد، ويُشرب صاحبَه ما لم يَشرب، ويدعي فيه مَا لم يَفْعَله عن جهل أو عن غرة. والذي قيل فيه كل ذلك يهتز فرحًا وينتفخ أشبه بالهر الذي يحكي انتفاخًا صولة الأسد، كما يقول أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى:463هـ) – حين سألوه أن يزور الأندلس- بيته الشهير الذي يكاد يصير مضرب المثل:

مما يزهِّدني في أرضِ أندلُس

أسماءُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ

ألقابُ مملكةٍ في غير موضِعِها

كالهر يحكي انتفاخًا صولةَ الأسدِ

         وقال عليّ كرّم الله وجهه: الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. وقد رُوي أنّ إبليس قال: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها: إذا أُعجب بنفسه، واستكثر عمله، وسُرَّ بمدحه بما لم يفعله.

         كان المدح في الشعر العربي أحد الموضوعات الهامة في الحياة البدوية العربية، ويقوم على المدح بصدق وعفوية؛ فإنه كان عبارة عن اعتزاز الشاعر لممدوحه والإعجاب به ثم ظهر اتجاه جديد آخر، وهو التكسب بالمدح في بلاط الملوك والأمراء. وهي ظاهرة جديدة عرفها شعراء الجاهلية واتخذها بعضهم مهنةً يكسبون بها لقمة العيش.

         وكان زهير بن أبي سلمى من الشعراء الذين يتصفون بالصدق والواقعية في مدحهم، فلا يقول أحدهم إلا ما يراه صدقًا وصوابًا، ولايصف إلا ما أحس، وشعر به دون مغالاة أو شطط. فإن خطر بباله أنه بالغ في مدحه أو غلا فيه، وأحس أنه يوصَم بخروجه عن الحد المعقول إلى المغالاة في الثناء والمدح أتى بما يبرر وصفه ومدحه، ويجعله مقبولا غير مرذول. فيأتي في مدحه بلفظ «لو» أو «لولا»، أو أورد شرطًا أو جاء بكاد، وما يجري مجراه ليسلم من العيب، ويحترز من النقيصة. وهذا نحو قول زهير:

لَو نَالَ حيٌ من الدُّنْيَا بمنزلةٍ

أفق السَّمَاء لنالت كَفه الأفقا

ومثل ذلك قوله في مدح هرم أيضا:

لَو كنتَ من شَيءٍ سِوَى بَشَرٍ

كنت المُنِيرَ لِلَيلَــــــــــــــــــــةِ البـــــــــــــــــــدرِ

         وقوله:

فَلَو كانَ حَمدٌ يُخلِدُ الناسَ لَم تَمُت

وَلَكِنَّ حَمدَ الناسِ لَيسَ بِمُخلِدِ

         والحاصل أن ما حكم به عمر رضي الله عنه على شعر زهير قائم على الأساس الذي دعا إليه الإسلام من تجنب التشدق والتفيهق، والتكلف، وإلى البساطة في التعبير والواقعية في الوصف، والصدق في المدح والثناء. فعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أحبكم إلي، وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساوئكم أخلاقًا، الثرثارون، المتفيهقون المتشدقون» [مسند أحمد:17732].

         وعن ابن عباس، أنه سمع عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي ﷺ يقول: «لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبــــــده، فقولوا: عبد الله، ورسوله» [صحيح البخاري:3445].

         وعن الأصمعي يقول: سمعت أعرابيًّا من حكماء العرب يقول: كفى جهلًا أن يمدح المادح بخلاف ما يعرف الممدوح من نفسه.

         قال الغزالي في الإحياء(3/159): والمدح يدخله ست آفات: أربع في المادح، واثنتان في الممدوح: فأما المادح: فالأولى أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب. قال خالد بن معدان: من مدح إمامًا أو أحدًا بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه. والثانية: أنه قد يدخله الرياء؛ فإنه بالمدح مظهر للحب؛ وقد لا يكون مضمرًا له، ولا معتقدًا لجميع ما يقوله فيصير به مرائيًا منافقًا. والثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه، ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه. وروي أن رجلا مدح رجلا عند النبي ﷺ فقال له عليه السلام: «ويحك قطعت عنق صاحبك، لو سمعها ما أفلح». ثم قال: «إن كان أحدكم لا بد مادحًا أخاه فليقل: أحسب فلانًا، ولا أزكي على الله أحد، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك». وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقوله: إنه متقٍ، و ورع، و زاهد، وخير، وما يجري مجراه. فأما إذا قال: رأيته يصلي بالليل، ويتصدق ويحج؛ فهذه أمور مستيقنة. ومن ذلك قوله: إنه عدل رضا؛ فإن ذلك خفي؛ فلاينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرةٍ باطنةٍ. و سمع عمر رضي الله عنه رجلا يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا. قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة؟ قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه؟ قال: لا. فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لا أراك تعرفه. والرابعة: أنه قد يفرح الممدوح، وهو ظالم أو فاسق، وذلك غير جائز. قال رسول الله ﷺ: «إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق». وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء؛ فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه. والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم، ولا يمدح ليفرح. وأما الممدوح فيضره من وجهين: أحدهما: أنه يحدث فيه كبرًا وإعجابًا. وهما مهلكان. قال الحسن رضي الله عنه: كان عمر رضي الله عنه جالسًا ومعه الدرة، والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل : هذا سيد ربيعة. فسمعها عمر، ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: مالي ولك، أما سمعتها؟ قال: سمعتها فَمَه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء، فأحببت أن أطأطيء منك. والثاني: هو أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به، وفتر، و رضي عن نفسه، ومن أعجب بنفسه قل تشمره. وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصرًا. فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك. ولهذا قال عليه السلام: «قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح». وقال ﷺ: «إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضا». وقال أيضا لمن مدح رجلا: «عقرت الرجل عقرك الله». وقال مطرف: ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشيطان. ولكن المؤمن يراجع. فقال ابن المبارك: لقد صدق كلاهما، أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام. وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص. وقال ﷺ: لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيرًا له من أن يثني عليه في وجهه».اهـ أبو عائض القاسمي المباركفوري

مجلة الداعي، ذوالحجة 1444هـ = يونيو – يوليو 2023م، العدد: 12، السنة: 47

Related Posts