بقلم: الأستاذ محمد شاهنواز القاسمي البلياوي(*)
قَرَّت أعينُنا منذ أيام بكتاب قيم حافل بالمعلومات الدقيقة والمحتويات الساطعة يتناول دراسة موسوعية شاملة تصف أكبر وأعرق الجامعات الإسلامية في شبه القارة الهندية: «دارالعلوم ديوبند» بعهودها الزاهرة المجيدة الماضية بما سطرت على جبين الدهر صفحات ناصعة البياض من روائع الأمثلة ونوادر البطولات في سبيل إحياء الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من علوم عوالٍ وفنون غوال، وإنقاذ المسلمين من الوقوع في هوة البدع والخرافات، والأخذ بأيديهم إلى الدين الصحيح والمنهج الأسنى: الوسطية والاعتدال بعيدًا عن الغلو والإجحاف، وهو «مسيرة دارالعلوم بديوبند عبر مئة وخمسين عامًا» طبعته أكاديمية شيخ الهند التابعة للجامعة في حلة قشيبة زاهية تملك القارئ بمظهره قبل مخبره وبشكله قبل مضامينه. وذلك في مُجَلَّدَيْنِ فاخرَيْنِ، يحتوي المجلد الأول منهما على ٦١٤ صفحة، بينما يضم المجلد الثاني بين دفتيه ٤٩٤ صفحة.
ومما يُثلج الصدور ويسترعي الانتباه أن الكتاب دبَّجَه يراع الأديب المكين، والكاتب الإسلامي البصير، ذي الأسلوب الرصين البحاثة الأفيق الشيخ محمد ساجد القاسمي حفظه الله ورعاه رئيس تحرير مجلة النهضة الأدبية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند وأستاذ التفسير والأدب العربي بها.
والكتاب وضعه صاحبه في تاريخ دارالعلوم/ ديوبند التي هي أكبر وأعرق جامعة إسلامية أهلية لها نفوذ عجيب في خلايا المجتمع وشعبية منقطعة النظير في شبه القارة الهنديّة، لاتعدلها أية جامعة أو مدرسة أخرى حبًّا وتقديرًا، وهي مازالت ولاتزال -وستظل بإذن الله- منذ يومها الأول جاهدة في توجيه المسلمين وجهة دينية صائبة في إطار الوسطية، وخدمة القرآن والحديث والفقه، والتراث الإسلامي المتوارث عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم من السلف الصالح كابرًا عن كابر، فهي حقًّا تُشَكِّلُ قلبًا خفّاقًا متدفقًا للأمة الإسلاميّة الهنديّة، التي تحبها حب الأم للابن، وتعشقها عشق قيس لليلاه، ومن هنا تعتبرها موئل العلم والعرفان، ومرجع الدين والشريعة الإسلاميّة الغراء، تفزع إليها كلما نزلت بها معضِلةٌ واستغلق على أفهامها حكم شرعي؛ فلاتستفتي إلا إياها فيما يتعلق بالشريعة، ولاتعمل إلا بما توجهها وبما تشير إليه.
وبما أن الجامعة تحتضن تاريخًا طويلًا مُشرقًا حافلًا بالإنجازات العلميّة والنشاطات الدعوية والفعاليات الدينية على مدار الأعوام الطوال مست الحاجة بشدة إلى أن يُسَجَّل تاريخها بفصوله المعاصرة باختصار من جديد في أربع لغات: العربية والأردية والهندوسيّة والإنجليزيّة، بيانًا وتعريفًا بأعمالها البنّاءة النافعة للقراء الكرام بمختلف فئاتهم، وفعلًا وافق مجلس الشورى للجامعة على المشروع المتمثل في وضع كتاب يخدم الهدف المنشود.
ولتأليف الكتاب بلغة العرب وقع النظر على أديب العربية الكبير فضيلة الشيخ محمد ساجد القاسمي الأستاذ بالجامعة، فاختارته الجامعة لهذا السِّفر التاريخيّ الجليل، – وحقًّا ذلك اختيار رائع-؛ لما له من الكفاءة العلميّة الأدبية وطول الباع وعلو الكعب في مجال اللغة العربية وآدابها، فجاء الكتاب بحمد الله كما هو شأنه، وفي فضيلته حقه، يشف عن جهده وجهاده الحثيث الدؤوب الذي استنفده في سبيل إعداد هذا التراث العلمي الثمين، والكنز التاريخي العظيم. شكر الله سعيه، وكتب لمؤلَّفه قبولًا حسنًا، وجزاه عن الأمة المسلمة الهنديّة خير جزاء.
والكتاب قاسمه المشترك تسجيل ماحصل في دارالعلوم منذ يوم نشأتها الأول لحد الساعة بدءً بإنشائها وعوامل إنشائها، وأهم فصول من حياة مؤسسيها وبُناتها، مرورًا بمنجزاتها، ومعطياتها عبر شتى العصور في مختلف المجالات، وفعاليّاتها في نشر الحق ومكافحة الشر، وإضاءة النور ومطاردة الظلام وانتهاءً بما تم لها من التطور والازدهار في حقول البناء والعمران، والتعليم والتربية، حتى غدت اليوم دوحة باسقة الأغصان وارفة الظلال تؤتي ثمارها يانعة الجنى دانية القطوف كل حين بإذن ربها، أصلها في الأرض وفرعها في السماء.
وانطلاقًا من استيعاب شتى نواحي الجامعة قام المؤلِّف بتوزيع كتابه في ثمانية أبواب، كما يقول في مقاله المتصدر بعنوان “كلمة المؤلف”: “وقد صنفتُ هذه المواد كلها وقسمتها، حتى جاء الكتاب مشتملًا على ثمانية أبواب:
الباب الأول في تاريخ المدارس الإسلاميّة في الهند، وخلفيّات تأسيس الجامعة، وقصة تأسيسها، ودستورها وأهدافها، ومميّزاتها وخصائصها.
والباب الثاني في مسيرة الجامعة الممتدة على أربعة عصور بدءًا من السنة الأولى ١٢٨٢ھ وانتهاءً إلى السنة المئة والستين ١٤٤٢هـ، ومهرجانها المئويّ، والخط الزمنيّ لأهم الأحداث التي وقعت خلال هذه العصور ومباني الجامعة وعماراتها.
والباب الثالث في الكلام عن المنهج الإداريّ للجامعة والأقسام والإدارات التابعة لها.
والباب الرابع في المنهج التعليميّ للجامعات والمدارس الإسلاميّة في الهند، والمنهج التعليميّ للجامعة، وخصائصها التعليمية، والمنهج الدراسيّ للعلوم الشرعيّة للجامعة، ومنهج القبول والتسجيل لها.
والباب الخامس في النسب العلميّ والانتماء الفكريّ لعلماء ديوبند، وكونهم من أهل السنة والجماعة، وعضهم على مذهبهم بالنواجذ، وشيء من عقائدهم ومواقفهم في مسائل الدين، ونماذج مشرقة من سيرتهم وسلوكهم.
والباب السادس في جهود الجامعة في نشر الثقافة الإسلامية، والدفاع عن الإسلام، وجهودها في مجال السياسة والاجتماع وفي تحرير البلاد من الاستعمار البريطانيّ.
والباب السابع في انطباعات وشهادات من زار الجامعة من كبار الشخصيات من شتى بلاد العالم، وفي الأناشيد والمدائح التي قِيْلَتْ عنها.
والباب الثامن في تراجم كبار أساتذتها ومشايخها وأبنائها النابهين”([2]).
ففي الباب الأول تناول المؤلف بالذكر تأسيس الجامعة وأهدافها، فاستهلها بنبذة من تاريخ المدارس الإسلاميّة في الهند، أثبت من خلالها أن المدارس بادئ ذي بدء اعتمادها جله بل كله على المساجد، فالمساجد هي التي تتمثل معبدًا ومركزًا لدراسة العلوم الشرعيّة الإسلاميّة في حين واحد، ثم تحولت المدرسة فيما بعد مستقلة، وظلت تنشأ على حدة، والمؤرخون ذكروا أن الخليفة المأمون العباسي هو أول من أقام معهدًا للعلم في بغداد، سماه بيت الحكمة، وذلك في سنة ١٩٨ھ، وفي الموصل بالعراق أسس جعفر بن محمد الموصلي دارًا للعلم، زودها بمكتبة تزدان بعدد هائل من الكتب لجميع فنون المعرفة، وأسس الفاطميون في مصر دُوْرًا مماثلةً لنشر الدعوة الفاطميّة.
ويتلوه ذكر المدارس الإسلامية في الهند، حيث عَنْوَنَهُ المؤلف بـ “بداية المدارس الإسلامية في الهند”، وحصيلة ماقاله أن المؤسس الأول للمدارس في الهند هو الأمير ناصر الدين قباجة، فإنه أنشأ مدرسة في أوج ملتان في أوائل القرن السابع الهجري، كما كان الملك فيروز شاه تغلق (٧٢٥-٧٩٠) كبير العناية بالعلم والفن، كثير التوقير لأهل العلم والفن، شديد الحرص على إقامة المدارس وإنشائها، فأقام بدهلي مدرسة، وهي مدرسة فيروز شاهي، كما أقام لتعليم البنات مدارس خاصة، وبالتالي ظلت المدارس في عهد الحكومة المغوليّة تتكاثر وتتضخم، وانتشرت شبكتها في البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها.
وفي أعقاب ذلك سِيْقَتْ خلفيّاتُ تأسيس الجامعة، فتعرض المؤلف لمقال الشيخ محمد يعقوب النانوتوي؛ حيث وصفها الشيخ – رحمه الله- بكل إشراقة، فأرى من المناسب أن يشاركني القراء الكرام جودة البيان ومتعة الشرح كمايلي:
« لقد جاء تأسيس هذه المدرسة بعد ثورة عام ١٨٥٧م بفترة قصيرة لإحياء علوم الدين، وكانت الحالة توحي أن العلوم الإسلامية سيُقْضَى عليها بالزوال، ولايتمكن أحد أن يَدْرُسَ أو يُدَرِّسَ، فقد أوحشت كبرى المدن التي كانت تحتضن دُوْرَ العلم و معاهد التعليم، وأصبح العلماء في هرج ومرج، وضاعت الكتب وساد الخوف، فإذا رغب أحد في تحصيل العلم فأين يذهب، وعمن يأخذه؟ وخُيِّلَ أن العلماء الذين هم الآن على قيد حياتهم إذا ماتوا في غضون عشرين أو ثلاثين سنة لايوجد من يُعَلِّمُ الناس أركان الوضوء وواجبات الصلاة.
في هذه الفترة العصيبة والجو المتشائم أقبل فضل الله على عباده، وعَمّتْهُمْ رحمتُه، ونزلت سحائبُ عطائه غزيرةً، حيث ألقى في رُوع عباده الصالحين فكرةَ تأسيس هذه المدرسة.
ولما كانت هذه المدرسة نتيجةَ فكرة ملهمة أُلْقِيَتْ في رُوعهم، وبارَكتْها يدُ الرحمن، أصبحت حركةً علميّةً فكريّةً إصلاحيّةً شاملةً، وقد كانت في بداية أمرها نبتةً صغيرةً فعادت دوحةً وارفةَ الظلال كثيرةَ الشُّعَب والأغصان كشجرة طيّبة أصلها في الأرض وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، كأنهم قالوا عندما أنشأوا هذه المدرسة: نحن نُخَرِّج جِيْلًا هنديّ النِّجار واللون، إسلاميّ الفكر والثقافة، وفيًّا للحضارة الإسلاميّة ذا وعي إسلاميّ في مجالات الحياة المختلفة”([3]).
وفي آخر مقال لهذا الباب سرد المؤلف قصة تأسيس الجامعة إلى جانب أهدافها، وخصائصها ومزاياها، فذكر أن هذه المدرسة التي تُعْرَفُ حالًا بأم المدارس الجامعة الإسلاميّة دار العلوم ديوبند، قام بإنشائها نخبةٌ من العلماء الربانيين بمن فيهم الشيخ محمد عابد الديوبندي، والشيخ محمد قاسم النانوتوي، والشيخ ذوالفقارعلي الديوبندي ومن إليهم. والمدرسة ابتدأت في مسجد تشته بمدينة ديوبند تحت شجرة الرمان، يوم الخميس: ١٥/ من المحرم الحرام ١٢٨٣ھ الموافق ٣١ من مايو عام ١٨٦٦م، بمعلم واحد وبتلميذ واحد، فالأستاذ هو الشيخ محمود الديوبندي، والتلميذ اسمه أيضًا محمود الذي اشتهر فيما بعدُ بشيخ الهند.
ثم أعقبه الباب الثاني الذي يغطي فوق مئة صفحة من الكتاب؛ ليشتمل على الأحداث والتطورات التي مرت بها الجامعة عبر مسيرتها الطويلة الممتدة على مئة وستين عامًا، وهي منقسمة إلى أربعة عصور: العصر الأول من ١٢٨٣-١٣١٣- ١٨٦٦- ١٨٩٥، والعصر الثاني منذ ١٣١٣-١٣٤٩ -١٨٩٥-١٩٣٠م، والعصر الثالث منذ ١٣٤٨- ١٤٠١-١٩٣٠-١٩٨١، والعصر الرابع من ١٤٠١ – ١٤٤٢- ١٩٨١- ٢٠٢١م.
ركز المؤلف في هذا الباب على استيعاب الأحداث التي مُنِيَتْ بها الجامعة بالتزامن مع الإنجازات التعليمية والبنائية التي تحققت لها. ولقد أحسن المؤلف إذ سجل هذه الأحداث والإنجازات برمتها سنة تلو سنة من العام الأول إلى العام الستين والمئة؛ مما يعكس مدى جهوده المكثفة التي بذلها في ترتيب الكتاب.
وتبعه الباب الثالث المتضمن ٤٢ صفحة، جاء الحديث فيه عن الهيكل الإداري والتنظيمي للجامعة ومختلف أقسامها، بالإضافة إلى بيان منهج الإدارة ومجلس الشورى، والمجلس التنفيذي، كما حصلت الإشارة إلى شرح مناصب قيادية وأجنحة إداريّة منها منصب رئيس الجامعة ونائبه، ورئيس هيئة شؤون التدريس، وعميد شؤون قبول الطلاب والتسجيل، ليتم عدد الأقسام الإدارية التي بلغ عددها ١٩ قسمًا، بينما تربو الأقسام التعليمية على ٨ أقسام.
أما القسم التعليمي فهو قسم العلوم الشرعية والتخصصات فيها، ويدخله ثمانية أقسام على النحو الآتي: قسم العلوم الشرعية الذي يستغرق التعليم فيه ثماني سنوات، وقسم التخصص في التفسير، وقسم التخصص في الحديث النبوي الشريف، وقسم التخصص في الفقه والإفتاء، وقسم التخصص العالي في الفقه والإفتاء، وقسم التخصص في العلوم الشرعيّة، وقسم التخصص في اللغة العربيّة، وقسم التخصص العالي في اللغة العربية وآدابها. ينتهي هذا الباب ببيان الأقسام الدعويّة والثقافية التي تبلغ عشرة أقسام.
وتلاه الباب الرابع، تصدى فيه المؤلف منهج التعليم والتربية للجامعة، حيث فَصَّلَ في ثناياه المنهج التعليمي للجامعات والمدارس الإسلامية في الهند؛ ليتوصل إلى صلب المنهج التعليمي للجامعة وخصائصه، والمنهج الدراسي للعلوم الشرعية فيها بجانب منهج القبول والتسجيل فيها. واستعرض المؤلف هذا الباب فأجاد وأفاد وأتى بما يستطاب ويستفاد.
وأعقبه الباب الخامس الذي يشتمل على ٣٦٤ صفحة، ويبحث عقائد علماء ديوبند ومواقفهم، يتخللها نسبهم العلمي وانتماؤهم الفكري، تأكيدًا على كونهم عاضين على مذهب أهل السنة والجماعة بنواجذهم مع بيان نماذج مشرقة من سيرة علماء ديوبند وشمائلهم.
يتطرق الباب إلى أن الديوبنديّة ليست جماعةً تشتط عن جادة السلف الصالح، أو مذهبًا جديدًا بعيدًا عن أهل السنة والجماعة، بل الديوبندية عبارة عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وعضوا عليها بالنواجذ، والديوبندية في الحقيقة اسم ثان مرادف في شبه القارة الهندية لأهل السنة والجماعة لايحيد عنهم قيد شبر. يقول المؤلف تحت مسمى «خلاصة البحث»:
«خلاصة القول أن علماء ديوبند يعضون بالنواجذ على مذهب أهل السنة والجماعة، فهم -علماء ديوبند- يجمعون بين القانون (الشريعة) والشخصيات (شخصية النبي وأصحابه ومن ساروا على نهجه) ويعتمدون في فهم مرادات الكتاب والسنة على المعلمين الثقات، ويهتمون أن ينتهي نسب هؤلاء المعلمين والمربين علمًا وعملًا وذوقًا ومزاجًا مارًّا بالصحابة إلى النبي ﷺ».
وجملة القول أن علماء ديوبند يأخذون بجميع شعب الدين العلمية والعملية التي نبعت من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، مثل التفسير والحديث والفقه والكلام والسياسة والتزكية والإحسان، كما يقومون بتوقير واحترام جميع المفسرين والمحدثين والمجتهدين والفقهاء ورجال التزكية والإحسان الذين نبغوا في علومهم وفنونهم والذين وصل إلينا هذا الدين عن طريقهم، وقد ورثت علماء ديوبند هذه الجامعية والاعتدال والاتزان والتوسط والتحفظ من مورثهم الأعلى الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي”.([4])
ثم انطوى الكتاب على الباب السادس، الذي يشكل أضخم بابٍ وأطول بحثٍ، حيث يبتدئ من ٣٦٧ لينتهي إلى ٥٩٣ صفحة، صب فضيلة المؤلف فيه عنايته على العناوين الآتية: الجامعة حركة متعددة الأبعاد، هي حركة تعليمية عالمية، جهودها في نشر الثقافة الإسلامية، جهودها في الدفاع عن الإسلام، جهودها في مجال الدعوة والتزكية والإصلاح والإرشاد، جهودها في مجال السياسة والاجتماع، جهودها في تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني. عالج المؤلف هذه الموضوعات معالجة جميلة؛ ليزود القارئ الكريم بمعلومات ثرة غزيرة ويشبع نهمته.
أما المجلد الثاني للكتاب ففيه بابان: السابع والثامن. يتحدث الباب السابع عن انطباعات وشهادات رجال الأمة الكبار والشخصيات البارزة الإسلامية.
من المعلوم أن الجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند إحدى الجامعات التي طَبَّقَ صيتُها آفاق العالم وسار ذكرها مسير الشمس من أدناه إلى أقصاه؛ فزارها عدد لابأس به من رجال العلم والفن والدعوة والإرشاد، والسياسة والحكومة من المسلمين وغيرهم، وأخذوا جولات خلال مرافق الجامعة وجنباتها؛ فلما رأوها بأم عيونهم هاموا بها حبًّا وإعجابًا معربين عن عواطفهم الجياشة وانطباعاتهم الطيبة فيض الساعة، تارةً بإلقاء الكلمة أمام جمع حاشد غفير من المدرسين والطلاب في دارالعلوم ديوبند، وأخرى بتسجيل الكلمات في سجل الزوار والضيوف. ولقد أودع المؤلف حفظه الله طيات الكتاب انطباعات كثير من الضيوف الكرام من رجال العلم والعرفان والسياسة والاجتماع تعميمًا للفائدة حيث يقول في فاتحة صفحة للمجلد الثاني:
« لقد زارها عبر قرن ونصف من الزمان عدد كبير من كبار العلماء والمشايخ والكتاب والمفكرين، والأدباء والشعراء، والصحفيين والدكاترة، والمهندسين والأطباء، والقادة والزعماء من مختلف أقطار العالم ولاسيما العالمين: العربي والإسلامي، وسجلوا في دفتر الانطباعات انطباعاتهم عنها وإعجابهم بها في مختلف اللغات من العربية والفارسية والأردية والهندية والإنجليزية، وهي في مئات الصفحات، أما الكلمات التي قاموا بإلقائها والتي عبروا فيها عن إعجابهم بها فهي متناثرة في بطون الكتب، أو على صفحات الجرائد والمجلات. وعرضُ آرائهم وانطباعاتهم كلها إلى القراء يحتاج إلى مجلدات.
غير أني أقتبس غيضًا من فيض مما كتب أو قال كبار الشخصيات الإسلامية والعلمية والثقافية والسياسية من مختلف بلاد العالم، وأحاول أن أثبته حسب التسلسل الزمني»([5]).
والباب الثامن هو الأخير، أورد فيه المؤلف تراجم مؤسسي الجامعة والمشرفين عليها، ورؤساء الجامعة، ورؤساء هيئة التدريس وهيئة الإفتاء، ومشيخة الحديث بها، إلى جانب تراجم كبار المشايخ والأساتذة بها، كما تعرض بإيجاز لتراجم عدة أساتذة كبار ممن هم على قيد الحياة.
هذا، وتتناثر في مطاوي السّفر دقة النقل وقوة الاستدلال وحسن العرض، ضمن كتابة جميلة وكلمات معبرة وسبكة محكمة تجمع بين العقل والعاطفة وكأنك تجالسه في مجلس علم وتاريخ تتطيب جوانبه بمختلف الأطياب من المعلومات القيمة.
فالكتاب في الحقيقة هدية غالية، وحاجة كل طالب لتاريخ الجامعة، ومصدر كل معلم له، ودليل كل مؤرخ ممن وَلَج بابه، وسند كل من يريد لنفسه حظًّا في دارالعلوم/ ديوبند، ونصيبًا في مسيرتها.
وهو بجمال ظاهره ورشاقة منظره، إلى عمق معناه وشفافية مدلوله، يترك أثرًا في النفس وروعة في القلب. وبقيمته الكتابية، وغزارة فائدته يشكل مصدرًا تاريخيًّا موثوقًا به، يُوَافِي الموضوعَ بالبحث، ويُغْنِيْهِ بالبيان والتوجيه. ويزدان بمراعاة كاملة لعلامات الترقيم ورموز الوقف.
نبذة عن المؤلف:
هو العالم الصالح الوقور، أديب العربية الكبير فضيلة الأستاذ الشيخ المفتي محمد ساجد القاسمي بن محمد واجد خان، ولد حوالي ١٣٩٥ھ =١٩٧٢م، بقرية عمرسيرها التابعة لمديرية هردوئي، بولاية يوبي، الهند.
تلقى الشيخ تعليمه الابتدائي في قريته، ثم توجه إلى كانفور؛ ليتعلم في رحابها علوم العربية حتى التحق بالصف الخامس العربي في دارالعلوم ديوبند وتخرج فيها حاملًا شهادة الفضيلة. ثم تخصص في الفقه والإفتاء في الجامعة نفسها، وتقلب في شؤون التدريس في مختلف المدارس الإسلامية في أرجاء الهند حتى ساقه حظه الموفور؛ ليعين مدرسًا في دارالعلوم ديوبند عام ٢٠٠٣ م، ويمارس حالًا كأستاذ مادتي التفسير والأدب العربي بالجامعة، كما يتولى رئاسة التحرير لمجلة “النهضة الأدبية” الفصلية الصادرة عن النادي الأدبي التابع للجامعة.
والمؤلف -كلأه الله- له قلم عذب بليغ سيّال، وذوق أدبي رفيع، وأسلوب طريف رائع، وهو من أساتذة الجامعة المتقنين، اتخذ اللغة العربية شغلًا شاغلًا؛ ليجعل تعليمها وتوسيع رقعتها طاعة وعبادة. أنشأ بريش يراعه مئات من البحوث والمقالات حول عناوين بارزة نشرتها المجلات العربية والأردية في آفاق الهند وخارجها.
يمثل الشيخ أحد أبرز الكتاب الهنود وأصحاب القلم الساحر، والحبر النابض لغةً جزلةً، وتعبيرًا بليغًا، ذا رأي سديد وعقل راجح، وخلق طيب، وتعامل جميل.
وله بصمة واضحة المعالم في كثير من الأنشطة الثقافيّة التي يقيمها الطلاب من على منبر النادي الأدبي داخل الحرم الجامعي.
ومن مؤلفاته: القراءة العربية في أربعة أجزاء بالاشتراك مع الأستاذ عبد القدوس القاسمي النيرانوي، وتضحيات السلف في سبيل تحصيل العلم (بلغة أردو) وتيسير الإنشاء في ثلاثة أجزاء، ومسيرة دارالعلوم ديوبند عبر مئة وخمسين عامًا. ومن الكتب التي قام المؤلف بترجمتها من الأردية إلى العربية: تتصدر كتب حجة الإسلام الشيخ محمد قاسم النانوتوي، وهي محاورات في الدين، وردود على اعتراضات موجهة إلى الإسلام، والصحابة ماذا ينبغي أن نعتقد عنهم؟ لشيخ الإسلام حسين أحمد المدني، وموقف علي رضي الله عنه من الخلفاء الثلاثة للشيخ عبد الشكور الفاروقي اللكنوي، كما قام بترجمة كتاب: الإسلام في نظر أعلام الغرب لحسين عبدالله باسلامة، والهديّة السنية في ذكر المدرسة الإسلاميّة الديوبنديّة للشيخ ذوالفقار علي الديوبندي من العربية إلى الأردية.
* * *
([2]) القاسمي، محمد ساجد، دارالعلوم بديوبند عبر مئة وخمسين عامًا: ص:١٣.
([3]) المصدر السابق، ص: ٤١-٤٢.
([4]) المصدر نفسه، ص: ٣٠٥-٣٠٧.
النّهضة الأدبيّـة، شوال – ذو الحجة 1444هـ = أبريل – يونيو 2023م، العدد: 4، السنة: 4