عدة الشهور عند الله تعالى اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها شهر شهد أحداثًا، لها أهميتها البارزة في التاريخ الإسلامي؛ بل التاريخ الإنساني برمته، وشغلت حيِّزًا واسعًا من عناية النوع البشري، ونالت جانبًا كبيرًا من الاهتمام والتركيز.
ففي مثل هذا الشهر المبارك ولد النبي ﷺ، فكان ذلك تحولا لافتًا في مجريات الأحداث في مكة المكرمة، وفي جزيرة العرب، وفي العالم البشري كله في الأيام اللاحقة. وكان مولده مفتاحًا لأبواب الخير والصلاح والنور والسرور والحبور، وبشرى لإغلاق باب الشر والفساد والعثو، و عبادة العباد، وعبادة الأحجار والأشجار والأصنام: أصنام الدم و اللحم. وكان مولده فجرًا جديدًا درج من ظلمات الكفر والشرك والظلم والطغيان. وكان مولده شمسًا أذابت أشعّتُها اللامعة الساطعة الوهاجة طلاء الباطل وزخارفه. و كان مولده ﷺ في هذا الشهر على الأرجح، واختلفوا في يومه على أقوال: الثاني أو التاسع أو العاشر، أو الثاني عشر منه، في يوم الاثنين. روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه، وفيه: أن رسول الله ﷺ سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ».
وثاني هذه الأحداث البارزة هجرةُ النبي ﷺ من مكة إلى المدينة المنورة بعد ما ضاقت عليه-ﷺ- وعلى أصحابه الضعفاء المغلوبين على أمرهم أرضُ مكة على رحبها. وانطلقت قريش بقضها وقضيضها مدفوعةً من عقلية يغلبها الحماقة والغباوة و الثأر لأصنامها- للقضاء على الإسلام وأهله ونبيه، وهبَّت لتصبَّ عليهم من الويلات والألاقي ما يقشعر منه الجلود، وتنخلع الأفئدة، وتبلغ القلوب الحناجر. وابتَلَتْهُمْ قريشٌ بالخوف والجوع، و فتنتْهم في أموالهم وأولادهم، وعذبتهم في نفوسهم وأجسادهم. ثم خاضت معهم- المسلمين- معارك حمراء، وصدامات دموية يرقص فيها الموت رقص الحدث الغرير، والشاب السفيه.
كانت هجرة النبي ﷺ إلى المدينة المنورة تشكل حدثًا تاريخيًّا عظيمًا، ونقطةَ تحولٍ جذري: من قلة إلى كثرة، ومن هُون إلى عز، ومن ضعف إلى قوة، ومن ضياع إلى منعة و ركن من الأركان شديد، ومن خوف إلى أمن، ومن اضطراب إلى طمأنينة. وكانت الهجرة بؤرة الصراع بين الحق والباطل، وأم الأحداث، واجهت فيها الدعوة الإسلامية أخطر المواقف وأشدها على الإطلاق؛ إذ همت قريش بالقضاء على النبي ﷺ حتى تأمن انتشار الدين الذي يُسَفِّهُ أحلامَهم، ولاتقوم له قائمة: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. واجتمعت أشراف قريش و صناديدها، ووافاهم الشيطان في صورة شيخ نجدي في دارالندوة، ليتدبروا أمر رسول الله ﷺ، فذهبوا مذاهب، ورأوا آراء في التخلص منه ﷺ، حتى أشار بعضهم بأن يأخذوا من كل قبيلة شابًّا يافعًا جلدًا ثم يعطوه سيفًا باترًا فيضربوا ضربةَ رجل واحدٍ، فيتفرق دمه في القبائل، فلايسع بني هاشم أن يحاربوا قريشا كلها، فإذا أرادوا ذلك قبلوا العَقل. فكان هذا الرأي هو الذي تفرقوا عليه، ﴿وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. فعصمه الله تعالى من شرهم وغائلتهم، وكان وعدًا عليه حقًّا أن ينصره، ويصونه ويحفظه من أعدائه. وخرج عليهم رسول الله ﷺ، ليلة اجتمعوا على بابه، ينتظرون منامه حتى يثبوا عليه ويقتلوه ، وأخذ ﷺ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلايرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات من يس: ﴿يسٓ ١ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ ٢ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٣ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٤ تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ﴾ [يس:1-5، 9]. [التحرير]
(تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الأحد غرة المحرم الحرام 1444هـ=31/يوليو 2022م)
مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47