إشراقة

         يقول صاحب «المعجم الموسوعي للتعبير الاصطلاحي» في شرح هذا التعبير: «تعبير معاصر للدلالة على من يتشدد في الأمر أكثر من تشدد أصحابه الذين بدؤوه وأخذوا به: بعض الناس يصرون على ضرورة الرقابة على الفكر، إنهم حقًّا ملكيون أكثر من الملك. وأصل هذا التعبير أن الملكية نظام سياسي قديم لم يَعد قائمًا، ومن يدافع عن النظام الملكي يوصف بأنه مَلَكي أكثر من الملِك؛ لأنه يدافع عن نظام بائد. وكذا  كل من يدافع عن فكرة كف صاحبها عن التمسك بها، أو قل التزامه بها».

         ويطلق هذا التعبير في مجالات عدة، عند ما يهتم الرجل بقضية من القضايا أكثر من اهتمام صاحبها به، وذلك -مثلا- تجد من الناس من لايقر لجنبه مضجع، ولايهنأ له عيش، وهو يرى أحد زملائه في الدراسة أو العمل لايلقي لدراسته أو عمله بالا، ولايوليه ما يستحقه من العناية والتركيز، فيهتم به أكثر من صاحبه، ويبخع نفسه حزنًا وغمًّا على زهده في الدراسة أو العمل، وتقصيره في القيام بواجبه. فهذا الرجل من فئة «الملكيون أكثر من الملك».

         وكم سمعنا أناسًا من عشاق الكريكيت أو كرة القدم في بلادنا – والبلاد الإسلامية ليس حظها منه أقل، وإن تخلفت في جميع المجالات الحيوية تخلفًا مزريًا- يجنَّ جنونهم، ويثور ثائرهم، وينتابهم القلق والهلع؛ بل «هستيريا جماعية» -إن صح التعبير-، ولايتمالكون أنفسهم، فيما إذا خسر الفريق- الذي يوالونه ويتعاطفون معه- الرهانَ، أو قصَّر في أداء الدور المطلوب منه. كأنهم فقدوا أغلى ما كانوا يتمنونه في الحياة أو أصيبوا هم أو أقاربهم – لا قدر الله تعالى- بسوء، أو أعرض عنهم من أولعوا به، وتَيَّمَ أفئدتهم، لهم في حبه ينابيع لاتنضب، ومدد لا ينفد، فعذَّبهم الصدُّ والهجران، ونغَّص عليهم الحياة:

موثَقِ قلبٍ مطلَقِ الجثمانِ    …    معذب بالصَّـــدِّ والهجــــران

         فتراهم سكارى- وما هم بسكارى- وحيارى، لايدرون أين يمضون، وكيف يفعلون، ولا ماذا يصنعون؟ يتململون من الألم تململ السليم، ويتقلبون على أشد من الجمر، ويقفون في صحراء قاحلة، وخراب يباب لايجدون فيه أنيسًا، ولا هادي سبيل. وكفى به مذهبةً لرشادهم، ومضيعة لعقولهم ونُهاهم.

وأما اللاعبون أنفسهم فتجد أحدهم لايكترث لهذه الخسارة لفريقه، ولايتكدر لها صفو عيشه، ولايقيم لها كبيرَ وزن وأهمية، فهو مطمئن البال، مرتاح النفس، كأن همًّا ثقيلا انزاح عن كاهله، فتنفس الصعداء.

         لعل القارئ الكريم يقول: ما الذي يتوخى الكاتب من وراء سرد هذا التعبير، في هذه العجالة. فأقول له: لهذا التعبير قصة حدثت مع خل لي حميم، ينطوي قلبه على ود صميم وإخاء كريم. وما أقل الصديق، والخيل؟! كما قال حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبئ:

         وما الخيل إلا كالصديق قليلة

وإن كثرت في عين من لا يجرب

وفعلا كنا كما قال متمم بن نويرة:

         وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَـــــــــــةَ حِقْبَــــةً

مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا

         ثم قدر الله تعالى أن يبرق الدهر المشتُّ ويرعد، ويفرق بيننا:

         فلا تعجبا أن تُمطِرَ العينُ بعدَهُمْ

فقد أبرقَ البينُ المُشِتُّ وأَرعدا

         لقد ضرَّني البين المُشِتُّ وَمزَّني

فيا لكَ بيْنًا ما أَضرَّ وما أَضْرَى

و كما قال ابن مسلم الشروطي:

         وتفرّق الشّملُ المصونُ وقبلَ ذا

لم يخطُـــــــــــرِ البيْنُ المُشتُّ ببـــــالي

         وظل الحب ممدودة حباله رغم فراقه، وانضمامه إلى العمل في مجال آخر، ثم جمع الله تعالى بيننا:

         وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَينِ، بعد ما

يَظُنَّانِ، كلَّ الظَّنِّ، أَنْ لَا تَلاقِيا

         فجمع بيني وبينه مجلس نتجاذب أطراف الحديث، ونستعيد من الذكريات ما قدم وما حدث، فبثَّ إلي مكنون قلبه، وسريرة نفسه، وقلبه ملؤه الأسى والغم، و وجهه عابس باسر، فها أقصها على القارئ على لسانه، ومشهد القصة تكرر، ويتكرر ليل نهار، مع كل من يدِبُّ على وجه هذه البسيطة، في قديم الزمان وحديثه.

         قال صاحبي: كان لي صديق، صدقته إخائي، وأخلصت له ولائي، وكان له موضع من نفسي، ومكان من قلبي لم يكن لأحد غيره، وأحببته حبًّا صردًا خالصًا، وآثرته بإعزازي، وكان له عندي عهد لايخفر، وموثق لاينقض، وذمة لاتضاع، وعانيت ما عانيت في سبيل الذود عنه، وعاديت كثيرين لكسب وده، والإبقاء عليه، وحرمت نفسي، وقدمت له ما احتاج إليه من مدد مادي ومعنوي، وكم أخطأ فخلقت له أعذارًا، وأساء إلي فحملته على ما يقال: «وقد يؤذى من المقة الحبيب»، وقلت: إنه حاول أن يحسن إلي. وكنت كما قال الشاعر الجاهلي:

         وإني لأنسى عند كل حفيظة

إذا قيل مولاك، احتمال الضغائن

         وإن كان مولى ليس فيما ينوبني

من الأمر بالكافي ولا بالمعاون

         ثم قدَّر الله تعالى أن يتولى منصبًا في جهة من الجهات الحكومية، وكان يسيل له لعابه، ويصبو إليه فؤاده، ويرنو إليه عينه، ويهفو إليه قلبه أكثر مما يهفو إلى المحبوب قلب العاشق الهيمان، وأكثر من تطلع الظمآن إلى الماء، ومن استشراف المرء لقريبه القادم من سفر بعيد، وكان قبل ذلك يهدد كل من خالفه في فكرة أو عارضه في رأي، أو توجس منه خيفة على ما رسمه لنفسه من المستقبل الواعد، وكسب المنصب المدِرّ؛ بل كل من حدثته نفسه بعدم الانصياع له، والخضوع لأوامره ونواهيه.

         وفعلا حصل ما لم يكن بحسبان، وجاء ما لم أتوقع منه، فقد انكشف الستار مرةً واحدةً، وإذا صديقي قَلَبَ لي ظهر المجن، وتكشف لي عن ود كاذب، وقلب مريض، ونية فاسدة، وباطل نغل، و تحول رأسًا على عقب، وإذا هو يد و فم ….. رصاصة و دم … وتهمة سافرة تخبُّ بلا قدم، وإذا هو أول من ينصب لي العداء والبغضاء، ويفرش لي الأشواك، وإذا حبه رياء، وإذا ابتسامته بغضٌ وكراهيةٌ.

         وكان من أمر هذا الصديق أنه بعد ما حقق أمنيته، أصبح ملكيًّا أكثر من الملك. وضرب عرضَ الحائط بالدساتيـــــــر والمبادئ واللوائح المتبعة في الزمالة في العمل والصداقة والحب والمتبادل:

         يا من بنقض عهوده

                                    في الودّ نقض العهد سنّ

         إنّي لذكرك حافظ

                                    حفظ الفرائض والسنن

         كنت أسمع قصته على لسانه، وبصوته المتقطع، وقلبي يتفجر ألما، ويذوب قلقًا، وعيني تذرف الدموع، و لساني يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله، وسبحان الله مقلب القلوب والأحوال، وكل ميسر لما خلق له، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

وتمثلت له بقول عبدة بن الطبيب:

         ودعوا الضغينة لَا تكن من شَأْنكُمْ

إِن الضغينة للأقارب تقطع

وبقول الشريف الرضي:

         وَلا تُؤاخِ منَ الأقوامِ مُنطَويًا

على الضّغينةِ مملوءًا من الحسدِ *  *  *

مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م

Related Posts