جعل الله تعالى للمسلم مناسبات تقوى فيها التوبة وتقبل الطاعة ويمتد الرجاء في عون الله ونعيمه، وبذلك يطمئن المسلم برضاء الله عنه فينشط في سعيه المحمود إلى قصده المبرور المنشود.
وللاطمئنان النفسي قيمته الكبرى في هذا المضمار، فهو كما يقول علماء النفس والتربية من عوامل النشاط ونمو الشخصية، أما القلق النفسي فهو على عكس ذلك: هدام للرغبات والآمال والأعمال. إن الطفل الذي يسكن إلى جناح أبويه مثلا، هو أرضى نفسًا وأسلم سلوكًا من اليتيم الذي فقدهما وفقد من يحنو عليه بعدهما.
سبق الدين بغفرانه إلى هذه المعاني، وجاءت رحمة الله تعالى لا حد لها، لأن الله سبحانه أرحم بعباده من آبائهم وأمهاتهم لهم. قال الله تعالى ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ﴾ (الأعراف:156). وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ﴾ (الشورى:25). وقال رسول الله ﷺ: «لَلَّه أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه؟ فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها…».
ننتقل بعد هذا التمهيد إلى الحديث عن التوبة والغفران في شهر شعبان الذي يعلي همم المؤمنين ليجدوا في سيرهم (فيزيدوا من إنتاجهم) في الطاعات والمبرات.
فشهر شعبان شهر مبارك، فهو موسم من مواسم الخير والبر. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله ﷺ استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان) – رواه البخاري-.
وإن ليلة النصف من هذا الشهر المبارك – شعبان – مزايا عطرة. روى المنذري في (الترغيب والترهيب) أحاديث عديدة إن كان فيها شيء من ضعف أو إرسال فإن بعضها يعين بعضا في سبيل الطاعات، منها حديث طريف صريح، تصحبه الخشية والخشوع، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله ﷺ، فوضع عنه ثوبيه ثم لم يستتم أن قام، فلبسهما، فأخذتني غيرة شديدة، ظننت أنه يأتي بعض صويحباتي، فخرجت أتبعه، فأدركته بالبقيع بقيع الفرقد (مقبرة المدينة) يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والشهداء، فقلت: بأبي وأمي أنت في حاجة ربك، وأنا في حاجة الدنيا، فانصرفت فدخلت حجرتي ولي نفس عال، ولحقني رسول الله ﷺ فقال: ما هذا النفس يا عائشة؟ قلت: بأبي أنت وأمي، أتيتني فوضعت عنك ثوبيك ثم لم تستتم أن قمت فلبستهما، – فأخذتني غيرة شديدة، ظننت أنك تأتي بعض صويحباتي حتى رأيتك بالبقيع تصنع ما تصنع. فقال: يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ أتاني جبريل عليه السلام فقال: هذه ليلــة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب (اسم قبيلة) لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل (مستكبر من إسبال الإزار) ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مدمن خمر». ثم وضع عنه ثوبيـــه فقال لي: يا عائشة، تأذنين لي في قيام هذه الليلة، قلت: نعم بأبي وأمي، فقام فسجد ليلا طويلا، حتى ظننت أنه قد قبض، فقمت ألتمسه، ووضعت يدي على باطن قدميه، فتحرك ففرحت وسمعته يقول في سجوده: أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
فلما أصبح ذكرتهن له، فقال: يا عائشة تعلميهن، فقلت نعم، فقال: تعلميهن وعلميهن، فإن جبريل عليه السلام علمنيهن، وأمرني أن أرددهن في السجود. (أي مطلق سجود): الترغيب (رواه البيهقي).
أما الدعاء الذي اعتاد كثير من الناس تلاوته ليلة النصف من شعبان فليس دعاء نبويا مأثورا وإنما هو من وضع بعض المتأخرين، ولا يرتضيه العلماء المحققون. وأظهر دلائل وضعه جعل ليلة النصف من شعبان ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، مع أن هذا الوصف من شأن ليلة القدر، قال تعالى في سورة الدخان ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ٣ فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ ٤ أَمۡرٗا مِّنۡ عِندِنَآۚ إِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ ٥ رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ الآيات 3-6.
ومما تضمنه الدعاء المعتاد قوله تعالى: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾. واستكمال هذه الآية يوضح تمام معانيها، قال تعالى في سورة الرعد:39 ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ ٣٨ يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ فيه كل ما هو ثابت من أصول الشرائع. فالله تعالى يمنح رسله ما شاء من أزواج وذرية وغير ذلك، ومنهم محمد ﷺ الذي استنكر المشركون رسالته وبعض شؤونه وما تنزل عليه من آيات مباركات. كما أن الله تعالى ينسخ أحكاما أو يعدلها ويثبت أخرى وشبيه بما تقدم قوله تعالى في سورة البقرة: 106 ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ﴾ وهذا أمر مألوف مثله في الشرائع الوضعية أيضا حين ينسخ قانون متأخر قانونا سابقا أو يعدله مراعاة للمصلحة الحقة.
وبعد، فإن في الأدعية القرآنية والنبوية الثابتة ما يغني عن سواها والله يقول الحق والرسول لا ينطق عن الهوى ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ﴾ ومن أروع الأدعية الدعاء الذي سمعت عائشة رسول الله ﷺ يدعو به وهو ساجد كما تقدم: أعوذ بعفوك من عقابك الخ.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» مصابيح السنة.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل، أو نضل، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا. مصابيح السنة.
وعن أبي بكرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح في شأني كله، لا إله إلا أنت» (مصابيح السنة). * * *
مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47