المحدث الهندي الكبير فضيلة الشيخ محمد يونس الجونفوري – رحمه الله – شيخ الحديث بجامعة مظاهر العلوم بمدينة «سهارنبور» الهندية 1355-1438هـ = 1937-2017م

إلى رحمة الله

بقلم: رئيس التحرير

nooralamamini@gmail.com

ما إن عَمَّ نعيُ المحدث الهندي الفريد فضيلة الشيخ محمد يونس الجونفوري/ شيخ الحديث بجامعة «مظاهر العلوم» بمدينة «سهارنفور» الهندية بأنه قد استأثرت به رحمة الله خلال أداء صلاة الفجر يوم الثلاثاء: 16/شوال 1438هـ الموافق 11/يوليو 2017م حتى سارع العلماء والطلاب والـمُنْتَمُون إلى الأوساط الدينية؛ بل عامة المسلمين إلى الجامعة ليَحْظَوا برؤية جثمانه ويَسْعَدوا بالمشاركة في تجهيزه وكفنه والصلاة عليه في مثواه الأخير بمقبرة «شاه كمال» بالمدينة – حيث كان قد تم الإعلان بإقامة الصلاة عليه إثر صلاة العصر من اليوم المذكور – حتى احتشد بساحة الجامعة والأمكنة حولها أكثر من ربع مليون إنسان قوامهم العلماء والصلحاء والمشايخ وطلاب العلوم الدينية والمنتمون إلى الأوساط الدينية والدعوية والتعليمية. وربما كان ذلك حدثًا فريدًا من نوعه لم تشهده المدينة في تاريخها؛ حيث لم يشهد مثل هذا الجمع الحاشد جنازة أحد من الشخصيات ذات الهوية الفريدة في الدين والعلم.

       ظلّ الشيخ الجونفوري مصابًا بأنواع الأمراض منذ حداثة سنه؛ حيث قد أصابته خلال تعلمه بجامعة «مظاهر العلوم» الحمى الشديدة، التي أدت إلى ضنى رهيب وقيء دموي؛ فأشار عليه أساتذته – وعلى رأسهم الشيخ الكبير والمحدث الهندي الشهير فضيلة الشيخ محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي رحمه الله (1315-1402هـ = 1897-1982م) بالتوجه إلى بيته حتى يتمكن من تلقي العلاج وممارسة الحمية بنحو صحيح؛ لكنه لم يرض حتى بانصراف موقت عن الدراسة، وقال لهم:

       «سادتي! إن كان الموتُ ينتظرني، فإني سأوثر أن أموت ههنا في الجامعة، وما يرتمي إلى سمعي (خلال وجودي بالجامعة) سيقع في قلبي ويستقرّ فيه» (اليواقيت الغالية في تحقيق وتخريج الأحاديث العالية، ص 30، ج1، ط:2، 1430هـ الموافق 2009م، دهلي).

       وخلال الفرصة الطويلة الممتدة على نحو 55 عامًا التي أمضاها في الدراسة والتدريس بالجامعة حالة عمله أستاذًا بها، ظلّ – من أجل التوفر على الدراسة، وسهر الليالي، وعدم الاهتمام بالمطعم والمشرب، وعدم الاستراحة مطلقًا – يعاني الأمراض بأنواعها، التي كانت قد تخف وطأتها بالتداوي والتدابير، وقد تشتد وتجعله يذوق المضاعفات الانهيارية. وقد كان مصابًا بالسحر الذي كثيرًا ما يشكو مضاعفاته المعقدة التي ربما كان لايجد سبيلًا إلى التغلب عليها.

       وخلال السنوات الست أو السبع الأخيرة تَعَرَّضَ مرات لأنواع قاسية من الأمراض جعلت محبيه ييأسون من حياته، وكان آخرها ما تعرض له خلال موسم الحج لعام 1435هـ/2014م لدى إقامته بالمدينة المنورة في ذي الحجة/ أكتوبر؛ حيث تضررت كُلْيَتُه، وفشلت في أداء وظيفتها لحد كبير، وظل يتلقى العلاج بالمدينة المنورة، ويتم يوميًّا إجراء الدَّيْلَزَة (Dialysis) وهي عملية فصل المواد شبه الغروية عن المواد الأخرى القابلة للذوبان باستخدام غشاء فارز؛ لكنه لم يحصل تحسّن، فعاد به تلامذته ومحبوه إلى مدينة «مُمْبَايْ» الهندية – «بومباي» سابقًا – و وُضِع في مستشفى في غرفة العناية المركزة، وكَثَّفَ الأطباء عنايَتَهم لمداواته، وإلى ذلك أناب إلى الله كثير من محبيه وتلامذته في الهند وفي العالم، فعادت كليته تعمل عملها خلال أسبوع أو أكثر، واستغنى عن إعمال الدَّيْلَزَة، وبعد أسابيع عاد إلى مدينة «سهارنبور» مُعَافًى مُزَوَّدًا بكامل الصحة.

       وإثر عودته تَوَافَدَ إليه العلماء والطلاب وأخلاط العوام لزيارته وعيادته، كان من بينهم كاتب هذه السطور، الذي تَوَجَّهَ إلى «سهارنبور» يوم الخميس: 10/صفر 1436هـ الموافق 4/ديسمبر 2014م، ودخل عليه بصحبة بعض العلماء والطلاب، فطاب بالشيخ نفسًا؛ لأنه وجده نشيطًا منتعشًا، وإن كان يبدو عليه الضعف والضنى. وكان مضطجعًا متوجهًا إلى جهة الكعبة الشريفة بين الخزانات الحديدية الزاخرة بالكتب، واضعًا رأسه على يده اليمنى التي مَدَّها إلى كاتب السطور الذي أمسكها بيديه يصافحه، ثم جلس حسب أمره قدام جميع حضور المجلس، وبعد تبادل استخبار الأحوال سأله الشيخ عن شغله بجامعة دارالعلوم/ديوبند، فقال له: إنه يقوم بتدريس اللغة العربية وآدابها، ويرأس تحرير مجلة عربية تصدر عنها شهريًّا، اسمها «الداعي». ولما سمع ذلك قال:

       «ينبغي أن ينوي مدرس اللغة العربية أن الطلاب عندما يتعلمون العربية ويستوعبونها، يفهمون جيدًا كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-».

       وأضاف:

       «أي نية غيرها لا تجدي نفعًا، إن النية المذكورة هي الشاملة والأساسيّة».

       وأضاف:

       «عندما وُلِّيتُ التدريسَ، أُسْنِدَ إليّ تدريس كتب كان من بينها كتاب (مقامات الحريري) أما زميلي في الدراسة الشيخ عاقل، فقد كُلِّف تدريس كتاب (أصول الشاشي) فظَنِنْتُ أنه قد أُسْنِدَ إليه كتاب من الكتب المقصودة؛ لأنه كتاب في أصول الفقه، والفقهُ وأصول الفقه من العلوم الأساسيّة. أما أنا فقد كان حظي كتاب ليس في العلوم الأصلية. ثم رجعتُ لنفسي، فقلتُ: إن هذا الكتاب هو كذلك كتاب لا بأس به؛ لأن الطلاب يفهمون به العربية، ويستقون الصياغات والتعبيرات العربية، فيفهمون بها القرآن والحديث، فينالون الثواب الأخروي، وأناله أنا كذلك».

       وخلال ذلك تطرق إلى الحديث عن الإقامة بالمدينة المنورة وما جرى خلالها من مرضه ومضاعفاته، ثم قال:

       «كثير من العلماء أجدهم يهتمون بالتأنق والنظافة في حياة التعلم والتدريس؛ ولكن ذلك لم أتمكن منه؛ لأني ظلتُ معنيًّا بدراسة الكتب، وكان الغبار العالق بها يلتاث بأذيالي وثيابي كلها، فكان ملابس الزيات هي ملابسي. وبعد مرور الأيام لما قرأت أخبار المحدثين سُرِرْتُ؛ حيث كانت ملابسهم تكون مُلَوَّثَة بالحبر؛ لأنهم كانوا يظلون مشغولين بالكتابة والإملاء، فكان لا معدى لهم عن شياته» (مذكرة كاتب السطور، التي كُتِبَتْ يوم الجمعة: 11/صفر 1436هـ الموافق 5/ديسمبر 2014م)

       ونزلنا عن حجرته إلى الطابق الأرضي وتوجهنا إلى دارالضيافة، التي كان ينتظرنا بها أمين جامعة «مظاهر العلوم» العام الشيخ السيد محمد شاهد السهارنفوري، الذي تناولنا معه الشأي والأكلات الخفيفة التي تُقَدَّم معه في ديارنا كالعادة. وخلال مجلس الشأي قال الشيخ السيد محمد شاهد: إن فضيلة الشيخ محمد يونس مَنَّ الله عليه بالشفاء بلطفه وكرمه، بفضل أدعية آلاف من محبيه في العالم، وإلا فإننا كنا قد يئسنا من حياته جدًّا، والحق أن الله منّ عليه بإعادة الحياة إليه.

       ولم يكن – رحمه الله – لدى وفاته مصابًا بما يجعل الناس يُقَدِّرون أنه ربما حان أجله. وكل ما حدث معه أنه شعر بضعف منذ وقت المغرب من الليلة المتخللة بين الاثنين والثلاثاء: 15-16/شوال 1438هـ الموافق 10-11/يوليو 2017م، فلم يسعه أن يتناول العَشَاء، واجتمع عليه الشعور بالضعف والإغماء، ثم شعر ببعض التحسن، والطلاب الذين كانوا موكلين بخدمته لم يدركوا نوعية المرض، ولم يتمكنوا من استدعاء طبيب مطلوب، وأمضى ليلته تلك في هذا الضعف والإغماء حتى طلع الفجر فساعدوه على التوضؤ، ولما انتهى من الركعة الأولى، كاد ليتم الركعة الثانية؛ ولكنه لما راح ليؤدي السجدة الأولى، لم يقدر على إتمامها من أجل شدة الضعف والإغماء، ولم يسعه أن يرفع رأسه، فأضجعوه في حالته هذه التي انتقل فيها إلى رحمة الله تعالى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

       وقد أراد المسؤولون أن يطمئنوا بنحو أكثر، فتوجهوا به إلى مستشفى «الميدي جرام» بالمدينة، وما إن جسّ الأطباء نبضه، حتى أكدوا أنه قد تُوُفِّي.

       وقد صَلَّى عليه بالناس في اليوم نفسه إثر صلاة العصر فضيلة الشيخ الصالح محمد طلحة الكاندهلوي حفظه الله ابن فضيلة الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله تعالى، وتم تورية جثمانه بمقبرة «شاه كمال» قبيل صلاة المغرب، وكان الحضور كلهم حزناء تستعبر عيونهم وتتألم قلوبهم، والموقف كان ينطق بما قاله الشاعر الأردي:

       «إن الجسم شيء عادي يأكله التراب يومًا ما؛ ولكنك ستقرؤه في الكتب التي ستتحدث عنه».

       ولكن العظماء أمثال الشيخ محمد يونس – رحمه الله – لا يقرؤهم الناس في الكتب الورقية وحدها، وإنما يقرؤونهم كذلك في الكتب القلبية، وتظل سُرُج ذكراهم متقدة في قلب كل منهم؛ لأنهم لا ينجبهم الدهر إلّا بعد كثير من الانتظار، وكثير من الأماني، وكثير من الأدعية، وبفضل من الله وحده.

       يقول الشاعر الأردي:

       «بعد فترة طويلة ربما يولد أولئك الرجال الذين لا تمحى أبدًا آثارهم عن جبين الدهر».

*  *  *

       الوليد «محمد يونس» بن شبير أحمد الذي أَنْجَبَه ترابُ قرية متواضعة للغاية اسمها «جوكيا غوريني» بمديرية «جونفور» بولاية «أترابراديش» الشرقية صباح يوم الاثنين: 25/رجب 1355هـ الموافق 2/أكتوبر 1937م، لم يكن لأكبر عَرَّاف عبقري متفرس أن يتنبأ لدى ولادته بأنّه سيكون يومًا ما منقطع النظير بين أقرانه في العلم والفضل، لأن البيئة التي كان ابنها كانت ناطقة باليأس والإحباط، إن قريته الصغيرة لم تكن عارية من وسائل الحياة اللازمة؛ بل كانت فقيرة في وسائل الدراسة، فلم يكن يُوجد بها حتى كُتَّاب من الكتاتيب الدينية العادية، التي ظلت وسيلة وحيدة لتعليم صغار المسلمين مبادئ الدين للقرن الهجري المنصرم 1400هـ، فكانت القرية وما حولها من القرى تشكو الأمية، ورغم ذلك كان سكان المنطقة المسلمون مسلمين صحيحي العقيدة ديوبنديي المذهب.

       كان ابن خمسة أعوام وعشرة شهور، فانحسر عن رأسه الظل السعيد الذي كان يُظَلِّلُه بفضل أمه الحنون، فحُرِمَ السند القوي الذي يستند إليه الوِلْدَان في نشأتهم وتربيتهم فيبلغون أَشُدَّهم، فتولت جدته من الأم حضانته وتربيته. وحدث ذات يوم أن الجدة كانت تضرب ابنها؛ لأنه كان لا يرضى بالتوجه إلى كتاب في قرية ملاصقة، وكان عمر الوليد عندها يقارب ست أو سبع سنوات، فبدأ يصر على مصاحبة خاله في رحلة الذهاب للكُتَّاب، فوصل إليه بصحبة الخال ماشيًا على الأقدام أحيانًا وراكبًا كتفي خاله أحيانًا، وظل يواصل الذهاب إلى الكتاب؛ ولكنه من أجل صغرسنه لم يلتفت إلى تعلم مبادئ القراءة، وإنما كان يعود لبيته بعد ما كان يمضي موعد الكتاب في ممارسة الألعاب البريئة التي يمارسها الصغار.

       ثم بدأ يذهب إلى كُتَّاب آخر، تمكن فيه من قراءة بعض الشيء من «القاعدة البغدادية» الذي هو كتاب لتعليم الصغار حروف الهجاء العربية التي يُسَهِّل تَعَلُّمُها تعلّم قراءة القرآن الكريم.

       ثم انقطع الخال عن المكتب، فانقطع الوليد محمد يونس منه. وبعد فترة أقيمت في قريته مدرسة حكومية ابتدائية، فالتحق بها و وَاصَلَ حضورها، ودرس بها إلى الصف الثاني، وللصف الثالث التحق بمدرسة ابتدائية بقرية «مانيكلان» المجاورة، ولما اجتاز امتحان الصف الثالث، أنهى والده دراسته بالمدرسة الرسمية قائلًا: «إن عهد الإنجليزية قد وَلَّىٰ (بتولي الاستعمار الإنجليز عن الديار الهندية) أما الهندوسية فلا أحب أن تتعلّمها». وخلال ذلك حدث أن الصبي محمد يونس كان يقرأ بنفسه الجزء الأول من كتاب دراسي من كتب اللغة الهندوسية المقرر تعليمها، الذي فيه مع ما كان: «إن الببغاءُ تكَرِّر «راما راما». و«راما» إله من آلهة الهندوس. و لما سمع والده هذه العبارة، قال له: ضعِ الكتابَ جانبًا؛ فقد كثفتَ القراءةَ».

       وبعد ذلك ظل منقطعًا عن الدراسة لعامين متتاليين، ثم انتسب وهو ابن ثلاث عشرة سنة إلى مدرسة «ضياء العلوم» بقرية «مانيكلان» التي درس فيها بالإضافة إلى الأردية، الفارسية منذ البداية إلى مرحلة كتاب فيها اسمه «سكندر نامه» و العربية منذ البداية إلى «مختصر المعاني» و«مقامات الحريري» و«شرح الوقاية» و «نورالأنوار».

       وقرأ مُعْظَمَ الكتب في المدرسة على أستاذين، يقول الشيخ في سيرته الذاتية التي كتبها بقلمه:

       «قرأتُ مُعْظَمَ الكتب الدراسية على أستاذي مولانا ضياء الحق، أما «شرح الجامي» في النحو فقرأتُه على سيدي مولانا عبد الحليم؛ لكن كثرة الأمراض ظلت تُؤَدِّى إلى تخلل فترات بين الدراسة، فإنهاءُ الكتب تأخر كثيرًا، ثم إن الصف الذي كنتُ أدرس فيه قد انحلّ. إني قرأت كلًّا من «شرح الجامي» و«شرح الوقاية» و«نور الأنوار» على الشيخ ضياء الحق؛ ولكنه من أجل عدم تَأَلُّف الصف كَلَّفَني فضيلة الشيخ عبد الحليم في العام الدراسي القادم دراسة هذه الكتب نفسها، وقام بتدريسي إيّاها بنفسه» (اليواقيت الغالية، ص29).

       وهذان الأستاذان هم اللذان ساهما في الواقع في ترسيخ بِنْيَة الشيخ الجونفوري التعليمية، ولاسيما الشيخ ضياء الحق الفيض آبادي المظاهري، الذي نصب نفسه مَلَكًا مغيثًا لصالح الجونفوري، حيث وقف الشيء الكثير من جهده و وقته على تعليمه وتربيته في عناية بالغة وحرص كبير، ويبدو كأن الله قد سَخَّرَه لذلك، وجعله ينصرف إلى صناعة الأهلية الدراسية لدى تلميذه محمد يونس. إنه صَحَّ ما اشتهر في العربية: «إذا أراد الله شيئًا هَيَّأَ أسبابه» حيث إن الله تعالى قد مَهَّدَ الطريقَ إلى كون الشيخ الجونفوري عالمًا كبيرًا ومحدثًا يشار إليه بالبنان في هذه المدرسة القروية المتواضعة. حقًّا إن جميع الأشياء في الكون رهن إشارة الله عزّ وجلّ، إنه يستخدم أي شخص أو شيء إذا ما يشاء، وفي أي وقت يشاء، وحيث يشاء، ومن حيث يشاء.

       إن الأهليّة الدراسيّة البدائية هي التي تُكَوِّن أساسًا لما يقوم عليها من الصرح العلمي لدى أي من طلاب العلم والمعرفة، فمن ضعفت هي فيه ضعف تخرجه في العلم والدراسة، فلا يكون مُؤَهَّلًا لأداء دوره في الحياة كداعية ناجح، أو مدرس مطلوب، أو راكض في أي من المجالات الدينية أو الاجتماعية التي لا يُحَقِّق فيها الانتصارَ إلّا المُؤَهَّلُون.

       ولذلك كان لسان الشيخ الجونفوري الشكور، يثني خلال تدريسه لكتب الحديث – ولا سيما صحيح البخاري – بنحو عاطفيّ للغاية على أستاذيه المشار إليهما ولاسيّما الشيخ ضياء الحق. إن الشيخ عبد الحليم الفيض آبادي ثم الجونفوري رحمه الله (1325-1419هـ = 1907-1999م) قد عُرِفَ على المستويين الديني والشعبي بكونه أحد العلماء الصلحاء المربين. كان أصلًا من سكان قرية «ديوريا» إحدى قرى مديرية «أَمْبَيْدَاكر نكر» – مديرية «فيض آباد» سابقًا – أسس مدرسة إسلامية كبيرة في قرية «غوريني» لا تزال راكضة في مجال تقديم التعليم الديني والتربية الإسلامية إلى النشء الإسلامي، وظل عضوًا في مجلس الشورى للجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند بالهند، في الفترة الممتدة من 1392هـ/1972م إلى وفاته في 1419هـ/ 1999م، كما عمل عضوًا في كل من المجلس الإداري لجامعة مظاهر العلوم بسهارنفور وجامعة ندوة العلماء بلكنؤ.

       أما الشيخ ضياء الحق الفيض آبادي المظاهري، فقد كان من سكان قرية «برهي عادلبور» بمديرية «أمبيداكرنكر» – مديرية «فيض آباد» سابقًا – وكان متخرجًا من جامعة «مظاهر العلوم» عام 1362هـ/1943م، ومدرسًا بمدرسة «ضياء العلوم» بقرية «مانيكلان» وأستاذًا في الكتب الابتدائية الأساسية للشيخ الجونفوري، ومؤسسًا لأهليته العلمية، ومن تلاميذ الشيخ عبد الحليم الجونفوري في الصفوف الابتدائية. ويكفيه أنه شق الطريق إلى كون الشيخ الجونفوري عالمًا جليلًا ومحدثًا ذا مستوى رفيع. وقد توفي – رحمه الله – في الخامسة والستين من عمره عام 1412هـ الموافق 1991م.

*  *  *

       وقد التحق على مشورة من أستاذه الشيخ عبدالحليم – رحمه الله – بجامعة «مظاهر العلوم» بـ«سهارنفور» يوم الاثنين 15/شوال 1377هـ الموافق 5/مايو 1958م، ودرس بها في العام الدراسي الأول (1377-1378هـ = 1958-1959م) كلًّا من «تفسير الجلالين» و«الهداية» في الفقه – الجزء الأول والثاني – و«الميبذي» في الفلسفة القديمة، واسمه أصلًا «شرح هداية الحكمة» للميبذي و«السراجي» في الفرائض واسمه أصلًا «الفرائض السراجية» وما إلى ذلك. وفي العام الدراسي الثاني (1378-1379هـ = 1959-1960م) درس كُلًّا من «تفسير البيضاوي» والجزء الثالث من «الهداية» و«مشكاة المصابيح» مع مقدمته وشرح «نخبة الفكر» و «مدارك التنزيل» و«سلم العلوم» و«مير قطبي» واسمه أصلًا « تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية». وفي العام الثالث (1379-1380هـ = 1960-1961م) أنهى الصف النهائي الذي قوامه كتب الصحاح الستة المشهورة في الحديث وغيرها من دواوين الحديث، والذي ينال الطالب بعد إنهائه شهادة العالمية في الدراسات الإسلامية، والذي يُسَمَّىٰ في شبه القارة الهندية بـ«دورة الحديث».

       ولقد نجح في الامتحان النهائي الذي جرى في نهاية العام الدراسي بعلامات ممتازة حيث حظي بالدرجة الأولى والمركز الأول بين جميع طلاب المدرسة وطلاب صفه؛ بل قد منحه بعض أساتذته فرحًا بإجاباته الامتحانية في بعض الكتب علامات أكثر من العلامات المقررة من قبل الجامعة تجاه كل كتاب. ومكث بالجامعة بالعام الدراسي اللاحق، وقرأ على أساتذتها الكبار بعض الكتب النهائية في شتى العلوم من بينها الجزء الرابع من «الهداية» و شرح «هداية الحكمة» المعروف بـ«صدرا» لصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي و«الشمس البازغة» و«الأقليدس» و«خلاصة الحساب» و«الدر المختار».

       وكان من أساتذته في «دورة الحديث» الشيخ الكبير والمحدث المعروف والمربي المحنك زكريا بن يحيى الكاندهلوي – رحمه الله – صاحب التاليفات الثمينة في فن الحديث ودفين جنة البقيع بالمدينة المنورة، الذي قرأ عليه صحيح البخاري بكامله؛ والشيخ الجليل المصلح الكبير محمد أسعد الله الرامفوري – رحمه الله – أمين عام جامعة مظاهر العلوم في وقته، الذي قرأ عليه سنن أبي داود ومعاني الآثار للطحاوي؛ والشيخ محمد منظور أحمد خان السهارنفوري – رحمه الله – (المتوفى 1388هـ/ 1968م) الذي قرأ عليه صحيح مسلم وموطأ الإمام محمد؛ والشيخ أمير أحمد الكاندهلوي – رحمه الله – (1327-1384هـ = 1909-1965م) الذي قرأ عليه جامع الترمذي وسنن النسائي وموطأ الإمام مالك وسنن ابن ماجه والشمائل المحمدية للترمذي.

*  *  *

       إن والد الشيخ الجونفوري شبير أحمد كان فلّاحًا عاديًّا يكدح في أراضيه الزراعية، ويكسب لقمة العيش بكدّ يمينه وعرق جبينه، وربّما كان يحلم بأن يتبنى ابنه مهنتَه، فيكون فلّاحًا كادحًا بارعًا، حتى يعيش الحياة كريمة؛ لكن الله العليم الحكيم كان قد قَدَّرَ أن يُسْعِد جَدَّه ويُحَوِّلَه من الذرة التائهة شمسًا مشرقة، فوفقه أن يكسب الأهلية الدراسية الأساسية المتينة في مدرسة «ضياء العلوم» بقرية «مانيكلان» ويلتحق لتلقى الدراسات الإسلامية العليا بجامعة «مظاهر العلوم» التي تلي جامعة دارالعلوم/ديوبند في خدمة العلوم الدينية وتخريج الرجال المؤهلين للدعوة والتدريس والتأليف والإفتاء والقضاء حتى للقيام بالخدمات الاجتماعية والمهام السياسية.

       وكان عندها في مظاهر العلوم كبار رجال الحديث والفقه الذين عُرِفُوا على المستوى العالمي، وفي طليعتهم الشيخ الكبير والمحدث المتضلع زكريا بن يحيى الكاندهلوي رحمه الله. وقد كان هؤلاء أمثلة عليا في الصلاح والتقوى، وقد لفت الله بحكمته قلوبهم إلى الفتى محمد يونس، فتولوهم بالتعليم والتربية معًا، وخصوهم بعنايات خاصّة خلال الفترة الدراسية كلها بالجامعة، وقَدَّرَ الفتى هذه النعمة، فتَوَفَّرَ على الدراسة رغم بؤسه وأمراضه، وظل يلازم الكتب ويجالسه ويسامره، حتى صار ذلك هوية له، وقد ساعده على ذلك ذكاؤه وقوة ذاكرته، فكان يعلق بذاكرته ما كان يدرسه، ويحفظ ما يمرّ به في الكتب الدراسية وغيرها من المباحث العلمية، ويسيغ ما يلقي إليه الأساتذة من المحاضرات الدراسية في الفصول الدراسية، ويستوعب المعاني والمرادات أكثر من زملائه في الدراسة، فصار مغبوطًا لدى أقرانه وموثوقًا به لدى أساتذته ومشايخه.

       وقد حكى كيفية عكوفه على الدراسة وحرصه عليها بقوله:

       «ظلتُ مصابًا بالأمراض، وما إن مضت أيام على التحاقي بجامعة «مظاهر العلوم» حتى أصابتني الحمى، ثم تلاها القيء الدموي، وقد أشار عَلَيَّ سيدي الشيخ محمد أسعد الله – رحمه الله – أن أعود إلى بيتي؛ لكني رفضت ذلك، ثم دعاني سيدي الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي – نَوَّرَ الله مرقده وأعلى الله مراتبه – وقال لي: إذا كنتَ مريضًا، وقد أشار الأساتذة عليك كذلك فعُد إلى بيتك. فقلت له ما أذكر نصّه لحد اليوم: سيدي إذا كان الموت مقدرًا فإني سأموت ههنا في الجامعة. وأضفتُ – ولا أزال أذكر الصياغة – : سيدي ما سيقع إلى أذني، فسينفذ لامَحَالَةَ إلى قلبي، فقال: فكن طريحًا ههنا» (اليواقيت الغالية، ص30).

       إن الله لا يضيع الاجتهاد الصادق ولاسيّما إذا صاحبه عاطِفةُ الاستماتة في سبيل الأهداف النبيلة التي يتبنّاها الإنسان، شريطة أن لايتقاعد مجهودًا، ولا يسقط مكدودًا؛ بل يظل راكضًا لا يبالي بمضاعفات التعب. قال الشاعر الأردي:

       «كن قتيل الطلب، فإن الماء سيقصدك، ولا تحتاج أن تقصده أنت».

       قال بعض خدمه من الطلاب المتخرجين، مثل الشيخ المفتي محمد جابر البالنبوري أستاذ الجامعة القاسمية العربية بقرية «كهارود» بمديرية «بروص» بولاية «غجرات»: إن الشيخ الجونفوري كان يقول:

       «عندما تخرجتُ، كان جميع زملائي في الدراسة مُقَرَّرَة أمكنةُ توظيفهم للتدريس، وكنت وحدي عاجزًا لاسَنَدَ لي ولا مساعدَ، وفي حالة العجز والشقاء هذه قررتُ أن أغادر إلى بيتي غدًا، وصليت العشاء بجانب فضيلة شيخنا محمد زكريا – رحمه الله – (ولدى النطق بهذه الجملة استعبرت عيناه) ونهض الشيخ يصلي النوافل، فبكيتُ كثيرًا قائلًا في نفسي: إن هؤلاء السادة الشيوخ لن نراهم بعد، وعدتُ إلى مكاني بعد ما صليت الرواتب والوتر. ثم إن الشيخ محمد زكريا – رحمه الله – هو الذي جعله الله ليقول لي: إننا نختارك لممارسة التدريس في مظاهرالعلوم.

       «أيها الطلاب! إنّ ما تم إنما تم بإذن الله ومنه وكرمه؛ وإلا فإن هذا العاجز مزيج المعايب والنقائص لم يكن أهلًا للدراسة والتدريس».

       على كل ففي شوال 1381هـ = فبراير 1962م عُيِّنَ في «مظاهر العلوم» مدرسًا مساعدًا على منحة دراسية شهرية قدرها سبع روبيات هندية، وأُسْنِدَ إليه تدريس «شرح الوقاية» في الفقه، و«تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية» في المنطق، وفي العام الدراسي القابل 1382هـ/1963م ظل مُكَلَّفًا تدريس هذين الكتابين، ولكن المنحة الدراسية زيدت بقدر ثلاث روبيات، فصارت عشر روبيات شهريًّا. وفي العام الدراسي 1383هـ/1964م عُيِّنَ مدرسًا مستقلًّا براتب شهري قدره ثلاثون روبية بدون وجبتي الطعام الغدائية والعشائية، وقام بتدريس «مقامات الحريري» و«تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية». أما في العام الدراسي الرابع 1384هـ/1965م فقد كُلَّفَ تدريس كل من «الهداية» بجزئيه الأول والثاني، و«أصول الشاشي» و«تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية» وخلال هذا العام ذوالحجة 1384هـ = مايو 1965م، توفي أستاذ من كبار أساتذة الجامعة وهو الشيخ أمير أحمد الكاندهلوي، وأسند إليه تدريس كتاب «مشكاة المصابيح» في الحديث التي كان يقوم بتدريسها الشيخ المفتي مظفر حسين – رحمه الله (1348-1424هـ = 1929-2003م) فبدأ يُدَرِّسه من «باب الكبائر». أما في العام الدراسي القابل 1385هـ/1966م فقد قام بتدريس كامل كتاب «مشكاة المصابيح» إلى جانب تدريس كل من «مختصر المعاني» و«تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية» و«شرح الوقاية».

       وبتدريس كتاب «مشكاة المصابيح» في الحديث تجلى تضلعه من علم الحديث إلى جانب قدرته الإرسالية والتفهيمية، مما أكد للمشايخ أن أملهم في الشيخ الجونفوري قد تحقق. ففي العام القادم 1386هـ/1967م أسند إليه تدريس كتابين في الحديث أكبر أهمية من «مشكاة المصابيح» وهما: سنن أبي داود وسنن النسائي بالإضافة إلى «نورالأنوار» في أصول الفقه، وأسند إليه تدريس خمسة كتب في الحديث في العام الدراسي 1387هـ/1968م، وهي: صحيح مسلم، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه، وموطأ مالك، وموطأ محمد.

       وعندها تأكد الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي – رحمه الله – الذي كان شيخ الحديث بالجامعة أن خليفته قد تهيّأ، فقرر أن يهاجر إلى المدينة المنورة، فأسْنَدَ تدريس صحيح البخاري إلى تلميذه الشيخ محمد يونس منذ بداية العام الدراسي 1388هـ/1968م، فبالإضافة إلى تدريسه لصحيح البخاري قام بتدريس كل من صحيح مسلم والجزء الثالث من «الهداية».

       ولدى بداية تدريسه لكتب الحديث في «دورة الحديث» أبدى الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي – رحمه الله – كامل ثقته بتلميذه النابغة. وذلك عن طريق رقعة كتبها إليه، ملخصها بالعربية: «إنك تُدَرِّس كتب الحديث في دورة الحديث لأول مرة، فهذا هو العام الأول لك فيما يتعلق بممارسة التدريس في دورة الحديث، أما أنا فإني أقوم بالتدريس في الدورة منذ الحادي والأربعين سنة، أما بالنسبة إلى تدريس كتب الحديث مطلقًا فأنا في السنة السابعة والأربعين. وبارك الله في عمرك، وشغلك بهذه المشاغل السعيدة طويلًا، إنك عندما تبلغ السنة السابعة والأربعين في تدريس كتب الحديث في الدورة ستفوقني إن شاء الله، فقط» (الملحوظة: احتفظ بهذه الرقعة بعناية فائقة في كتاب، واقرأها بعد أربعين سنة».

زكريا 24/رجب 1387هـ

29/سبتمبر 1967م

*  *  *

       إن الشيخ الجونفوري قد دَوَّىٰ صيته في شبه القارة الهندية وفي العالم كله لحد كبير، وعُرِفَ بأنه عالم متضلع من علوم الحديث، وأنه من المحدثين الذين كانت قوة ذاكرتهم مثالًا لما ينبغي أن يتمتع به المحدثون من الذكاء وقوة الحفظ. إن وفاته خسارة لا تعوض؛ لأنه كان نسيج وحده في كثير من صفات العلماء الذين جمعوا بين الإتقان والصلاح والورع والانقطاع التام إلى العلم، حتى رجع إليه مشايخه والعلماء الآخرون في المعضلات العلميّة الخاصة بالحديث وعلومه، كما رجع إليه كثير من ذوي العلم. وقد أضاف إضافة ملحوظة إلى المكاسب العلمية والخلاصات الدراسية التي توصل إليها قبله العلماء المشتغلون بالحديث وعلومه.

       وقد قام بتدريس صحيح البخاري منذ عام 1388هـ/1968م لعام 1438هـ/2017م الذي توفي فيه مدة خمسين عامًا، بينما قام بتدريس الحديث مطلقًا مدة ثلاثة وخمسين عامًا. وقد تتلمذ عليه في الحديث تلاميذ ينتمون إلى أربعين بلدًا من بلاد العالم. أما الذين قرأوا عليه جزءًا من كتاب في الحديث ولا سيما صحيح البخاري ونالوا منه الإجازة في الهند أو في خارجها خلال حلّه بمكة المكرمة أو المدينة المنورة أو بريطانيا أو البلاد العربية، فهم في عدد كبير جدًّا.

       وبفضل الإكثار من الدراسة استطاع أن يطلع على المصادر والمراجع الأساسية لعلوم الحديث وغيرها من العلوم الإسلامية. وقد صَرَّح ذات مرة خلال تدريسه للأحاديث المسلسلة أنه تمكن من دراسة معظم كتب الأئمة الأعلام، بمن فيهم الإمام محمد (محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني: 131-189هـ = 748-804م) والإمام أبوحنيفة (النعمان بن ثابت التيمي الكوفي أبو حنيفة: 80-150هـ = 699-767م) والإمام أحمد بن حنبل (أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني الوائلي: 164-241هـ = 780-855م) والإمام أبويوسف (يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي أبويوسف: 113-182هـ = 731-798م) والإمام مالك (مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبد الله: 93-179هـ = 712-795م) والإمام الشافعي (محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله: 150-204هـ = 767-820م).

       كما قال ذات مرة خلال تدريسه لصحيح البخاري في قاعة دورة الحديث: قد أخذت الفن: فن الحديث من العلماء الأعلام الآتية أسماؤهم: شيخ الإسلام ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله الدمشقي الحنبلي أبو العباس تقي الدين ابن تيمية: 661-728هـ = 1263-1328م) والحافظ شمس الدين الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي شمس الدين أبو عبد الله: 673-748هـ = 1274-1348م) والحافظ ابن كثير (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري الدمشقي أبو الفداء عماد الدين: 701-774هـ = 1302-1373م) والحافظ ابن قيم (محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الدمشقي أبو عبد الله شمس الدين: 691-751هـ = 1292-1350م) والحافظ ابن عبد الهادي (محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي شمس الدين أبو عبد الله: 704-744هـ = 1304-1343م) والحافظ جمال الدين الزيلعي الحنفي (عثمان بن علي بن محجن فخرالدين الزيلعي المتوفى 743هـ/1343م).

       فكان هؤلاء أساتذتي كذلك إلى جانب الأساتذة الذين أخذت عنهم علم الحديث مباشرة في فصول الحديث.

       وبما أنه لم يتزوج بل عاش الحياة أعزب، من أجل الأمراض التي نابته منذ حداثة سنه، فظلت فرص حياته خالية من الشواغل الكثيرة التي تزدحم على المتأهلين المتزوجين، فوظفها للدراسة والمطالعة والتدريس والإفادة العلمية. ومن أجل تفتحه على علوم الحديث بدقة متناهية كان قد مال في كثير من المسائل إلى مذهب المحدثين الذين عايشهم طويلًا في كتبهم ومؤلفاتهم، ولاسيما الإمام البخاري (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي حبر الإسلام: 194-256هـ = 810-870م) الذي كان يحبه كثيرًا ويُعجب به الإعجاب كله، كما كان يحترم احترامًا كبيرًا الحافظ ابن حجر العسقلاني (أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبوالفضل شهاب الدين ابن حجر: 773-852هـ = 1372-1449م) وإن كان يورد عليه اعتراضات علمية في ضوء ما توصل إليه من نتائجه الدراسية.

       وقد أحسن الذين قاموا بتدوين وإصدار إفاداته العلمية التي ضَمَّ مُعْظَمَها كتاب «اليواقيت الغالية في تحقيق وتخريج الأحاديث العالية» (أربعة مجلدات) و«نوادر الحديث» و«نوادر الفقه». والكتاب الأول يتضمن تلك الردود التي أجاب بها الشيخَ المربيَ محمد أسعد الله الرامفوري وشيخَ الحديث المهاجرَ المدنيَ الشيخ الكبير المحدث محمد زكريا الكاندهلوي رحمهما الله تعالى. كما بدأوا يصدرون حواشيه وتعليقاته على صحيح البخاري، باسم «نبراس الساري» وقد صدر من الكتاب المجلد الأول، وستتبع المجلدات الأخرى إن شاء الله. وجزى الله الإخوة الذين يعكفون على مثل هذا العمل الجليل المبارك.

*  *  *

       وما أتيح لكاتب السطور أن يسعد بزيارته ولقائه كثيرًا، وإنما سعد بزيارته مرتين فقط، الزيارة الأولى كانت منذ سنوات طويلة، وكانت في الفصل الذي يكثر فيه الأنبج في الهند، فأمر الطالب الذي كان يخدمه متطوعًا بأن يُقَشِّر عددًا من حبات أنواع الأنبج ذات النوعية الممتازة، ويجعلها بالسكين قِطَعًا يسهل تناولها، ثم أمر الشيخ كاتب السطور ومن معه بتناولها؛ ولكنه اكتفى بقطعة أو قطعتين من أجل داء السكري الذي لايجوز للمصاب به تناول الأنبج والمواد الغذائية الغنية بالسكر.

       أما الزيارة الثانية الأخيرة، فكانت لعيادته – رحمه الله- خصيصًا بعد ما أبلّ من وعكته الصحية العنيفة التي كان محبوه قد يئسوا من أجلها من حياته؛ ولكن الله تعالى منّ عليه بالشفاء الكامل. وقد جرى ذكرها في مستهلّ هذه المقالة.

       وبعد الزيارة الأولى لم يَتَسَنَّ للكاتب أن يزوره إلّا بعد سنوات طويلة لعيادته كما سلف ذكرها؛ ولكنه ظل يهدي إليه نسخة من مؤلفه الذي كان يصدر حديثًا وكان يرى إهداءه إليه مناسبًا. وقد كان – رحمه الله – يتناوله بالتصفح والدراسة الخاطفة رغم ازدحام أوقاته بالدراسة والتدريس ومضاعفات الأمراض، فكان يثني على الكاتب ويُقَرِّظ محاولاته الكتابية بأسلوبه الخاص الممتاز بالطرافة.

       وقد أرسل الكاتب إليه أولًا كتابه حول الترجمة لأستاذه الكبير المعلم العبقري والمربي الفريد الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله – (1349-1415هـ = 1930-1995م) الذي ألفه باللغة الأردية باسم «وه كوه كن كي بات …» ومعناه بالعربية: (حديث عن مغامر). ولما استلم الشيخ الكتاب، نظر فيه نظرة فاحصة خاطفة، وقال – كما قال لكاتب هذه السطور عدد من طلاب دورة الحديث آنذاك في جامعة مظاهرالعلوم، الذين زاروه في غرفته في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند التي يقوم بالتدريس بها – للطلاب في دورة الحديث مُقَرِّظًا الكتابَ: إنه قد صدر كاتب نافع جدًّا عن أستاذ نافع جدًّا وهو الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي، فاقْرَؤُنَّه، والكتاب اسمه «وه كوه كن كي بات».

       وقد أرسل كاتب السطور إليه نسخة نسخة من مُؤَلَّفَيه باللغة الأردية: «الحرب الصليبية الصهيونية الحالية» و«الغزو الحالي للعالم الإسلامي.. هل الإسلام ينهزم؟» فقال بعد نظرة في الكتابين – كما أفاد خادمه آنذاك الشيخ امتياز أحمد المفتاحي المظاهري أستاذ «معهد فيض الدارين» بمدينة «سورت» الغجراتية – لحضور مجلسه: «إن نور عالم يجيد الكتابة، ولغتَه الكتابية تمتاز بالنضوج».

       وأرسل كاتب السطور كتابيه: «متى تكون الكتابات مؤثرة؟» و«تعلموا العربية فإنها من دينكم» عن طريق الأخ العزيز الأستاذ أسجد القاسمي ابن المقرئ الشيخ جمشيد علي القاسمي أستاذ جامعة مظاهر العلوم بـ«سهارنفور» فقال بعد إلقاء نظرة على الكتابين: «إن نور عالم رجل مشغول بالدراسة والكتابة، ويظل منصرفًا إلى شغله، وَفَّقَه الله للمزيد من العمل».

*  *  *

       كان الشيخ الجونفوري مُرْهَفَ الحس، رقيق القلب، يغضب لأي خطإ كان يصدر من صغاره من أجل الخُرْق؛ ولكنه كان يعتذر إليهم كثيرًا، لرفقه ورقته، وكان لايدعو صغاره بلقب مثل «مولانا» وغيره، وإنما يدعوهم بأسمائهم فقط، وكان يذكر الموت كثيرًا ولاسيما في السنوات الأخيرة من حياته، وكان يبكى كثيرًا بذكر الموت ومخافة الله. وكان يتسم بمصارحة القول، والمؤاخذة على الأخطاء، وإبداء الكره والسخط على التصرفات الخرقاء.

       كان فارع القدمين، مفتول الأعضاء لحد ما، أشمّ الأنف، أبيض اللون، أبيض الملابس المتواضعة القطنية، يرتدي القلنسوة ذات الِّلفْقَيْن على شاكلة مشايخه، كثّ اللحية، بيضوي الوجه لحدما، واسع العينين، طويل الأهداب، أزجّ الحاجبين، وقورًا حليمًا، متثبتًا في الكلام، دقيق الشعور، ليس لديه إلّا وسائل قليلة لإزجاء الحياة؛ ولكنه كان يتبنى أهدافًا سامية للآخرة، انصرف عن كل شيء إلى الكتب ودراستها. ذلك هو وصف عامّ بشيخ الحديث بجامعة مظاهر العلوم بـ«سهارنفور» الشيخ المحدث محمد يونس الجونفوري – رحمه الله– تلميذ كل من الشيخ المربي محمد أسعد الله الرامفوري – رحمه الله – والشيخ المربي المحدث المعروف محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي – رحمه الله –.

       كثير من الناس يموتون متمنين أن ينالوا سمعة واسعة، وعزًّا ثابتًا؛ لكنهم لايسيرون الطريق الموصل إليه؛ لأنهم يعجزون عن تقديم التضحيات المطلوبة، ويقعدون عن مواجهة الأهوال والأخطار تواجههم في سبيله، ويؤثرن الراحة والاستجمام والتقاط الأنفاس في الأمكنة المريحة.

       أما الشيخ الجونفوري فقد استمات ومات في سبيل التوصل إلى حبيب واحد، وهو علم الحديث الذي عاش له وبه، فأكرمه الله في عين الخلق وسيكرمه عنده يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

العِلْــمُ أَنْفَسُ شَـيْءٍ أَنْتَ ذَاخِــرُه

مَنْ يَدْرُسِ العِلْمَ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُه

(تحريرًا في الساعة: الحادية عشرة من ضحى يوم السبت: 16/محرم 1439هـ الموافق 7/أكتوبر 2017م).

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1439 هـ = نوفمبر- ديسمبر2017م ، العدد : 3 ، السنة : 42

Related Posts