إلى رحمة الله

بقلم:  الأستاذ أشرف عباس القاسمي

أستاذ بالجامعة

في نحو السّاعة العاشرة من صباح 17/شوّال 1438هـ الموافق 11/يوليو 2017م كنّا نحن أساتذة الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند دائبين في تقييم أوراق الإجابة للطلاب الراغبين في الالتحاق بالجامعة. وهذا العمل لخطورته، ودقّته يتطلّب منّا تمام الانقطاع إليه، والتفرّغ له كاملاً، إذ نعى إلينا أحدُ أساتذة الجامعة العالمَ الجليل، والمحدّث الجِهبِذ البصير الشّيخ «محمد يونس» الجونفوري بمستشفى بمدينة «سهارنفور» حيث تمّ نقله إليه بعد وعكة صحّيّة ألمت به؛ وذلك عن عمر يناهز 83 سنة بالقياس إلى السّنوات الهجريّة، و 81عامًا بالنّسبة إلى الأعوام الميلادية؛ حيث كان من مواليد 25/رجب 1355هـ المصادف 12/أكتوبر 1937م.

       ما إن سمعنا الخبر الذي وقع علينا كالصّاعقة حتّى أصابنا بالغ الحزن والأسىٰ؛ فإنّه لم يكن منعاه منعى رجل واحدٍ؛ ولكنّه كان مناعي، وأصبحنا نُردّد الآية القرآنيّة «إنا لله وإنّا إليه راجعون».

       وهذا النّبأ المؤلم شغلنا عن عمليّة التقييم، وبعد قليل أخذنا الطّريق مع نخبة من أساتذة الجامعة إلى سهارنفور لنشهد الصّلاة عليه.

       وقد صلّى عليه بالنّاس فضيلة الشّيخ «محمد طلحة» السّهارنفوري – نجل فضيلة الشّيخ المحدّث «محمد زكريا» الكاندهلوي – رحمه الله – ودفن في مقبرة الحاج «شاه كمال» بـ«سهارنفور» بجوار شيخه «محمد أسعد الله» الرّامفوري – مدير مظاهر العلوم سابقًا – وحضر الصّلاة عليه وتورية جثمانه زحام كبير قلّما يوجد نظيره من العلماء، والصّلحاء، وعامة المسلمين مما يعكس مدى حبّهم العميق وتقديرهم الزّائد لِشخصيته الفذّة. وإن الله يرفع العالم حيّا وميّتًا.

مولده ونشأته:

       ولد الشّيخ في أسرة دينية إسلاميّة بقرية «كهيتا سرائے» بمديريّة «جونفور»: و«جونفور» مدينة معروفة في أترابراديش الشّرقيّة، وكانت تلي «دهلي» في العلوم، والمعارف في القرن السّابع الهجري، ونفقت فيها سوق العلم، وراجت حتّى سميت «شيراز الهند». وتوفّيت أمّه وهو لم يبلغ من عمره إلّا خمسة أعوام وعشرة أيّام؛ فحضنته  وربّته جدّته من جهة الأمّ.

تلقّيه العلوم وأخذه الحديث:

       تلقّى الشّيخ علومه الابتدائيّة، والعصريّة في مدارس منطقته وقريته. وكان أبوه الشيخ «شبّير أحمد» شديد التّمسّك بالمبادئ الدّينيّة، وكان لايُحبّ لابنه المدرسة العصريّة الرّسميّة الّتي قلّما تخلو دراستها من شوائب الشّرك، والنّقص. فبعد مضيّ سنتين نقله من المدرسة العصريّة إلى كتّاب دينيّ بحت في القرية، ثم التحق بمدرسة «ضياء العلوم» بقرية «ماني كلان»؛ حيث درس الكتب الفارسيّة والعربيّة؛ ثم شدّ الرحال إلى جامعة «مظاهر العلوم» بـ«سهارنفور» سنة 1377هـ/1958م. وتخرّج منها في علوم الشريعة، وأحرز شهادة دورة الحديث بعلامات ممتازة عام 1380هـ وقرأ صحيح البخاري بتمامه على الشيخ المحدث «محمد زكريا» الكاندهلوي، وحصلت له كذلك إجازة «صحيح البخاري» عن الشيخ «فخرالدين» المراد آبادي، وعن الشيخ «محمد أسعد الله» الرّامفوري، وعن الشيخ المفتي «محمود حسن» الجنجوهي. وقرأ صحيح مسلم على الشّيخ العلّامة المحدّث «منظور أحمد» السّهارنفوري، وسنن أبي داود على الشيخ محمد «أسعد الله» الرّامفوري، وقرأ «سنن النسائي» و«سنن ابن ماجه» و«الشمائل للترمذي» و«الموطّأ للإمام مالك» على الشّيخ «أمير أحمد» الكاندهلوي، وقرأ «شرح معاني الآثار للطّحاوي» على الشّيخ «محمد أسعد الله» الرّامفوري، وقرأ الموطّأ برواية الشيباني على الشيخ «منظور أحمد» السّهارنفوري.

       (والتّفصيل في ثبته المسمّى «التآنس بذكر أسانيد الشيخ «محمد يونس» المطبوع في آخر المجلّد الثالث من «اليواقيت الغالية»).

خدماته التدريسيّة:

       إثر تخرّجه من جامعة «مظاهر العلوم» بـ«سهارنفور»، عيّن بها مدرّسا مساعدًا سنة 1381هـ، وتم اختياره مدرسًا لمادة الحديث سنة 1384هـ، وفوّض إليه تدريس «صحيح البخاري» سنة 1388هـ، وقد بلغ من عمره 33 سنة فحسب، فاشتغل بتدريس الحديث الشريف بها بشكل مستمرّ، وانصرف إلى تدريس الصحيحين إلى أن وافته المنيّة. ويمتاز تدريسه بشدّة الاعتناء بمتون الأحاديث وأسانيدها ورجالها؛ فكان يتكلّم فيهم تكلّم الذّهبي، وابن أبي حاتم، ويشرحها شرح العسقلاني، وابن بطّال. وأسلوبه في شرح الحديث أسلوب ممتاز يأخذ اللفظ المراد شرحُه من الحديث، ويبدأ مباشرة في شرحه، ويستوفي ضبط الأسماء وشرح الغريب، والكلام على الرّجال، ويسرد أدلّة المذاهب في المسائل، ويقارن بينها، ويقوّى القويّ، ويوهن الواهي بكلّ نَصَفَة؛ حتى يخيّل إلى بعض النّاس أنّه ليس بحنفيّ المذهب تدريسًا.

آثاره العلميّة:

       كان الشيخ «محمد يونس» الجونفوري من العلماء الذين قيّضهم الله تعالى للانقطاع إلى علم الحديث النّبويّ الشّريف، والعكوف على نشره، وصيانته؛ فقد وقف حياته له، وخدمه بلسانه، وبنانه، وخرّج ألوفًا من العلماء، والمحدثين. فما من منطقة من مناطق الهند إلّا وتجد فيها من قرأ عليه، وانتهل من منهله العلمي الفيّاض. واستجاز منه كبار العلماء والمشايخ من العرب، والعجم؛ ورغم أنّه لم يصنّف كتابا مستقلّا؛ ولكن له إفادات، وفتاوى حديثيّة، وفقهيّة، جمعها، ورتّبها تلميذه الشيخ «محمد أيّوب» السّورتي – مدير مجلس دعوة الحق لِستر (بريطانيا) باسم «اليواقيت الغالية في تحقيق وتخريج الأحاديث العالية» وقد طبع منه أربعة مجلّدات، يحتوي المجلّدان الأولان على فتاوى حديثيّة، وفقهيّة، وفي آخر المجلّد الأول رسالة حديثية مفيدة باسم «إرشاد اللبيب إلى حديث التحبيب»، ويتضمّن المجلّد الثالث أجزاء مستقلّة وتعليقات على كتب الحديث وهي كما يلي:

       (1) جزء إرشاد القاصد إلى ما تكرّر في البخاري من إسناد واحد، جمع فيه 168 حديثًا تكرّر في البخاري بإسناد واحد.

       (2) جزء تخريج حديث «إنّما الأعمال بالنيات» جمع فيه من روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري هذا الحديث، وبلغ عددهم 34/راويًا مع تخريج أحاديثهم.

       (3) أصول عديدة في وضع الأبواب، والتراجم لصحيح البخاري.

       (4) بحوث مهمّة عن بعض الأبواب، والتّراجم في صحيح البخاري.

       (5) الإمام مسلم وكتابه «الصحيح».

       (6) حواشي وتعليقات على مقدّمة صحيح مسلم.

       (7) جزء الإسراء والمعراج.

       (8) جزء حديث «لايزال الدّين عزيزًا إلى اثني عشر خليفةً.

       (9) جزء تخريج حديث «تفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة».

       (10) إنباء العوالم بنقوش الخواتم.

       (11) أسماء المعين في ثبوت الأربعين.

       (12) تحلية الحواشي بتخريج أحاديث «أصول الشّاشي».

       (13) التّآنس بذكر أسانيد الشّيخ «محمد يونس».

       ويحتوي المجلّد الرّابع على الأجزاء الأربعة في تحقيق الأحاديث التي وسمت بالوضع أو الضّعف وهي في السّنن الأربعة.

       وقد جمعت تحقيقاته وتعليقاته على صحيح البخاري، وطبع منه مجلّد واحد باسم «نبراس السّاري إلى رياض البخاري».

       والجدير بالذكر أنّ الشيخ لمّا ألمّ به قبل سنوات عوارض الشّيخوخة، وتعرض لوعكات صحيّة سمح لبعض تلاميذه وهو الشيخ المفتي عبدالله محمد المظاهري/ موسّس جامعة مظهر السّعادة هانسوت بجمع ما كتبه من التّعليقات، والتّحقيقات المختلفة على صحيح البخاري، فقد قام الشيخ بتصويرها، وشكّلت لجنة مكونة من أربعة أساتذة جامعة هانسوت لجمعها ومراجعتها؛ ومن حسن حظّي أنّني كنت واحدًا منهم إذكنت أعمل مدرّسا في الجامعة آنذاك، وقمنا بترتيب هذه المعلومات النّافعة، وتبين لنا أنّ الشيخ قد نخل شروح الحديث، وكتب الرّجال، والمصطلح والأصول، والفقه والتخاريج، والتاريخ وما إليها مما كان في متناول يده؛ فاستخرج ما فيها من الفوائد المغمورة، وأسدى إلى العلم وطلّابه يدًا كريمة بيضاء؛ وبما أنّه يدرس الصّحيح منذ أكثر من أربعة عقود؛ فقد أودع ما كتبه تجاربه الواسعة وإفاداته القيمة.

       وقد أعددنا المجلّد الأوّل من هذا الكتاب المسمّى «أنيس القارئ لشرح صحيح البخاري» من بداية باب «بدء الوحي» إلى «كتاب العلم» منه، وتمّ عرض الكتاب على الشيخ؛ ولكنّه لم يأذن بطباعته لمصالح ذكرها، أمّا الآن فلم يبق مانع عن الطّبع فأرجو من القائمين على «جامعة مظهر السّعادة» أن يركّزوا عنايتهم على إيصال هذا الكنز العلمي الثّمين إلى أيدي العلماء، وطلبة الدين.

       وقد أخبرني بعض من أثق به أنّ الشيخ الفقيد علّق على بعض الكتب الطّوال كأمثال «فتح الباري» تعليقات قيّمة؛ وهذه كلها موجودة في جامعة «مظاهر العلوم» بـ«سهارنفور» فلو قام بعض تلامذته من العرب بجمعها ونشرها بإذن من القائمين على «مظاهر علوم» لكان خدمة سنيّة للسّنّة المطهّرة.

صلته بالجامعة الإسلاميّة: دارالعلوم/ديوبند

       وكانت صلته بالجامعة الإسلاميّة: دارالعلوم/ ديوبند صلة قائمة على الحبّ والإجلال؛ وبما أنّ دارالعوم تخرِّج علمـاء أصلابا في الدّين والعقيدة، مصوغين في قالب السّيرة النبويّة، مدفوعين بالدعوة إلى الدّين وبمحاربة كل دعوة هدّامة وحركة ضالّة؛ فقد كان الفقيد يحبّها جمًّا. وكان أيّام شبابه حينما كان موفور الصّحة يزورها حينا لآخر، ويُكثر من ذكر كبار علماء «دارالعلوم» ومشايخها، وبصفة خاصّة العالم الكبير شيخ الإســلام «حسين أحمــد» المدني – رحمه الله تعالى – رئيس هيئة التّدريس بالجامعة سابقًا – فيذكر مآثره، ويُشيد بجهوده. وحضر ختمة صحيح البخاري في «دارالعلوم» بديوبند على الشيخ المحدث «فخرالدين» المراد آبادي، وأجازه الشيخ المراد آبادي إجازة عامّة، وكذلك سمع أوائل الأصول الستة عن الشيخ العلامة المفتي «محمود حسن» الجنجوهي – المفتي العام بدارالعلوم سابقًا – ومن أحبّائه في دارالعلوم فضيلة الشيخ «محمد أحمد» الفيض آبادي – ناظر إدارة الشّؤون التّعليميّة سابقًا – فقد كان الفقيد ينزل عليه أحيانًا. وقبل سنتين لما زاره محدّث دارالعلوم فضيلة الشيخ «نعمة الله» الأعظمي أكرمه واستقبله بحفاوة بالغة. وفي نهاية كلّ سنة يحضر عدد كبير من طلاب دارالعلوم بالباصات، والسيارات الخاصة درسه فكان يفرح بهم ويُجيزهم. وقد حضر جنازته عدد هائل من طلّاب دارالعلوم وأساتذتها، ومسؤوليها بمن فيهم رئيس الجامعة فضيلة الشيخ المفتي «أبوالقاسم» النعماني، ونائبه فضيلة الشيخ «عبد الخالق» السنبهلي، وفضيلة المحدّث «نعمة الله» الأعظمي وفضيلة المقرئ الشريف محمد عثمان المنصورفوري وغيرهم من كبار أساتذة الجامعة.

الخاتمة:

       والحاصل أن الشيخ كان مفخرة من مفاخر الهند يشار إليه بالبنان في علم الحديث والرّجال، وإنّ وفاته شكّلت كارثة أليمة على أمة الإسلام في الهند والعالم الإسلامي. رحم الله الفقيد، وأدخله فسيح جنّاته، وجزاه عنا خير ما يجزي به عباده الصالحين.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1439 هـ = نوفمبر- ديسمبر2017م ، العدد : 3 ، السنة : 42

Related Posts