دراسات إسلامية
بقلم: د. طه عبد السلام خضير
إن الإحسان باب واسع من أبواب الإسلام، وهو مرتبة عليا لا يرتقى إليها إلا القليل من عباد الله، وقد شرعه الله تعالى ودعا إليه في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه العظيم، وجاءت في ذلك نصوص الكتاب والسنة على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
معنى الإحسان في اللغة:
الإحسان مصدر أحسن يحسن، ويتعدى بنفسه وبغيره؛ فتقول: أحسنت فعل كذا، إذا أتقنته.
وتقول أحسنت إلى فلان، إذا أوصلت إليه النفع.
والإحسان يدخل جميع الأعمال الظاهرة والباطنة، كما هو ظاهر من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَـٰنِ﴾ (النحل:٩٠)
و «ال» في كلمة الإحسان للجنس فيشمل كل الإحسان في أي عمل مشروع.
وقد أثنى الله تعالى على المحسنين في آيات كثيرة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ (النحل:١٢٨).
وقال: ﴿وَأَحْسِنُوٓا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة:١٩٥).
وقال: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْـمُحْسِنِينَ﴾(الأعراف:٥٦).
وقال: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (لقمان:٢٢).
وقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ (يونس:٢٦).
وكذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحسنين، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عبد الله بن بسر، أن أعرابيا قال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «من طال عمره، وحسن عمله».
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامه: فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها».
أنواع الإحسان
أيها المسلم الكريم:
وإذا كان الإحسان يشمل كل شيء؛ فينبغي أن نعلم أنه نوعان:
أحدهما: إتقان العمل المشروع.
الثاني: إيصال الخير إلى المخلوقين.
أما الأول فهو المراد بحديث جبريل – عليه السلام- حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان بقصد تعليم الناس، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
قال الإمام النـووي – رحمه الله –: وهذا من جوامع الكلم، الــذي أوتيــه صلى الله عليه وسلم؛ لأَنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عمل من أعمال العبادة وهو يعاين ربه (سبحانه وتعالى)، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخشوع والخضوع، وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتنــاء بتتميمها على أحسن وجــوهها، إلا أتى بــه؛ فمقصـود الكلام: الحث على الإخلاص في العبـادة، ومراقبة العبد ربه في إتمام الخضوع والخشوع اهـ.
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».
ولقد جاء أيضًا من حديث عائشة (رضي الله عنها) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» (رواه البيهقي).
وهذا الإحسان الذي هو بمعنى الإتقان يشمل كل عمل نافع مشروع، بدءًا بالعمل القلبي بحيث يكون خالصا لله وحده، ومن ذلك تحسين الظن بالله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن» (رواه مسلم).
وكذلك تحسين الأقوال اللسانية كلها، كما قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوْا الَّتِي هِيَ أَحْسَن﴾ (الإسراء:53).
وقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة:83).
ومن الأقوال: رد السلام؛ حيث أمر الله تعالى بإحسانه فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ (النساء:86).
وكذلك من الأقوال قراءة القرآن الكريم؛ حيث شرع تحسين القراءة وتزيينها، كمافي الحديث: «حسنوا القرآن بأصواتكم» (رواه الدارمي).
وهكذا كل الأعمال يشرع تحسينها وإتقانها؛ بحيث تكون على الوجه المشروع وبنية خالصة لله (جل وعلا) قال الإمام ابن كثير – رحمه اله – عند قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك:2) أي ليختبركم. ولم يقل: «أكثر عملا، بل قال: أحسن عملا ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله على شريعة رسول الله، فإذا ما فقد العمل أحد هذين الشرطين حبط وبطل» اهـ.
أخي المسلم الكريم، كان هذا الحديث عن النوع الأول من نوعي الإحسان وهو إتقان العمل أي تحسينه.
وأما النوع الثاني، الذي هو بمعنى الإحسان إلى المخلوقين؛ فقد جاءت النصوص الشرعية المتواترة، تدعو إليه وترغب فيــه، وهذه النصوص إما عامة كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَـٰنِ﴾ (النحل:90) وقوله: ﴿وَأَحْسِنُوْا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِيْنَ﴾ (البقرة:195).
ومنها نصوص خاصة في بعض الفئات أو المخلوقات الحيوانية الأخرى؛ كالإحسان إلى الوالدين والأقارب عامة واليتامى والمساكين وابن السبيل والجيران والخدم ونحوهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَـٰمَىٰ وَالْـمَسَـٰكِيْنِ وَالجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ﴾ (النساء:36).
وفي الحديث الصحيح: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره».
والإحسان لا يكون إلى المسلم فقط؛ بل يتعداه إلى غيره أيضا، جاء في الصحيحين في تفسير قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَـٰنِ إِلَّا الإِحْسَـٰنُ﴾ (الرحمن:60) قال محمد ابن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر.
وبعد: فهذا هو الإحسان، إنه منزلة عظيمة سامية. وكله خصال حميدة كريمة، ومثل عليا، وقد دعا الإسلام إليه، وحث عليه؛ حتى يتنافس إليه وفيه المتنافسون وينالوا به الحسنى، وهي الجنة.
نسأل الله تعالى ان جعلنا من المحسنين.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1439 هـ = نوفمبر- ديسمبر2017م ، العدد : 3 ، السنة : 42