لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا

إشـــــراقة

         تضج الساحة بين فينة وأخرى بتهديدات موجهة إلى المسلمين بالنفي والجلاء من بلدهم الذي تنفسوا في جوه، وشربوا من مائه، واستظلوا بظله منذ مئات السنين الغوابر، ونافحوا لأجل استقلاله و انتشاله من  براثن العبودية والاستعمار؛ أو يعودوا إلى ملة ما أنزل الله بها من سلطان. والناظر في تاريخ البشرية لايستنكر مثل هذه الدعوات والتهديدات؛ فإن أنبياء الله تعالى وأتباعهم قد تعرضوا لأمثال ذلك على لسان الأمم التي دعوها إلى دين التوحيد وعبادة الله تعالى وحده. فهذا الأسلوب لايلجأ إليه إلا المغلوب على أمره في الحجة والبيان في استعباد الناس، وصدهم عن دين الله تعالى الحق الذي رضيه للناس حتى تطلع الشمس من مغربها. فالمستكبرون من الكفرة والمشركين لا ولن يرضوا عن المسلمين حتى يكونوا- المسلمون- أمثالهم في الكفر والشرك بالله، ويكونوا جميعًا في حمامٍ واحدٍ من الرجس و القذر، وينسلخوا انسلاخًا كليًّا عن كل ما يمت إلى دينهم من عقيدة وشعائر دينية.

         يحكي لنا القرآن الكريم عن شعيب عليه السلام أنه دعَا قومه إلى توحيد الله تعالى، فجادله قومه، وعارضوه، ونازلوه فأفحمهم بالحجة والبيان، فلم يجدوا سبيلا إلى معارضته فيما دعاهم إليه من دين الفطرة والتوحيد، فما كان منهم إلا أن هددوه بسوء العاقبة إذا استمر على دعوته إلى دينه أو يحملوه على العودة إلى باطلهم وشركهم، يقول الله تعالى: ﴿قَالَ ‌ٱلۡمَلَأُ ‌ٱلَّذِينَ ‌ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَٰرِهِينَ﴾ [الأعراف:88]. قال ابن كثير في تفسير الآية: «هذا إخبار من الله تعالىعما واجهت به الكفار نبي الله شعيبًا، ومن معه من المؤمنين، فيتوعدهم إياه ومن معه بالنفي من القرية، أو الإكراه على الرجوع في ملتهم، والدخول معهم فيما هم فيه. وهذا خطاب مع الرسول، والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة. وقوله: ﴿أَوَلَوَ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ يقول: أو أنتم فاعلون ذلك، ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه؟ فإنا إن رجعنا إلى ملتكم، ودخلنا معكم فيما أنتم فيه، فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا. وهذا تعبير منه عن أتباعه».

         فهذا هو ديدن الطغاة المستكبرين في الأرض إذا عجزوا عن مقاومة أهل الحق بالحجة والبيان، لجؤوا إلى القوة والحديد والتهديد والوعيد، فلما قطع عليهم شعيب عليه السلام الحجة، وأفحمهم عادوا إلى تشهير السلاح في وجهه: سلاح النفي والإخراج من البلاد، أو العودة إلى باطلهم وخزعبلاتهم.

         وهذا المشهد ليس خاصًا بشعيب عليه السلام، فقد تكرر مع غيره من أنبياء الله تعالى و رسله وأتباعهم في مختلف العصور والأزمان، على أيدي المستكبرين في الأرض المغترّين بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المسلمين، وضعف عددهم، لنقرأ قول الله تعالى في نبيه لوط عليه السلام، وما رد به قومُه عليه حيث قال: ﴿فَمَا ‌كَانَ ‌جَوَابَ ‌قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوٓاْ ءَالَ لُوطٖ مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل:56]. يا سبحان الله، ليس لهم جريمة إلا أنهم يتطهرون؟! أ ليس مكان للطهر بين ظهراني هؤلاء الأراذل؟! فالطهْر في نظرهم شين ونقيصة، والاستقامة إثم وجريمة، تستحق العقوبة والتنكيل. أ ليس هذا دليلا على سخافة العقول، وخبث الطوية؟

         وهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد همت قريش بإخراجه من مكة مسقط رأسه، وبلد آبائه، يقول الله تعالى عن مشركي قريش: ﴿‌وَإِن ‌كَادُواْ ‌لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الإسراء:76] أي «يستحثونك على الخروج ﴿مِنَ الأَرْضِ﴾ من مكة بإيذائهم لك، و عَنَتهم معك ليحملوك على الخروج، ويُكرِّهوك في الإقامة بها». وقال سبحانه في اضطرار الكفار النبي إلى الهجرة: ﴿وَإِذۡ ‌يَمۡكُرُ ‌بِكَ ‌ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال:30].

ل هذا هو موقف الطغاة المستكبرين كلهم من الأنبياء والرسل والدعاة إلى الخير والعفاف و الطهر والفضيلة والتوحيد، ونبذ الشرك والكفر، يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ ‌ٱلَّذِينَ ‌كَفَرُواْ ‌لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ ١٣ وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم:13-14].

         ولكن ماذا كان مصير هذا التهديد بالإخراج والنفي أو العودة إلى الكفر والباطل؟ هل جرت الرياح بما اشتهاه هؤلاء الطغاة المستكبرون؟ وهل تحقق لهم كل ماتمنوه، وتوعدوا به؟ فهذا قوم لوط كيف كان عاقبتهم؟ ﴿فَنَجَّيۡنَٰهُ ‌وَأَهۡلَهُۥٓ ‌أَجۡمَعِينَ ١٧٠ إِلَّا عَجُوزٗا فِي ٱلۡغَٰبِرِينَ ١٧١ ثُمَّ دَمَّرۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ١٧٢ وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِينَ ١٧٣ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الشعراء:170-174].

         وهذا قوم شعيب الذي قال لهم -فيما حكاه القرآن الكريم-: ﴿‌وَيَٰقَوۡمِ ‌لَا ‌يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ﴾ [هود:89]. فكان مصيرهم ما ذكره القرآن الكريم عبرة لمن اعتبر، قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا ‌جَآءَ ‌أَمۡرُنَا ‌نَجَّيۡنَا ‌شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ﴾ [هود:94].

         وكان عاقبة قريش كما حكاه القرآن الكريم: ﴿وَإِذٗا ‌لَّا ‌يَلۡبَثُونَ ‌خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا ٧٦ سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا﴾ [الإسراء:76-77]. وقال تعالى وهو يهددهم: ﴿فَٱرۡتَقِبۡ ‌يَوۡمَ ‌تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ ١٠ يَغۡشَى ٱلنَّاسَۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٞ ١١ رَّبَّنَا ٱكۡشِفۡ عَنَّا ٱلۡعَذَابَ إِنَّا مُؤۡمِنُونَ ١٢ أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكۡرَىٰ وَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مُّبِينٞ ١٣ ثُمَّ تَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٞ مَّجۡنُونٌ ١٤ إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلۡعَذَابِ قَلِيلًاۚ إِنَّكُمۡ عَآئِدُونَ ١٥ يَوۡمَ نَبۡطِشُ ٱلۡبَطۡشَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ [الدخان:10-16]. «وهذا الدخان- كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه- قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخانًا بينه وبين السماء. ويؤيده ما يأتي بعده. وقوله: (مُبِينٍ) أي: ظاهر لايشك أحد أنه دخان، (يَغْشَى النَّاسَ) أي: يحيط بهم، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، أي: انتظر يوم شدة ومجاعة؛ فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار، أو كثــرة الغبار، (هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي: قائلين هذا عذاب أليم. ولما اشتد بهم القحط، مشى أبو سفيان، ونفر معه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وناشده الله- تعالى- والرحم، و واعــــدوه إن دعـــــا لهم، وكشف عنهم، أن يــــــؤمنوا، و ذلك قـولـه تعالى: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي: سنؤمن إن كُشف عنا العذاب».

أبو عائض القاسمي لمباركفوري

مجلة الداعي، جمادى الأولى 1444هـ = ديسمبر 2022م، العدد: 5، السنة: 47

Related Posts