بقلم:  الأستاذ أسعد قاسم السنبهلي(*)

         مما یُحرِّق الیوم القلوب والصدور، ویُثیر فيها الذعر والمخاوف نحو صحوة المسلمین في المستقبل، وظهورهم علی وجه الأرض کأمّة عظیمة، تنتصر علی الشعوب والأمم، هو أن العالم الإسلامي یفقد عَلَما بعد عَلَمٍ، وشخصية بعد شخصية، وخاصة في الأعوام الأخيرة التي تفشی فيها الوباء المزعوم، فبالعام الماضي، فارَقَنَا من العلماء من یبلغ المئات حسب ما أفادت الإحصائيات الدولية، وعلی رأسهم المشايخ العباقرة العظام، الذین لا یمکن أخلافهم أن یسدوا مکانهم، ویمارسوا دورهم القیادي، وها نحن نبکي الآن علی الداعية الكبیر، والمفکر الإسلامي الشهیر، والكاتب العربي القدیر، أستاذنا ومربینا الشیخ نورعــــــالم خلیل الأمیني الذي وافاه الأجل 20/ رمضان 1442هـ الموافق 3/مايو 2021 من المیلاد، بعد ماتکبد من الأسقام التي لحقت بفضیلته لإجهاد النفس، ومواصلة الأعمال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

         کان الشیخ الأمیني من أفذاذ الأدباء، وعباقرة العلماء، وأئمة العروبة، ونوابغ الكتَّاب وأعلام المدرسین، وروّاد الفکر الإسلامي، وغیاری القادة الكبار، الذین نسوا أنفسهم وأولادهم، وکرّسوا حیاتهم وأعمارهم في نشر العلوم والمعارف، وترقیق الشعور الدیني، وترویج اللغة الأمینة، وتخریج العلماء الأکفاء، وشرح قضایا الأمة المرحومة، ومواجهة التحدیات والأزمات، واستعادة الأمجاد والمقدسات، والرد علی الانحراف عن العقائد والثوابت، وإرشاد القادة نحو المجد والعلاء، وتوجيه العرب و العجم إلی ماکان عليه الصحابة والتابعون، بکل إیمان وحماسة، وقوة وجلادة، وجرأۃ واستماتة.

         ولم یتعرف عليه کاتب هذه السطور قبل وروده في دیوبند، فلما لحق بجامعتها الإسلامية الكبری متعلمًا في نهاية التسعینيات اطلع علی الشیخ الأمیني إلی جانب الأساتذة الكبار، حقا، کان شخصية عظیمة، ترنو إليه العیون، وتهفو القلوب، و یتناولها الطلاب بحدیثهم وحوارهم لعبقریته في لغة العرب، وعلوّ کعبه في الكتابة، وإجادة تدریسه لكل من العلوم والفنون، نعم کانوا یتحدثون عن خلاله وصفاته، وزيه ومیزاته، وطرائفه ونکاته، التي کان یلقيها حینا بعد حین خلال الدروس إحیاء لذوقهم ومواهبهم، وإثارة لقوتهم ونشاطهم، وإشعالا لعواطفهم ومشاعرهم.

         کنت أسمع عنه کثیرا ویزیدني ذلك حبًّا له، وإعجابًا بصفاته، ورغبة في الاستفادة من علومه ومعارفه، نعم کنت أتلهف بشوق کبیر إلی أن أتشرف بالتتلمذ عليه، حتی حقق الله أمنیتي حیث قدر لي الانتهال من ینابیعه، والتشبع برصید فکره، والارتواء بنمیره المتدفق الفیاض، عندما التحقت بقسم الأدب العربي، وشارکت في دروسه التي کانت مملوءة بالثروة اللغوية، والأغاني الحجازية، والأفکار العربية، فلا أغلو لو قلت: إني ما قرأت عليه مادة ولا کتابا؛ بل وإنما تلقیت منه الفن والموضوع، فقد حبّب إلینا العربية، وذوّقنا بنصاعتها وعذوبتها، وعرّفنا بجزالة الألفاظ، وتعاطي الكلمات، و دقة التعبیر، وأناقة الأسلوب، و قوة المنطق، ورسوخ الفکر، ورفعة الآمال، والمشاركة في آلام المسلمین وأحلامهم علی مستوی العالم.

وصلني أوّلا بالشیخ الأمیني العالم الرباني الكبیر الشیخ محمد منظور النعماني -رحمه الله- عضو المجلس الاستشاري لدار العلوم بمدینة دیوبند، حیث کتب إليه رسالة خاصة یشفع لي، ویسترعي إليَّ عطفه و عنایته، ثم عزَّز العلاقة القائمة بیني وبینه، ما أسس رائد اللغة العربية، ومعلمها العبقري فضیلة الشیخ وحیدالزماں الكیرانوي –رحمه الله- في مدینة مرادآباد، من قسم الأدب العربي الذي أسند إليَّ فضیلته  مسؤولیات مراقبته والإشراف عليه، وبذلك توطدت الصلات، واعتزت العلاقات مع الشیخ الأمیني، وقضیت – والحمد لله – علی حبه وتقدیره حقبة، لا تقل عن 25 سنة، کان یعطف عليّ، ویثق بي کل الثقة، ویشد عزیمتي بالثناء علی خدمة اللغة العربية، والإشادة الجمة بما أمارسه في سبیلها مع قلة الموارد والإمکانیات، کما شرّفني -رحمه الله- أکثر من مرة بوروده في جامعة الشاه ولي الله مرادآباد، ولما صدر لي أشهر مؤلفاتي «الإمام المهدي – شخصیته وحقیقته» علق عليه في صفحات مجلة «الداعي» تعلیقا بسیطا شاملا، یُشجِّع المؤلف، ویُبرز أهمية المطبوع، هکذا في مصنفاتي الأخری أردیًّا أم عربیًّا، قرّظ لها الأستاذ الأمیني بأسلوب، یزید من قیمتها وموضوعها.

         وإني أشکر الله کثیرا علی أنني لم أنقطع عن الشیخ الأمیني -رحمه الله- بعد الفراغ من الدراسة، کما ینقطع الطلاب عامة إثر التخرج من جامعتهم التي ترَبوا فيها علمیا وثقافیا، ومن أساتذتهم الذین أجهدوا نفوسهم في تعلیمهم وتربیتهم، ذلك – ولا شك – مما یَحرمهم بركةَ العلم، ویُبعدهم عن خدمة الدین، ویحول دون تقدمهم وازدهارهم في السلوك والعمل، فلم أزل – والحمد لله – متشبثا بأستاذي العبقري الشفوق، ألقاه، وأحضر إليه، وأقتبس من دعائه ونصائحه قسطا وافرا، وإن سمح لي القراء بأن أقول: إني درست طوال الزمن أحواله وصفاته، وقرأت کل صفحة من صفحات حیاته، ولكن لا أتعرض الآن فیما یلي لموطنه وأسرته، ونشأته وولادته، وتعلمه وثقافته، کما یفعل الكتَّاب رغم أنها موضوعات عائلية، لایؤدي حقها إلا أبناؤه وأعزته؛ بل و إنما أود أن أحدد الموضوع، واُبرز ما یمیز شیخنا الأمیني -رحمه الله- بین الأقران والمعاصرین.

         یفیدنا التجارب أن الفنون الإنجلیزية المعاصرة، والعلوم الإسلامية الشرعية بینهما فرق بعید، تقتضي دراسة الأولی توفیر الوسائل والإمکانیات، فإذا تعلم الدارس في الكلیات الكبرى، العالية المستوی، الغالية الرسوم، الباهظة المصروفات، کثیرة التکالیف، سار مسیر الرقي والازدهار إلی أن یتولی منصب الشرف، ویقضي حیاته هنیئًا موسرًا، وأما الاُخری فهي تختلف عن الأولی کلیا، لما فيها من تراث الأنبیاء والمرسلین، فلا یحتاج الطالب في الحصول عليها إلی وفرة المال، وکثرة المتاع، وغزارة البضائع فحسب؛ بل قد یضره ذلك ویعوقه دون الوصول إلی غایته المنشودة، حقًّا إن دراستها تتطلب فقط سلامة القلب، وسعادة الطبیعة، وکمال التوفیق، وإن زاد علی ذلك ضیق العیش، ومشکلات الحیاة، وشدة المآسي والظروف، تماسکت أقدامه، وعلت همته، وجری نحو الرقي والازدهار بتوفیق الله -سبحانه وتعالی- إلی أن یعرفه الزمن کعالم عبقري، یرشد الجیل المعاصر، ویؤثر في العالم کله، نعم یبلغ فيها ذروة النجاح، من یبکيه الزمن، وینیخ عليه الدهر، ویقلبه ریب المنون، وکل ما یجعله کثیر الإنابة إلی الله، والبکاء أمامه في ظلام اللیل، والدعاء إليه بکل خشوع وإلحاح، حتی یتقشع السحاب، وتطلع عليه الشمس المشرقة، التي تحدوه نحو السعادة والیقین، ینطبق ذلك في التاریخ علی کثیر من العلماء الذین خدموا الإسلام والمسلمین علی مستوی العالم، وفي زمرة هؤلاء العباقرة الأعلام أستاذنا الشیخ الأمیني رحمه الله، الذي انحسر عن رأسه ظل أبيه، وصار یتیما ولم یکد یبلغ الشهر الثالث من عمره، فاختل نظامه العائلي، وانقطع مصدر رزقه، وتجهم وجه الحیاة لأسرته، التي ما کانت مکونة إلا من الرضیع، وأمه، وجدته، تربی الأستاذ مسکینًا بائسًا، یتکبد المصاعب والمتاعب، ویتعرض لما یسد الطریق، من شدة البؤس، وشظف العیش، وکثرة الإفلاس، وطول الفقر والمسکنة، لكن لم یصده ذلك عن التعلم والتقــــــــدم فحسب؛ بل أیقظ شعــــــــوره، وأشعل مواهبه، وأثار أمانيه التي حرضته علی إجهاد النفس طول حیاته الدراسية، کما تدل عليه العلامات الجیدة الممتازة التي حصل عليها منذ البداية حتی النهاية، وتمیز بین زملائه خلال الدراسة، ولما دخل حلبة الكتابة والتدریس، فاق الرفقة والأقران علما وإفادة، وبحثا وتحقیقا وأسلوبا وترتیبا، یشهد علی ذلك بحوثه الغالية، ومقالاته القیمة وتألیفاته الضخمة، و مآثره الكبیرة العظمی، التي حققها في نصف قرن في سبیل دراسة القضایا والأزمات، وتوسعة اللغة وآدابها بین الأعاجم، وإرشاد الطلبة والأساتذه إلی ما امتاز به العلماء سلفا وخلفا من رسوخ العلم، وسداد الفکر، وتحقیق المآثر والبطولات.

         ومعلوم أن العلم النبوي واسع الأطراف، کثیر المحاور، غزیر الجهات والأبعاد، فالمغرور یتبع وراءها بغیر تحدید وتعیین، فلایفوز، ویبوء بالفشل، وأما الواعي البصیر فلا یود التغلب عليها جميعًا لضیق العمر، وکثرة الهموم، وقلة الأسباب. إنه یتخصص أولا في فن وموضوع، ثم ینقطع إليه لیرکز فيه جمیع مواهبه وعنایاته، فذلك ینفعه؛ لأن التخصص في جهة ومادة یرفع الوضیع، ویبرز المغمور، ویُعرِّف الخامل، ویسبق المتخلف، وینشط الكسلان، حتی یرتفع صاحبه بین الأقران والمعاصرین، اطلع الشیخ الأمیني علی ذلك السر زمن التعلم، ثم صرف العنان تجاه اللغة العربية، لغة الإسلام والمسلمین، ومما هو جدیر بالذکر أنه لم یتخصص فيها کما یتخصص الهنود في تدریسها خلال الحصص، وکتابتها یسیرًا لعدة سطور، وتکوین عدد من الجمل بعنوان التکلم والخطابة فقط، لا؛ بل أحبها الشیخ الأمیني حبًا جما، حیث عصرلها دماء العروق، وصرف فيها الهمة والجهود، وقرأمؤلفا ت الأدباء قدیما وحدیثا، وطالع دواوین الأشعار والمنثورات، وغاص في بحار المعاجم والقوامیس، وقارن بین الأسالیب الأدبية، واطلع علی الجهود والخدمات التي مارسها العلماء عبر القرون والدهور في سبیل تحقیق مفرداتها، وإحصاء غریبها، وتدوین قواعدها، ووضع جمهرتها، وتخلید رسمها، ومراحل تطورها، حتی شغف الأستاذ بأبناء العربية وکبار علمائها، وقضایا وطنها، ومدارسها الفکرية، وجمیع المنظمات والحرکات التي تنشط في العالم العربي، یدل علی ذلك قلمه القوي الرشیق الذي یجمع بین أسالیب القدماء والكتاب المعاصرین، ویعکس أصالة اللغة، وجمال الأدب ویکشف النقاب عن الحیاة العربية بأحلامها وآلامها، ویتعرض کثیرا لما یواجه الشعب العربي من القضایا والأزمات، ويهز أوتار الأفئدة والقلوب بحسن اللهجة، وبلاغة المنطق، وقوة الأسلوب، ودقة التعبیر حتی یخیل إلی القراء أن الكاتب فرد من أفراد الأسرة التي تسکن بجز یرة العرب من مشارقها إلی مغاربها.

         یعرف من له عهد بالمدارس والجامعات أن الأساتذة علی أقسام، یمتاز بعضهم بجدهم المضني، وکثرة المطالعة، ومواصلة الدروس، و لكنهم غیر قادرین علی إلقائها بنسق وترتیب، فلا یفیدون الطلاب حق الإفادة فحسب؛ بل یشوهون إليهم المادة، حتی ینفروهم من الموضوع، ویصدوهم عن التقدم في سبیل الدراسة والعلم، بینما یقدر الآخر علی النطق والبیان مع قلة اجتهادهم، وضیق نطاقهم في المعارف، لكنهم یتمکنون من إساغة الموضوع، وتفهیم المعاني، وشرح الأوابد والمدلولات بطریق مفید، یطمئن به الدارسون، ولا یشکون مشکلة في فهم العبارات، وإدراك الغایات، وأما القسم الثالث من المعلمین فهو یجمع بین خصائص الطبقة الأولی وممیزات الأخری، بالإضافة إلی شدة الذکاء، وسعة النظر، والملكة الغریبة في اللسان، فلا یُدرس بابا ولا کتابا، بل یُدرس الفن والموضوع بجمیع ألوانه وأشکاله، وأبعاده وأنواعه، إني أقول – والله شاهد عليه – إن الشیخ الأمیني کان من زمرة هؤلاء الأساتذة البارعین الموفقین، فإنه کان یُحبب إلی الطلاب اللغة العربية، ویرغبهم فيها شدیدا، ویثیر في نفوسهم الشعور بعذوبة الألفاظ، وأناقة الأسالیب ودقة المعاني، وقوة البلاغة، وشدة التأثیر، یتذوق الحضور بلهجته، ویتناغمون مع صوته، ویسیرون نحو مساره، ویتلهفون بشوق کبیر إلی دروسه التي کان یؤلف فيها بین الإقناع والإمتاع، ویزاوج بین غزارة العلم والأدب، وخفة الروح والقلوب، کما یقدم فيها حینًا بعد حین إشراق الماضي، ومرارة الحاضر، وأحلام المستقبل، مع الغیرة والحمية التي تشعل مجامر الأفئدة والصدور، وإذا انتهی حدیثه في الفصول ما شبعوا؛ بل أحسوا بمزید من الجوع والعطش، حتی کانوا یشعرون بأن الخوان الحافل بأشهی المآکل والمشارب قد رفع عنهم بغتة، حقًّا، إنه أستاذ عبقري مطبوع، نفع الخلائق، وحقق المشاریع، وأثبت أجره یوم یقوم الناس لرب العالمین.

         نری الكتاب والمؤلفین علی مختلف الأنواع والأقسام، لا یُعنی بعضهم في الكتابة إلا بالإعراب عما في نفوسهم من الأفکاروالعلوم غیرمبالین بأي نسق وترتیب، بینما یولع الآخر بتجمیل الكتابة، وتنمیق العبارة، یختار لها الأسالیب المطربة، والكلمات الفخمة، والألفاظ الثقیلة، فجل رصیده جزالة العبارة، وحسن المظهر، ولايهمه سموّ الأهداف، ورفعة الغایات، ورضا الله – سبحانه وتعالی-، وأما القسم الثالث فهو لیس کمثلهما، فلا یغمض في الكتابة عن نسق وترتیب، ولایصرف القلم تصریف الكتاب المحترفین؛ بل یعتبره أمانة، یسأل عنه یوم یقوم الناس لرب العالمین، فیجمع هؤلاء الكتاب بین جزالة اللفظ، ورشاقة العبارة، وروعة الأسلوب، وبین الغاية السامية، والرسالة القوية، والدعوة إلی الله سبحانه وتعالی، إني أثق بأن الشیخ الأمیني کان جدیرا بأن نعده في هذا القسم؛ بل في مقدمة الكتاب والمصنفین الذین رفعوا لواء الإسلام، وکشفوا الغبار عن لجینه الصافي، وقاموا بإعادة ثقة المسلمین بدورهم القیادي في المستقبل، والرد قویا بالغا علی ما یثیر الإعلام الغربي من المطاعن والشبهات، والدعایات والمفتریات، یعکس قلم الشیخ الأمیني حرارة الإیمان، وشدة الإخلاص، وغزارة الحمية إلی جانب حسن الصیاغة، وروعة المظهر، وجمال الأدب، یبکي علی آلام الأمة، ویرشدها إلی ما یضمن لها من عزها السالف، ومجدها القدیم، وإذا أمسك القلم أنار العقول، وحرك المشاعر، وهز الوجدان، وألهب الضمائر، وأشعل الجماد، وأحيىٰ الموات، وبعث في القلوب روح الإیمان والجهاد في سبیل الله، ولیس ذلك في صفحة ومقالة؛ بل في کل ما أجری فيه القلم من الافتتاحیات والمقالات، والتراجم والانطباعات، والشذرات والإشراقات، وکان إذا أراد طباعتها، عني بالغا بحسن الطباعة وروعة المنظر، ورفعة المستوی في المظهر والمخبر.

         ومما یعتاد العلماء الهنود أنهم یعالجون عامة ما یقلق المسلمین في الهند، من القضایا والأزمات التي تجدد بها المنظمات الفاشية المتطرفة أحزان الأمة، وتنکأ جروحها، وتؤذيها حینا إلی آخر، فلا یتطرق الحدیث الهندي إلی مکائد اليهود، ودسائس النصاری، ومؤامرات الملاحدة والزنادقة، التي تسببت في سقوط الخلافة العثمانية، وتفرقة العالم الإسلامي، واحتلال الصهاینة علی القدس، وتدمیر الوطن العربي، وشدة الجور والاستبداد علی المسلمین الأبریاء، وقتلهم علی مستوی العالم، فإن الشیخ الأمیني هو الكاتب العصامي الفرید، الذي تناول الجمیع بفکره وبحثه إلی جانب الحوادث و المآسي، التي یتعرض لها المسلمون في بلاد الهند، فقد توسع فکره، وعلا وعيه، إلی أن اجتاز قلمه الحدود والثغور؛ بل القارات والمحیطات، حیث ذرف الدموع علی القدس طول العمر، وبکی علی قتلی البوسنة والشیشان، ورثى شهداءَ العراق والشام، وناح علی المظلومین في الیمن وفلسطین، واضطرب قلقا بالجور والاستبداد الذي ارتکبه الظلمة السفاکون في کل من أوربا وکوسوفا، وأمریکا وأسترالیا، وبورما والصین، حتی استغاث المسلمین في کل المشاکل والعراقيل، وصاح لكل عویل مظلوم وبقعة محتلة، ولم یزل ینادي العالم الإسلامي شرقا وغربا بصوته المرعش «یا للإسلام، یا للإسلام».

         وإني أتصور أنه لو کان حیا عند ما انتصر المجاهدون الأفغان علی أمریکا وحلفائها، وشهد هزیمة النصاری الذین ما زالوا یظلمون المسلمین في کل الأقطار والأمصار، وینادون بكل فخر وعناد «من أشد منا قوة» فما کان أشد فرحا، وأعظم سرورا، يهتز قلمه عند ئذ طربا وغبطة، ویسجل المعاني والتعابیر، التي تتفجر من ألفاظهاعیون البهجة، وتتدفق من أسالیبها أنهار الفرحة، وتموج في أحشائها بحار المسرة والحبور، یالیته کان حیا! کي یرتاح قلبه الذي تقطع لكل مأساة، وتململ بکل کارثة، وناح إلی نصف قرن علی جمیع المجازر والأزمات، أعتقد بأنه مایکتب بهذه المناسبة المطربة السارة كان ذلك أجمل الكتابة، وأجل العبارة، وأزهر الكلام.

         نلاحظ کثیرا أن العلماء الأجلة إذا قاموابتولي المناصب الكبیرة العظمی، ونالوا الحب والقبول، بین الطلبة و العلماء، وبین أوساط العلم والدین، أهمل بعضهم الدراسة وهجروا المطالعة، وترکوا الاجتهاد، ثقة بمواهبهم ومؤهلاتهم التي عُرفوا بها، واشتهروا في البلاد، إلی أن یعودوا أخیرا کعامة العلماء الذین یحترفون الخطابة، لیخدعوا المستمعین بکلماتهم الرثة البالية، التي یُدخلون فيها التعدیلات حسب المناسبات، حینا بتغییر أوائلها وأواخرها، وآخر بتقدیم عناصرها وتأخیرها، وثالثا بإیجازها وإطالتها، وأما العلماء العباقرة الأفذاذ الذین جبلوا علی الدراية والعلم فلایُقصرون في المطالعة والاجتهاد، وإن بلغوا ذروة السمعة، وحلوا محل السمع والبصر، فکلما زادوا صیتاو قبولا زادوا جهدا ومشقة في البحث والتحقیق، یثمنون لحظاتهم، ویضنون بأوقاتهم، ویصرفونها کلیا في مایؤول بالنفع للإسلا م والمسلمین، أقول – وبالله أقسم- إن شیخنا الأمیني رحمه الله کان من هؤلاء العلماء الموفقین الذین یعتبرون الأوقات أغلی من الذهب، ولایضیعون منها ثانية ولا دقیقة، فقد أجهد نفسه في نشر اللغة العربية، وأنهك جسمه في ترویجها نطقا وکتابة، وأضنی قواه في کتابة المقالات، وتسجیل الخواطر والانطباعات، ولم یمنعه الأمراض المستعصية الخطیرة التي ظهرت بکثرة المطالعة، ومواصلة الاجتهاد،حتی جاءه الأجل، وانتقل إلی جوار ربه، جزاه الله سبحانه وتعالی عنا وعن جمیع العلماء والدارسین.

         إن الألسنة واللغات تختلف في القواعد والأسالیب فحسب؛ بل هي تختلف في العواطف والمشاعر، والحضارة والقیم، والتأثیر والانطباع، فإذا تضلع المرء من لغة، وأتقنها، واشتغل بنشرها وخدمتها تأثر طبعا بجوهرها، وانصبغ بصبغتها، وتلقی بشکل غیر ملموس من أخلاق أصحابها حسنة کانت أم سیئة، ومعلوم أن العربية لغة الملائكة، والأنبیاء، والصحابة والتابعین، وعباقرة العلم، ونوابغ الورع والتقی، فهي أعظم حرمة، وأرفع مکانة، وأشد تأثیرا في الطبائع والأخلاق، فطبعا یتحلی من یرغب فيها بما کان یتحلی به العرب سلفا وخلفا، من الحمية والغیرة، والشکیمة والإباء، والفتوة والرجولة، وغیرها من الخلال والصفات التي لاتتسم بها أمة من الأمم سوی الناطقین بالضاد، أقول: أثر ذلك في الشیخ الأمیني تأثیرًا قویًّا بالغًا، فإنه کان أبیًّا غیورًا، عزیز النفس، مضطرم الشعور، بعیدا من النفاق والشح والتذلل لذوي السیادة والثروة، زار الأقطار والأمصار، وشارك في الندوات والموتمرات، وأعجب بأبحاثه ومقالاته، الحکام والوزراء، وأصحاب الجاه والثراء الذین إذا عطفوا علی کاتب ومحاضر، أنعموا عليه، وصبوا وابلا من الدنانیر والریالات، حتی یتحول مترفا ناعما، یقیم المباني والصروح، ویعیش فيها هنیئا موسرا؛ لكن الشیخ الأمیني-رحمه الله- سلك بین العرب والأعاجم مسلك الداعية والمفکر الإسلامي الكبیر الشیخ أبي الحسن علي الحسني الندوي -رحمه الله-، حیث لم یزل قائما بالتعفف، متمسکا بالغیرة، مرتديا حلة الحمية والإباء إلی أن وافته المنية ولم یتمکن من إقامة المنزل في مقر عمله.

         ومما تمیز به الشیخ الأمیني بین أبناء الجامعة الإسلامية دارالعلوم بمدینة دیوبند الحب الشدید الذي یکنه لأغراض الجامعة ومزایاها، ومشايخها و رجالها، وأرضها وبنائها، ونظامها ودراستها، وآثارها وشعائرها، یشهد علی ذلك کل من سعد بالقراءة عليه، أو تشرف بمطالعة تألیفاته ومقالاته، یلمس القراء التقدیر البالغ العمیق في ألفاظه وفقراته، وأسالیبه وتعبیراته. ومعلوم أن معارف علمائنا کانت کنوزا مخفية، لم یتذوق بها العرب لوعائها العجمي الأردي، ولكن لما تولی الشیخ الأمیني منصب الإدارة لمجلة «الداعي» العربية الشهرية حمل علی عاتقه مسؤولية نقلها من الأردية إلی العربية، لیُعرِّف أبناءَ الوطن العربي بما حقق مشايخ دیوبند، من نشر الدین الخالص، وتصحیح عقائد المسلمین، وتوجيههم نحو التمسك بما کان عليه الصحابة والتابعون، وتجنیبهم ما افتراه أهل البدع والضلال في ربوع الهند بالعهد الأخیر، وجهادهم الكبیر ضد الاستعمار وعملائه الكذابین الدجالین، الذین حرَّفوا الدین، ومسخوا الشریعة، ولبسوا کذبا وزورا حُلة المهدي والمسیح، فقد نقل إلی العربية ماألفه العالم الرباني الكبیر الشیخ أشرف علي التهانوي، وشیخ الإسلا م العلامة شبیر أحمد العثماني، وحکیم الإسلام المقرئ محمد طیب الدیوبندي، والداعي الكبیر الشیخ محمد منظور النعماني، والعالم الشهیر المفتي محمد تقي العثماني، وغیرهم من العلماء والمشايخ – وذلك ولاشك خدمة عظیمة، عرَّفت العرب بمآثر علمائنا، وحرَّضت کثیرا من العلماء القادرین علی العربية أن یسیروا مساره في نقل معارف المشايخ الدیوبندیین إلی لغة العرب، وفي مقدمتهم الشیخ عبد الرشید البستوي رحمه الله، رئیس هيئة التدریس سابقًا بجامعة الإمام أنورشاه بمدینة دیوبند، والشیخ محمد عارف جمیل المبارکفوري حفظه الله أستاذ التفسیر والأدب في جامعة دیوبند، ورئیس تحریر مجلتها «الداعي» العربية الشهرية، والشیخ محمد ساجد الهردوئي الموقر الأستاذ بدارالعلوم دیوبند وغیرهم من العلماء الأفاضل، تقبل الله جهود الشیخ الأمیني وجزاه خیرالجزاء عن الإسلام والمسلمین.

         هذه نبذة مما وقع عليه نظر کاتب هذه السطور من مواهبه ومؤهلاته، وخصائصه ومیزاته، وخلاله وصفاته، ولو نظر العلماء الأکفاء في شخصية الأستاذ الأمیني لوجدوا مالا یُعد ولایُحصٰی من ذلك، أقول ختاما: ولئن فقد فيه العالم الإسلامي مؤلفا عظیما، وجامعة دیوبند معلما مثالیا، والمسلمون الهنود داعیا حکیما، فإني فقد ت بوفاته أستاذا شفوقا، ومربیا عطوفا، أبکي عليه، وأرثي بما رثت به سیدتنا الخنساء -رضي الله عنها-.

         ألا یاصخر لا أنساك حتی

أفارق مهجتي ویشق رمسي

         یذکرني طلوع الشمس صخرا

وأبکيه لكل غروب شمس


(*)         رئیس قسم الإفتاء والأدب العربي بجامعة الشاه ولي الله مرادآباد.

مجلة الداعي، جمادى الأولى 1444هـ = ديسمبر 2022م، العدد: 5، السنة: 47

Related Posts