يبدو أن العصبية في دم الإنسان (1/2)

الأدب الإسلامي

بقلم :الأديب معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر / الرياض

وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي

يشعر المر أحيانًا أن العصبية في دم الإنسان، فهو يتعصب لما هو له، وما هو فيه، يتعصب لأهله وأقاربه، ويتعصب لبلده، ويتعصب لممتلكاته من بيت ومزرعة وسيارة، ويتعصب لمدرسته التي درس فيها، ولكليته التي تخرَّج منها، ولأساتذته الذين درَّسوه؛ ويتعصب من باب الوطنيَّة لملابسه وما يدخل ضمن مظهره .

       والعصبية حسب عمقها، وحِدَّة ما يثيرها، تطغى أحيانًا على العقل، وتُكسِفُ شمسه، وتحجب ضياءه، وتتركه في حنادس الظلماء، وترتع هي كما تشاء في الميدان؛ فمن الدفاع عما هو للإنسان إلى الهجوم على من هو لأناس آخرين، يقفون في الصف المقابل، أوالعدوة القصوى.

       في الدفاع تأتي الحجج الصحيحة، فإذا استنفذت، أو ظن أنها ضعفت، استعان المرء بما يستطيع اختلاقه، وما بلغته ملكته من السَّبك والتضليل؛ والمهم هو الهدف النهائي: هزيمة الفريق المنافس أو المعادي، ثم تأتي الخطوة الثانية، وهي أحيانًا الأولى، فقد يبتدأ بها، لتكون صدمةً وتخديرًا، يمهد السبيل للإجهاز على الخصم، وهذه الخطوة هي الهجوم بوسيلتيه اللتين استفيد منهما وقت الدفاع، وهي إرسال أسهم الحقيقة في عيون الآخرين. فإذا استنفذ ما في الجعبة من سهام، استعير من الخيال أبشع الصور لرسم الخصم، وما يملك.

       وكلما اشتد الهجوم اشتد الدفاع، وكلما ظُنَّ أن الهدنة على وشك أن تقع جاء المدد للحرب من حيث لم يتوقع، وما هي إلا راحة موقَّتة، يستريح فيها المحارب، ويجمع قوته، حتى إذا ظن أحد الفريقين أن ذخيرته قد نضبت، وآلة حربه قد ضعفت، فإذا به يستفيد من فرصة سنحت يلمز فيها خصمه بما قد لا يظن أنه هجوم، ولكنه في الحقيقة سم زعاف عند التمعن .

       والوطن كبير، وداخله وطن أصغر، وبين الأوطان الصغيرة، وهي المدن تقوم أحيانًا حرب، ولا يعني هذا أن المدن يزحف بعضها على بعض، فترتطم الحارة اليمنى من المدينة المهاجمة، بالحي الأيسر من المدينة المغزوَّة، وأن المباني تصطفق، ويضرب مبنى مبنى، أو سور سورًا، أو شارع شارعًا، لا، إنَّ ما يحدث هو أن المدن تعطي وكالةً موثـَّـقة لسكانها بأن يرشقوا بسهام أفكارهم وألسنتهم سكان مدينة أخرى، فإذا قلنا صراع المدن فإنما نعني أهل المدن.

       وما دُوِّن من التراث مليء بأدب الهجوم إن صح هذا التعبير، وإن لم يصح سمَّيْنَاه “قلة الأدب في الهجوم!”، والحرب تكاد تتركز بين أقطار معينة، أو مدن معينة، وهناك أسباب تكمن خلف ذلك، لعلنا نضع أيدينا عليها، ونحُلُّ ألغازها، ونعرف ما أوجبها، وكَمُنَ خلفها، عند ذكر النص ومناقشته؛ لأن كل صراع له طبيعته وأسبابه، وما حرَّكه، وفي أي اتجاه سار.

       وما جلب انتباهي أن بعض ما كانت توصم به المدن في الماضي استعارهُ أهل الحاضر، فركبوه على مدنهم، وكأنهم له مبتدعون، وهم في الحقيقة ناقلون مقلِّدون؛ ولقد سمعت قصةً ركَّبها أهل إحدى المدن على أهل مدينة أخرى، ملمزين في سردها إلى توغل الغباء عند أهل تلك المدينة، وقد سمعت التهمة نفسها قبل ثلاثين عامًا بقولها أحد سكان إحدى مدن الشام، متهمًا أهل مدينة أخرى بالغباء، ويعضد رأيه بالقصة نفسها، وربما نجدها يومًا في أحد كتب التراث؛ لأنه ثبت أن كثيرًا مما يدور في مجتمعاتنا من أفكار لامعة إنما هو مأخوذ من الماضي، أو محوَّر عنه، أو بإيحاء منه. والقصة كما يلي:

       “وصل أحد التجار إلى دكانه صباح يوم من الأيام، ففتح باب الدكان، ثم أدخل يده في جيبه يبحث عن مفتاح الصندوق، وفيه يحفظ أمواله، ودفاتره، فلم يجد المفتاح، فنادى الخادم وقال:

       إذهب إلى سيدتك، وقل لها: إن سيدي قد نسي مفتاح الصندوق الذي في الدكان.

       فذهب الخادم، وسار أمتارًا، وجد أثناءها التاجر مفتاح الصندوق، فاستدعى الخادم، ورده، وقال له: إذهب إلى سيدتك، وقل لها: لقد وجدت المفتاح”.

       قصة بسيطة طريفة ولكن فيها حرارة الفلفل عند من قيلت عنه؛ وهم عندما يروون القصة لا يقولون حصل هذا من رجل، ويقفون عند هذا الإخبار، ولكنهم يردفون ذلك بقولهم: من البلدة الفلانية، وهنا تقع الطامَّة، ويتبين الهدف، ويتبين معه التلفيق، وتتضح من خلفه العداوة التي تكمن بين المدينتين، وقد يعرف أهل هذه المدينة، وأهل تلك، ما أوجب هذه العداوة، وما يغذي نارها حتى تبقى مشتعلةً، فلا تخمد ولا تضعف، حتى لايحزن الشيطان، ويخيب أمله، وهو الذي وسوس، وعمل جاهدًا، حتى قدح لها الزند، وأشعل الحطب، وأجَّج النار، ورمى في أتونها ضعاف العقول، ومَنْ عاطفتهم على عتبة الباب، تنتظر الطارق حتى تسير معه، وتمشي في ركابه، فتعمي بصره، وتحجب عقله، وتغيم على بصيرته، فلا يرى الحق حقًّا، والعدل عدلاً، وإنما يرى الظلمة نورًا، والرائحة الكريهة زكيةً شذيَّةً!

       وقد يكون مأتى العداوة بين أهل مدينتين، أو أهل قطرين، تجارية، أوجدتها منافسة حادة في التصدير والاستيراد؛ والمدن تضعف تجاريًّا وتقوى، وكذلك الأقطار، نتيجة طارئ جغرافيّ مثل اكتشاف طريق، أو شق طريق، أو طروء خلل في الأمن على طريق.

       وقد يكون السبب عاملاً سياسيًّا أدّى إلى حرب قامت في عصر مضى، فأوجدت ندوبًا في كلا المجتمعين، وحفرت للعداوة جادة يعجز الزمن ومروره عن أن يجعلها تَمَّحِي، وإن فعل يبقى لها ذيول، هي هذه اللمزات التي نراها، يُروى بها الصحيح، ويؤلف لها المتخيل.

       وقد يكون السبب تجمع عشائر قبيلة ما في تلك المدينة، وتجمُّع عشائر قبيلة أخرى في المدينة الأخرى، كما حدث في البصرة، والكوفة، وفي بعض مدن شمال أفريقيا والأندلس أيام الفتح الإسلامي، ولعل تلك الفترة كانت من أوضح الفترات التي ظهرت فيها العداوة بين المدن المحدثة، أو المفتوحة حديثًا.

       ولزيادة الإقناع يأتي أهل بعض المدن فيؤلفون حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعضدون به مدح مدينتهم، أو يذمون به بلدةً أخرى. وعندما يرد حديث في مثل هذا فإن الأمر يحتاج إلى تروٍّ وتدبُّر وتبصُّر، ويحتاج فوق ذلك إلى مشاورة عالم خبير بالأحاديث والإسناد؛ لأن العقل تجاه نصِّ حديثٍ عنه صلى الله عليه وسلم قد يقصر عن جلي الحقيقة؛ لأننا في زمن غير زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صح الحديث فالعقل يجب أن يجد الطريق لقبوله، والإيمان بما رُمِيَ إليه.

       والبصرة والكوفة من أبرز المدن في التنافس والصراع في فترة من الفترات، ويأتي ترجيح واحدة على الأخرى في مثل النص التالي:

       “قيل لأبي عبيدة: البصرة أحب إليك من الكوفة؟

       قال: لو دلني أحد على البصرة لدفعت إليه الكوفة مجازاةً له”(1).

       علماء البصرة وعلماء الكوفة بينهم منافسة ثابتة في العلم بفروعه، وأوَّلُ ما يقابل طالب العلم المنافسة في النحو، ووجود مدرسة فيه بصرية وأخرى كوفية. وهذه المنافسة حقل واسع، كتب عنه مجتمعًا، وجاءت عنه نتف هنا وهناك متفرِّقة، وتأتي أحيانًا الإشارة عنه بقول: إن هذا رأي البصريين أو الكوفيين، أو على رأي أحدهما.

       وقد جاءت نصوص تدل على تحمُّس بعض علماء البصرة للبصرة وبعض علماء الكوفة للكوفة، ويسري هذا على الأدباء وغيرهم.

       ولهذا فإذا صحَّت رواية هذا القول عن أبي عبيدة، فلا يستغرب منه هذا الحماس، ولا رفع شأن البصرة، والحطُّ من شأن الكوفة؛ وإن لم تصح فإن الخيال عبرَّ عن شعور القوم آنذاك.

       ويأتي مدح(2) الكوفة على لسان الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ولا غرابة، فقد كانت الكوفة إحدى المدن المُنْشَأة لتجمع القبائل في تهيئها للفتح، ودفع حدود الدولة الإسلامية، فمنها المنطلق، ولقد جاء وصف عمر دقيقًا.

       “كان عمر – رضي الله عنه – إذا ذكر الكوفة قال: كنز الإيمان، وجمجمة العرب، ورمح الله الأطول”(3).

       وهناك قول عن البصرة يماثل هذا، وهذا يعدل الكفَّة بين المدينتين، والنص كما يلي:

       “كان يقال للبصرة(4) خزانة العرب، وقبة الإسلام؛ لانتقال قبائل العرب إليها، واتخاذ المسلمين لها وطنًا، ومركزًا، قال الشاعر:

بنت قبة الإسلام قيس لأهلها

ولو لم يقيموها لطال التواؤها

       وعن الكسائي أن عمر قال: كنز الإسلام، والكنز القبة على السرير، فغيّره الناس إلى قبة الإسلام”(5).

       وورود اسم قيس في البيت السابق يوحي بأن هناك من يُبقي هذه النصوص حيةً في الأذهان إن كان عمر قد قالها فعلاً، وهم أفراد القبائل المنتسبة إليها، والمتجمعة فيها.

       ولم تَقِلّ حدّة المنافسة بين هاتين المدينتين إلا بعد أن بُنيت بغداد، فجاءت ضرةً مكتسحةً للاثنتين، واختطفت النور منهما، ورغم أن المنافسة في المفاخرة بالعلماء استمرت إلا أنها أخذت تخفُت تدريجًا؛ حتى لم يبق منها في نهاية الأمر إلا تاريخها.

       ومن ذيول المنافسة بين البصرة والكوفة النص التالي:

       “دخل شاعران على المأمون، فقال لأحدهما: ممن؟

       قال: من ضبة.

       فأطرق. فقال:

       يا أمير المؤمنين من ضبة الكوفة لا من ضبة البصرة”(6).

       وإطراقة المأمون؛ لأن ضبة كانوا ممن حارب عليًّا – رضي الله عنه – وبقوا – على ما قيل – منحرفين عن الهاشميين، والمأمون هاشمي. وهذا يؤكد أنه حتى بعد أن مرّ زمن طويل على تأسيس بغداد بقي للمنافسة بين البصرة والكوفة أثر، وعماد هذه المنافسة القبائل، وهذه قبيلة ينافس جزء منها جزءًا، اعتمادًا على المدينة في التفرقة بينهما!

       وهذه من الحالات التي ترجح فيها مدينة على مدينة بوحي من القبيلة وما عملته في زمن مضى، وما تمتعت به، أو عانت منه، وهذا قسم من أقسام تنافس المدن، وصراعها بعضها مع بعض.

       وصنعاء مدينة عريقة، عروقها ضاربة في أعماق التاريخ، يحن إليها أهلها إن غابوا، ويزيد شوقهم إذا طال غيابهم، وأبعدوا في سفرهم عنها، فلا عجب أن يمدحها ابنها الذي نشأ فيها. أو على عظمه حولها أو زكى عوده بالقرب منها وهو يذكرها، ويباهي بها، كلما رأى أهل المدن الأخرى يباهون بمدنهم، ويفاخرون بالمحدث منها، وما روعي في تصميمه، وقد عبر أحدهم عن فخره بصنعاء، واعتزازه بها، وبحنينه إلى تربتها، فقال:

       “وصف رجل صنعاء فقال:

       بلغ من طيب ترابها أن الرجل يسجد فلا يشتهي أن يرفع رأسه”(7).

       رائحة تراب مدينة من المدن ليس مسكاً ولا زعفرانًا، ورائحة التراب مرفوضة، ولكن المشتاق إذا قارن رائحة تراب مدينة أجنبية بتراب مدينته فضل رائحة تراب مدينته، إنه يجد فيه فرقًا، فليس التراب هو المهم، ولكن المهم الرائحة التي تُذكرِّه بأهله وعشيرته، وتُذكِّره بشبابه وذكرياته، وكلما كانت حياته في البلد الذي وفد إليه قلقةً، زاد حنينه إلى بلاده، ورأى كل ما فيه حسنات، ونسي ما فيه من سيئات، وخلاف ذلك من نظرته مع البلد الذي انتقل إليه، تصبح الحسنات سيئات، والسيئات تزيد سوءًا ويؤول الطيب إلى خبيث، والحسن إلى قبيح، والسبب الشوق والحنين، وعدم الاستقرار في البلد الجديد، وقبوله.

       والتعلق بالوطن وترابه جاء بصور مختلفة، منها وصف الحنين بالقول، ومنها إبداء الشوق إليه شعرًا، ومنها أن يأخذ قليلاً من ترابه، يشم رائحته كلما زاد حنينه إليه، وغلبه الشوق إلى ترابه وأهله، والنص الآتي دليل على ذلك:

       “كانت العرب إذا سافرت حملت معها من تربة أرضها ما تستنشق ريحه، وتَسْتَسِفُّه، وتطرحه في الماء إذا شربته”(8).

       هذا؛ لأن أحدهم يجد رائحة أرضه التي وُلِدَ عليها، ورُبِّيَ فيها، ويجد طعمها في سف التراب، ويحلو طعم الماء إذا ما خالطه طعم تراب أرضه.

       ولا يعرف مدى الشوق الحنين إلى الوطن، قريةً كانت أو مدينةً، منطقةً أو إقليمًا، إلا من أجبره الزمان على فراقه، سواء كان مُلاحقًا، أو خرج طلبًا للرزق والثروة. إن المسافر إذا عاد إلى وطنه هزَّه منظر كل شيء، ورائحة كل شيء، وصوت كل شيء، ولا تمتلئ نفسه بلذة ذلك كله إلا بعد وقت.

       ولسابور قصة مع تراب بلاده تؤكد مدى تعلق الإنسان ببلاده، وسابور ملك تعلُّقُه ببلاده لا يعدله تعلق إنسان عادي، ومن شدة هذا الحنين والشوق سوف نرى أنه قنع بالوهم دون أن يدري بأنه وهم، وظنه حقيقة فأثر عليه التأثير المطلوب، والقصة هكذا:

       “اعتلَّ سابور ذو الأكتاف بالروم، وكان أسيرًا، فقالت به بنت الملك، وقد عشقته: ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة، وشميمًا من تراب اصطخر.

       فأتته بعد أيام بماء، وقبضة من تراب. وقالت:

       هذا من ماء دجلة، ومن تربة أرضك. فشرب، واشتم بالوهم، فنقه من علته”(9).

       وليس سابور وحده الذي استشفى بماء بلاده وتربتها، ولكن أبناء جلدته بعد قرون أحيوا سنّته، وتبعوا أثره، واستفادوا من الدواء الذي اختاره، واشتروا من الصيدلية التي افتتحها، فهؤلاء البرامكة الفرس يمدوننا بقصة عن هذا:

       “قال الجاحظ:

       رأيت المتفلسف من البرامكة إذا سافر أخذ معه من تربة مولده في جراب، يتداوى به”(10).

       إنه أمر نفسي عميق، تغلغل في داخل نفس البرمكي، فاعتقده، فرفع معنويته، فشفاه بإذن الله، بهذا الاعتقاد القوي، ولعل السر في قوة الاعتقاد جاء من ربط الأمر بتربة المولد. وأن لهذا صلةً بعقيدة خرافية قديمة عندهم، اندثرت، وهذا ما بقي منها.

       وفي زمننا هذا، وقبل ما يقل عن أربعين عامًا، والمدرسون يستعارون من البلدان العربية المختلفة، لوحظ أن بعض السيدات زوجات المدرسين، يحضرن معهن أرطالاً من الرمل، وكان الأمر يبدو لنا غربيًا؛ إذ المملكة في كل بقعة منها لاتخلو من الرمل الذي لايدانيه رمل، لا في كميته، ولا في نظافته، ولا في جمال لونه، وتبين أن الزوجة تحرص على أن تلد على الرمل الذي تجلبه معها.

       والتعليل المقبول هو أن الرمل أقرب إلى تلقي دم الولادة، وحصره عن أن ينداح في المكان، وهو خير من الخرق والأقمشة، للحاجة إلى كثير منها، مع قلة الامتصاص، وعناء غسلها فيما بعد، أو التضحية بها ورميها.

       ولكن الناس أحيانًا يذهبون في التفسير يمينًا أو يسارًا، ولا يقبلون عذر الوافد عندما يقول إنهم لم يعرفوا أن في المملكة رملاً قريبًا يمكن أن يستفيدوا منه لهذا الغرض. ويركِّب الناس على ذلك طرائف، فمن قائل إنه حتى لو ولدت السيدة في المستشفى بإنها تلد عليه، حتى يُقال، ويُحلف، أنه وُلِدَ على تربة بلاده! وآخرون يقولون إنه من التربة التي ولدت عليها أمه وأبوه، وأنه لابد من ربط تربته بتربتهما أو أحدهما. وقد بقيت هذه التعليلات والتفسيرات مجالاً للتندر. ولكنها سرعان ما انقطعت مما يؤكد أن الرمل أتي به ظنًّا أنه ليس هناك مستشفيات مستواها مجزٍ، وأنه لا رمل قريب من المدن، وأن الرمل يعطى هناك على سبيل الإعانة والإهداء، فلا يرد.

       ومدينة طوس من المدن التي تعرضت للتندُّر والتفكُّه، واتهمت بالغباء، ولابد أن هناك من هو غاضب عليها، وعلى أهلها؛ فالغضب عليها قد يكون في سكناها، أو في مائها، أو في هوائها، فقد لايعجب الساكن فيها شيء من هذا، والغضب يكون أحيانًا على أهلها، إما لسوء معاملة، أو لأن القادم. يجد أن له مكانًا فيها للمنافسة، فيتركها ساخطاً على أهلها، فينثر في طريقه، وفي مستقرِّه بعد ذلك، التهم التي قد تحدد مداخل غضبه، وهذا نص في هذا:

       “مما يُحْكىٰ من بلاهة أهل طوس أنهم رفعوا إلى الرشيد قصةً، يسألونه فيها أن يحول لهم مكة إلى بلدهم”(11).

       إنهم لم يتهموا رجلاً واحدًا، بل اتهموا طوس بأكملها، وهي تهمة قوية، وقوتها هي معول هدمها، ومدخل الضعف عليها. ولا نعتقد أن تربةً سيئةً، أو هواءً فاسدًا، أو موقعًا نابيًا، يمكن أن يلد هذا الغباء المتناهي، ولكنها فكرة نبتت في ذهن ساخط، فجاء بها مجلجلةً، سمعها من سمعها، ورواها من رواها، وسد أذنها عن سماعها وقبولها من وقف على الحياد، يبتسم ولا يعلق ولا يعتقد.

       ومثل هذه التهمة تحدث في العصر الحديث، وفي بلادنا مدينة تعرضت لمثل هذا، واتهم أهلها بالسذاجة والغباء، وصار الناس فيما يشيعونه، يقلبون الحق باطلاً حيالها، فالحسن يصبح قبيحًا، والصحيح خطأً.

       كان الناس في أول حكم الملك عبد العزيز، وقبل أن تستعمل السيارات يركبون الخيل والجمال والحمير، ومن عادة الملك عبد العزيز عندما يزور مدينةً يدخلها على ظهور الخيل، وإذا كان أمير المدينة وكبار أهلها، يستقبلونه بالإكرام، ويتغدى عند هذا ويتناول القوة عند ذاك، فالخيل لها غذاء أيضًا، فكان الفلاحون يساهمون بقطع القت (البرسيم)، يقدمونه للخيل، ولا يعدمون أن يجازوا على ذلك جزاءً وافيًا، ويثابوا ثوابًا يفرحهم، وهم من هذه الزيارة في إكرام وخير، وحدث أن فاجأ الملك عبد العزيز – رحمه الله – هذه المدينة بمجيئه على السيارات، وكان الفلاحون قد حصدوا القت – حسب العادة – عندما علموا بالزيارة الكريمة، ففوجئوا بما لم يكن لهم بحسبان، فوجئوا بحديد لا يأكل، فأسقط في أيديهم، ولم يريدوا أن يطلبوا التعويض مباشرةً، فليس هذا من أدب الضيابة، فأحضروا القت، ووضعواه حيث تقف السيارات ويراه الملك عبد العزيز، وهو اللماح الذكي، فوصلته الرسالة الضمنية، وعرف القصد، وأكرمهم الإكرام اللائق بهم، وبه امتنان منه، وتقدير لهم.

       ولكن أهل المدينة التي تنافسهم وجدوا هذه فرصةً للتندر، وهم لما هو أقل من هذا متربصون، فأشاعوا أن هؤلاء في غبائهم وسذاجتهم، لما رأوا السيارات، سارعوا يحصدون زرعهم، ليعلفوه لها، وليروا كيف سوف تأكل منهم هذا المحصول، وأخذوا يشيعون هذا، ويتفننون في القول فيه، وفي تنويعه وتلوينه.

       وهذه صفة تكثر بين القرى في كل أقطار الدنيا، ويفاجأ أحدنا بانتشار هذه المنافسة، ففي الغرب لها حدة تفاجئ المتتبع، بل إن ما يقوله الإنجليزي عن الاسكوتلندي، وساكن ويلز، يكاد يكون أساسًا من أسس التندر والطرافة في المجالس حتى اليوم.

       وأي حديث يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى فحص سنده، ومقارنته بما هو أقوى منه سندًا، أو أضعف منه، ولا يتأتى هذا إلا من مختص، يعرف مخارج الأحاديث ومداخلها، إلا أن المرء أحيانًا يقف وقفةً طويلةً قبل أن يقبل ما يبدو خارجًا عما يعرفه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وروح الإسلام، وإن كان ما يعرفه بعضنا قليلاً، ولا ينفع أن يكون أساسًا لحكم يعتمد عليه، عند مقارنته برأي المتخصص الخبير. ومع هذا يبقى في النفس شيء من مثل الحديث الآتي، حتى يقرر أمره، والسبب أن في ذهننا العداوة التي للمدن، والمنافسة التي توجب القدح أو المدح، وهو ما يتبين في الحديث الآتي المنسوب إليه صلى الله عليه وسلم:

       “عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتى الشيطان العراق، فقضى حاجته فيهم، ثم انصرف إلى الشام فطردوه، ثم أتى مصر، فباض فيهم، وفرَّخ، ونشر عفريّته (عفرية الرأس: شعره”(12).

       إذا كان هذا الحديث موضوعًا فإن واضعه رجل من أهل الشام، في نفسه شيء على أهل العراق، وفي نفسه أكثر من ذلك على مصر وأهل مصر، فمن هو هذا الشامي؟ وما الذي أغضبه على العراق؟ وما الذي أحنقه على مصر؟ لابد أن وراء ذلك سببًا قويًّا جعل هذا الراوي، يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولابد أنه يعرف الحديث الذي يقول:

       “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار”.

       وإن كان يعرف، فلعله أعذر لنفسه في أنه لم يكذب في تزوير حكم، وإنما في تقرير صفة لبلد ما، ولا يدري أن كل قول منه صلى الله عليه وسلم مليء بالأحكام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ولأن أقواله، مهما كانت قصيرةً، فهي ملأى بالحِكَم والأحكام، يشع منها ضياء الدين، يهدي إلى السبيل السوي، والطريق المستقيم .

*  *  *

الهوامش:

مما ورد في ذم البصرة القول الآتي. “قيل لمجنون كان بالبصرة: عُدَّ لنا مجانين البصرة. قال: كلفتموني شططاً، أنا على عد عقلائهم أقدر”. [البصائر: 7/202]، ربيع الأبرار: 1/308.

ومع هذا فقد روي عنه – رضي الله عنه – : ما أدري كيف أعامل أهل الكوفة، إن أرسلت إليهم مؤمنًا ضعَّفوه، وإن أرسلت إليهم قويًّا فجَّروه”. البصائر: 3/94.

ربيع الأنوار: 1/308، البصائر: 1/189.

مما سُجِّل في صالح البصرة القول الآتي: “كان جعفر بن سليمان الهاشمي يقول العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد، اللطائف والظرائف، ص 80.

ربيع الأبرار: 1/317.

ربيع الأبرار: 1/707.

ربيع الأبرار: 1/309، البصائر: 7/47.

ربيع الأبرار: 1/347.

ربيع الأبرار: 1/363.

ربيع الأبرار: 1/363.

ربيع الأبرار: 1/322.

ربيع الأبرار: 1/366، ربيع الأبرار: 1/312. من الأقوال التي تساق في مدح مصر وذمها القول الآتي: قال عبد الله بن عمر: “ادخلوا مصر، فأصيبوا من خيرها، وأخرجوا منها إلى غيرها، ولا تغتسلوا بطينها، فإنه يميت القلب، ويذهب بالغيرة”. ربيع الأبرار: 1/367 وهو قول جائر.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1431 هـ = يونيو – يوليو 2010م ، العدد : 7 ، السنة : 34

Related Posts