بقلم: الأستاذ/ عزت العزيزي
الكلمة وخطورتها
بالكلمة كان الوجود، وبالكلمة قامت السمٰوات والأرض، وبالكلمة تغير التاريخ مرات ومرات، لم يتحول التاريخ تحولاته الخطيرة الهائلة بتغير وسائل الإنتاج، ولا سواها، كما يزعم أفاقو الديالكتيكية، فالحضارة المسيحية لم تقمها طبقة، فما قام السيد المسيح للدفاع عن البروليتاريا، ولا عن البرجوازية، وثورة الإسلام الرائعة العجيبة ما قامت بها طبقة ضد طبقة، وما حركتها آلة، ولا أثر فيها إقطاع، ولا أشعلها برجوازي أو رقيق.
إنما هي الكلمة القاهرة التي لم تنبعث حتى من الأرض بما فيها من طبقات وتصارع على الطعام والشراب، وإنما هبطت من السماء على قلب الإنسان ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾.
أسرت هذه الكلمة الإنسان الرسول، فلم يملك إلا أن يصدع بها، أيقظته من النوم فلا هجوع ولا رقود ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ٣ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ ٤ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ﴾.
وأنى للإنسان أن يقاوم سحر الكلمة؟ لقد كانت سلاح محمد الرسول عليه صلوات الله وسلامه، بها قاوم الكفر والإلحاد، فأيقظت قلوبا، وفتحت أبصارا وآذانا ما أراد أصحابها أن يوقظوها أو يفتحوها.
هاجم النظم الفاسدة الظالمة في ميادين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والأخلاق ودمرها بالكلمة أولا، ثم أقام مكانها نظام الإسلام الرائع العادل، فانتصرت الكلمة قبل أن ينتصر السيف والساعد القوي، انتصرت رغم ضعف الساعد وفقد السلاح، حتى ظن الواهمون أنه السحر؛ لأنهم فعلا قد سحروا بروعة الكلمة، فألقوا سلاحهم رغم إرادتهم، وأنى لهم مقاومة الكلمة، وهي تسير الجبال لو ألقيت عليها ووعتها؟ ﴿لَوۡ أَنزَلۡنَا هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلٖ لَّرَأَيۡتَهُۥ خَٰشِعٗا مُّتَصَدِّعٗا مِّنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۚ﴾.
نعم إن جبال المقاومة للحق أعتى وأقوى من أعظم جبال العالم، ولقد صدعها القرآن الكريم، وما القرآن إلا الكلمة الواعية الهادفة الساحرة بالحق.
هذا القرآن هو الذي وضع حدًّا للأدب الفارغ اللا هادف، كما وضع حدا للحياة الفارغة اللاهادفة.
الأدب الإسلامي
بالقرآن بدأ الأدب الإسلامي، ومن القرآن استمد الأدب الإسلامي وجوده، ومن القرآن استقى معينه، إذن: ما هو الأدب الإسلامي؟.
أرى أننا نخطئ خطا كبيرا إذا اعتقدنا أن الأدب الإسلامي يعني قطاعا زمنيا معينا، فنسمي كل ما أنشئ من الأدب في هذه الفترة أو تلك أدبا إسلاميًّا، إن الإسلام بطبيعته لا يعترف بقيود الزمان، كما لا يعترف بقيود المكان، بل يتحرر من قيودها جميعا، ويحرر كل ما يتصل به من كل قيد يحد من امتداد الفكر إلى أرحب ما يمكن من الآفاق. فلا يكون الشيء إسلاميا لأنه عاصر الإسلام، كما لا يكون غير إسلامي إذا لم يعاصره «فإبراهيم الذي كان قبل الإسلام بقرون عديدة مسلم، لأنه التقى مع الإسلام على صعيد العقيدة والفكر، رغم أنه لم يلتق بالإسلام زمنيا».
وعلى هذا فلا يمكننا أن نعتبر أدبا ما أدبا إسلاميا، إلا إذا انطبق عليه مفهوم الأدب الإسلامي. فما هو إذن مفهوم هذا الأدب؟.
الأدب قبل الإسلام
عندما جاء الإسلام كان عند العرب أدب، وكان لهم شعر ونثر وكان أدبهم ينبثق عن طبيعة الحياة العربية قبل الإسلام، والتي سماها الإسلام حياة الجاهلية فكان ذلك الأدب أدبا جاهليًّا.
كانت تسيطر على تلك الحياة روح النظام القبلي من جهة، والفردية الذاتية من جهة ثانية.
فالقبيلة هي التي تمنح الحماية للأفراد، وعلى أساسها تقوم العلاقات الاجتماعية بينهم، فعلاقة الإنسان بالإنسان يحددها المفهوم القبلي والنظام القبلي، فمن هذه الزاوية على الأديب أن يسخر أدبه لخدمة القبيلة التي ينتمي إليها، دون أي اعتبار إنساني أو أخلاقي غالبا.
فما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
فإذا تجاوزنا ما تمليه ظروف ارتباط الفرد بالقبيلة من الولاء لها، والدفاع عنها، ومخاصمة أعدائها، تلك الخصومة التي لا تقوم على أي أساس من الإنسانية أو الحق أو العدل، إذا تجاوزنا ذلك فالفرد حر بنفسه والأديب حر بأدبه، فله أن يبيعه أو يؤجره، وهذا ما كان يفعله شعراء المدح والهجاء، يقبضون الثمن، فيرفعون الممدوح على قدر ما دفع، لا على قدر ما يستحق، ويقبضون الثمن فيهجون له من يريد على قدر ما دفع كذلك من ثمن لشتم أعراض الناس وتجريحهم.
أما حين لا يؤجر الأديب أدبه مادحا أو هاجيا، فلا يجد إلا أن ينطلق مع ذاته، يتتبع شهواته وغرائزه ومتعه التي تنطلق غالبا دون أن تتقيد بقيمة من القيم، فالحياة عند معظم شباب العرب في جاهليتهم كما قال طرفة (خمر ونساء وحرب).
ولا يعني هذا أن لا يبرز بين الفنية والفنية أديب شاعر، أو خطيب يثور على الأوضاع القبلية الظالمة، أو الفردية المنحرفة الفارغة، كزهير بن أبي سلمى، ولبيد، وقس بن ساعدة، وغيرهم ولكنها صيحات فردية كانت تضيع في الموج الهادر.
أدب العقيدة
وعندما حدد الإسلام مفهوم الأدب رفض ذلك كله، رفض الأدب القبلي، لأنه رفض القبيلة والنظام القبلي ودعا إلى تكوين مجتمع يقوم على غير الأسس القبلية أو العنصرية أو الإقليمية. مجتمع واسع قادر على إذابة الألوان والأجناس والحدود الجغرافية، لأن علاقة الناس فيه أوسع من ذلك كله، تلك علاقة العقيدة والفكرة، يستوي فيها البشر مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وبلادهم.
ولم يكن ذلك في الإسلام مجرد نظرية؛ بل كان واقعا حقيقيًّا قائما، حققه الرسول عليه الصلاة والسلام في الجماعة الصغيرة المؤمنة في مكة، ثم في المجتمع الصغير في المدينة، ثم في المجتمع الكبير في جزيرة العرب، ثم أتم العمل أصحابه، فحققوه في المجتمع الأكبر الفريد في أوسع دولة في العالم القديم، ضمت أجناسا وألوانا ولغات وأقاليم، شتى، كانت قبل الإسلام تشكل دولا وشعوبا مختلفة فيما بينها أشد الاختلاف.
وبناء على ذلك أقام الإسلام أدب العقيدة والفكرة مقام أدب القبيلة، وبذلك منع الأدب القبلي بجميع أشكاله وألوانه (من دعا إلى عصبية فقد دعا بدعوى الجاهلية)، (ليس منا من دعا إلى عصبية)، (دعوها فإنها منتنة)، ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾(1)، (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)، (الناس سواسية كأسنان المشط).
وهكذا حول الأدب من الارتباط بالعقيدة والفكرة دون أي اعتبار لغيرها، فوقف حسان بن ثابت الخزرجي يدافع عن محمد بن عبد الله القرشي، ويهاجم قريشا قبيلة محمد ﷺ نفسه، أو يهاجم بعض الخزرج أنفسهم، إن كان فيها منافق يعادي محمدا والإسلام، وسخر أدبه واستعد أن يضحي بأسرته وقبيلته في سبيل محمد، باعتباره ممثلا للعقيدة والفكرة.
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وكذلك وقف عبد الله بن رواحة القرشي يهاجم بشعره قبيلته قريش، لأنها ناصبت العقيدة التي آمن بها العداء.
القرآن والأدب
وقد ركز القرآن الكريم على رسالة الأدب في خدمة العقيدة والمبدإ مهاجما في نفس الوقت ما كان يعانيه أدباء الجاهلية من ضياع وقلق، وما اتجهوا إليه من انحراف في القيم.
﴿وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ ٢٢٤ أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ ٢٢٥ وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ ٢٢٦ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱنتَصَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ﴾(2).
فليس انتصار الأديب إذن لمصلحته الذاتية وأهوائه، ولا انتصاره لقبيلته وأسرته، وإنما انتصاره للحق وللقيم التي ينبغي أن يسخر لها قلمه، فهو جندي من جنود العقيدة، عليه واجب العمل من أجلها بما وهبه الله من ملكة في إبداع القول الجميل المؤثر، ولم يستهن رسول الله ﷺ في يوم من الأيام بقوة هذا السلاح وفعاليته؛ بل كان مقدرا له أعظم التقدير، مكافئا في نفس أصحابه أحسن مكافاة.
ويفسح لحسان أقرب مكان إليه في مسجده، ويقبل عليه بوجهه يسمع إنشاده، ويثني عليه، ثم لا يكتفي بذلك بل يمضي في تشجيعه في هجاء أعداء الدعوة الإسلامية (اهجهم والروح القدس يؤيدك).
خطة الإسلام في تحويل الأدب
وبذلك يكون الإسلام قد حول أيضا أدب المدح القائم على التكسب، وإزجاء المديح لمن يدفع الثمن، ولو كان لا يستحق حتى الهجاء، يكون قدحوله إلى طريقه الطبيعي الصحيح، فليمدح الأديب خطيبا أو منشدا، ولكن لا يمدح للمال والعطاء، وإنما هو إنسان عقائدي لا يقول إلا ما يعتقد أنه الحق، فلا يمدح إلا من هو أهل للمدح، ومقياس الأهلية بلاء الممدوح في سبيل العقيدة والفكرة التي آمن بها الأديب، فهو إذ يمدح شخصا معينا، لا يمدحه لأنه فلان ابن فلان، أو لأنه من هذه القبيلة أو تلك الأسرة، أو لأنه يثاب ممن يمدحه بالذهب والفضة وكريم العطاء، وإنما يمدحه لأنه يعمل بإخلاص ويضحي في سبيل العقيدة والفكرة.
وهكذا كان مدح شعراء المسلمين عندما لم يكن انحراف في مفاهيم الحياة المختلفة.
أما أولئك المداحون الذين اتخذوا الأدب حرفة، وجعلوا من الكلمة بضاعة تباع وتشترى، فقد احتقرهم الإسلام، ودعا إلى احتقارهم، فهم ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ولا يستحقون إلا النبذ والطرد، ولا جزاء لهم إلا تعفير وجوههم التي أراقوا ماءها بسؤال الناس بمدح كاذب باطل، وفي هذا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «احثوا في وجوه المداحين التراب».
أما أدب الضياع والقلق الذي كان متمثلا في الأدب الذاتي، فقد استطاع الإسلام أن يقضي على أسبابه ولم يلجأ إلى منعه بقرار ومرسوم، وإنما جعل للحياة معنى أعمق، وهدفا أسمى، فلم يعد للفراغ والضياع والقلق مكان في حياة الفرد المسلم، فقد نمى الإسلام المسؤولية وعمقها في نفس كل فرد، ومهما يكن وضعه في المجتمع فإن عليه تبعات ومسؤوليات تجاه عقيدته ومجتمعه، إلى حماية هذا المجتمع، إلى مسؤوليته في نشر الإسلام وتبليغ الدعوة لكل أهل الأرض، وبمختلف الوسائل، ومنها الجهاد في سبيل الله، إلى مراقبة الحاكم حتى لا ينحرف عن نظام الإسلام، ونصحه ونصح كل مسلم.
كل هذه الواجبات يطالب بها الفرد المسلم مطالبة فردية خاصة إلى جانب المطالبة الجماعية العامة، فإن فلسفة الإسلام أن يعمق المسؤولية الفردية حتى لا تضيع المسؤولية وتتميع. ففرد عليه مثل هذه المسؤوليات وفي مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يجد متسعا في نفسه أو في وقته للتافه الرخيص من الأدب، فلم تعد الحياة عنده خمر ونساء وحرب بلا غاية ولا هدف إلا السمعة وثناء الناس.
فلم يعد مكان في الأدب الإسلامي لمثل خمريات الأعشى، ومجون امرئ القيس، وفخر عمرو بن كلثوم، ولا ضياع طرفة وقلقه، أو نفاق النابغة، فالمسؤولية تقتضي أن لا تهدر الكلمة وأن لا توضع إلا حيث تؤدي دورها في البناء.
الإسلام والأدب الشخصي
ولا يعني هذا أن الإسلام رفض الكلمة الجميلة المعبرة عن كل عاطفة، والمصورة لأي جمال مالم تكن من الأدب الملتزم الكامل الالتزام، لا فالإسلام أعرف بالنفس الإنسانية وأدرى، وبأنه لا بد من الترويح عن النفس، ومنحها قسطا من الحرية في التعبير عن النزعات الفردية الخاصة، بعيدا عن جو العمل الجمعي والمسؤولية العامة: الجادة، ولكن في حدود من الذوق الرفيع والخلق الكريم من غير أثارة رخيصة أو انحراف وشذوذ، أو مجاهرة بكفر ومعصية، أو ترويج لفسق في الفكر، أو تحلل في الخلق.
وتطبيقا لهذه المبادئ، أثنى الرسول عليه الصلاة والسلام على بعض شعراء الجاهلية كعنترة ولبيد وزهير بن أبي سلمى، لما تضمنه شعرهم من قيم رغم ما فيه من غزل وحديث ذاتي عن النفس لا يخرج عن حدود الذوق والخلق.
قال عليه السلام:
(أصدق كلمة قالها لبيد (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) كما تمنى أن يكون قد رأى عنترة.
وبالمقابل ذم امرأ القيس لما في شعره من مجون وانحلال خلقي، فقال عنه إنه حامل لواء الشعراء إلى النار. أي قائد أمثاله من المجانين المتحللين إذ راد لهم ذلك الطريق المنحرف.
وكذلك سمع الرسول عليه السلام كثيرا من القصائد في الغزل الرقيق، بلا مجون أو استهتار، كقصيدة كعب بن زهير وأثنى عليها؛ بل كان يطلب مثل هذا الشعر ويسمعه فيطرب لإنشاده، جاءت عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ، تستأذن بأن تذهب مع نساء من المهاجرات في زواج مهاجر من أنصارية، فقال: هل أخذتم من يغني، فقالت: لا، فقال لها: إن الأنصار قوم يحبون الطرب فهلا أخذتم من يغني.
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمراء
ما جئنا لواديكم
فهو لا ينكر على الأنصار حب الطرب؛ بل ويأمر بالشعر الرقيق أن يتغنى به، ولكن في مثل مناسبات الأفراح حتى لا يكون ذلك عادة تستهلك الوقت وتشغل عن الواجب.
خروج عن الأدب الإسلامي
مما مر نستطيع أن نعلم أن كثيرا من الأدب، وخاصة الشعر الذي أنشئ بعد عصر الرسول والخلفاء الراشدين، من عصر الأمويين وما بعدهم لا ينطبق عليه مفهوم الأدب الإسلامي، رغم أنه وجد في العصور الإسلامية، وذلك كمدح المنافقين الكاذب للحكام الظلمة، ومهاجاة الشعراء بعضهم بعضا بدافع العصبية القبلية، وما نهشوا من أعراض وحرمات، وما خاضوا فيه من مجون وتحلل، وما روجوا من شك وإلحاد، كل ذلك خروج عن مفهوم الأدب كما يريده الإسلام مهما يكن عصره، وأيا كان قائله.
ميادين جديدة للفكر والأدب
وإذ ضيق الإسلام على الشعراء خاصة والأدباء عامة ميادين القول لا تعنتا، ولكن لمجافاتها للإسلام وبعدها عنه، فقد فتح لهم أبوابا وميادين جديدة التصاقا بالفكر، وأكثر اتصالا بالحياة، وذلك حين وجه الفكر الإسلامي وجهة عملية واقعية، كبحث مسائل الحياة المختلفة في ميادين السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، كما وجه الفكر للنظر والتأمل في الحياة ذاتها، والكون والإنسان، ودعا إلى تحرير الفكر تحريرا كاملا من كل شوائب التقليد، التي تحد من انطلاقه في آفاقه الرحيبة الواسعة.
هذه الميادين الجديدة هي التي أغنت الفكر الإسلامي والمكتبة العربية، وهي التي نستطيع أن نعتبرها بحق مظهرا للفكر الإسلامي الصحيح، بما أنشئ في إطارها من أبحاث في الأخلاق والاجتماع والنظر الفلسفي الحر.
كما أن ما قام حول القرآن من دراسات واسعة وعميقة، شملت كافة فروع الدراسات اللغوية وغيرها من تفسير وبلاغة.
وقد يقول قائل: وما بالك تقحم هذه الأبحاث والموضوعات، التي تكاد أن تكون علما بحتا في ميدان الأدب وهو فن لا علم، ولكنا نقول: إن تلك التعريفات المدرسية للأدب إذ حصرته بأبواب من الشعر وضروب محدودة ضيقة من الخطابة والنثر، قد حالت بين طلاب مدارسنا وبين اطلاعهم على تراثنا الفكري الحقيقي، فنحن نعرف الكثير عن أمثال الأخطل وجرير وبشار وأبي النواس وابن الرومي؛ بل حتى عن ديك الجن وابن لنكك، ولا نكاد نعرف شيئا عن الطبري وابن كثير والقرطبي، أو عن الشافعي أو الزمخشري والغزالي، أو عن أمثال ابن القيم وابن تيمية وابن حزم وغير هؤلاء جميعا من مئات المفكرين الإسلاميين، الذين يمثلون بحق الفكر الإسلامي، وهم فقط الذين يعطون صورة حقيقية مشرفة مشرقة عن الحضارة الإسلامية بكل ما فيها من عطاء وصفاء.
أدبنا إلى أين؟
وبناء على ما اتضح من مفهوم الأدب الإسلامي، أين يمكننا أن نضع أدبنا العربي الحديث، هو هو أدب إسلامي حقا؟.
إن الأدب – كما يقول كتابه – ابن بيئته، وانعكاس للحياة القائمة في المجتمع، وحياتنا فيها ملامح من الإسلام، كما أن فيها الكثير الكثير مما هو خارج عنه، ولسنا في معرض استقصاء مظاهر هذا الخروج في ميادين الحياة المختلفة من أنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع والقوانين والأخلاق، لكنني هنا أحب أن أتساءل أيهما أدى لوجود الآخر؟ هل الأدب هو الذي عمل على تفشي هذه المظاهر وطغيانها، أم أن هذه المظاهر التي انبعث بعضها من داخلنا، واستوردنا أكثرها من وراء الحدود، وعبر البحار من حضارة الغرب هي التي مهدت لهذا الأدب الفارغ؟.
وكذلك هنا لا أريد أن أقف للبحث عن جواب لهذا التساؤل، فحسبنا أنه يفتح أمامنا سؤالا آخر هو، هل استطاع أدبنا المعاصر أن يؤدي دوره في حياتنا المعاصرة؟ وما هو هذا الدور الذي عليه أن يؤديه؟.
لا شك أن دور الأدب هو دور الرائد والقائد في جميع ميادين الحياة، يأخذ بيد المجتمع نحو الأفضل في كل شيء، كما أنه يؤدي دور الضابط المراقب لما يمكن أن يتفشى في المجتمع من انحراف أو خطإ، يقوم المنحرف ويصحح الخطأ.
أدباؤنا والسلبية
ونحن لا ننكر أن أدبنا الحديث فعل بعض ذلك، وأدى ما لا ينكر من بعض ما يجب عليه، فقاوم الخرافة والجهل، كما قاوم الظلم والتخلف، ودعا إلى الحق والفضيلة. ولكن لم يفعل ذلك دائما، ولا فعله على الوجه الأكمل، كما أنه فعل ما يكاد يطغى على كل ما سبق من خير وفضل.
أما أنه لم يفعل فإن هذا واضح من مواقف الأدب السلبية من كثير من قضايا الحق والعدالة، إذ يشغل كثير من الأدباء بأنفسهم وذواتهم، ويعيشون في أبراجهم العالية البعيدة عن مواقع أمتهم وشعوبهم(3).
أما أنه لم يفعله على الوجه الأكمل، فذلك واضح من سطحية الأعمال الأدبية، التي تتصل بالقضايا العامة والمشكلات الاجتماعية، إذ لم يمنحوها من أنفسهم ما منحوه لأنفسهم من صدق وعمق.
أما أن الأدب فعل ما قد ينسف كل خير وفضل، فذلك أن كثيرا من أدبائنا قد أخذوا بما رأوا من حياة الغرب وحضارته، وأصابهم البهر، ففقدوا الكثير من أصالتهم، وضاعت عند الكثير من هؤلاء الأدباء معالم الشخصية المتميزة، وأصبح مثلهم الأعلى ورائدهم هو ما ينتجه إنسان الحضارة الغربية الحديثة بكل ما فيه من تناقض وقلق وضياع، وزعم كثير منهم بأننا مضطرون أن نأخذ الحياة الغربية، ومثلها بكل ما فيها من أخطاء بحجة أن الحضارة كل لا يتجزأ.
لابد من الأدب
ومهما قال القائلون فالإنتاج مستمر والمطبعة تقذف والقراء يتلقون، فكما لا يستغني الإنسان عن الطعام والشراب والنوم وغيرها من ضرورياته الأساسية، فهو لا يمكنه أن يستغني عن المعرفة والتزود منها، وكما يمكن أن تنحرف صحة الإنسان حين يتناول الخبيث الضار فيقتل نفسه، كذلك قد ينحرف سلوكه وتمرض نفسيته حين يتناول الأدب الضار الخبيث، والمسؤولية على من يقدم الفكر المنحرف والأدب الضال، وعلى من يتلقاه ويتقبله. إلا أن مسؤولية العارض المروج دائما أظهر وأبين، وجريمته في حق أمته ومجتمعه أشد وأنكى.
وما دام الأمر كذلك فالطريق الصحيح هو أن يحمل الأدب على العودة إلى طريق الحق، وذلك لصالح الأدب أولا حتى لا يكون داء وسما قاتلا، وليكون جديرا باسمه ورسالته إذ يكون إبداعه وجهده للبناء لا للهدم وللجد لا للضياع والقلق، ولصالح الحق نفسه ومصلحة الإسلام ذاته ثانية.
وذلك أن الأدب الجاد الهادف خير عون على رسالة الإسلام، وإحقاق الحق، وقد اتضح لنا فيما سبق خطورة الكلمة وأهميتها في نشر الدعوة أول أمرها.
إلى كل أديب مسلم
وإننا إذ ننظر في واقع الأدب الحديث، نفتقد الأدب الإسلامي افتقادا، يكاد يكون تاما في بعض الميادين، ولا أريد أن أستقصي ذلك وأحصيه، فحسبنا في هذا المثال، فالقصة على اختلاف أنواعها إذا استثنينا عددا قليلا منها – تكاد تخلو من أي قصص إسلامي، وخاصة في العشر السنوات الأخيرة.
وميدان آخر مهم وخطير ذلك هو المجلة الأدبية، وهي بلا شك منتدى الأدب، تلتقي فيها الأقلام ويتم في رحابها التعارف والتعاون بين عقول وأقلام تباعدت ديارها، ونجد في هذا الميدان أن معظم المجلات الإسلامية – إن لم يكن جميعها – تتجه نحو الفكر الإسلامي الخالص، وتعنى بالقضايا الفكرية، والأبحاث والدراسات، ولا تكاد تلتفت إلا قليلا للأدب على اختلاف ميادينه وتعدد أشكاله.
وأرى أن مسؤولية ذلك كله مزدوجة، فهي أولا على أولئك الذين يملكون القدرة على النشر من رجال الفكر الإسلامي، إذ عليهم أن يتجهوا هذه الوجهة، ويمنحوا الأدب ما يحتاجه من عناية وجهد، وثانيا على الأدباء المسلمين الذين اتجهوا إلى الدراسات والأبحاث الفكرية البحتة، وهجروا ميدان الأدب رغم قدرتهم عليه، وتمكنهم منه، وعلى أولئك الذين ضعف إنتاجهم من كل ذلك، وكأنهم ألقوا سلاحهم أمام صبيان الضياع والقلق(!!!).
* * *
الهوامش
- سورة الحجرات.
- آخر سورة الشعراء.
ذلك حكم على الأدب والأدباء نترك الرأي فيه للمشتغلين بالأدب.
مجلة الداعي، ذوالحجة 1444هـ = يونيو – يوليو 2023م، العدد: 12، السنة: 47