بقلم: الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي المعروف بـ«حكيم الأمة» (1362هـ/1943م)

تعريب: الأستاذ أبو عبد الله أشرف عباس القاسمي(*)

المقصد الرابع: ثبوت التقليد الشخصي ومعناه:

         الحديث الأول: عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ: إِنّي لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكُم فاقتَدوا باللَّذَينِ مِن بعدي وأشارَ إلى أبي بكرٍ وعمرَ واهتَدُوا بِهدْيِ عمَّارٍ وما حدَّثَكم ابنُ مسعودٍ فصدِّقوهُ(1).

       فائدة: المراد بقوله: «من بعدي» لزوم اقتدائهما في زمن خلافتهما، أما قبل ذلك فكان النبي ﷺ، على قيد الحياة، فليس معناه إلا الأمر باقتدائهما واتباعهما إذا وُلِّيَا الخلافة، والظاهر أن الخليفة لايكون إلا واحدًا في وقت واحد، فحاصل الأمر أن اتبعوا أبا بكر في خلافته، واتبعوا عمر في خلافته، فأمر النبي ﷺ باقتداء شخص معين إلى زمن محدد، ولم يأمرهم بطلب الدليل على الأحكام، ولم تكن العادة مستمرة أن يُطلبَ الدليل في كل نازلة، وهذا هو التقليد الشخصي، فحقيقة التقليد أن أحدا إذا عرضت له مسألة لايراجعْ فيها إلا عالما واحدا إذا وجد عنده مرجحًا، ولا يعمل بها إلا بعد أن يسأله عنها. وليس الغرض هنا الكلام على وجوبه؛ فإنه سيأتي قريبًا. وإنما المقصود هنا هو إثبات أن التقليد الشخصي مشروع جائز يوافق السنة، وقول النبي ﷺ المذكور أعلاه هو الآخر يؤكد ثبوت التقليد، وإن كان لزمنٍ محدد.

الحديث الثاني:

         عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ فَأَعْطَى الِابْنَةَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْف(2).

         قد سبق الحديث بعنوان «الحديث الرابع في المقصد الأول»، فالحديث كما يدل على سنية التقليد «كما قررناه هناك» يثبت به التقليد الشخصي كذلك؛ لأن النبي ﷺ لما بعث معاذا إلى اليمن ليبين للناس الأحكام والشرائع، فقد أَذِنَ ضِمْنَ ذلك لأهل اليمن أن يراجعوه في كل مسألة، وهذا هو التقليد الشخصي، كما حققناه آنفا.

الحديث الثالث:

         سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَسَيُتَابِعُنِي. فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ: لِلْابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ، تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ. فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُم(3).

       فائدة: فقول أبي موسى الأشعري «لا تَسْأَلُونِي ما دَامَ هذا الحَبْرُ فِيكُمْ». بمجرد النظر إلى ظاهره يتجلى لكل أحد أن أبا موسى أمر بالرجوع إلى ابن مسعود في كل قضية فقهية، وهذا هوالتقليد الشخصي الذي يعني اتباع الرجل شخصًا معينًا، على تقدير أنه محق، بلا نظر وتأمل في الدليل.

المقصد الخامس: معنى وجوب التقليد،

ولزومه نظرا إلى غالب أحوال الناس:

         قبل الخوض في البحث نذكر لكم معنى وجوبه؛ ليتعين الدعوى، فليُعلم أن كون الشيء واجبا على نوعين: الأول: أن يؤكد القرآن أو الحديث على العمل به، تأكيدا خاصا، كالصلاة والصوم وغيرهما ويسمى مثل ذلك وجوبًا بالذات، والثاني أن لايكون التأكيد على ذلك مستنبطا من القرآن والسنة مباشرةً، ولكن لايمكن العمل بما جاء في الكتاب والسنة صراحة إلا بالعمل بهذا الأمر عادةً، فهذا الأمر كذلك يكون بمثابة الواجب، وهو مفهوم ما قاله العلماء: مقدمة الواجب واجبة. كما أن جمع القرآن وتقييده بالكتابة لم يرد الشرع بوجوبه؛ بل ورد التصريح بعدم وجوب الكتابة لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ(4).

       فائدة: دلالة الحديث واضحة على ما ندعيه، ولما لم يجب مطلق الكتابة فكيف تجب الكتابة الخاصة؛ ولكن ورد التأكيد على صيانة الكتاب والسنة ووقايتهما عن الضياع. وشهدت التجارب والمشاهدات أنه يتعذر الحفاظ عليهما في الغالب إذا لم يُقَيَّدا بالكتابة، فيكون كتابتهما من الأمور اللازمة، فلم يزل ولايزال اتفاق الجميع على الوجوب دلالة. وهذا الوجوب هو الوجوب بالغير. ولما عُلم الوجوب بقسميه وتجلت حقيقتهما فيجب أن نعلم أن وجوب التقليد الشخصي هو بمعنى أنه واجب بالغير لا أنه واجب بالذات. فلا يجب إثباته بآيات وأحاديث فيها تصريح بالأمر المؤكد باسم التقليد الشخصي، كما لا يُطلبُ الدليل على وجوب كتابة القرآن الكريم والسنة النبوية؛ بل يقال: إنه واجب، مع أن نفي الوجوب مصرَّح به في الحديث المذكور أعلاه، ولا يُعتبر ذلك مخالفة للحديث النبوي الشريف، فكذلك ههنا لا يجب إثبات وجوب التقليد الشخصي بالنص الصريح، نعم يجب هناك إثبات المقدمتين: الأولى: ما هي الأمور التي يتطرق إليها الفساد بترك التقليد الشخصي، والثانية: أن تلك الأمور واجبة. أما بيان المقدمة الأولى فهي كما يلي:

         الأمر الأول: إخلاص النية في العلم والعمل، ولايبتغي بهما إلا الدين.

         الثاني: غلبة الدين على هوى النفس أي يكون هواه تبعًا للدين ولا يكون الدين تبعًا لهواه.

         الثالث: أن يجتنب ما يكون سببا قويًّا لضرر في دينه.

         الرابع: عدم الخروج عما أجمع عليه أهل الحق.

         الخامس: عدم الخروج عن إطار الأحكام الشرعية.

         أما تطرق الخلل إلى هذه الأمور بترك التقليد فهو يرجع إلى التجربة والمشاهدة. والسر في ذلك أن غالب الطبائع في هذا الزمان قد عمّها الفسادُ وحبُ الذات والنفعيةُ، كما هو الظاهر، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في أحاديث الفتن، كما لايخفى على حمَلة العلم. فإن لم يلتزموا بالتقليد الشخصي فهناك ثلاث صور:

الصورة الأولى:

         منهم من يتجرؤون على الاجتهاد ظنًّا منهم أنهم قد ارتقوا منزلة الاجتهاد، ويزعمون أن الاجتهاد في الأحاديث لم يختص بجماعة دون جماعة، ويستدلون على ذلك بما يؤيد موقفهم من الأحاديث التي تؤكد جواز الاجتهاد، ويدعون أنهم عالمون، ومطلعون على ما في القرآن الكريم ومشكاة المصابيح من معانٍ، اعتمادا على مجرد قراءتهم لها باللغة الأردية، أو مجرد سماعهم أو فهمهم لها من عالم ديني، فكيف لا يُوضع اجتهادهم موضع الاعتبار؟ وإذا كان الاجتهاد عامًّا، فلا تعجب مما يتداخل الأحكامَ من التحريف والتبديل؛ فإنه قد يقول قائل مثلا: «المجتهدون السابقون علّلوا بعض النصوص بقوة اجتهادهم، وكان ذلك معتبرًا ومقبولا كما مضى بيانه بشيء من التفصيل في المقصد الثاني؛ فكذلك يسوغ لي أن أقول: حكم وجوب الوضوء معلل بعلة، وهي أن غالب سكان العرب كانوا رعاةً للإبل والغنم وربما تتلطخ وتتلوث أيديهم بقطراتها ورشاشاتها، وكانت تصل أيديهم القذرة إلى وجوههم، فأُمروا بالوضوء لتبقى الأعضاء طاهرة نقية، والقرينة أن الأعضاءَ المأمورَ بغسلها في الوضوء هي التي تكون مكشوفة في الغالب، ونحن نغتسل كل يوم ونجلس ونستريح في أمكنة تكون بمأمن من الأقذار والنجاسات، فتبقى أجسامنا طاهرةً نظيفةً فلا يجب علينا الوضوء، وإنما تجوز الصلاة بلاوضوء». مع أن التمييزَ بين الحكم المعلل بعلة وبين الحكم التعبدي غيرِ المعلل، إنما هو نصيب الأئمة المقبولين، ولا يجوز لأحد أصلا أن يتدخّل في ذلك برأيه.

         وكذلك قد يقول قائل مثلا: وجوب الإعلان بالنكاح وحضور الشهود فيه ليس من المقصود؛ بل هو معلل بعلة أن الزوجين إذا وقع الشقاق بينهما وآل الأمر إلى الخصومة، لم يكن من الصعوبة بمكانٍ تحقيقُ حالهما، فإذا كان احتمال الشقاق منتفيا، فلا مانع  لجواز النكاح بلاشهود.

         وكذلك قد يزعم زاعم عن الأحكام المنسوخة بإجماع الأمة، أنها غير منسوخة، كأن يعتقد جواز المتعة.

         هذه الأمثلة الثلاثة قد تحقق وقوعها، ولا يخفى ما تحوي هذه الأقاويل من تحريف الأحكام ورفضِ ما أجمعت عليه الأمة، وإنما هو ناشئ عن ترك الأمر الرابع من الأمور الخمسة المذكورة؛ لأن حقيقة الإجماع هو اتفاق جميع العلماء المعاصرين على حكم شرعي، وإن شذ أحد عنهم خطأً أو عمدًا، فقد لا يجد دليلا يحتمل الصحة، ويُعتَبَر هو معذورا إذا أخطأ، والظاهر أن أحكام الأمثلة المذكورة ليست إلا من هذا القبيل، واختلاف بعض الناس في قضية المتعة غير قادح في صحة الإجماع لعدم استناده إلى دليل صحيح. فالحاصل أن عدم الشركة على الإطلاق لايضر قيام الإجماع، وبدون ذلك يتعذر القولُ بأن القرآن الكريم محفوظ ومتواتر؛ فإنه قد ثبت بما رواه البخاري أن أبي بن كعب رضي الله عنه يَعتبر آياتِه المنسوخة تلاوتها من القرآن، وأبو الدرداء يرى أن «وما خلق الذكر والأنثى» من سورة «والليل» خارج عن القرآن، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يرى هذا الرأي في المعوذتين، وإن لم تستمر هذه الأقوال إلا لمدة قليلة؛ ولكن يلزم منه أن دخول الجزء في القرآن وخروج غير الجزء منه لايبقى مُجمعا عليه ومجزوما به في كل عصر، ولا قائل به أحد حتى لساعة من الزمن؛ بل كلهم لازالوا يعتقدونه – في كل زمن من الأزمان حقًّا ومحفوظًا من أن يداخله شكٌّ، ولكن لما ثبت خطؤهم في الاستدلال بيقين، لم يعتبره أحد من السلف والخلف قادحا للإجماع، وعَذَرَهم لشبهة ساورتهم. وتلك الأحاديث والآثار كما يلي:

الحديث الأول:

         عن ابن عباس قال: قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنْه: أقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وإنَّا لَنَدَعُ مِن قَوْلِ أُبَيٍّ؛ وذَاكَ أنَّ أُبَيًّا يقولُ: لا أدَعُ شيئًا سَمِعْتُهُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ، وقدْ قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ (البقر:106)(5).

الحديث الثاني:

         عن علقمة قال دخلت في نفر من أصحاب عبدالله الشام فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا فقال أفيكم من يقرأ فقلنا: نعم. قال: فأيكم أقرأ فأشاروا إلي: فقال: اقرأ، فقرأت والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى قال أنت سمعتها من في صاحبك قلت: نعم، قال: وأنا سمعتها من في النبي ﷺ وهؤلاء يأبون علينا(6).

الحديث الثالث:

         عَنْ زِرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.

         فَقَالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -ﷺ- فَقَالَ لِي «قِيلَ لِي»: فَقُلْتُ.

         قَالَ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ-(7). (كذا وكذا) أي أن المعوذتين ليستا من القرآن يعني أنه لم يثبت عند ابن مسعود رضي الله عنه القطع بذلك ثم حصل الاتفاق بعد ذلك.

       فائدة: فهذا الخلل ينشأ في عموم الاجتهاد، ومن الممكن أن يتقدم أحد ليتبع مثل هذا الاجتهاد.

والصورة الثانية:

         أن لايجتهد بنفسه ولا يعمل باجتهاد الآخر زعمًا منه أن الاجتهاد لايجوز؛ بل يأخذ بظاهر الحديث، فمن الفساد الذي ينشأ منه أنه لن يعمل باجتهاده أو باجتهاد الآخر في الأحكام التي تسكت عنها النصوص، لأنه لايرى جواز الاجتهاد، ولما كانت تلك الأحكام ليست منصوصة ومصرحا بها في النصوص، فلا يبقى له سبيل إلا أن يترك العمل ويتعطل ويختار البطالة. وهذا ترك الأمر الخامس من الأمور الخمسة التي تم ذكرها. ومثل هذه الأحكام توجد بكثرة كاثرة يعسر إحصاؤها، ويتجلى ذلك من خلال مطالعة الفتاوى الجزئية.

         والفساد الثاني الذي يترتب على ذلك هو أن هناك أحاديث لايجوز العمل حتمًا بظاهر معناها، كالحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس أن رَسول اللهِ ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بالمَدِينَةِ، في غيرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ (رواه مسلم، حديث رقم:705). مع أنه لم يقل أحد بجواز الجمع الحقيقي دونما عذر، كما يفهم من ظاهر الحديث، ولذلك يؤَوّل في الحديث بقوة الاجتهاد، فالعمل بظاهر هذه الأحاديث يؤدي إلى مخالفة الإجماع، وفيه تركٌ للأمر الرابع.

والصورة الثالثة:

         أن لايجتهد بنفسه ولا يعمل بظاهر الحديث؛ بل يقلد العلماء المجتهدين في النوازل الفقهية المستصعبة تقليدًا عامًّا دونما تشخيص وتعيين. فتارة يتبع أحدا من المجتهدين وتارة يأخذ بقول آخر، ففي بعض الأحوال تلزم مخالفة الإجماع، مثلا توضأ رجل ثم سال منه الدمُ الذي ينقض الوضوء، ولكنه قال أنا آخذ بقول الشافعي الذي يقول: «الدم لا ينقض»، وبعد ذلك مس امرأته، وهذا يوجب الوضوء عند الشافعي، فقال: أختار في ذلك فتوى الإمام أبي حنيفة الذي لايرى في ذلك نقض الوضوء، وصلّى دون أن يعيد الوضوء؛ وفي الحقيقة انتقض وضوؤه بلاخلاف بين العلماء وإن اختلفت أسبابه، ففسدت صلاته في قولهم جميعًا، وفيه تركٌ للأمر الرابع من الأمور المذكورة، وفي بعض الأحيان وإن لم يلزم مخالفة الإجماع ولكن نفسه تتوق لغلبة الهوى إلى ما يوافق هواه ويخدمُ مصلحته الدنيوية، فلا يأخذ بذلك القول على أنه من الدين؛ بل لأنه يوافق غرضه ومصلحته، فيكون دينه دائما تبعًا لِهواه، ولا يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول ﷺ، وهذا يؤدي إلى ترك الأمر الثاني من الأمور الخمسة المذكورة سابقا، والظاهر أن مثل هذا الشخص لايبتغي بعمله ونيته إلا أن يصيب حظ نفسه وما يريده من ثروات الدنيا، فإذا لم يجد قول إمام يوافق رأيه، أخذ بقول الآخر، فلم تبق نيته خالصة لوجه الله ولابتغاء مرضاته في العلم والعمل. وهذا يرجع إلى ترك الأمر الأول من الأمور المذكورة، ومن تعودت نفسه هذه العادة، فليس ببعيد – بل القريب الغالب أن تتخطى هذه الحرية في مدة قليلة حدودَ الفروع، وتتسرب إلى الأصول، وفيه ضرر فادح للدين، فإنه يتضمن مخافة قويةً لضرر في دينه؛ وهذا ترك الأمر الثالث من الأمور المذكورة. فتجلى – ولله الحمد – بهذا كله أن ترك التقليد يؤدي – بلا شك- إلى الخلل في هذه الأمور الخمسة المذكورة فيما يلي:

  • الأول أن تكون نيته خالصة لوجه الله تعالى في العلم والعمل.
  • الثاني: أن يكون دينه غالبا على هواه، أي يكون هواه تبعًا للدين ولا يكون الدين تبعًا لهواه.
  • الثالث: التجنب مما يخاف منه الضرر في دينه خوفًا قويًّا.
  • الرابع: عدم الخروج عما أجمع عليه أهل الحق.
  • الخامس: عدم الشذوذ عن إطار الأحكام الشرعية. والتقليد الشخصي هو الطريق الذي يضمن درءًا لهذه المفاسد ويرشد إلى ما فيه السداد. فقد ثبتت المقدمة الأولى.

         أما المقدمة الثانية فهي أن الأمور الخمسة واجبة بذاتها فقد ثبتت بالأحاديث الصريحة.

الحديث الأول:

         عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ»(8).

       فائدة: قد ظهر بهذا الحديث وجوب إخلاص النية، فالهجرة عمل جليل يُغفر بها جميع ما تقدم من الذنوب كما نص عليه الحديث الآخر، ولكن إذا شابَتهامصلحة دنيوية ذهبت سُدى؛ بل ورد الزجر واللوم عليه ولا يكون إلا على ترك الواجب.

الحديث الثاني:

         عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مَنْ تعلَّم علْمًا ممَّا يُبْتَغى به وَجْهُ الله عز وجل لا يَتَعلَّمُه إلا لِيُصِيبَ به عَرَضًا من الدنيا، لمْ يَجِدْ عَرْفَ الجنة يومَ القيامة»(9).

       فائدة: فيه زجر أكيد و وعيد شديد على من تعلم علما أو استفتى في شيء ونوى أنه يتوسل به إلى ثروة من الدنيا، فالحديث كذلك يدل على وجوب الأمر الأول.

الحديث الثالث:

         عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»؛ رواه في شرح السنة، وقال النووي في أربعينه: هذا حديثٌ صحيح، رويناه في (كتاب الحجة) بإسنادٍ صحيحٍ.

       فائدة: وجوب الأمر الثاني ظاهر بهذا الحديث.

الحديث الرابع:

         عن النعمان بن بشير في حديث طويل قال رسول الله ﷺ: من وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى اللهِ محارمُه(10).

       فائدة: ثبت بهذا الحديث أن ما يخاف منه الوقوع في الحرام يجب اجتنابه. وهذا هو الأمر الثالث وهذا هو معنى ما اشتهر من القول من أن مقدمة الحرام حرام.

الحديث الخامس:

         عن عطية بن عروة السعدي -رضي الله عنه- قالَ: قال رسولُ الله -ﷺ-: «لا يَبْلُغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتقينَ حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ بِهِ، حَذَرًا مِمَّا به بَأسٌ»(11).

       فائدة: ولما كان التقوى واجبا بنص القرآن «اتقوا» وهو موقوف على ترك ما يخاف منه الوقوع في المعاصي، ثبت وجوبه كذلك، فلاحديث كذلك يدل على وجوب الأمر الثاني.

الحديث السادس:

         عن أبي مالك يعني الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة(12).

الحديث السابع:

         عن معاذ بن جبل، عن رسول الله ﷺ: «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة(13).

الحديث الثامن:

         عن أبي ذر، قال: قال رسول الله ﷺ: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»(14).

       فائدة: فمجموع الأحاديث الثلاثة يدل على أن ما أجمعت الأمة عليه لن يكون ضلالا، فمن البديهي أن ما يضاده ويخالفه ضلالٌ البتة، كما قال تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ (يونس:32). وأكد رسول الله ﷺ على ملازمة الجماعة وأوعد على مفارقتها، فلا يجوز مخالفة الإجماع ويُعتبر ذلك وقوعا في الضلالة. فيجب العمل بمقتضى الإجماع، وثبت بذلك وجوب الأمر الرابع.

الحديث التاسع:

         عن ابن عباس قال: قال علي لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لقد علمت أن رسول الله ﷺ قال: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ»(15).

       فائدة: هذه مسألة بديهية لا تحتاج إلى الاستدلال، وقد عُلم من الحديث أن جميع الناس مخاطَبون بالأحكام التكليفية سوى من استثناهم الشرع ممن رُفع عنهم القلم. وقد نص عليه القرآن الكريم، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المومنون:115) وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (القيامة:36).

         فثبت بذلك وجوب الأمر الخامس كذلك، ووجوب الأمور الخمسة هو المقدمة الثانية. فثبتت المقدمتان للدليل، وثبت المدعى وهو وجوب التقليد الشخصي. ولله الحمد.

*  *  *

الهوامش:

(1)  صحيح الترمذي، الرقم:3799.

(2)  أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، الرقم:6734.

(3)  صحيح البخاري، كتاب الفرائض باب ميراث ابنة الابن مع بنت، حديث رقم:6736.

(4)  رواه البخاري (1840) ومسلم (1080).

(5)  رواه البخاري، الحديث، رقم:4481.

(6)  صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن، حديث رقم: 4659.

(7)  صحيح البخاري، حديث رقم: 4977.

(8)  رَوَاهُ الإمام مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيُّ (رقم:1)، وَالإمام مُسْلِم بنُ الْحَجَّاج الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ (رقم:1907) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي «صَحِيحَيْهِمَا».

(9)  رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.

(10)   أخرجه البخاري:52، ومسلم: 1599.

(11)   سنن الترمذي (حديث رقم: 2451).

(12)   سنن أبي داود، كتاب الفتن والملاحم باب ذكر الفتن ودلائلها (حديث رقم: 4253).

(13)   مسند أحمد، تتمة مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل (حديث رقم:22107).

(14)   سنن أبي داود، كتاب السنة باب في قتل الخوارج (حديث رقم: 4758). (15)   سنن أبي داود، كتاب الحدود باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا (حديث رقم: 4402).


(*)    أستاذ بالجامعة.

مجلة الداعي، ذوالحجة 1444هـ = يونيو – يوليو 2023م، العدد: 12، السنة: 47

Related Posts