الأدب الإسلامي

بقلم : معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر / الرياض

وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي

هذا الاعتناء في الوصف، والمغالاة في جودة الحنطة التي طالت حتى ماثلت مناقير الغربان، وهذا التمر الذي استطالت الواحدة منه حتى شاكلت أعناق الوز، دليل رضى وارتياح لهذه الوجبة الهنية .

والقصة الآتية ملأى بالطرائف، لما احتوته من صور تكشف عن بعض الجوانب في حياة ابن البادية، ومما هو حادث فعلاً، أو مما يتخيل إمكان حدوثه:

“ضاف رجل من كلب أبا الرمكاء الكلبي، ومع الرجل فضلة من حنطة، فراحت معزي أبي الرمكاء، …. وشرب، ثم حلب وسقى ابنه، ثم حلب وسقى امرأته.

فقال الرجل: ألا تسقون ضيفكم ؟

فقال أبو الرمكاء: ما فيها فضل .

فاستخرج الرجل ما في عكمه من طعام، وقال: هل من رحى؟

فأسرعوا بها نحوه، فطحن وعجن، وأوقد خبزته، وأخرجها فنفضها، فإذا رسول أبي الرمكاء يقول:

يقول لك ابو الرمكاء: لا عهد لنا بالخبز.

فقال الرجل: ما فيها فضل.

ثم أكل وارتحل، وقال أبياتًا منها:

وَبَاتَ أَبُو الرَّمْكَاءِ لَمْ يَسْقِ ضَيْفَهُ

مِنَ المَحْضِ مَا يَطْوِي عَلَيْهِ فَيَرْقُدُ(1)

لا يضيع علينا التلذذ بما في هذه القصة من طرائف، إلا الحذر من أن تكون موضوعةً، نكايةً في بني كلب، وما أكثر القصص الموضوعة في ثلب قبيلة أو عشيرة. أما إذا كانت فعلاً حدثت، فالضيف قد أصاب عين العدل، وجاء منه الجزاء من جنس العمل.

والضيف لو أُحسن قراه في هذه الحادثة، وقدم له جرعة من حليب المعزى، وآثره أحد الثلاثة على نفسه، فلربما رد المعروف، الصاع صاعين، وأهل البادية أحيانًا لا يأنفون أن يقبلوا ما يعرضه عليهم الضيف، سدّاً للحاجة، أو على سبيل الطرفة؛ وفي بادية “نجد” إلى وقت قريب، كانت تقل عند بعض المقيمين حبات القهوة أو الهيل؛ فإذا ما لاحظ هذا ضيف حل بساحتهم أعطاهم مما عنده، واشتركوا في شرب هذه القهوة.

ويبدو أن القمح يدخل في عناصر بعض الأطعمة لدى الحَاضرة، ولكن أمورهم المعقدة في الطبخ تخفي هذا. فالفالوذج من الأغذية المحببة إليهم، ولهم فيها أقوال معتددة، ومنها ما يأتي:

“سمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج فقال:

فُتَاتُ البرّ، بلعاب النحل، بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم”.(2)

صدق الحسن البصري في هذا، فهذه نعمة جلّى، والمسلم يحمد الله على النعمة، ولا يعيبها، وعناصر هذا التجمع فاخرة، فمن أين يأتيها العيب! .

ويبدو أن الحسن مبتلى بهؤلاء الذين بينهم وبين الفالوذج حاجز، فهناك قصة أخرى للحسن وفيها قول منير، وهي:

“قال الحسن لفرقد السبخي:

يا أبا يعقوب بلغني أنك لا تأكل الفالوذج!

فقال: يا أبا سعيد: أخاف ألا أؤدي شكره.

فقال: يالكع، وهل تؤدي شكر الماء البارد في الصيف، والحار في الشتاء؟ أما سمعت قول الله تعالى: ﴿يَـٰـأَيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُوْا كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰـتِ مَا رَزَقْنـٰـكُمْ﴾(3).

صدق الحسن مرةً أخرى، الإِنسان لا يوفي الله حقه من الشكر على أصغر النعم التي منّ بها عليه وهي لاتُحصىٰ. ولكن الجهلَ أحيانًا يَخْتِل الإِنسان، فيخرجه عن الطريق، فإذا ما خرج، أبعد عن الجادة، وتاه عن الهدف.

وقد يقول قائل في زمننا: إن فرقد قد أصيب بعين، ممن لا يستطيع أن يحصل على الفالوذج، وأذكر أن طفلاً صغيرًا قبل أكثر من ستين سنةً، عندما جاء الصيف، موسم الرطب، وأهله موسرون، ويأتيهم منه أنواع ممتعة شهية، امتنع عن أكل التمر دون أن يعرف أهله السبب، فقد أقفل عليه في نفسه في قاع مظلم، ولم يخبرهم به. وكان السبب أنه أجال فكرًا في ذهنه، مؤاده: “هبني أكلت هذا التمر، فجاء البائع ورد المال، وطالب بتمره، فلاِسترجاعه لابد من شق البطن، وهذا أمر مخيف، لأن معناه الموت، والموت مرعب؛ فأسهل من هذا كله ألا آكل التمر”. فترك في تلك السنة أكل التمر، ولكنه عاد يأكله بعد عام.

كان أهله يقولون أنه قد أصيب بعين، وقد يكون ذلك صحيحًا، ولعل فرقد قد أصيب بعين، ولعل رقية الحسن نفعته .

وللأصمعي قصة عن الفالوذج هي كما يلي:

“وعن الأصمعي قال:

كنا عند الرشيد، فقُدِّمت إليه فالوذجة، فقال:

يا أصمعي، حدثنا حديث “مزرد”.

فقلت: إن مزرداً أخا الشماخ كان غلامًا جشعًا، وكانت أمه تؤثر عيالها بالطعام عليه، وكان ذلك يُفظه؛ فخرجت أمه ذات يوم تزور بعض أهلها، فدخل مزرد الخيمة، وعمد إلى صاعي دقيق، وصاع من تمر، وصاع من سمن، فجمعه، ثم جعل يأكله، وهو يقول:

وَلَمَّا غَـدَت أُمِّي تَميُر بَنَــاتِها

أَغَرْتُ عَلَى العِكَمَ الّذِي كَان يُمنَعُ

لَبَكْتُ بِصاعَيْ حِنْطَةٍ صَاعَ عَجْوَة

إِلى صَـاع سَمْـنٍ فَوْقَـهُ يَتَرَبَّعُ

وَدَبَّلْتُ(4) أَمْثَـالَ الأَثَافِي كَأَنَّها

رُؤُوسُ نِقَادِ(5) قُطِّعَتْ يَوْمَ تَجَمُّع

وَقُلْتُ لِبَطْنِي أَبْشِـرِ اليَوْمَ إِنَّـهُ

حِمَى أُمِّنَا مِمَّا تَحُـوْزُ وَتَـرْفَعُ

فَإِنْ كُنْتَ مَصْفُورًا فَهـٰذَا دَوَاؤُهُ

وَإِنْ كُنْتَ غَرْثـَانًا فَذَا يَوْمُ تَشْبَعُ

فضحك الرشيد، حتى استلقى على ظهره، ثم قال:

كلوا باسم الله، هذا يوم تشبع، يا أصمعي”(6).

هذا عن الطعام إذا جاء شهي المذاق، حلال التناول، مفيد العناصر، يُختار اختيارًا، ويُنتقى من بين أطعمة أخرى، فماذا عن الأطعمة سيئة المذاق، محرمة التناول، تؤذي ولا تفيد، إذا ألجأت إليها الحاجة، وأجبرت عليها الظروف؛ والصحراء بيئة يسهل أن يقع فيها الإِنسان فيما لا خيار له إلا ركوب الصعب فيه، أو مصارعة الموت، وفي بعض ما سنأتي به ما يرسم بعض الصور:

“قال المعلّى الربعي:

مكثت ثلاثاً لا أذوق طعامًا، ولا أشرب فيهن شرابًا؛ فدعوت الله تعالى؛ وإذا دعا العبدُ الله بقلب صادق كانت معه من الله عين بصيرة.

فدفعت إلى ذئبين في جفر(7)، فرميتهما، فقتلتهما، ثم أتيت جفرًا فيه ماء، فاستقيت، ثم أتيتهما، وإذا هما على مُهَيْدَ متيهما(8)، وإذا لهما نخفة(9)، فاشتويت، واحتذيت(10)، وأدّهنت”(11).

لحم الذئب مثل لحم الكلب في تحريمه، وفي قذارته ونجاسته، ولكن الجوع يغمض العين، والدين الإِسلامي لم يهمل ما يأتي من طبيعة الصحراء من عوز، ولا ما تأتي به الحياة من ضيق؛ فأحل الميتة عند الضرورة.

وقصة أخرى تكشف عن جوانب أخرى عن الصحراء وحياتها، وموقع الطعام منها، وما يأتي به الجوع، وما يُحتال به عليه، والقصة كما يلي:

“قال ابن قرفة، شيخ من سليم:

أضافني رجل من الأعراب، فجاءني بقدر جماع ضخمة، ليس فيها شيء من طعام إلا قطع لحم، فإذا بضعة تنماع في فمي، وبضعة كأنها بِضَع ساق، وبضعة كأنها شحم زخم، فقلت: ما هذا؟

فقال: إني رجل صياد، جمعت بين ذئب، وظبي، وضبع”(12).

وهنا قول يقال عن بني أسد، ولعله مما يكون بين القبائل من مشاحنات، وما يوضع على الألسن من افتراء، وما توصم القبائل به من عيوب مختلفة، والقول يجري على بني أسد بهذه الصيغة:

“وبنو أسد تعيّر بأكل الكلاب، قال الفرزدق:

إِذَا أَسَدِيٌّ جَاعَ يَوْمًا بِبَلْدَةٍ

وَكَانَ سَمِيْنًا كَلْبُهُ فَهُوَ آكِلُه”(13)

أما إذا حدث أن أكل أسدي كلبًا في موقف جوع يهدد بالموت، فلا يستوجب هذا لومه، أو إلحاق العيب به من أجل ذلك؛ فالمجاعات تفعل ذلك، وكم مر على بلدان دهور مجاعة، وأزمان شدة، أكل أهلها فيها شسع نعالهم، بعد أن استنفذوا الكلاب والقطط .

وأكل العرب الحشرات في صحرائهم، ومن جملتها الحيات، ولم يكن في هذا شيء عندهم، فلا يلام آكلها، ولا ينتقد المستنقذ بها، وإنما يحذر سمّها:

قال رجل: كنت بالبادية، فرأيت ناسًا حول نار، فسألت عنهم، فقالوا صادوا حيات، فهم يشوونها ويأكلونها.

فأتيتهم، فرأيت رجلاً منهم قد أخرج حيةً من الجمر ليأكلها، فامتنعت عليه، فجعل يمدها كما يُمَدُّ عُصَيْبٌ لم يَنضج، فما صرفت عنه حتى لبج به فمات.

فسألت عن شأنه، فقيل لي: عجّل عليها قبل أن تنضج، وتَعْمَلَ في شمها النار”(14).

ولو لم يكن جائعًا لما عجل، ولعله اجتمع مع الجوع قلة الخبرة، ومن مثل هذا يأتي الهلاك أحيانًا.

وموتة هذا التعيس ليست مثل موته أبي خارجة، التي من حسنها في عين بعض الأعراب تمناها، والقصة كمايلي:

“قال الأصمعي: قال بعض الأعراب:

اللهم إني أسألك ميتةً كميتة أبي خارجة، أكل بذجًا (الحمل)، وشرب معسلاً، ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريّان دفآن”(15).

ومما يصاحب الأحاديث عن الأكل، ويأخذ حيزًا واسعًا عنها، الحديث عن الجشع في الأكل، والجشعين فيه، وكثيرًا ما يطلق المتحدث العنان لخياله في هذا؛ فيأتي بما لا يقبله العقل، ولو اقتصر الرواة على الحقيقة لكفتهم، ولعمّقت الثقة فيما يقولون، ولكن لأنهم لا يعدمون وجود من يصدقهم، فقد استهانوا بمن يناقش ما يقولون، ويفحص ما به يغالون.

والأصمعي تُروى على لسانه كثير من القصص الغريبة، والله وحده هو الذي يعلم إن كان الأصمعي سبق أن تلفظ بها، أو أنها ظلمًا وعدوانًا أُلبست إياه، والقصة الآتية من جملة القصص الغريبة:

قال الأصمعي:

دعا عباد بن أخضر هلال بن أسعر إلى وليمة، فأكل مع الناس حتى فرغوا، ثم أكل ثلاث جفانٍ تنصع كل جفنة لعشرة أنفس.

فقال له: أشبعت.

قال: لا.

فأتوه بكل خبز في البيت، فلم يشبع، فبعثوا إلى الجيران. فلما اختلفت ألوان الخبز علم أنه قد أضرّ بهم فأمسك.

فقالوا: هل لك في تمر شهريز (اسم موضع) بلبن؟

فأتوه به، فأكل منه قواصر.

فقالوا له: أشبعت؟

قال: لا.

قالوا؛ فهل لك في السويق؟

قال: نعم.

فأتوه بجراب ضخم مملوء.

فقال: هل عندكم نبيذ؟

قالوا: نعم.

قال: أعندكم تَوْرٌ(16). تغتسلون فيه من الجنابة؟

فأُتي به، فغسله، وصب السويق، وصبّ عليه السويق. فمازال يفعل حتى فني”(17).

عدم صحة القصة، لا يحتاج إلى تفكير، فما ذُكر عن مقدار الطعام الذي أُعْطِيَه هلال، تجعل الفيل بعجز أن يتحملها في معدته؛ ومادام هلال أكل مع الناس في أول الأمر، فما الداعي لسؤاله عما إذا كان شبع أم لا؟ ثم لما سئل مرةً فما الذي أوجب سؤاله ثانيةً؟ ثم لما عَرَفَ أن ما في بيتهم قد نفد، أليس من الذوق أن يمسك؟

ولكن القصة مفيدة لنا في موضوعنا هذا؛ فهي تُرِي اهتمام القوم بالطعام، وتسجيل الطريف عنه.

ومثل هذا في المغالاة القصة التالية:

“بينا أعرابي يسير، وهو يوضع (يحث) بعيره إذ سقط بعيره، فنحره، وأكله، فأنشأ يقول:

إنَّ السَّعِيْدَ مَنْ يَمُوتُ جَمَلُه

يَشْبَع لَحمًا ويَقِلُّ عَمَلُه”(18)

إذا استطاع الرجل أن يأكل بعيره، فلابد أنه من الضخامة، بحيث أن معدته أكبر من حجم بعيره، فإذا كانت هذه معدته، وهذا حجمها، فلابد أنه من الضخامة بحيث يعجز البعير عن حمله! فأي الأمرين يختار مخترع القصة؟

وسليمان بن عبد الملك، الخليفة، الأموي، اُشتهر عنه أنه أكول، وتُروى عنه قصص غير مقبولة، ومن أشهرها القصة الآتية:

“قال الشمردل، وكيل آل عمروبن العاص:

قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، وقد عرفت شجاعته، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز، وأيوب ابنه، بستانًا لعمرو.

قال: فجال في البستان ساعةً، ثم قال:

ناهيكم بما لكم هذا مالاً، لولا حرار فيه!

فقلت: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بحرار، ولكنها جُرُب الزبيب.

فجاء حتى ألقى صدره على غصن ثم قال:

ويلك! ياشمردل! أما عندك شيء تطعمني؟

قلت: بلى، والله! إن عندي لجديًا تغدو عليه بقرة، وتروح أخرى.

قال: أعجل به.

فأتيته به كأنه عكة، وتشمر فأكل، ولم يدع ابنه ولا عمر حتى أبقى فخذاً .

فقال: يا أبا حفص هلمّ.

قال: إني صائم.

ثم قال: ويلك ياشمردل! أما عندك شيء؟

 فقلت: بلى والله، دجاجات ست، كأنهن رِئْلات النّعام. فأتيته بهن، فكان يأخذ الدجاجة حتى يعري عظمها، ثم يلقيها بفيه، حتى أتى عليهن.

ثم قال: ويلك! أما عندك شيء؟

فقلت: بلى والله! إن عندي لحريرةً كقراضة الذهب.

فقال: إعجل بها.

فأتيته بعسٍّ (قدح كبير) يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقمها بيده، ويشرب، فلما فرغ تجشأ كأنه صَاحَ في حب.

ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائنا؟

قال: نعم.

قال: وما هو؟

قال: نيف وثمانون قدرًا.

قال: فأتني به قدرًا قدرًا.

فأتاه بها، وبقناع عليه رقاق، فأكثر ما أكل منه ثلاث لُقم، وأقل ما أكل لقمة، ثم مسح يده، واستلقى على فراشه، وأذن للناس، ووضعت الخوانات، فجعل يأكل مع الناس”(19).

لابد أن سليمان بيت يسير على قدمين، ومعدته حجرة، تستطيع خزن كل هذا الطعام. والوضع في هذه القصة واضح، ولكنها قصة مسلية للسُّمار، وتري مدى أهمية الطعام عندهم.

وواضع القصة لم يستطع أن يخفي آثار قصته، وهو يأخذ طريقه خفيةً إلى أذهاننا، فمثلاً لماذا يسأل سليمان طباخه عما عنده، إِمَّا أن يكون قد وجهه عما يعد، أو أنه مستعد أن يأكل ما عنده، وهذا ينطبق على تكرار السؤال على الشمردل؛ ولو كان السؤال لغرض سليم كما كان يفعل عبد الأعلى بن عبد الله ابن عامر، لقبلناه وما خطر ببالنا شك نحوه؛ لأن النبل فيه واضح، والهدف الشريف الذي جاء من أجله السؤال مشرق منير، وقصته كالآتي:

عن الجارود بن أبي سبرة قال:

قال لي بلال بن أبي بردة:

أتحضر طعام هذا الشيخ – يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر؟

فقلت: إيهًا والله.

لقال: حدثني عنه.

فقلت: نأتيه، وكان سكِّيتًا؛ إن حَدَّثـَنا أحسن الحديث، وإن حَدَّثـْناه أحسن الاستماع. فإذا حضر الغداء، جاء خبازه، فمثل بين يديه، فيقول:

ما عندك؟

فيقول: بطة بكذا، ودجاجة بكذا وكذا.

قال: وما يريد بذاك؟.

قلت: لكي يحبس كل إنسان نفسه إلى ما يشتهي، فإذا وضع الخوان خوَّى تخوية الظليم، فما له إلا موضع متكئه، فَيَجِدُّ ويهزل، حتى إذا رآهم قد فتروا وَكَلُّوا، أكل معهم أكل الجائع المقرور؛ حتى ينشطهم بأكله”(20).

هذه القصة فيها عدد من الفوائد لمن أراد أن يطلع على صور من عاداتهم في الأكل، في تلك الأزمان، فما يفعله عبد الأعلى، لعيدِّد خبازه أصناف الطعام، هو بعينه ما يفعله النادل (السفرجي) في المطعم الحديث، وعمل عبد الأعلى يقطر نبلاً وكرمًا؛ وتركه ضيوفه يتناهبون الأصناف، ويأتون على ما يختارون منها، وهو لا يأكل، وإنما يحدثهم بما يسليهم من القول الجاد والهازل، ثم يدخل مشاركاً، ليحرك شهيتهم من جديد، غاية النبل والكرم.

أين ما في قصة عبد الله والقصة عن سليمان، بل أين الثريا من الثرى، هذه مضيئة، وتلك مظلمة.

ثم نعود إلى الخوان وما يوضع عليه من أنواع متعددة، وأصناف مختلفة، لعل أحد الأهداف في التعدد، في الأصل، هو مراعاة ما يشتهيه أي ضيف؛ وقد لاحظوا أن الصنف يطغى على الصنف الآخر في الفم، فيضيع طعم اللاحق بسبب سطوة الصنف السابق، فوجدوا مثل ما وجد ملك الفرس حلاًّ لهذا، وهو في القصة الآتية:

“قال الأصمعي: حدثني إبراهيم بن صالح، أنه كان له جام من حب رمان مدقوق، يسف منه بين كل لونين، ملعقة، حتى يعرف اختلاف الألوان”(21).

وكانت لهم أقوال تدعو إلى عدم الإِسراف في الأكل، طاعةً لأمر الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: ﴿وَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ﴾(22).

ومن أقوالهم في هذا:

“أقلل طعامًا تحمد منامًا”(23).

والأحنف حكيم يصيب المرمى، وهو يعمد إلى الهدف فلا يخطئه برأيه الثاقب، وفكره النيّر:

“قال الأحنف: جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصافًا لبطنه وفرجه.

وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه”(24).

والبعد عن الإِسراف في الأكل والشرب، والحرص على الاعتدال فيهما، بأخذ المقدار النافع، والبعد عن الكثير الضار، يتضح في الجواب الآتي، الذي جاء على أثر سؤال:

“سأل عبدُالملك أبا الزعيرة، فقال:

هل اتخمت قط ؟

قال: لا.

قال: وكيف ذاك؟

قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظ المعدة، ولا نخليها”(25).

ويدخل في هذا الحرص على الجوع بين الأكلتين، لأن هذا يضيف جهدًا للبعد عن الإِسراف، وهناك قول عن هذا، ووصف بديع للجوع، يظهره بصفة محببة، وهو كما يلي:

“كان يقال: نعم الإِدام الجوع، ما ألقيت إليه قبله”(26).

وهو قول يُحكَم بصدقه، ولا يحتاج قائله إلى شهود؛ فشهوده في تجربته، فإذا كان الشبعان يختار، فيقبل صنفًا من الطعام، ويرفض آخر، لأن طعم هذا شهي، وطعم ذاك غير شهي، فإن الجوع يساوي بين كل الأصناف، ويعتبرها شهيةً، لأنه سوف يكون إدامها الذي سوف يضفي عليها الطعم المختار!

وعلى هذا القياس، وإلى هذا الهدف يأتي القول الآتي:

“قيل لبعض الحكماء: أي الطعام أطيب؟

قال: الجوع أعلم”(27).

وعقلاء الناس تجدهم دائمًا مع عدم الإِسراف في الأكل، وإذا تحدثوا، وأرشدوا غيرهم ووجهوهم، فإنهم يأتون بما يقنع من الحجج، وهم ينصحون من مخزون تجربة، أو مما أخذوه من تجارب من يثقون بهم. والقول الآتي يسعى صاحبه إلى إظهار فائدة الابتعاد عن الإِسراف في الأكل:

“قال جعفر: كنا نأتي فرقدًا السبخي، ونحن شببة، فيعلمنا: إن من ورائكم زمانًا شديدًا، فشدوا الأزر على أنصاف البطون، وصغروا اللقم، وشدوا المضغ، ومصوا الماء مصًا، وإذا أكل أحدكم فلا يحلن إزاره، فتتسع أمعاؤه؛ وإذا جلس أحدكم فليقعد على إليته، وليلزق بطنه بفخذيه؛ وإذا فرغ فلا يقعد، وليجيء وليذهب؛ واحتموا، فإن من ورائكم زمانًا شديدًا”(28).

لو تبع الناس في زماننا هذه النصائح، لارتاح الأطباء، من ثلث الناس، ولو راعى الناس هذه الإِرشادات الحكيمة، لعاشوا حياةً أهنأ.

وبعد:

فالإِنسان يستطيع أن يقنع نفسه أكثر من إقناع الآخرين لها، ويستطع أن يبني جدارًا من الإِرادة الصلبة لمقاومة إغراء الأكل طعمًا ورائحةً؛ وما يأتيه من الآخرين إلا الإِرشاد من الخبير، والنصح من المجرب، ولكن النصح والإِرشاد مثل الدواء للمريض، لايكفي أن يوصف بل لابد له من التناول، حسب النصح والإِرشاد؛ ولننظر إلى أحد الناس كيف يقنع نفسه، ويأخذها بقبول الواقع، متلمسًا الحجج المقنعة، والأسباب المقبولة:

“قال خالد بن صفوان الجاريته:

يا جارية، أطعمينا جبنًا، فإنه يشهّي الطعام، ويهيج المعدة، وهو يُعد من حمض العرب.

قالت: ما عندنا منه شيء.

قال: لأعلمك إنه – والله – ما علِمتُ، ليقدح في الأسنان، ويستولي على البطن، وإنه من طعام أهل الذمة”.(29)

وخالد عرف بالفصاحة، وقد وَجَدَ فَمَدحَ، وفَقَدَ فَذَمَّ، وإن من البيان لسحرًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مقام مشابه.

هذه بعض الصور عن الطعام، فتحت نافذة ضيقة على حقل واسع، وأطعمت ولم تشبع، وأذاقت ولم تسمن، وأرت ولم تغرق؛ وبقي أمور كثيرة تغص بها الكتب، بقي مثلاً الحديث عن: معلومات كثيرة عن آداب الأكل، وأحاديث عن الطفيليين، وكثير من القصص عما فعله الجوع بهم، أو أصيبوا به من جراء الشبع، وعن الصيام عن الأكل، والإِفطار بعده، وعن قصص بعض الكرماء، ونوادر البخلاء. ومن أراد الاستيفاء من هذا، فليرجع إلى أبواب الأطعمة في الكتب، أو في الكتب المخصصة لها.

*  *  *

الهوامش:

  • عيون الأخبار: 3/264.
  • عيون الأخبار: 3/226.
  • سورة البقرة، الآية: 172، عيون الأخبار: 3/226.
  • دبَلت: جمعت بعضه فوق بعض .
  • النقاد: صغار الغنم .
  • عيون الأخبار: 3/227.
  • الجفر: البئر الواسعة التي لم تطو، أو لم يكتمل طيها.
  • الحال التي كانا عليها.
  • يعني شبه الزفير .
  • احتذى: صنع حذاءًا.
  • عيون الأخبار: 3/231، البصائر: 3/222.
  • عيون الأخبار: 3/232.
  • عيون الأخبار: 3/234.
  • عيون الأخبار: 3/235.
  • عيون الأخبار: 3/298.
  • إناء من نحاس أو حجر.
  • عيون الأخبار: 3/250.
  • عيون الأخبار: 3/235.
  • عيون الأخبار: 3/250.
  • عيون الأخبار: 3/237، البيان والتبيين: 1/334.
  • عيون الأخبار: 3/238.
  • سورة الأعراف، الآية: 31.
  • عيون الأخبار: 3/242.
  • عيون الأخبار: 3/242.
  • عيون الأخبار: 3/242.
  • عيون الأخبار: 3/245، 3/145.
  • عيون الأخبار: 3/145.
  • عيون الأخبار: 3/237.
  • عيون الأخبار: 3/254.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الأول 1431 هـ = فبراير – مارس 2010م ، العدد : 3 ، السنة : 34

Related Posts