دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)
لقد كانت الخلافة العثمانية في تركيا عنوانًا للمجد الإسلامي ورمزًا للعظمة الإسلامية منذ قرون ماضية، وكانت كفيلةً بالحفاظ على البلاد الإسلامية من الحجاز والعراق وفلسطين ومصر و…، وكان المسلمون كلهم يرون حاكمها العثماني خليفةً لهم، وكان يقوم هو بمهام الخلافة خير قيام.
كان امتداد الخلافة وسعتها في القارَّات الثلاث من العالم يُقِضُّ مضاجع الدول الأوربية، وكانت تحاول دائما أن تستولي على “إستانبول” عاصمة الخلافة، وتمحو الإسلام من قارَّة أوربا. وقد دافع الخليفة عن ولاياتها مااستطاع، إلا أن الأعداء اقتطعوا من جسم الخلافة مصر(Egypt) وجزيرة قبرص (Cyprus) وطرابلس وسالونيكا (Salonica)ويونان(Greece) وبلغاريا (Bulgaria) وصربيا(Serbia) وألبانيا(Albania). ثم بدأت الحرب العالمية الأولى التي كان مِسعرها المطامع الاستعمارية، واضْطُرَّت تركيا – لأسباب يطول ذكرها – إلى الانضمام إلى ألمانيا التي كانت معسكرًا محاربًا لبريطانيا. ومن سوء الحظ انهزمت ألمانيا وحليفاتها، فأُهِيل على المسلمين في العالم لاسيما في الدول التي كانت تحكمها بريطانيا من المصائب ما الله به عليم.
وقدأصدرت الحكومة البريطانية لشعوبها المسلمة مراسيم تقضي بأنها لاتستولي على عاصمة الخلافة، ولاتمس الأماكن المقدسة بسوء. واطمأن المسلمون إلى وعودها، فساعدوها بنفسهم ونفيسهم، وسبَّبوا لها النصرَ المبين، وكان ذلك خطيئةً كبرى.
فلما عادت الظروف إلى طبيعتها، نقضت غزل وعودها ومواثيقها أنكاثاً، فاستولت على البلاد الإسلامية، وحاصرت عاصمة الخلافة، وساعدت اليونان للاستيلاء على سمرنا (Smyrna)، وأغرت العرب بالثورة على الخليفة العثماني، واضْطرَّت القوات العثمانية إلى الاستسلام، كما أكرهت الخليفة على توقيع ميثاق الصلح المشين الذي كان يُعبِّد الطريق إلى إلغاء الخلافة العثمانية.
صُبَّت على المسلمين مصائبُ لاتُحصى في هذه المعارك: فكم قُتِلوا من المسلمين، وكم أرملن من النساء، وكم أيتموا من الأطفال، وكم شُرِّدُوا من المواطنين الذين لايُظِلُّهم إلا السماء، ولايجدون من الثياب ما يستر جسمهم ومن الغذاء ما يسد جوعهم. وقُتِلَ آلاف مؤلَّفة من الأبرياء، وانتُهِكت حرماتُ النساء في سمرنا.
***
هذه الأحداث الدامية الهائلة جعلت المسلمين في العالم على أحرَّ من الجمر، ودفعت كلَّ من في قلبه حبةُ خردلٍ من الإيمان أن ينهض لنصرة إخوتهم المسلمين دينيًّا وخلقيًّا وقانونيًّا، ويُنقذهم من براثن الظَلَمَة الآثمين. فقد عمت موجة الأخوة الإسلامية هذه مشارقَ الأرض ومغاربَها وجنوبَها وشمالها، عمت المتصوف في زاويته، والطالب في مدرسته، والأستاذ في جامعته،والتاجرفي متجره، والعامل في معمله، حتى إنّ المواطنين الهندوس في الهند أنفسهم انضموا إلى مصافِّهم استنكارًا للإستراتيجية الغاصبة الظالمة التي كانت تتبنَّاها الدول الأوربية، ولاسيَّما بريطانيا.
قاد العلماء الربانيون والزعماء السياسيون حركة الخلافة في الهند، وكان في طليعتهم الشيخ محمد علي جوهر، والشيخ شوكت علي، والشيخ أبوالكلام آزاد، وشيخ الهند محمود حسن الديوبندي، وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني، وغاندي… ومن إليهم، وكان أهم أهداف الحركة مطالبةَ الحكومة الإنجليزية بالحفاظ على كيان الخلافة وماتحكمه من البلاد الإسلامية. وذلك عن طريق الضغط عليها بترك موالاتها وعدم التعاون معها. عقدت الحركة أولَ مؤتمر لها في 22/ نوفمبر1919م، وطالبت الحكومة بالحفاظ على الخلافة والبلاد الإسلامية.
***
استفتى أعضاء الحركة العالمَ الربانيَّ شيخ الهند محمودحسن الديوبندي أستاذ الحديث ورئيس هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، عمَّاذا ينبغي أن يقف المسلمون من الحكومة الإنجليزية التي تحاول إلغاء الخلافة، وتقوم بالاستيلاء على البلاد الإسلامية وتعذيب المسلمين. أفتى شيخ الهند بالفتوى التي وقَّع عليها نحو خمس مئة من العلماء، والتي نشرتها المنظمات الإسلامية في طول البلاد وعرضها. وقدجاء فيها:
“بسم الله الرحمن الرحيم”
نحمده ونصلي على رسوله الكريم أمابعد:
فقد قال الله تعالى: وَلاتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ الله مَعَ الصَّابِرِيْن. (الأنفال/46)
وقال: وَتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاتَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والعُدْوَانِ.(المائدة/2)
وقال: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُم فَإنَّه مِنْهُم إنَّ الله لايَهْديْ القَومَ الظَّالِمِينَ.(المائدة/51)
لقد أنزل الأعداء بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مصائبَ أشدَّ وأكبرمن الجبال، وكاد أن يقضوا على الخلافة. وكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية يَرْتعِد من حوادث تنزل بساحته، بل إذا أمعنا النظر وجدنا أن كل فرد من الشعوب في آسيا عامة، وفي الهند خاصة، دينُه وحريتُه ومستقبلُه في خطرشديد. يحاول عدد كبير من العلماء و رجال السياسة من المسلمين والهندوس للاحتفاظ بحقوقهم، والنجاح بيدالله، إلاَّ أنَّ التاخير في أداء مايجب على كل شخص دينِيًّا وقَومِيًّا ووطَنِيًّا جريمة عظيمة. أنا لست رجلَ سياسة كما تشهد حياتي الطويلة، وإنما ظلَّ أكبر همِّي هوالدين، وهذا الهم هو الذي ذهب بي إلى سجون مالطة، ومنها عاد بي إلى الهند، فأنا لاأستطيع أن أطوي كشحي وأنأى بجانبي عن كل حركة تخدم مصالح المسلمين، أوترُدُّ مكائد أعدائهم.
لماعدت من مالطة علمت أنَّ أصحاب الحل والعقد في الهند يريدون أن يتخذوا لأداء واجباتهم والاحتفاظ بحقوقهم، خطة في ضوء الكتاب والسنة والسيرة النبوية، ويعضُّوا عليها بالنواجذ، وهي أن يتركوا موالاة أعداء الإسلام والتعاونَ معهم عقيدةً وعملاً، ولهذه المسألة أهمية لاتجحد في الشريعة الإسلامية، ومن غيرة المسلم الصادق في هذه الظروف:
1- أن يرد المناصب والألقاب الفخرية التي منحت الحكومة.
2- وأن لايقبل العضوية في المجالس الحكومية، ولايشارك فيها.
3- وأن لايستخدم إلا المنتجات الوطنية.
4- وأن لايُلْحِقَ أولاده بالمدارس والكليات الحكومية.
وأن يعمل بالقرارات التي تصدر بين حينٍ لآخر، متمسكاً بما يأمربه الشرعُ ، غيرَمقارف ما ينهى عنه، بعيدًا عما يهدر الأمن، ويدعو إلى الفساد والاضطراب، متحريًا الاقتصاد والاعتدال في جميع الأمور، عاملاً بما قال عثمان بن عفان – رضي الله عنه – : “إذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم” .
***
عقدت حركة الخلافة مؤتمرًا لعموم الهند بكراتشي في يوليوعام 1921م، تم فيه إعلان الفتوى كقرار، وقد أعلن عن هذا القرار العالمُ الجليلُ والمجاهدُ الباسلُ شيخ الإسلام حسين أحمد المدني – رحمه الله – أحد تلامذة شيخ الهند محمود حسن الديوبندي صاحب الفتوى – قائلا:
يقرر المؤتمر بأن موالاة الحكومة البريطانية ونصرتها والتعاون معها حرام، وذلك فيما يأتي:
1- أن يُرَدَّ الألقاب الفخرية والمناصب الرسمية.
2- وأن يُتْركَ عضوية المجالس الرسمية ولايصوت للمرشحين .
3- وأن لايُنْفَعَ الأعداءُ تجاريًّا.
4- وأن لا تُقْبَلَ المساعدة المالية من الحكومة للمدارس والجامعات، ويقطع الصلة مع الجامعات الحكومية.
5- وأن لايُتَجنَّد في القوات الإنجليزية، ويُحتَرَزَ عن كل نوع من الخدمة العسكرية.
6- وأن لاتُرْفَع القضايا إلى المحاكم الإنجليزية، ولايتولى المحامون الدفاع فيها.
وقد أيَّد هذا القرار كبار الزعماء السياسيين، على رأسهم الشيخ محمد علي جوهر، والدكتور سيف الدين كشلو، وبيرغلام مجدد السندي وغيرهم. وقدتم ذلك على مرأى من الناس ومسمع، وكان ذلك تحديًا سافرًا للحكومة الإنجليزية، وكان الحضور يخشون أنه ستلقي الحكومةُ القبضَ على من قدَّم القرار ومن أيَّدوه.
***
وقع ما كان الناس يخشون، فقد كان شيخ الإسلام حسين أحمد المدني في منزل شيخ الهند بديوبند، وتسامع الناس بنبأ القبض عليه في 18/ ديسمبر1919م، وكان كل منهم يقول: “لن ندع الشرطة يُلْقون القبضَ على الشيخ”. جاء ضابط إنجليزي ومعه كتيبة مسلحة،وضباط الشرطة إلى منزل شيخ الهند ظهرًا، وعرض أحدهم على الشيخ الأمر بالقبض قائلا: “هب أنك مقبــوض عليك” فما أن انتشر هذا النبأ في مدينة ديوبند حتى هرع الناس إلى منزله متدافعين، وكانوا غضاباً، وكادوا يقتلونهم، لولا الشيخ وزملاؤه حالوا دونهم ودون الضباط الإنجليز، فذهبوا بهم إلى غرفة وأغلقوها حفاظًا عليهم من الجماهير الغاضبة الهائجة المائجة. وكان الجماهير الحاشدة يطالبون بأن يُخلَّى بينهم وبين الضباط الإنجليز حتى يسوموهم سوء العذاب.
ألقى الشيخ خطبةً أمام الجماهير طالت من العصر إلى المغرب ومنه إلى العشاء، يوصيهم فيها بالصبر والتغلب على العوطف الجياشة وعدم استخدام الحماسة والجراءة في غير موضعها، وعدم التعرض للقانون. لكنهم – بالرغم من ذلك – كانوا كبنيان مرصوص لايرضون أن يُسلمو الشيخ إلى الحكومة، فوضع عمامته على الأرض ملتمساً منهم أن يدعوه حتى يقبض عليه الضباط.
هنالك لاذ الناس بالصمت وأخذوا يبكون. وانتهى الأمربأن استوثقوا من الضباط أنهم لايقبضون عليه ليلاً، إنما هم أنفسهم يذهبون بالشيخ في موكبهم إلى المحطة صباحًا، ويودِّعونه ويُركبونه القطار. وأما الضباط والشرطة فلايقربنَّ من الموكب. رضي الضباط والجماهيرالحاشدة بهذا الحكم، فانفضَّ عِقد الجماهير ورجعوا إلى منازلهم، وقدمضى هزيع من الليل.
رأى الضباط الإنجليز حرج الوضع وخطورة الموقف، فلما هدأت الحركة وخفت وطأة القدم جاؤوا مع كتايب مسلحة إلى منزل شيخ الهند في نحوالساعة الثالثة ليلاً، وحاصروا المنزل من كل جانب، وألقوا القبض على الشيخ، ولم يكن عنده ساعتئذ إلا خدم وأصدقاء، فساقوه إلى المحطة، وأركبوه قطارًا خاصًا واقفاً من ذي قبل، وذهبوا به.
فلما طلع الصباح انتشر نبأ القبض في المدينة انتشارَ النار في الهشيم، فقام أهالي المدينة بتظاهرات شديدة، كما قاموا بالإضراب طوال اليوم، وعقدوا اجتماعات احتجاج ضدالحكومة الإنجليزية.
***
كانت القضية غايةً في الخطورة، وكانت الحكومة الإنجليزية تريد أن تزرع الرعب والخوف في قلوب الشعب الهندي، فعنيت بترتيبات الشرطة والقوات أشدالعناية، واختارت لماجريات القضية قاعة “خالق دين” في كراتشي بدل مبنى المحكمة، ولم تسمح بدخولها إلا ببطاقة الدخول.
وفي صباح 26/ سبتمبردخل القاعة مئة وخمسون شرطيًا، وكانت محفوفةً بالأسلاك الشائكة، وكان الشارع المجاور للقاعة تحت رقابة شديدة من الشرطة، كما كان رجال الشرطة واقفين على جانبي الشارع حاملين الهراوات يمنعون المارِّين.
وفي نحو العاشرة جاءت كتيبات مسلحة مكوَّنة من مأتين وخمسين شرطيًّا، ووقفت خلف القاعة، وفي الحادية عشرة جاءت سيارة تُقِلُّ المتَّهَمين، وتتقدمُها سيارات للقوات المسلحة، وهكذا أوصلوا المتهمين إلى القاعة تحت رقابة شديدة.
لم يكن لهؤلاء المتهمين محام للدفاع عنهم، وكان للحكومة مدعيها العام “ماونت استورت الفنستون” (Mount Stuart Elphinstone) الذي استهلَّ إجراءات القضية قائلا: إن المتهمين شاركوا في إصدار قرار في مؤتمر الخلافة في كراتشي، يخشى منه الثورة في القوات، ومنهم من أيَّدوا هذا القرار. وواسطة العقد في هذا الشأن هو حسين أحمد الذي لايحتاج إلى تعريف، والذي ألقى القرارَ في جرأةٍ وحماسةٍ بالغتَينِ.
بادئ ذي بدء استنطق “الفنستون” الشيخ محمد علي، فألقى كلمةً ذات نفَس طويل، وتناول فيها القرار بالبحث والمناقشة قائلا:
“أعترف أني كنت رئيسًا في مؤتمر الخلافة الذي عُقِد في كراتشي، وتم فيه الموافقة على القرار الذي يُخشى منه الثورة ضد الحكومة الإنجليزية … أعترف أني ألقيت على الحضور هذا القرار الذي اقترحه شيخي وسيدي حسين أحمد المدني . وخلال إلقائي هذا القرار قلت للحضور بصوت جهوري: من يؤيد هذا القرار من الحفل فليقم ويعلن.
وأما الكتيِّبات عن تحريم التجند في القوات والشرطة الحكومية فلم يكن لي علم بها حتى الآن، فإن كان فئة من العلماء قاموا بتوزيع مثل هذه الكتيِّبات في القوات والضباط المسلمين فأنا فخور بأنهم أدُّوا – ولو بعد فترة من الغفلة – ما يجب عليهم من تبليغ أوامر الله القوات الهندية”.
***
ثم استنطق القاضي الشيخ حسين أحمد المدني، فألقى الشيخ كلمةً صعبةَ في اللغة الأردية، لم يفهمها القاضي ولا أمين سره، فقال القاضي للمتهمين: هل يستطيع أحد منكم أن يترجم كلمته إلى الإنجليزية، فقال الشيخ شوكت علي: أنا أستطيع أن أترجمها إلى اللغة الإنجليزية، ولكني لاأفعل عملاً بترك الموالاة وعدم التعاون. فقال القاضي: إنه يأتي بمترجم غدا، فأرجأ إجراءات القضية إلى الغد.
في اليوم التالي: 29/ سبتمبر ألقى الشيخ كلمته على رؤس الأشهاد في المحكمة، وكانت كلمته نموذجًا للحديث النبوي: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” ومثالاً للشجاعة الأدبية.
فقال الشيخ بعد ما أجاب عن الأسئلة التي وُجِّهت إليه:
“أنا رجل متديِّن، أؤمن بكتاب الله وأحاديث رسوله. ويجب على كل مسلم أن يؤدي الفرائض الدينية، ولايبالي بما يحول من العراقيل دون أدائها؛ فقد قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، مالم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلاسمع عليه ولاطاعة. وقال: لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أنا رجل عالم يجب عليَّ العملُ بأوامرالله أكثر مما يجب على غيري، كما يجب عليّ أن أبلّغ الناس دينَ الله وأوامرَه. فقد قال صلى الله عليه وسلم: من سُئِلَ علماً يُبتَغى به وجهُ الله فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار.
كذلك إذا قتل مسلم مسلمًا فله خمسة أنواع من العذاب: دخول جهنم، وخلوده فيها، وغضب الله عليه، ولعنته إياه، وأنواع أخرى من العذاب. فقد قال الله في القرآن: مَنْ يَقْتُلَ مُؤ مِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤه جَهَنَّم خَالِدًا فيهَا وغَضِبَ اللهُ عَلَيه وَلَعَنَه وأعَدَّ لَه عَذَابًا عَظِيمًا.(النساء/ 93)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع للصحابة: ألالاترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
وقال: لايحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، النفس بالنفس، التارك لدينه المفارق للجماعة.
وقال: لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم. وقال: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر.
وقد جاء في الكتب الدينية أنه إن أكره ملك مسلمًا على أن يأكل الربا أويشرب الخمر أويأكل الميتة وإلا قتله، فله أن يفعل ذلك، فإن لم يفعل، فقتل كان آثما. وإن أكرهه على أن ينطق بالكفر، فله أن لايفعل، فإن قتل لم يكن آثما. وإن أكرهه على أن يقتل مسلمًا وإلا فقتل، لايجوز له أن يقتل المسلم حفاظاً على نفسه.
وإني أعترف أنَّ العلماء أفتوا بأن التجند في قوات الحكومة الإنجليزية حرام.
واستطرد الشيخ قائلا:
أما الموافقة على هذا القرار في المؤتمر فليست أمرًا جديدًا، وإنما كان لازمًا أن نوافق عليه في الأوضاع الراهنة، كالطبيب يجب عليه أن يُشير على المريض بما يبدو عليه من الأعراض.
لقد صرح “لائد جورج” و”تشرتشل” بأنَّ هذه الحرب حرب بين الإسلام وبريطانيا. هنالك أصبح من أهم وآكد واجباتنا أن نعلن أنه يجب على المسلمين أن يخوضوا الحرب ضدَّ جميع القوى التي تُعارض الإسلام؛ فالمسلمون أوفياء مع الحكومة مادام يسمح لهم دينُهم.
فإن كانت الحكومة الإنجليزية لاتريد أن تعمل بالمرسوم الذي أصدرته ملكة “فكتوريا” بشأن الحرية الدينية، ولاترعى شعائر الدين وحدوده، فعلينا نحن المسلمين أن نقطع أمرا: أنريد أن نعيش مسلمين، أم شعبا للحكومة الإنجليزية، فإن كانت الحكومة تريد أن تسلب الحرية الدينية فالمسلمون يُضَحُّون بأنفسهم في سبيل الحرية الدينية، وأنا أول من يُضحِّي بنفسه في سبيلها.
هنالك تقدم محمد على وقَبَّلَ قدمي الشيخ.
***
ثم نُقِل الشيخ وزملاؤه إلى محكمة القضاء في 29/ سبتمبرعام 1921م.
وفي 24/ أكتوبر1921م نُقِلت قضيةُ الشيخ وزملائه إلى السيد “كنيدي” قاضي محكمة السند، وابتدأت إجراءاتها في قاعة “خالق دين”‘بكراتشي.
وفي الساعة الواحدة والخامسة والعشرين دقيقة من 24/ أكتوبر استنطق القاضي الشيخ، فألقي كلمته التي جاء فيها:
“لقد أصدرت الحكومة البريطانية مرسوماً ملكيًا يتضمن العهود والوعود عام 1857م تهدئةً لغضب المواطنين الهنود، وكان ذلك بمثابة دستور للحكم البريطاني في الهند. وقد كان في هذا المرسوم أنَّ الحكومة تسعى جاهدةً لرقيهم ومصالحهم، ولاتُوسِّع مستعمراتها، وتفي بما وعدت للحفاظ على حقوق الأقيال والإقطاعيين وجماهير الناس، وتعامل مع المواطنين الهنود معاملةَ مواطني المستعمرات، وتتفضل بالعفو عن الثُوَّار، وتمنح المواطنين الحرية الدينية.
لقد شهد التاريخ أن الثورة العارمة عام 1857م كان سببها إشعالَ العواطف الدينية لدى المواطنين الهنود، التي تعوز الأمم في بلاد العالم، كما شهد أنهم يُضحُّون بكل ما يملكونه في سبيل دينهم.
لم يكن ذلك المرسوم من الملكة فحسب، وإنما كان من مجلسي الأعيان والعموم في بريطانيا كذلك، وقد وقَّع عليه “إدوارد” السابع، والملك “جورج”. يقول المرسوم:
“لانريد أن نكره رعيتناعلى أن تتبع أوامر ديننا، ولانمنع أحدًا من العمل بشعائردينه، والقانون يضمن لهم المساواة، ونأمر وُلاتنا وضُباطنا أن لايحولوا دون الحرية الدينية لدى المواطنين، وإلا هم يبوؤون بغضب منا”
تنفس المواطنون الهنود الصعداء؛ لأنهم استيقنوا بأنه مرسوم ملكي يعمل به ألبتة.
وأما القرار الذي ألقيته أمام الحفل فليس قرارًا بمعناه الصحيح، وإنما أمر ديني قديم قِدَم الشريعة الإسلامية، وليس بجديد. إنما يُسَمَّى قرارًا لُجوءًا بالحيطة؛ لأنه قد ضُمَّت إليه فِقَرات أخرى، فهذه قضية دينية، الأمرفيها إلينا نحن العلماء ، لا إلى اللورد ريدنغ. والقرار بشكله ومضمونه عبارة عن مبادئ دينية لاغير.
ففي القرار: “التجند في الشرطة حرام” فالحرام مصطلح ديني من المصطلحات السبعة : المكروه تحريما، والمكروه تنزيها، والمباح، والمستحب/ المسنون، والواجب، والفرض. فالحرام فعل ينزل على مرتكبه غضبٌ من الله، فمثلاً: الزنا حرام في الدين، فمن ارتكب الزنا نال عقاب الله، ومن احترزعنه كان مثابا عنده. ولايكون إحد مسلما مالم يؤمن بكل ماجاء في القرآن، وعدم تصديق آية من القرآن أوتأويلها للمصالح الدنيوية حرام.
وقد أنشأت الحكومة إدارةً للشرطة للأغراض الاستعمارية، فمن وظيفة كل شرطي – إذا أصدرت الحكومة له الأمر – أن يطلق الرصاص على كل من المسلمين والهندوس ويهدم منازلهم ويدمر بلادهم. ولما كان قتل المسلم حرامًا كان التجند في الشرطة حرامًا. وقد نهى القرآن في سبعة مواضع منه عن قتل المسلمين، وذكرفي موضع عقاب قتله. [قرأ الشيخ عددا من الآيات وفسرها]
كما ورد النهي عن قتله في الأحاديث النبوية الصحيحة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا لاترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
جاء في الكتب الدينية أن قتل المسلم بغير الحق في المرتبة الثانية من الكفر.
وهناك أفعال محرمة، مثلا: شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فإن أكره ملك مسلمًا عليها بالقتل، فله أن يرتكبها، فإن أبى وقتله كان آثما.
وهناك أفعال مثلا: الصوم، فإن أكرهه الملك على إفطاره بالقتل، فله أن يُفطر، فإن أبى وقتله كان مثابا. فإن أكرهه على قتل مسلم، فعليه أن يُضَحِّي بنفسه، ولايجوز له أن يقتل أخاه المسلم تفادياً بنفسه.
إنَّ تبليغ أحكام القرآن الإخوةَ المسلمين واجب ديني، ويأمرنا القرآن أن نذهب إلى الشرطة والقوات، ونقول لهم: إن التجند في الشرطة وممارسة الوظيفة فيها حرام، ولكننا لم نفعل لضعفنا وتقصيرنا.
ولما كانت الملكة “فكتوريا” أصدرت مرسوماً يقضي بأنه لا يُتدخل في الشؤون الدينية لأي شخصٍ، فالذين أزعجونا بتدخُّلهم في شؤوننا الدينية، فهم المسؤولون عن تبعة معارضة المرسوم الملكي. فإن أمرنا عالم مسلم بعدم اتباع أحكام القرآن، فلن نطيعه؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقال “اللورد ريدنغ” عن دعوانا المرفوعة: إنه لم يتم التدخُل في الشؤون الدينية لدى المسلمين. ويسرنا ما قال قاضي الحكومة و محاميها: إنه لايراعى أحكام القرآن. ويزيدنا سرورًا إذا أعلن “اللورد ريدنغ” والسيد “مانتيغو” و”اللورد جورج” أنه لايسمح للمسلمين بالعمل بأحكام القرآن، ويكون ذلك خيرًا لنا؛ فتنال الهند الاستقلال – بدل أربعة أشهر– في غضون شهرين.
وإني أعلن على مرأى من الناس ومسمع أن التجند في الشرطة والقوات الإنجليزية حرام‘‘
***
صدرالحكم في هذه القضية التاريخية في 1/نوفمبر1921م، فقد برَّأ أعضاءُ مجلس شورى المحكمة والمستشارون المساعدون المتهمين من جريمة إشعال الثورة في الجنود أو إغراء جندي بترك وظيفته، ووافقهم القاضي في براء تهم، إلا أنَّه صدر الحكم عن شيخ الإسلام حسين أحمد المدني، والشيخ محمدعلي جوهر وزملائهما الآخرين بالحبس مع الأعمال الشاقة لسنتين وفقاً لقانون الجزاء الهندي، فحُبِس الشيخ في سجن “سابرمتي”‘وزملاؤه في السجنون الأخرى.
***
(*) أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم، ديوبند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الأول 1431 هـ = فبراير – مارس 2010م ، العدد : 3 ، السنة : 34