إلى رحمة الله
في فجر يوم الخميس 29/ جمادى الثانية 1429هـ الموافق 3/ يوليو 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى المفكر الباحث العربي الكبير الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري بعدما عانى مرض السرطان طويلاً. وذلك في 70 من عمره، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون . رحمه الله وأدخله فسيح جنّاته وجزاه عما قدّم لأمته .
كان الدكتور المسيري – رحمه الله – أكبر باحث مفكر مؤصل في العصر الحاضر بعد الدكتور حسن ظاظا رحمه الله المتوفى 1420هـ /1999م فيما يتعلق باليهود واليهودية والفكر اليهودي والثقافة اليهودية والأساطير اليهودية، والصهيونيّة ومكرها وأسلوبها في الخداع والأدلجة والاستغلال. كانت حياته مثالاً للجد والبحث والنشاط والدراسة والكتابة ، فقد كان يعمل 18 ساعة يوميًّا تقريبًا . ولقد أمضى ربع قرن من عمره في كتابة موسوعته الفريدة الشاملة “اليهود واليهودية والصهيونيّة” بمجلداته الثمانية الضخمة. وقد تضمنت كل شيء تريد أن تقرأه عن اليهود واليهودية والصهيونية . وهذه الموسوعة أبرزُ ما يميز الفقيد عن غيره من المفكرين الباحثين العرب، وتجعل قامته فارعة بين المفكرين والكتاب والمؤلفين .
صدرت الطبعة الأولى من هذه الموسوعة من دارالشروق بالقاهرة عام 1420هـ / 1999م ، والموسوعةُ تختلف عن الموساعات العاديّة التي تستخدم نظام الألف بائي؛ لأنّها مرتبة موضوعيًّا ومنطقيًّا ؛ ولكنه وضع لها فهرسًا ألف بائيًّا بعناوين الأبواب. ومن عادة المسيري كما يقول الدكتور حسن بن فهد الهويمل أنه حين يتناول مفردة مثيرة من المفردات السياسيّة أو الفكريّة يرجع بها إلى جذورها السياسيّة والفكريّة، ويحاول لَمْلَمَة الشتات حول المفاهيم والرؤى. المسيري الخبير بالحيل الصهيونيّة يربط كل رؤية بمرجعيتها . وإني لأزعم أنه مُغْرَمٌ بنحت المصطلحات التي تختصر المفاهيم وتجمل المعاني.
وإلى جانب هذه الموسوعة الضخمة القيمة بمعنى الكلمة للمرحوم المسيري من المؤلفات ما يربو على 50 مُؤَلَّفًا؛ فله كتاب “اللغة والمجاز” تناول فيه الخطاب السياسي الغربي بالدراسة والتعرية، وكيفية استخدامه للمصطلحات المجازيّة لتمرير أغراضه وأهدافه الاستعماريّة؛ وله كتاب “العلمانيَّة الجزئيَّة والعلمانيَّة الشاملة”؛ ومن مُؤَلَّفَاته “دفاعًا عن الإنسان” و”نهاية التاريخ” وهي مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني؛ و”الفردوس الأرضي” دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكيّة ؛ و”الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونيّة”.
ومن أعماله المنشورة باللغة الإنجليزية (1) A Lover from Palestine (2) Israel and South Africa (3) The land of promise (4) The Palestine Wedding .
والحقُّ أنه جال في شتى موضوعات الأدب والفكر، والتاريخ والسياسة، حتى تطرق لموضوع الأطفال؛ حيث قدّم لهم قصصًا وكتيبات توافق طبعهم . كما كتب كثيرًا من المقالات والأبحاث في عدد من المجلاّت والدوريَّات .
وسجّل عدد من الكتاب تميزّ هذا المفكر العربي الكبير بإيمانه بقضاء الله وقدره، وصبره على المرض الخطير: السرطان، وعلى مضاعفاته الكثيرة المتزايدة ، وعمله مستمرًا في هذه الحالة السيئة على تحقيق المشاريع العلميّة والأكاديمية، ليخلف بعده ما ينفع أمته ويكون له صدقة جارية. وظلّ في حالة مثل هذا المرض الذي يصاب المصابون به عادة باليأس والإحباط ولاتطاوعهم طبيعتهم للعمل والإنتاج والنشاط.. ظلّ يحضر المناسبات والندوات ، ولم يستسلم لتداعيات المرض؛ فلم ينزوِ ولم ينعزل عن الناس والمجتمع . واستمرّ يتعامل مع الحياة بشكل طبيعيّ؛ بل كثّف عمله الإنتاجي، ووظيفته الدراسيّة والبحثيّة . وذاك شيء مثير للعبر في حياة هذا المفكر العبقريّ الألمعيّ رحمه الله وأرضاه .
وُلِدَ المسيري في ميدنة “دمنهور” المصريّة عام 1358هـ/ 1938م وحاز شهادة الليسانس في الأدب الإنجليزي عام 1379هـ/ 1959م من جامعة الإسكندريّة ، وحصل على شهادة المساجستير في الأدب الإنجليزي والأدب المقارن من جامعة “كولومبيا” بالولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1384هـ / 1964م، وحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي الأمريكي من جامعة “رتجرز” بالولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1389هـ/ 1969م.
أمّا فيما يتعلق بمجال العمل فقد عمل خبيرًا فيما يتعلق بالصهيونية بمركز الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة بجريدة “الأهرام” بالقاهرة لحدّ عام 1395هـ /1975م ، وعمل عضوًا بالوفد الدائم لجامعة الدول العربيَّة لدى هيئة الأمم المتحدة لحدّ عام 1399هـ/ 1979م، وعمل أستاذًا بجامعة عين شمس بالقاهرة، وجامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة الكويت لحدّ عام 1409هـ/ 1989م . كما عمل أستاذًا غير متفرغ بجامعة عين شمس منذ عام 1410هـ/ 1989م حتى وفاته .
أمّا المناصب ، فقد عمل مستشارًا أكاديميًّا في المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن منذ 1413هـ / 1992م حتى وفاته، وعضوًا بمجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلاميّة والاجتماعيّة في ليسبرغ في “فرجينيا” بالولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1418هـ/ 1997م حتى وفاته، ومستشارًا في عدد من الحوليّات التي تصدر في مصر وماليزيا وأمريكا وإيران وإنجلترا وفرنسا .
ومن الجوائز التي نالها:
جائزة أحسن كتاب في مصر في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” ؛ جائزة كتاب “رحلتي الفكرية” ؛ جائزة العويس عن مجمل إنتاجه الفكريّ ؛ جائزة الدولة التقديريّة في الآداب ؛ عدة جوائز محليّة وعالميّة عن قصصه وديوان الشعر للأطفال .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32