إلى رحمة الله
توفي الشاعر الفلسطيني الشيوعي محمود درويش المعروف بشاعر المقاومة لدى محبيه يوم السبت : 7/ شعبان 1429هـ بالتقويم الهندي الموافق 9/ أغسطس 2008م بعد ما خضع لعمليّة جراحيّة في القلب يوم الأربعاء: 4/ شعبان = 6/ أغسطس في مدينة “هيوستن” بولاية “تكساس” الأمريكية . وذلك في 67 من عمره ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وبعد إجراء العمليّة كانت المصادر الفلسطينية أشارت إلى حدوث مضاعفات تثير قلقًا؛ ولكن المصادر المقربة من الشاعر قالت: إن الوضع الصحيّ للشاعر كان بعد العملية أكثر من مقلق. وكانت صحيفة “الأيّام” الفلسطينية الصادرة في مدينة “رام الله” ذكرت يوم السبت الذي مات فيه الشاعر: أن العملية تكلّلت بالنجاح التامّ ، وأجريت في مستشفى “ميموريال هيرمان” في “هيوستن” بولاية “تكساس” وقام بها الجرَّاح العراقي “حازم صافي” الذي يُعْتَبَر من أمهر الأخصّائيين في هذا المضمار. وأشارت أن العملية تضمنت إصلاح ما يقارب 26 سنتيمترًا من الشريان الأبهر الذي كان قد تعرّض لتوسّع شديد تجاوز درجة الأمان الطبيعيّة المقبولة طبيًّا. وقبل العملية خضع درويش لقسطرة في القلب وسلسلة فحوص دقيقة للتأكّد من وضعه الصحّي الإجماليّ واستعداد القلب والكلي خاصّة لمثل هذه العمليّة الأساسيّة والدقيقة . وقالت الصحيفة : إنّ الشاعر سبق له أن أجريت عمليتان في القلب عام 1984 و 1998م .
ذكرت وكالة أبناء “معا” الفلسطينيّة أنه برحيل الشاعر فقد الشعب الفلسطيني ومعه الأمتان العربية والإسلامية واحدًا من فحول الشعراء الذين أسهموا بما قدّموه من ثراء فكريّ ومعرفيّ وشعريّ في استنهاض الأمّة وبعث الحياة فيها بعد أن تكالبت عليها الأمم في لحظة صعبة مازالت ترزح تحت وطأتها .
يومَ الأربعاء 11/ شعبان 1429هـ = 12/ أغسطس 2008م عايش عشراتُ الآلاف من الفلسطينيين في “رام الله” في الضفة الغربية أثناء تشييع الشاعر محمود درويش إلى مثواه الأخير في جنازة وطنيّة كبيرة .
ورافق عشراتُ الآلاف موكبَ الجنازة سيرًا على الأقدام من مقر الرئاسة الفلسطينية؛ حيث هبطت الطائرة الأردنيّة التي أقلّت جثمان درويش إلى موقع الدفن الذي يبعد حوالي كيلو مترين. وعُلِّقَت المئات من صور الشاعر الراحل على جانبي الطريق كتب عليها “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة” .
وقد اختارت السلطة الفلسطينية أعلى تلة بجنوب “رام الله” تطلّ على ضواحي مدينة القدس – التي يتطلع الفلسطينيون إلى جعلها عاصمة لدولتهم المقبلة – فُورِّيَ جثمانه ظهر الأربعاء بأعلى تلة تطل على مدينة القدس المحتلّة وسط مشاركة عشرات الآلاف من المواطنين الذين اصطفّوا على جنبات الطريق أثناء مرور موكب التشييع من وسط المدينة. وقد نقل جثمانه بطائرة إمارتيّة خاصّة من أمريكا إلى مطار “ماركا” المدنيّ بالأردنّ ، ثم نقل عبر مروحيّة أردنية إلى مقر المقاطعة بمدينة رام الله المحتلة وسط الضفّة الغربية. وكان في استقبال جثمان الفقيد الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس ، ورئيس وزرائه سلام فياض ، وعدد كبير من الشخصيّات الوطنية والدينيّة وممثلى الدول الأجنبية والعربية لدى السلطة الفلسطينية، إلى جانب والدة الشاعر درويش وعائلته التي قدمت من “الجليل الأعلى” شماليّ فلسطين المحتلة عام 1948م للمشاركة في توديع درويش .
وبهذه المناسبة قال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في تأبين الشاعر محمود درويش في مقرّ المقاطعة : نودّع نجمًا أحببناه إلى درجة العشق، وإن الفارس العنيد ترجّل عن صهوة الشعر والأدب ليترك فينا شمسًا لاتغيب ونهرًا لاينضب .
كما ألقى الشاعر الفلسطيني سميح القاسم كلمة تأبين خاطب فيها رفيق صباه الراحل محمود درويش بـ (يا أخي الذي لم تلده أمّي) صَبّ فيها جامَ غضبه على إسرائيل التي وصفها بأنّها مجتمع استيطاني غاصب .
وقال ابن الشاعر الفقيد لشقيقه الأكبر أحمد درويش : “ها قد عاد إلى ثراكم، عاد أخوكم وصديقكم وزميلكم ورفيق دربكم إلى هذا المكان الرمز، عاد إليكم لغة وفكرًا ونهجاً وترابًا . ومن أحقُّ منك وفاءً لهذه الأمانة؟، ومن أحقُّ من هذا المكان القريب من القدس، وجار مثوى القائد الرمز المرحوم ياسر عرفات؟”.
وتوجّه موكب الجنازة نحو القبر الذي أعاد للشاعر قرب قصر الثقافة في “رام الله” على هضبة تطل على مدينة القدس. وشيعه عشرات الآلاف باعتباره الشاعر الكبير الذي تبنّى القضيةَ الفلسطينية في قصائده . وبدأت بلدية “رام الله” منذ يوم الاثنين: 9/ شعبان 1429هـ في إعداد الموقع وأقيمت للراحل جنازة شبيهة بالمراسم الرسميّة ، والتكريم الذين صاحبَ الزعيمَ الفلسطينيّ الراحل “ياسر عرفات” .
وعقب انتهاء مراسم استقبال الجثمان في “رام الله” نُقِل على ظهر مركبة عسكريّة يلفّه العلم الفلسطينيّ إلى شارع الإرسال مرورًا بدوّار المنارة وسط “رام الله” وصولاً إلى قصر رام الله الثقافي الذي يطلّ على مدينة القدس من الناحية الجنوبيّة . ووقف عشرات الآلاف من الفلسطينيين على جنبات الطريق لإلقاء نظرة الوداع الأخير على جثمانه قبل أن يُوَارَى الثرى .
* * *
وُلِدَ محمود درويش عام 1360هـ/ 1941م – وكان الابن الثاني لعائلته المكونة من 5 أبناء و 3 بنات – في قرية “البروة” شرق ساحل سهل “عكا” وفي عام 1367هـ / 1948م دمرت قريتُه والمنطقة فلجأ مع عائلته إلى لبنان وهو في السابعة من عمره. وبقي هناك عامًا واحدًا عاد بعد ذلك إلى قلسطين مُتَسَلِّلاً، وبقي في قرية “ديرالأسد” شمالي بلدة “مجد كروم” في “الجليل” لفترة قصيرة ، واستقر بعدها في قرية “الجديدة” شماليّ غرب قريته الأم “البروة” .
أجبر درويش على مغادرة البلاد بعد أن اعتُقِلَ عدة مرات ، ثم عاد بعد التوقيع على اتفاقيّات السلام الموقتة ، وفرضت عليه الإقامة الجبريّة عدة مرات .
كان محمود درويش لدى مادحيه – من الشيوعيين والعلمانيين – أبرز الشعراء والكتاب الفلسطينيين الذين ساهموا في تطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزيّة فيه. وهو أحد الشعراء الفلسطينيين الذين امتزج شعرهم بحبّ الوطن وتُرْجِمَتْ أعماله إلى 22 لغة من لغات العالم ، وحصل على العديد من الجوائز العالميّة . عاش معظم حياته في كتابة الشعر والمقالات ، واشترك في تحرير عدد من الصحف ، وعمل في مؤسسات لبنان وانتقل إلى مصر، وعمل في منظمة التحرير الفلسطينيية ، وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين ، وحَرَّرَ مجلة “الكارمال”. وقام بكتابة إعلان الاستقلال الفلسطينيّ الذي تَمَّ إعلانُه في الجزائر عام 1408هـ / 1988م وظل عضوًا في المجلس التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية .
الجدير بالذكر أن محمود درويش كان لدى المُعْجَبِين به من المتغنين بالحريّةِ والتحرير والاستقلال والنضال ؛ فأكثر من نفث الهموم في شعره الحماسيّ الذي يفيض ألمًا وتحرقًا وحرارةً . وله ما يزيد عن ثلاثين ديوانًا .
يقول في إحدى قصائده :
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.
وخذوا ما شئتم من صوركي تعرفوا أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
منكم السيف ومنّا دمُنا
منكم الفولاذ والنار ومنّا لحمنا
منكم دبّابة أخر ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز ومنّا المطر
* * *
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لاتقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتموا أينما شئتم ولكن لاتموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأوّل
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برّنا .. من بحرنا
من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا
من كل شيء ، واخرجوا من ذكريات الذاكرة
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
* * *
ولتسجيل الحقيقة والتأريخ ، أقول: كان محمود درويش عضوًا في حزب “راكاح” اليساريّ الإسرائيليّ، وكان شيوعيًّا متحمسًا وعلمانيًّا مُغَالِيًا كمُعْظَم إخوانه الفتحاويين و المنتمين إلى منظمة التحرير الفلسطينية . وقد دُفِنَ على غير الطريقة الإسلامية؛ فلا لحد وُضِعَ في قبره ، ولا كفن كُفِّن به، ولا تراب أهيل عليه؛ بل جثة كُسِيَتْ ببدلة فاخرة، ثم وُضِعَت في صندوق أنيق ودُفِنَت مباشرة تحت بلاط ثمين من الرخام اللمَّاع . وكان بين المُشَيِّعِين عدد كبير من الحسناوات من المُعْجَبَات الإسرائيليَّات وغير الإسرائيليَّات غير المُحْتَشِمَات الواقفات قبالةَ القبر تمامًا ، أذرعُهنّ حتى الأكتاف عارية، وصدورُهن إلى منتصفها ظاهرة، وسيقانُهن إلى ما فوق الركبة مكشوفة، وأقفيتهنّ رجراجةٌ من خلال بنطلونات الجينز المُحَزَّمَة، وكأنهن ذاهبات إلى عرس وليس إلى مأتم !. (إقرأ مقال أ. د. عبد الكريم محمد الأسعد: “بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة ، حان الوقتُ لتشريح محمود درويش وشعره” الجزيرة اليومية السبت 6/ رمضان 1429هـ = 6/ سبتمبر 2008م ، العدد 13127) .
وقد انتقد الأستاذ الدكتور عبد الكريم محمد الأسعد شعر درويش فوجده ما دون المستوى تمامًا، يقول:
“لايُعَدُّ شعر درويش – فيما أعتقد – من الشعر الجزل الذي عرفناه لكبار الشعراء القدامى والمحدثين ؛ بل هو أقرب مايكون “الخنثى المشكل” فلا هو ذكر ولا هو أنثى ، ولا يستطيع أديب أو متأدّب أن يستلطف مبانيه أو يهضم معانيه؛ فكل منهما سطحيّ أقرب عندي إلى العاميّة الضحلة ، وشعرُه في رأيي هو في أحسن الأحوال شبيه بالغثاء، وفي غيرها هو الغثاءُ نفسه؛ لأنه مصنوعٌ صناعةً رديئةً، جعلته لايمتّ إلى الشعر العاديّ بأيّة صلة، فضلاً عن الشعر الممتاز والمتميز؛ لأن الشعر إذا لم يُثِرْ حماسَك، أو يُعَمِّق حزنك، أو يلألئ فرحك، أو يثر خيالك، أو يجنح تأملاتك ، فليس بشعر، وصاحبُه ليس بشاعر” (المصدر نفسه).
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32