بقلم:  التحرير

         في يوم الخميس 23/ ذي القعدة عام 1443هـ = 24/ يونيو 2022م استأثرت رحمة الله تعالى بالداعية المخلص العلامة محمود أفندي، رحمه الله رحمةً واسعةً، وأسكنه فسيح جنانه مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وذلك عن عمر يناهز 93 عامًا بعد أن عاش حياةً حافلةً بالأعمال والجولات والرحلات الدعوية والتوجيهية في جميع أنحاء تركيا وخارجها. وجاءت وفاته صاعقة على الشعب التركي ومحبيه وأنصاره، فأبكى هولُ المصاب آلاف العيون، وأذرف الدموع، وأحزن القلوب، و فطَّر الأفئدة، وأطار الأنفس شعاعًا.

         وكأنه يقول بلسان حاله:

         إذا مات مثلي مات شيء

يموت بموته بشر كثير

         وحقًّا قيل:

         ماتوا بموتك غير أنّ شخوصهم

نصب الهموم مقيمة لم تقبر

         لقد بكى عليه القريب والبعيد والداني والقاصي في تركيا، وفي العالم العربي وفي شبه القارة الهندية الشاسعة الأطراف أيضًا، رجال لقيهم ولقوه، وجلسوا إليه، واستفادوا منه، واستفاد منهم:

         يبكيك ناءٍ بعيدُ الدَّارِ مغترب

يا لَلْكهولِ ولِلشُّبّانِ للْعَجَبِ

         وحقا، إن رحيله لرزء ليس مثله الأرزاء، التي يحسن فيها العزاء:

         دهى الجزيرة أمر لاعزاء له

هوى لها أحد وانهد ثهلان

         ولانقول في هذا المصاب الجلل إلا ما يرضي ربنا سبحانه عز وجل: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، ولكل شيء عنده أجل مسمى، وإن العين تدمع، والقلب يحزن، لولا أنه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك يا محمود أفضل مما وجدنا، وإنا على فراقك لمحزونون.

         أيّتها النفس أجملي جَزَعا

إنّ الذي تحذرين قد وقعا

         ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبكيتهُ

عليهِ؛ ولكن ساحةُ الصبرِ أوسع

         و

         سأبكيك حتى تنفد العين ماءها

ويشفى مني الدمع ما أتوجع

         والمتابع لمراسم جنازة العلامة محمود يكاد يجزم أن العالم التركي؛ بل العالم الإسلامي لم يشهد في تاريخه الحديث جنازة مثل جنازته، فقد استعدّ مسجد الفاتح منذ صلاة العشاء في يوم الخميس لجنازته، التي أقيمت في اليوم التالي، وقضى الأغلبية الساحقة من المصلين يومهم وباتوا في الجامع، وهم ينتظرون وقت الصلاة عليه، في حين بقي من صلى الفجر في باحات الجامع في انتظار صلاة الجنازة التي أقيمت بعد صلاة الجمعة. وكان ذلك يومًا مشهودًا، فقد غصت ساحات الجامع والطرقات والشوارع الرئيسية والفرعية حول الجامع بالمصلين، وامتدت صفوفهم إلى قرابة كليومترين، ويقدر عدد المصلين عليه بـ(3) ملايين شخص، وهو ما لم يحدث في تاريخ الدولة التركية.

         وفي الوقت الموعود نقلت جنازته إلى جامع الفاتح في قافلة عظيمة انضم الآلاف لها لمراسم التشييع، التي شارك فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، و وزير الداخلية، و وزير الشؤون الدينية، بالإضافة إلى وزراء آخرين، و زعماء الأحزاب المختلفة والشخصيات السياسية والدينية البارزة و عشرات الآلاف من الأتراك الوافدين من القرى والبلدات والولايات البعيدة لشهود جنازته مما ينم عن شعبية الفقيد الغالي، ومكانته المرموقة في سويداء قلوب الشعب التركي. وحمل جنازته الرئيس التركي بجانب عدد من الوزراء، ثم نقل جثمانه إلى مقبرة «ساكز أغاجي» في منطقة «إدرنة كابي»، حيث وُرِّي جثمانه.

         كان رحمه الله تعرض في آخر فترة من حياته لحالة مرضية عملت على تدهور وضعه الصحي وإنهاك قواه، وتم نقله إلى المستشفى ليتلقى العلاج، وجاءه الأجل المحتوم- الذي إذا جاء لايتأخر-  بعد دخوله المستشفى بأيام معدودات، وكانت القنوات التركية بثت له من قبلُ صورته وهو على كرسي متحرك، ولايقدر على المشي على قدميه.

         محمود أفتدي قامة شاهقة بين الرجال، وقمة شامخة سامقة من قمم العلم والفضل في تركيا والعالم الإسلامي، عاش حياة كريمة معلمًا مرشدًا ومصلحًا دينيًّا اجتماعيًّا. وترددتُ كثيرًا حين تأكد عزمي- وأنا بعيد الدار عنه، ولم أقرأه إلا قليلا، ولم أجلس إليه من قبلُ، ولكن سمعت عنه الشيء الكثير على لسان بعض مشايخي في جامعة دارالعلوم /ديوبند، حين زار العلامة محمود أفندي هذه الدار في طريقه إلى «سرهند» و قفوله منها- على الكتابة حول هذا العلَم: سيرته ومسيرته، خشيةَ أن أسجل عنه مالايرتقي إلى مكانته السامية، ومنزلته العالية في عيون الناس، وعيون الشعب التركي، فلا أوفي هذا العلم العبقري الفذ، وأعماله وجهوده ومساعيه الجبارة في خدمة العباد والبلاد حقه.

         محمود أفندي اسم بارز لامع ساطع في تاريخ تركيا عامةً، وتاريخ الحقبة المليئة بالأحداث الأليمة والمضايقات للدعاة المسلمين، وبالاغتيالات والأشواك والعقبات في طريق كل من كان يتمسك بدينه، ويعتز بشريعة الإسلام، ويعض عليها بالنواجذ، وهو كالقابض على خبط الشوك أو جمرالغضى، وبين السندان والمطرقة.

مولده:

         ولد العلامة محمود أوسطي عثمان أوغلو المعروف بـ«محمود أفندي»، في قرية «طوشان لي» ببلدة «أوف» التابعة لولاية «طرابزون» شمال شرقي تركيا عام 1929م، في أسرة كثيرة العناية بالتعليم الديني؛ فقد كان أبوه علي أفندي إمام المسجد في قريته، وكثيرًا ما كان يدعو رافعًا يديه إلى السماء أن يهب الله تعالى له ولدًا صالحًا بارًا. فكان محمود دعوة أبيه ليل نهار. فسر بمولده سرورًا عظيمًا إذ حقق الله تعالى أمنيته. وحفظ محمود القرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات، وتلقى مبادئ العلم على والده «علي أفندي»، وعلى والدته «فاطمة خانم» التي كانت من فضليات النساء، المعنيات بالعلوم الدينية، والمشهود لهن بالورع والتقوى، وكانت تُعِدُّ لجنينها الذي حملته في بطنها لباسًا من التقوى، نسجته بخيوط من الذكر وتلاوة القرآن الكريم.

         ثم أرسلوه إلى منطقة (قيصري) لدراسة علم النحو والصرف واللغة الفارسية، على يد الشيخ تسبيحي زاده،- أحد كبار علماء المنطقة-، ثم أخذ عن علماء آخرين علوم اللغة العربية والبلاغة و الكلام والحديث والفقه والتفسير. و توجه والده إلى مكة المكرمة لأداء الحج فمرض وتوفي فيها، ودفن بمقبرة المعلى عند قبر السيدة خديجة رضي الله عنها. فكانت وفاته كارثة كبرى لهذا الشاب اليافع الذي فقد ساعده ومعينه.

         و واصل الشاب دراسة العلوم الشرعية، حتى حصل على الإجازة في العلوم الدينية، ومن أبرز من تلقى العلم الديني عليه هو شيخه علي حيدر الذي كان  أعاد العمل بطريقة إسماعيل أفندي النقشبندية، وكان صاحب مسجد إسماعيل آغا أفندي في الفاتح.

         وكان إسماعيل أوغلو من أهل الفتيا المشهورين في الدولة العثمانية، وكان يفتي على المذاهب الأربعة، ولما نجح مصطفى كمال أتاترك في تسلم السلطة في تركيا وقيادتها، أغلق المسجد المذكور أعلاه، وأمر بتحويله إلى إسطبل. فجاء الشيخ علي حيدر وفتح المسجد، وبدأ ينشر العلم، فكان له أتباع وأصحاب وأنصار من الشباب والشابات.

         وبعد انقلاب الاتحاد والترقي ترددت الأنباء بتحويل منطقة «تشارشمبا» حيث مسجد السلطان سليم ياووز في الفاتح- التي كانت تحتل موقعًا حيويًّا على البوسفور، ويوجد بها كاتدارئية فنار المهمة تاريخيًّا، كما أن إسطنبول تحتل مكانةً خاصةً لدى الكنيسة بشكل عام- بتحويل هذه المنطقة إلى الفاتيكان، فعارضت جماعة إسماعيل آغا، ومعهم الشيخ علي حيدر، والشيخ محمود أفندي ، لهذا المشروع الأليم الممض، وحرضوا أتباعهم على شراء المنطقة بمالهم الشخصي، فقام الميسورون منهم بشراء البيوت، و وقفوها لصالح الجماعة امتثالا لأوامر الشيخين علي ومحمود. ولما تقاعد الشيخ علي حيدر من إمامة جامع إسماعيل آغا خَلَفَه الشاب محمود أفندي في الإمامة عام 1996م، مما هيأ له فرصة أكبر لخدمة العباد والبلاد، وخدمة الشعب التركي وتقريبه إلى الدين، وبث الوعي الديني بينهم.

         وبدأ محمود أفندي سلوكه في الطريقة على شيخ الطريقة النقشبندية الكمشنماونية الشيخ أحمد أفندي مابسينوي؛ ولكن تبين له من خلال الرؤيا الصادقة أن مرشده في قطع طرق السلوك هو الشيخ علي حيدر الأخسخوي، فكانت نفسه ترنو إلى السلوك على يديه حتى تهيأت له فرصة ذلك حين لقي عام 1952م إبان التحاقه بالجندية.

خدماته وأعماله:

         قام العلامة محمود بخدمات جليلة مشكورة عند الله وتعالى وعند عباده، وتعتبر جماعته- جماعة محمود أفندي- أكبر الجماعات الدينية التركية عددًا، وأقواها تأثيرًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. واتسع نطاق تأثير هذه الجماعة ليشمل كافة أرجاء المحافظات التركية، بعد أن خصص العلامة محمود ثلاثة أسابيع سنويًّا للقيام بالجولات في المدن التركية لتعليم الناس ودعوتهم للعودة إلى هويتهم الإسلامية، كما استمع خلالها لمشاكلهم ومعاناتهم، وسعى سعيه لإيجاد حلول مناسبة لها، فاكتسبت جماعته طابع العالمية بدلا من أن تبقى حبيسة في منطقة من مناطق تركيا، وخاصة بعد أن تجول في عدد لا بأس به من دول العالم أمثال الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وآسيا الوسطى حيث أصبح له آلاف من الأصحاب والمعجبين به.

         وكان للعلامة محمود وجماعته أثر واضح المعالم وضوح الشمس في رائعة النهار في تضييف شيوخ سوريا الذين لجؤوا إلى تركيا منذ الأوضاع المتدهورة في سوريا، وصار لهؤلاء الشيوخ دروس رسمية في مقارّ الجماعة والمساجد التي توجد بها كمسجدي إسماعيل آغا ويافوز سليم، وكان المجلس الإسلامي السوري يعقد اجتماعاته الرسمية في إحدى صالات وقف إسماعيل آغا مدة طويلة، وكانت هذه الجماعة تقدم الخدمة الفندقية لأعضاء المجلس القادمين من خارج إسطنبول لحضور الاجتماع.

ميزة هذه الجماعة وسمتها البارزة:

         تمتاز جماعة الشيخ محمود أفندي عن غيرها بالاجتناب التام عن العنف، فرغم كثرة المريدين وكثرة المضايقات التي واجهتها هذه الجماعة، لم تنزلق في عمل من أعمال العنف، أو تشكيل منظمة مسلحة طوال فترة مواجهتها العلنية مع الدولة منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وإلى يومنا هذا.

         ومما يميز هذه الجماعة  زيّها الخاص الذي يرتديه الجميع- رجالًا ونساءً وأطفالًا صغارًا و شيوخًا كبارًا- فالملابس النسائية السوداء -ويسمونها «شرشف» – علامة مسجلة لهم، تُلبس بطريقة خاصة فلا تبدو إلا العيون والأنوف من الملابس السوداء الواسعة، أما الرجال فإنهم يعرفون بلباس إسلامي بطراز عثماني؛ حيث يرتدون القميص الطويل والسروال العريض وفوقهما جبة تضفي الكثير من الوقار، ويتميزون أيضا بتغطية الرؤوس وارتداء العمائم بأشكال مختلفة.

         وتعرف هذه الجماعة بحرصها الكافي على اتباع المذهب الحنفي، وتطبيق كل ما دق وجل فيه، ويتكلمون العربية الفصحى؛ لأنهم يدرسونها في مناهجهم، ويتعلمون علومها من صرف ونحو وبلاغة. وكل ذلك مما يورثهم قدرة أكبر على التأثر والتأثير بالعرب المسلمين، ويجعلهم أكثر فهمًا للدين من الجماعات الأخرى.

ثقلها السياسي وقدرتها على التأثير:

         ومما يكشف عن مدى تأثير هذه الجماعة في الملايين من الأتراك والمسلمين، وثقلها السياسي مقتلُ أبرز قيادات وشيوخ هذه الجماعة ومحاولة اغتيال الشيخ المؤسس لها. ويتمثل هذا الثقل السياسي  أيضًا في الزيارات المتكررة لقيادة الصف الأول في الدولة التركية، وخاصة رئيسها  الحالي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو لطلب مساعدة الشيخ في عدد من الانتخابات التركية.كما ينم ذلك عن مدى نجاح الشيخ محمود أفندي في إحداث التأثير الإيجابي في ظل الدولة التركية الضاربة الجذور في العلمانية عبر عصور مختلفة بحكم استيلاء الجيش وحمايته لمبادئ العلمانية التي كانت عنيفة شديدة في حق الإسلاميين.

         كما لاينسى دور هذه الجماعة وتلاحمها مع أطياف الشعب التركي الأخرى في إفشال الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا عام 2016م، فقد خرج أعضاء هذه الجماعة جنبًا إلى جنبٍ مع الشعب التركي للحفاظ على مكتسبات الوطن، وعلى الحكومة الشرعية، خرجوا إلى الشوارع و الميادين بدعوة من الرئيس التركي، وصمدوا أمام القوات الثورية. وتقدر النسبة المئوية للوزن الانتخابي لهذه الجماعة بما يفوق 2 أو 3%، وهي نسبة ليست بالهينة،ولاينكر ما لها من تأثير.

تأسيس جمعية «إدف»:

         و «إدّف» اختصار لكلمة «اتحاد الجمعيات التي تقدر البشرية»، ويقصدون البشرية جميعًا ليس فقط المسلمين؛ ولذلك فخدماتها قد تمتد لغير المسلمين. وانبثقت هذه المؤسسة تحت جناح مسجد إسماعيل آغا. ومؤسس هذه الجمعية هو الشيخ محمود أفندي. ولهذه الجمعية نشاطات واسعة في الدول الإفريقية وغيرها.

مؤلفاته:

         علاوة على قيادته الروحية كإمام وزعيم لـ«جماعة إسماعيل آغا» النقشبندية، عُرف الشيخ «محمود أفندي» بتصنيف عدد كبير من الكتب الدينية في حياته، ومن أهمها كتاب التفسير «روح الفرقان» الذي نشر في 19 مجلدًا، وكتاب «المحادثات» الذي يشمل أحاديثه الشخصية في تسعة مجلدات، و«رسالة قــــدسية» في مجلدين، وكتاب «صحبة عمر»، و«تفسير سورة الفاتحة» وغيرها.

من أقواله المأثورة:

         ومن أقواله المأثورة في تركيا: «إذا رأيتموني أدَعُ ثلاث سنن للنبي عليه السلام، فلا تصلّوا خلفي».

         وكان يقول لأتباعه ومحبيه: «أبو جهل أخرج النبي عليه السلام من مكة، وأنتم لاتخرجوه من قلوبكم».

         وكان إذا سأله أصحابه عن الكرامة ردد قول الشاه نقشبند البخاري: «الاستقامة عين الكرامة».

         وكان قبل وقوع الانقلاب الثاني في الثاني عشر من شهر أيلول– سبتمبر- 1980م وفي أثناء الصراع الواقع بين أحزاب اليمين واليسار ينادي قائلا: إن واجبنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجبنا هو إحياء الناس وليس قتلهم.

مكانته في تركيا:

         يعتبر «العلامة محمود أفندي» الأب الروحي لـ«جماعة إسماعيل آغا» في تركيا، ويبلغ عدد أعضاء جماعته الملايين، ينتشرون بصورة لافتة للعيان في منطقة الفاتح بإسطنبول، وخاصة في حي يافوز سليم، كما أن لهم انتشارًا واضحًا في ولاية قونيا المعروفة بكونها معقلًا لأهل التصوف، وفي طرابزون مسقط رأسه. وفي عام 2005م حدثت قصة عجيبة ومثيرة للغاية لم يشهد مثلها المسجد الحرام في مكة المكرمة منذ عدة قرون، وتحدثت عنها الصحافة التركية والعالمية، حيث دخل الشيخ محمود أفندي إلى ساحة الطواف لأداء العمرة، ومعه 30 ألف مريد يملؤون ساحة الطواف وكلهم يلبي ويدعو الله تعالى بصوت واحد.

صراعه مع العسكر والعلمانية:

         و زيادة شعبيته وقبوله وارتفاع أسهمه في الشعب التركي مما تسبب في تعرضه لعدد من الافتراءات والمضايقات؛ فقد واجه كثيرًا من المشكلات والمتاعب في مشواره الدعوي، وظل في صراع مستمر مع العسكر، ومع العلمانية في البلاد، التي كانت ترى جهوده ومساعيه حربًا ضروسًا على نفسها. فاتهمت العلامة محمود بإصدار فتوى بقتل مفتي منطقة أوسكودار حسن علي أونال عام 1985م، وبالضلوع في مقتله، وفتحت السلطات التركية في حينها تحقيقًا ضد جماعة إسماعيل آغا. وكان «أونال» يتوجس خيفة من تغلغل جماعة محمود أفندي أكثر فأكثر في البلاد، ويحاول إيقاف نشاطاتها وجهودها؛ ولكن المحكمة برأت ساحة العلامة محمود أفندي.

          كما تعرض لعدة محاولات لاغتياله وقتله، ولكن الله تعالى سلمه، وباءت هذه المحاولات كلها بالفشل، وتم اغتيال صهره خضر علي مراد في المسجد عام 1998م، وفي عام 2006م تعرض بايرم علي أوزتورك- أحد شيوخ الجماعة- للطعن حتى الموت داخل مسجد إسماعيل آغا. وشكل كل ذلك هزات شديدة على الجماعة، وعلى العلامة محمود، وأصحابه ومريديه. وتعرض الشيخ أفندي لمحاولة الاغتيال عام 2007م، حيث أطلق على سيارته الرصاص؛ ولكنه نجا، وتم نقله إلى المستشفى، وكان المهاجمون من ورائه بالمرصاد إلى المستشفى، وهجموا عليه داخله، ولكن الله تعالى أنقذه من براثن أعدائه سالما معافىً.      

رحلاته:

         قام العلامة محمود أفندي برحلات دعوية داخل تركيا وخارجها، وكان أول زيارة خارجية له إلى دمشق عام 1988م، ثم واصل إرسال أتباعه وتلامذته للاستفادة من علماء الشام وتلقي العلم منهم، كما زار ألمانيا و بريطانيا في رحلات دعوية، وفتح له مكاتب فيها ونشر أتباعه، كما زار بخارى و الهند وغيرها من دول العالم.

زيارته للهند:

         في شهر فبراير من عام 2005م قام الشيخ محمود أفندي برحلته إلى الهند لزيارة علمائها و صالحيها وخصوصًا شيوخ ومصابيح سلسلة الطريقة النقشبندية. وكانت إحدى محطات هذه الزيارة – كما أخبرني به بعض مشايخ الدار- الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند، واجتمع خلالها بمشايخها و مسؤوليها في لقاءات ودية ومدارسات علمية، وتبادل خبرات وعلوم دينية شرعية.

جائزة تكريم له:

         وشهدت مدينة إسطنبول في24 تشرين الأول/ أكتوبر2010م، حفلَ تكريم وتقديم جائزة الندوة الدولية من أجل خدمة الإنسانية حضره 350 عالمًا من 42 دولة، وقدمت لفضيلة الشيخ محمود أفندي النقشبندي جائزة الإمام محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ/1833-1880م) على يد حفيده- الإمام محمد قاسم- الشيخ محمد سالم رحمه الله. ويعدُّ الإمام النانوتوي من أبرز الشخصيات الرائدة في مجال التعليم والدعوة الإسلامية، قام – مع ثلة من رفاقه وإخوانه من أصحاب العلم الغيارى- بتأسيس أعرق وأكبر جامعةٍ إسلامية أهليةٍ في شبه القارة الهندية قائمة على تبرعات المسلمين بعد إخفاق ثورة عام1857م ضد الاستعمار البريطاني الغاشم على صدر هذه البلاد، و الناهب لثرواتها حقبة غير قصيرة.

         وكانت وُجِّهَت دعوة الحضور في هذا الحفل إلى مشايخ هذه الدار، فشارك فيه عدد منهم. وألقى فضيلة شيخنا الشيخ أرشد المدني حفظه الله- أستاذ الحديث ورئيس هيئة التدريس بها- كلمة هنأ فيها الشيخ الأخ في الله/ محي الدين محمد عوامة على عقد هذه الحفلة: حفلة تقديم وسام الشيخ محمد قاسم الناتوتوي رحمه الله إلى فضيلة الشيخ محمود أفندي النقشبندي. وأشار فضيلته إلى أنه يستحق أن يقدم إليه هذا الوسام للمماثلة بين شخصيتيهما؛ فإن الشيخ النانوتوي هو مؤسس المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية في بداية الأمر، وإن الشيخ محمود أفندي هو مؤسس المدارس الإسلامية في هذا الزمان. كما نوَّه الشيخ المدني في كلمته بالجهود التي بذلها الإمام النانوتوي في إنشاء المدارس الدينية، والحفاظ على الأمة الإسلامية عقيدتها وأعمالها، وبأن هذه الجهود أثمرت المدارس الدينية في شبه القارة الهندية؛ بل في أدغال إفريقية، وأمريكا، وأوربا وغيرها.

ثناء العلماء وعزاؤهم عليه:

         قال العلامة الشهير محمد علي الصابوني- الذي غرف من هذا البحر العظيم، ونهل منه الخير الكثير، وسلك الطريقة على يده، وأخذ عنه الحقيقة-: «إن الشيخ محمود أفندي ليس شيخ تركيا فحسب؛ بل شيخ العالم كله».

         وقال الدكتور/ محمد الأسواني: «إن الداعية الرباني فضيلة الشيخ محمود أفندي النقشبندي مؤسس جماعة محمود أفندي، الجماعة الصوفية الأكبر في تركيا، ورئيس وقف إسماعيل آغا، ترك أثرًا في الناس لاينقطع، من علم نافع، وهُدى دعا إليه، وأعمال طيبة يحصيها له شهود الحق…. في أنحاء تركيا ترى مظاهر التدين فتسأل من هؤلاء؟ فيُقال لك: أتباع «محمود أفندي» … وأثر جهده ودعوته في بلاد كانت مبالغة في العلمانية «…. وأتباعه والذين يُقدرون بمئات الآلاف يتقدمون الصفوف، ويفترشون الأرض أيام انقلاب 2016م، ليخرج الصوفية من الأماكن المغلقة إلى الميادين والشوارع والعمل مع الناس في الدعوة».

         وقال: الأكاديمي رضوان جاب الله: «إن الشيخ الراحل هو أحد أكبر علماء تركيا في الدعوة و التبليغ، وإنه تلقى العلوم العربية- اللغة العربية والبلاغة- والعلوم الإسلامية- القراءات وعلوم التفسير و الحديث -…. وتولى إمامة مسجد إسماعيل آغا، وكان له جولة أسبوعية ليوم واحد، وفي كل شهر ثلاثة أيام، و في كل سنة شهر، يدعو، ويبلغ رسالة الإسلام في كل أنحاء تركيا بطريقة بسيطة ولطيفة على منهج علماء السنة من أهل الشام … وتعرض الإمام محمود أفندي للإقامة الجبرية بعد انقلاب الستينيات في تركيا، ثم تعرض للنفي بعيدًا عن إسطنبول بقرار الحاكم العسكري، ولكن الحكم لم ينفذ بعد أن رفض المفتي … وبعد انقلاب عسكري آخر على الانقلاب لفقوا له تهمة الضلوع في قتل مفتي المحافظة، ولكن المحكمة برأته، واتهمت الذي لفق المحضر … وفي انقلاب ثالث تم نفيه خارج تركيا، وظل ثماني سنوات فتجول في كافة دول العالم، وصار أشهر دعاة تركيا في الخارج حتى عاد مع حكم حزب العدالة والتنمية، وزار دمشق في ١٩٨٩م، واستقبله كبار علماء الشام في مشهد مهيب، ومن يوم هذا الاستقبال تعرف عليه العرب والعجم وحتى الجاليات التركية في الخارج».

         وقال الداعية المصري الدكتور/محمد هشام راغب: إنه التقى النقشبندي مرة عام ١٩٩٥م في مسجده -إسماعيل آغا- بعد درس له في التفسير، كانت تركيا وقتها تعيش علمانية تسعى لإقصاء الدين عن الحياة، وتستخدم لهذا أدوات في غاية القسوة، كان مشهد درسه ومسجده خارج السياق تمامًا، فقد افترشت أعداد كبيرة الطرقات حول المسجد، وبإصغاء شديد لدرس الشيخ، وبعد الدرس ذهبت للسلام عليه، وقدمني له أخ مترجم، وكنت وقتها في عمر أصغر تلامذته، فبادرني بقوله: «مرحبًا مرحبًا بأساتذتنا المصريين أحفاد الصحابة الكرام، كان حريا بك أن تبقى في محل إقامتك، ونحن نسعى لزيارتكم والاستفادة منكم»…. وتجربة الشيخ محمود أفندي رحمه الله جديرة بالتأمل، لمعرفة كيف شق طريقه إلى قلوب الناس في ظروف وبيئة غير مواتية؛ بل معادية، وكيف استقام على دعوته ببصيرة و عزيمة لاتكل، وللشيخ الآن تلامذة وتلامذة لهؤلاء التلامذة في كل ربوع تركيا، في المدن والقرى وحتى في المناطق الجبلية النائية… وقضى أكثر حياته في الدعوة والتعليم، وهدى الله تعالى على يديه أعدادًا غفيرة لايعلمها إلا هو سبحانه».

         ووصفه الدكتور/محمد بشيرحداد نعيًا له بـ«المربي الكبير والعالم الجليل»، وقال: نلمس آثاره الدعوية في كل تركيا، وخارج تركيا في دول كثيرة، وقد صحبته وشهدتُ بعض مجالسه، بصحبة أخيه الروحي الأستاذ الشيخ محمد علي الصابوني رحمهما الله، فكانت مجالسه مجالس سكينة ونور وأدب ودعوة وخشية وفضل وذكر وبهاء وجمال وكمال، وكان لي منه شرف الرعاية، والحفاوة حتى وهو على فراش المرض في سنوات حياته الأخيرة، رحمات ربي عليه إلى يوم الدين».

         ونعاه الصحفي السوري، أحمد موفق زيدان، عبر حسابه في تويتر، وهو يتحدث عن أثره على صعيد العالم الإسلامي: «رحل عن دنيانا الفانية إلى دار البقاء فضيلة الشيخ الداعية التركي محمود أفندي. لقد ترك بصماته على مستوى العالم الإسلامي، لن ننساه في سوريا بدعم المشردين و الأيتام، وستذكره ‎أفغانستان وإفريقيا، عظم الله أجر أهله وأحبابه، والملتقى بإذن الله على حوض المصطفى عليه السلام».

         ووصفه المحلل السياسي التركي/ حمزة تكين، في تغريدة له بـ«صاحب الأيادي البيضاء». و قال: «وفاة العالم التركي الشيخ محمود أفندي صاحب الأيادي البيضاء بخدمة الإسلام والمسلمين لعقود طويلة من الزمن، وفي أصعب الظروف.. هو أحد أبطال ملحمة 15 تموز/يوليو 2016 ضد الانقلابيين.. أحد العلماء العاملين المعتدلين الوسطيين غير المغالين. إنا لله وإنا إليه راجعون».

         وغرَّد الصحفي السوري تمام أبو الخير عبر حسابه مشيرًا إلى الصراعات التي خاضها الشيخ  أفندي لنشر دعوته في تركيا: «‏توفي اليوم الشيخ محمود أفندي عن عمر 93 عامًا، صاحب أكبر الجماعات الإسلامية في تركيا، الصـــــــوفي النقشبنـــــــدي، تخلل حياته الدعوية الكثير من الصدامات مع الحكومات، والمحاكم فيما مضى، وتعرض لمحاولة اغتيال في2007م. رحمه الله وغفر له».

         ونعاه الدكتور/علي القره داغي- الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين- في تغريدة له واصفًا إياه بأنه «مثّل أعلى قمة في الإسلام وهي الإحسان»: ‏بقلوب تسلم بقضاء الله وقدره نعزي أنفسنا وتركيا والعالم الإسلامي بوفاة الشيخ محمود أفندي رحمه الله، الذي كان المثال بعلمه وحاله للتربية و التزكية، وقدّم من جوهر صوفيته وتحقُقه أنصع البراهين، وأقوى الحجج على أن التصوف الملتزم بإمارة الفقه يُمثِّل أعلى قِمّة في الإسلام وهو الإحسان».

         هذه نبذة من سيرة العلامة محمود أفندي ومسيرته، وحياته الحافلة بالمآثر والمناقب والأعمال المجيدة في صالح البلاد والعباد، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منه، ويجعلها في ميزان حسناته يوم لاينفع مال ولا بنون.

         وفي الختام نسرد رسالة عزاء أرسلتها الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند على وفاة الشيخ محمود أفندي إلى أصحابه ومحبيه وأعضاء جماعته وذويه:

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرات السادة من عائلة المرحوم وذويه ومحبيه   المحترمين

         السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

         فقد تلقينا، بكل أسى وبقلوب مؤمنة بقضاء الله تعالى وقدره نبأَ وفاة المغفور له بإذن الله تعالى العلامة الداعية محمود أفندي طيب الله ثراه، وبرَّد عليه مضجعه.

         لقد ترك العلامة آفندي بصمةً واضحةَ المعالم في خدمة الشعب والدولة، وتوعية ونشر الوعي الديني لدى الملايين في جميع ربوع تركيا، مما يخلد ذكره، ولاينسى التاريخ ما بقي الليل والنهار بلاءه و جهوده في سبيل إعلاء كلمة الله ومساعيه في تنفيذ الشريعة الإسلامية في تركيا، وفي العالم؛ ثم ما تعرض له الشيخ من مضايقات وعلى يد العسكر والجمهوريين، وخاصة بعد ثورة عام 1960م، وشهود البلاد حالة الطوارئ، وحكمت عليه الإدارة العسكرية بالنفي، وإن لم يطبق هذا القرار. كما تمت إحالته إلى محكمة أمن الدولة عام 1985م بعلة أن خُطب الشيخ ودروسه تشكل تهديدًا صارخًا لعلمانية البلاد. ثم صدر الحكم ببراءته من التهمة. وتخرج على يد الشيخ في مدة زمنية تتراوح بين 40 و50 عامًا آلاف من حفظة القرآن الكريم، والمعلمين رجالا ونساءً، وتدرب عشرات الآلاف من الطلبة على الجهود الدينية.

         ولايسعني بهذه المناسبة الأليمة إلا أن أتقدم – أصالةً مني ونيابةً عن الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند- بأحر التعازي، وأصدق عبارات المواساة إليكم جميعًا، داعيًا المولى عزوجل أن يتغمد روح الفقيد بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جنانه، وأن يلهمكم الصبر والسلوان.

         ﴿يَـٰٓأَيَّتُهَا ‌ٱلنَّفۡسُ ‌ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي٣٠﴾.

صدق الله العظيم.

         والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المخلص

(المفتي) أبو القاسم النعماني

رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند

ديوبند، الهند.

مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47

Related Posts