إلى رحمة الله
ظهرَ يوم الأربعاء: 20/ جمادى الثانية 1429هـ =/ يونيو 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى الزعيم السياسي والبرلماني المحنك الشيخ غلام محمود بنات والا إثر نوبة قلبية شديدة داهمته بعد ما تناول الغداءَ بمنزله الكائن بمبنى “فاين تش” بحي “آكرى باره” بمدينة “ممباي” – بومباي سابقًا – فإنّا لله وإنا إليه راجعون . وكان عمره لدى الوفاة 75 عامًا .
وصُلِّي عليه في نحو الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس 21/ جمادى الثانية 1429هـ ودُفِنَ بمقبرة “كتشى ميمن” بمدينة “مُمْبَاىْ” وحضر الصلاة عليه وشيّعه آلاف من المسلمين من شتى القطاعات بمن فيهم نخبة من الساسة والقادة المسلمين والمثقفين والتجار وعامّة المسلمين .
لقد كان الشيخ غلام محمود بنات والا قائدًا مسلمًا حازمًا وزعيمًا سياسيًّا خبيرًا، قاد المسلمين الهنود وعبّر عن قضاياهم ومشكلاتهم في دورات البرلمان الهندي والمنابر السياسيّة والمحافل الوطنيّة عن جدارة وأهليّة ، وقوة وجراءة، ربمنهجيّة مؤثره ولباقة فائقة، وذكاء يجدر بالذكر لم يدانه فيها أيّ زعيم مسلم معاصر عبر هذه السنين الطويلة الماضية ، بعد ما فقد المسلمون الرعيل الأوّل والقافلة الرائدة من الزعماء فارعي الأقدام؛ فبموته شعروا بمرارة غير عاديّة، وحزنوا عليه حزنًا غير عاديّ شفّ عن غاية شعورهم بقيمة قامة هذا القائد المسنّ الذي وقف حياتَه لخدمة أمته ومصالح وطنه؛ فكان زعيمًا أمينًا وقائدًا مخلصًا، تمده جراءتُه الطبيعيّة، ومواهبه القيادية، وامتلاكه ناصيةَ الخطاب السياسيّ، وإدركه لطبيعة الزعماء الهندوس، ومعرفته بالأسلوب الفاعل لاختراق عقليتهم ونفسيتهم في طرح القضايا الوطنية التي تتصل بالأقلية المسلمة ، وإتقانُه للغة الإنجليزيّة خطابيًّا وكتابيًّا إلى جانب اللغة الأرديّة واللغة الغجراتية التي كانت لغتَه الأمّ؛ فكان يطرح القضايا التي تخص شعبَه المسلمَ في الدورات البرلمانيّة عن ثقة بالنفس وبموضوعيّة ممدة بالوثائق والدلائل، تجعلان النوّاب الهندوس مهما كانوا مصابين بداء العصبية العمياء والتطرف الطائفيّ، يستمعون له بهدوء تامّ، وكان لايسعهم أن يغالبوه بالضوضاء والغوغاء التي ربّما يعتمدونها لمغالبة زعماء المعارضة ولاسيّما النواب العلمانيين والمسلمين. إنّه لدى طرح قضايا المسلمين ما كان يستند إلى أساليب الاعتذار أو المجاملة التي يعتمدها في الأغلب القادة والزعماء الناشئون من المسلمين الذين يحاولون كسب رضا زعماء الأغلبية الهندوسيّة احتفاظاً بمناصبهم وإبقاءً على عضويتهم في مجلس الشعب أو مجلس الشيوخ وبالتالي تحقيقاً لأغراضهم الرخيصة وتلميعًا لأشخاصهم المتواضعة حتى يبقوا محترمين لديهم .
إنّ القائد المسلم المؤهل “بنات والا” لم يدخل المعتركَ السياسيّ لتحقيق المكاسب، وإنما لأجل خدمة المصالح الإسلامية والوطنيّة وظلّ عبر خوضه المجال السياسيّ على مستوى “القيادة المسلمة الأمينة” فاستمرّ محترمًا لدى جميع الشرائح الإسلاميّة على اختلاف المذاهب والمدارس، كان يحبّه الجميعُ ويرونه دائمًا مُؤَهَّلاً لطرح القضايا الإسلاميّة بأسلوب إيجابيّ فاعل. ولدى كل مشكلة تلم بهم في هذه البلاد ذات الأغلبيّة الهندوسيّة كانوا كثيرًا ما يتطلّعون إلى القائد “بنات والا” ليدافع عنهم في قوة وجراءة وأهليّة .
وُلِدَ “غلام محمود بنات والا” في 23/ جمادى الأولى 1352هـ الموافق 15/ أغسطس 1933م بمنطقة “كتش” (Kachh) بولاية غجرات، وتلقى التعليم العصري ونزح إلى “ممباي” كأستاذ بكلية بها، وخلال إقامته بالمدينة سنحت له زمالةُ صهر الزعيم الكبير “محمد علي جناح” مؤسس دولة باكستان؛ فمال إلى مزاولة النشاطات السياسيّة، وانتخب رئيسًا لـ”العصبة الإسلامية” لمنطقة “ممباي” وخاض الانتخابات السياسيّة فانتخب أول مرة عضوًا بالمجلس الإقليمي لـ”مهاراشترا” عام 1967م (1387هـ) وبما أنه كان موثوقًا به لدى الزعيم الكبير للعصبيّة الإسلامية “سي إيتش محمد كويا” كبير وزراء “كيرالا” الأسبق، فخاض الانتخابات العامّة لمجلس الشعب الهندي من دائرة منطقة “بوناني” بمديرية “ملابورم” بولاية “كيرالا” عام 1977م (1397هـ) ونجح فيها وكان نائبًا في مجلس الشعب، ثم استمرّ يُنْتَخب من هذه الدائرة الانتخابيّة سبع مرّات لعام 1999م (1420هـ).
كان الزعيم الراحل الزعيمَ المسلمَ الذي ظلّ عضوًا في البرلمان الهندي عبر هذه المدة الطويلة، التي أمضاها في طرح القضايا المتصلة بالشعب المسلم عن لباقة مثيرة وجدارة قابلة للتسجيل. وإلى جانب ذلك كان يتحدث إلى الحفلات الشعبية العامّة بعذوبة وسلاسة بالغتين ؛ فكان يستمع له الحضور في حرص واهتمام كبيرين. وكان هو وصنوه الزعيم المسلم “إبراهيم سليمان سيث” (المتوفى عام 1426هـ/ 2005م) مهوى أنظار الشعب المسلم لدى كل قضية من القضايا الساخنة ؛ حيث كان ينظر إليهما ليطرحاها بقوة وأسلوب مؤثر يؤدي إلى نتائج إيجابية مأمولة . وفعلاً قد تحدثا في البرلمان الهندي عن قضايا جامعة عليجراه الإسلامية، و قانون الاحوال الشخصية الإسلامية، وقضية “شاه بانو” المعروفة والمسجد البابري، واللغة الأرديّة، وما إلى ذلك بشكل لافت سجّله تاريخ البرلمان الهندي، وغطّاه الإعلام الهندي، وتفاعل معه أعضاء البرلمان، وقدره الشعب المسلم تقديرًا كبيرًا .
وقد صدرت عام 2007م نخبة من أحاديثه البرلمانيّة باللغة الإنجليزية باسم Select Parliamentary Speeches of G. M. Banatwala ، كما صدر له كتابان آخران بالإنجليزية باسم “Religion and Politics in India” و “Muslim league” كما صدر كتاب له بالأردية باسم “بعد الاستقلال”. إلى جانب مئات من المقالات صدرت له باللغتين الإنجليزية والأرديّة بالصحف والمجلات الهنديّة في شتى أرجاء الهند.
الجدير بالذكر أن “العصبة الإسلامية” متمركزة أصلاً في ولاية “كيرالا” ولكن الشيخ إبراهيم سليمان سيث والشيخ غلام محمود بنات والا بسعيهما الحثيث وتحركاتهما السياسيّة عبر البلاد زرعا نفوذها في المنطقة الشماليّة والمنطقة الوسطى بالهند. وعندما هدم الهندوس المتطرفون المسجد البابري في ديسمبر 1992م حدث هناك خلاف بين العصبة الإسلامية الإقليمية بكيرالا والعصبة الإسلامية المركزيّة؛ لأن كبار الزعماء وعلى رأسهم إبراهيم سليمان سيث كانوا يرون أن تسحب العصبة الإسلامية في كيرالا تأييدها عن حزب المؤتمر الذي كان يحكم الهندَ لدى هدم المسجد، فكان مشاركاً فعلاً في ارتكاب الجريمة الشنعاء هذه؛ ولكنها لم ترض بذلك فاستقال الشيخ إبراهيم سليمان سيث من رئاستها، وأسس حزبًا مستقلاً باسم “العصبة الهندية القوميّة” فانتخب الشيخ غلام محمود بنات والا رئيسًا للعصبة الإسلاميّة عام 1994م (1415هـ).
إنّ غلام محمود بنات والا لم يكن كعامّة أعضاء البرلمان الهندي؛ بل كان يمتاز عنهم بأنه كان يشارك في الدورات البرلمانيّة باهتمام، ويبقى لدى المداولات متيقظاً يصغي لجميع ما يطرح من القضايا، ويدور من النقاشات، ويدلي بآرائه، ويعقّب الأعضاء بطروحاته ووجهات نظره؛ فكان برلمانيًّا حقًّا ، ولم يكن لديه هذا المنصب ترفًا أو شرفًا وإنما كان مسؤوليّة باهظة كان يستشعر خطورتها نحو أمته المسلمة الهندية ونحو وطنه ومواطنيه جميعًا؛ فكان يؤديها حسب ما يرام من برلمانيّ مؤهل قدير شاعر بالمسؤولية .
وكان بسيطاً في حياته السياسيّة وتعاملاته العامّة؛ فكان لايجب الظهور أو الزينة الزائدة، وكان لايستغلّ منصبه البرلماني لتحقيق أي غرض من أغراضه الشخصيّة أو فرض الذات. وبذلك كله كان فريدًا بين أعضاء البرلمان .
كان الفقيد ينتمي إلى أسرة “كتشي ميمن” Kachchi Maiman الغجراتية وهي أسرة مسلمة سنيّة، معظم أهلها تجار يزاولون أنواع التجارة .
وكان قد ماتت عنه زوجته منذ نحو عشر سنوات، ولم تلد له ، وإنما خلف وراءه ثلاثة أشقاء وأولادهم ، رحمه الله وأدخله فسيح جنّاته ، وكثّر أمثاله ، وعوَّض المسلمين عنه قادة مخلصين وزعماء أمناء يحلّون محلّه .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32