إشراقة
حسبَ التوفيق الإلهيّ – وأحمده سبحانه على توفيقه حمدًا لامنتهى له – كسبُ الأهليّة العلميّة بجدّ نابع منه – التوفيق الإلهيّ – وعن توظيف لائق للوقت دون إضاعة جزء منه وعن حرصٍ بالــغ على اغتنام كل لحظة في كلّ ما يساعد على التحصيل ويحول دون الإهمال والكسل والتقاعد، كان سهلاً على مثلي؛ فتمّ تحقيقُ هذه المهمة. ثم أتى دورُ توظيف هذه الأهليّة المُكْتَسَبَة في مجال العمل والإنتاج، فسهل ذلك أيضًا بتوفيق الله عزَّ وجلَّ. وقد عَلِمَ الله تعالى – الذي يعلم السرَّ وأخفى – أنني لم أدعْ حسبما استطعتُ تقصيرًا يَتَسَلَّل إلى أداء أيّ من المهتمين؛ لكنه لم يحالفني التوفيق لحكمة يعلمها اللهُ في كثير من جوانب الحياة العمليّة الشخصيّة ولاسيّما التي تمسّ فيها الحاجةُ إلى إعمال الوساطات بل إلى “اصطناعها” وإلى الشيء الكثير من “الذكاء” و”الدهاء” بل المكر والخداع؛ فجنيتُ فيها في الأغلب الإخفاقَ الذي ظلّ يُسَبِّب لي صدمةً نفسيّةً قاسيةً أعاذ منها اللهُ كلَّ مسلم يؤمن بأنّ الخير والشرَّ كل منهما من الله.
أيّامَ تحصيلي كنتُ أظنّ – بل أتاكّد – أنّ اجتهادي البــالغ في التحصيل العلمي وتـــوفّري الصادق على الدراسة، وانقطاعي إليها بكل ما أستطيع، سيضمن لي إن شاء الله النجاحَ في كلّ من ميادين الحياة؛ وأن ذلك وحده سيكون “مفتاحا ذكيًّا” أضعـه على جميع أقفال الحياة فتنفتح فورًا، ولن ينسدّ باب دون حاجة من حوائجي؛ فما بذلتُ لفتةً على الاهتمام بأي سبب ينفع في دنيا المادة والمعدة ويعين على حلّ تعقيدات الحياة؛ ولكني عندما خضتُ غُمَارَ الحياة علمتُ عن تجربة لن يكذبها أحد أن كثيرًا من الناس يغلبون بقدرتهم “الخارقة” على إعمال اللفّ والدوران، والفتل والنقض، والمكر والخداع، والمسابقة المحمومة في ميادين الحياة، والتفكير الشيطاني، والأهليّة الإبليسيّة.. يغلبون كثيرًا من المؤهلين علميًّا، والمتفانين في خدمة الدين والدعوة، والمنقطعين إلى العمل البنّاء الذي ينفع الناس طويلاً، والمخلصين في مجال الخدمات الاجتماعيّة، والمتوفرين عن جدارة على الكتابة والتأليف، والخطابة والتدريس دونما التفات إلى حرّ الحياة وقرّها؛ فهم يحقّقون من مكاسب الحياة، مالايقدر عليه الفريق السعيد بأهليته العلميّة وخدمته الصادقة. وذلك قد يُشْعِره بخيبة الأمل وفشله في الحياة وتخلّفه عن ركبها؛ لكنه سرعانَ ما يعود بتوفيق الله إلى المسار الصحيح في التفكير، ويعتقد جازمًا أن الانتصار الماديّ ليس هو الانتصار كلَّه، وإنّما الانتصار كلّه هو الانتصار المعنويّ والكسب الأخرويّ، وارتياح الضمير، والقناعة القلبيّة. ولو أُعْمِلَ مقياس الانتصار الماديّ وحدَه، وحُكِمَ على من لم ينتصر ماديًّا بالإخفاق والفشل في رهان الحياة، فإن معظم الصالحين بل الأنبياء والمرسلين سيكونون – ونعوذ بالله من ذلك – خائبين فاشلين .
فشلُ المُؤَهَّلِين المؤمنين في رهان الحياة وسباق المادّة والمعدة، مع صلتهم القويّة بالله، ورجائهم القويّ منه، ليس شيئًا يُشَكّل خطرًا، وإنما الخطرُ كلُّ الخطر أن يفشل أحد في الحياة وفيما بعدها معًا؛ فتنقطع صلتُه بالله ورجاؤه منه. اللهم! إنّا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيّآت أعمالنا. الله لا تؤمنّا مكرَك ولا تنسنا ذكرَك ولاتهتك عنّا سترَك ولاتجعلنا من الغافلين .
* * *
إنّه لقد كثرت لدينا الجمعيَّات الخيريّة والاجتماعيّة، والعلميّة والأدبيّة، والدينية والدعويّة. وحبَّذا لوكانت هناك جمعيَّات تُوَظِّف كوادر مؤهلة تتحسّس مؤهلين في شتى مجالات الحياة في أمتنا، تتحسسهم في أمكنة أعمالهم وأمكنة وجودهم منقطعين إلى القيام بوظائفهم ومتوفرين على التحرك في إطار اختصاصاتهم؛ حيث لايجدون فرصةً لتوفير الإمكانات الماديّة، والوسائل اللازمة، والنفقات المطلوبة لحوائجهم التي لابدّ منها لهم لتحقيق مشاريعهم التي يتطلّعون إلى تحقيقها؛ فيوصون إليها – الجمعيّات – بتقديم دعم لهم وافٍ بالغرض؛ حتى يظلّوا – المؤهلون – مشتغلين بوظائفهم واختصاصاتهم دونما خلجة نفسيَّة، أو همّ مُشَوِّش، أو تورّط في التصدّي لما لايليق بهم ولما ليسوا هم قادرين عليه؛ فيضيعوا ولاَيَبْقَوْا مُؤَهَّلِين لما هم كانوا مُؤَهَّلين له؛ فيكون ذلك خسارةً لا تُعَوَّض للأمّة في رأس مالها الذي لايُقَوَّم.
إنّ هناك جمعيّات كثيرة تُقَدِّم دعمًا سخيًّا لمن يطلب منها، والطالبون كثيرٌ منهم يكون مُتَفَنِّنًا في تقديم الطلبات، وجمع التبرعات، والجمعيّاتُ قد تطلب لتقديم الدعم أورقاً ومُسْتَنَدَات أو شروطاً، قد لايفي بها أو لايقدر على توفيرها المحتاجون في الواقع؛ ويقدر على توفيرها البارعون في فنّ جمع التبرّعات؛ ولذلك قد لاينال الدعمَ المحتاجون الحقيقيّون، وإنما يناله بسهولة المُتَفَنِّنُون المَهَرَة في فن تحصيل الدعم وطلب المساعدة، من الذين قد لا يكونون محتاجين في الواقع، وقد لا يُنْفِقُون المساعدةَ التي يجمعونها في المشاريع التي يجمعونها لها ويُلَوِّحون بها؛ ولكنهم في فنّ الطلب وتوفية الشروط يكونون أبرع وأكثر تفننًا.
من هنا الحاجةُ ماسّةٌ إلى جمعيّات تتحسّس المحتاجين في أمكنتهم ولاسيّما العلماء والمُؤَهَّلِين في شتى مجالات الحياة المنقطعين حقًّا إلى أعمالهم و وظائف اختصاصاتهم، فتُبَادِر إلى تحقيق احتياجاتهم الرسميّة واحتياجاتهم الشخصيّة معًا، حتى يَبْقَوْا منصرفين إلى أعمالهم البنَّاءة ذات المنافع الثابتة دون همّ يشغلهم عنها وأدائهم اللائق لها وعطائهم الصادق في مجال اختصاصهم.
إنّ كفالة حاجات المؤهلين من العلماء والدعاة والمثقفين والكتاب والمُؤَلِّفين من صميم الأعمال الخيريّة التي ثوابها مكفول في الآخرة وجزاؤها مذخور لدى الربّ الشكور؛ ولكن كثيرًا من المهتمين بالأعمال الخيرية لايعيرون هذا الجانبَ أيّ اهتمام، اعتقادًا منهم أنّه ليس من أعمال الخير أو أنه أمرٌ تافهٌ ثوابه ضئيل وجزاؤ مشكوك فيه؛ من ثم ضاع كثير من المؤهلين في أمتنا؛ لأنهم اضطرّوا أن يهتموا بأمور ما كانوا يحسنون تحقيقها؛ ولكنهم كانوا مطالبين بالاهتمام بها لحاجات حياتيّة مُلِحَّة لم يكن لهم بدٌّ منها؛ فضاعوا وأضاعوا جهةَ اختصاصهم. ولو أنّ سعداء مُوَفَّقين من المهتمّين بأعمال الخير في أمّتنا مدُّوا إليهم يد العون وكفلوا ما كانوا يحتاجون إليه، لما ضاعوا وأضاعوا مُؤَهِّلاتهم.
* * *
معايشةُ الحياة لهذا المدى الطويل؛ حيث إني في الربع الأخير من العقد السادس من عمري، عَلَّمتني أنّ الاجتهادَ البالغَ في الدراسة والتحصيل العلميّ وإتقان الأهليّة الأكاديميّة، والتوفُّرَ على المطالعة والتطواف في بطون الكتب ثم الانقطاع إلى الإنتاج العلمي، والخدمات التدريسية والتربويّة، والأعمال الدعويّة والكتابيّة والتأليفيّة وما إلى ذلك من الأعمال التي تتصل بالعلم والدراسة والدين والدعوة بشكل أو بآخر، لايكفي ذلك كله بالمجموع لعيش الحياة مكفولةً حاجاتُها مضمونةً مشكلاتها المتزايدة وقضاياها المتكاثرة، وإنما يحتاج المرأ إلى جانب الاهتمام بجانب الأعمال الدراسيةِ والدعوية والتأليفية والتربويّة، إلى ذكاء خاصّ لمصانعة أبناء الدنيا، وعبيد المادّة والمعدة، وخبراء الحياة الدنيا، والبارعين في التعامل مع قضايا الحياة، واللاهثين وراء حطام الدنيا، والراكضين من أجل الأخذ بنصيب أوفر منه؛ واصطناع الصلة بهم بنحو أو آخر. وكلما كان المرأ إلى جانب إتقانه للأعمال العلمية والدعوية موفقًا في الاهتمام بهذا الجانب الذي إنما يُصَنَّف ضمنَ الجانب الماديّ، كان ناجحًا في عيش الحياة بنجاح وارتياح، وهدوء بال وطمأنينة حال. وكلّما كان منصرفًا عن ذلك، ومنطويًا على نفسه، ومنقطعًا فقط إلى الأعمال العلميَّة والدعويَّة، كان مخفقًا في عيش الحياة، وكسب ودّها، وخِطْبَة حبّها، فتظلّ هي نابيةً بها، وربّما كارهة لها، ساخطةً عليها، رامية بها مراميَ كثيرةً .
ألا! إنّ الأهليّة العلميّة مع كامل الإخلاص لمقتضياتها لاتكفيك إذا لم تتعلّم فنّ مصانعة رجالات الدنيا، ومصادقة الحياة، والتعامل معها؛ إذ هي ذات الدلال الذي لاينتهي والغناج الذي لايتوقّف عند حدّ. لقد رأيتُ كثيرًا من المؤهلين الذين كانوا يكبرونني سنّا، ويفوقونني أهليّة علميّة، ويبذّونني في التفاني في القيام بالخدمات العلميّة، والدعوية والتربوية، والتدريسة والكتابيّة، ضاعوا وقَضَوْا نحبَهم محرومين غير مكفولي حاجة من الحوائج التي عضّتهم بأنيابها وخدشتهم بمخالبها.
* * *
وكلُّ ذلك أكتبه لأناس عاديين أمثالي، لم يرتفعوا إلى مستوى القناعة بالمعنى الشرعي، ولم يبلغوا رتبةَ الإحسان، ولم تتقوَّ صلتُهم بالله، ولم يتصلوا برباط الإنابة والانسلاخ من هموم الدنيا، ولم يرتقوا إلى تطليق الحياة بتاتًا بل ثلاثًا، لأن هذه المنزلة – لو فاز بها أحد – بلسم لكل الجروح، ومرهم لجميع العضّات، وتغطية لكل الحرمان، وعوض عن كل خسارة. ولا حاجة بمن يفوز بها إلى شيء؛ لأنه يكون قد فاز بهذا الشيء الأثمن الأغلى ورأس المال الذي لن يُقَوِّمه أيّ قارون في هذه الدنيا.
أمّا عامّة الناس أمثالي الذين لايزالون رُهَناءَ المقارنة بين الربح والخسارة، ولايزالون يمسكون بخيط من خيوط الأسباب الدنيويّة ويؤمنون بأنه “لاتَنْسَ نصيبَك مِنَ الدُّنْيَا” (القصص/77) فهم يحتاجون بعد كل من الأهليّة التي أتقنوها، والملكة التي رسّخوها، إلى هذه اللباقة الذكية لمعايشة الحياة والتعامل معها بحذق ومهارة؛ حتى يمرّوا في دروب الحياة سالمين غير مخدوشين بهذه الأشواك التي تتعرض للمارة فاغرةً باها مُكَشِّرَةً عن أنيابها. اللهمّ رحمتَك نرجو فلا تكلنا إلى نفوسنا، واكفنا بحلالك عن حرامك وأَغْنِنا بفضلك عمّن سواك، واجعل خير أعمارنا آخرها، واجعل غناءنا في أنفسنا، وآخرتنا خيرًا من الأولى.
( تحريرًا في الساعة 8 من الليلة المتخللة بين الخميس والجمعة: 15– 16/شوال 1429هـ = 16– 17/أكتوبر2008م )
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32