نبذة عن الجامعة

خلفيَّة التأسيس

بعد ما فشلت ثورة 1857م (1274هـ) الشهيرة ضد الأخطبوط الإنجليزي في شبه القارة الهندية التي قام بها جميع الشعب الهندي ، وتناهت الحالة سوءًا ؛ حيث لفظت الدولة المغولية الإسلامية القائمة اِسمًا في دهلي أنفاسها الأخيرة ؛ إذ فشلت الثورة بمؤامرات من داخل الصف ، وبقوة الجنود والبنود وكثرة العَدَد والعُدَد من قبل الاستعمار ، وعلى ذلك فتم استيلاء الإنجليز على الهند كلها شرقًا وغربًا ، فوضعوا السيف في المسلمين في دهلي وفي أرجاء البلاد ، وكثر القتلى والجرحى ، وامتلأت الشوارع والطرقات بجثث الشهداء ، وتعرض العلماء ورجال الفكر والدعوة خصيصًا لغضب الإنجليز ، فقُتِّلُوْا تقتيلاً وشُرِّدُوْا تشريدًا ، وأُعْدِمُوْا شنقًا بعدد لا يُحْصَى . ومن تخلص منهم من ذلك كله نُفُوا إلى جزيرة «إندومان» التي كانت منفى سياسيًّا على عهد الإنجليز ، لكونها غير ملائمة طبيعيًّا وجغرافيًّا للحياة الإنسانية والصحة الجسمانية .

وبعد ما فشلت محاولات صدام مكشوف مرات كثيرة مع الاستعمار الإنجليزي الذي كان قد قضى نهائيًّا على الدولة المغولية الإسلامية ، وأحكم قبضتَه على الهند من أقصاها إلى أقصاها ، كانت آخر هذه المحاولة الجريئة معركة الجهاد التي خاضها الإمام محمد قاسم النانوتوي مؤسسُ جامعة ديوبند وزملاؤه وشيوخه العظام في قرية «شاملي» بمديرية «مظفر نكر» بولاية «أترابراديش» تلك التي سقط فيها أحد العلماء الربانيين الكبار الحافظ «ضامن علي» وغيرهم شهداء على أرض المعركة .

ثم خيّم الظلام على الهند كلها ؛ حيث صادر الإنجليزُ جميعَ الأوقاف والعقارات والإقطاعات التي كانت تُمِدُّ المدارسَ الإسلاميةَ بالحياة ، وعملوا على تجفيف منابع الإشعاع والإصلاح والفكر والدعوة والتعليم والتربية ، حتى يتحول المسلمون مع الأيام جُهَّالاً يسهل صوغُهم في بوتقة المسيحية المحرفة .

وبعد ما اشتدت وطأة التبشير المسيحي على الدين الإسلامي الذي كانت تُمِدُّه دولةُ الاستعمار الإنجليزي الموطدة الأركان ، الشامخة البنيان ، الممتدة الأطراف التي كانت لا تغرب عنها الشمس . وبعد ما كثرت هجمات الدعوة الهندوكية على الإسلام التي كانت تضم صوتَها مع صوت التبشير في أغلب الأحايين ؛ فالباطل يلتقي دائمًا مع الباطل على النقطة المركزية .

بعد ما حصل كل ذلك ، وأصبح المسلمون بالنسبة إلى الاحتفاظ بدينهم وعقيدتهم كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية ، فكّر علماء الإسلام وقادة سفينة الإسلام والمسلمين في الهند في جميع الطرق التي كانت من شأنها أن تساعدهم على عملية الإبقاء على الكيان الإسلامي في هذه البلاد والحفاظ على التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية وعقيدة الدين الإسلامي الأصيلة ؛ فألقى الله في رُوْعهم أن يبدأوا بسلسلة إقامة المدارس الإسلامية الأهلية السائرة بتبرعات الشعب المسلم ، وأراهم الله تعالى أن ذلك هو وحده الطريق الأنجع الأسلم إلى بقاء الإسلام والمسلمين في هذه الديار في هذه الظروف ؛ حيث ستنتشر بذلك علوم الكتاب والسنة والتعاليم الإسلامية .

وكان على رأس هؤلاء العلماء والمشايخ الإمام محمد قاسم النانوتوي (المتوفى عام 1297هـ 1879م) الذي أسس بتعاون من زملائه ومشورتهم ، أمثال : المحدث الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي (المتوفى 1323هـ / 1905م) والشيخ ذو الفقار علي الديوبندي (المتوفى 1322هـ / 1904م) والحاج عابد حسين الديوبندي (المتوفى 1331هـ / 1912م) والشيخ محمد يعقوب النانوتوي (المتوفى 1302هـ الموافق 1884م) والشيخ رفيع الدين (المتوفى 1308هـ / الموافق 1890م) والشيخ فضل الرحمن العثماني الديوبندي (المتوفى 1325هـ الموافق 1907م) مدرسةً صغيرة يوم الخميس 15/ محرم الحرام 1283هـ الموافق 30/ مايو 1866م ، في مسجد أثري صغير (يقع في الجانب الجنوبي الشرقي من الحرم الجامعي اليوم ويُعْرَف بـ «مسجد تشته») كانت نواتها مدرسًا واحدًا اسمه «الملا محمود» وتلميذًا واحدًا كان اسمه «محمود حسن» الذي اشتهر فيما بعد بـ «شيخ الهند» والذي قاد حركة تحرير الهند بشكل أثمر الاستقلال (توفي عام 1339هـ الموافق 1920م) . وذلك بقرية «ديوبند» DEOBAND التي كانت لا تتمتع بأية ميزة آنذاك ، ثم صارت قرية جامعة بفضل هذه المدرسة التي سُمِّيَتْ لدى تأسيسها تسميةً بسيطةً باسم «المدرسة الإسلامية العربية» ثم طبق صيتُ القرية «ديوبند» خلال أيام قليلة أرجاءَ الهند حتى تجاوز إلى البلاد النائية ، حتى صارت الآن مدينة نالت من الشهرة ما لم تنله كثير من المدن الرئيسة في الهند . وهي تقع على مسافة نحو 92 ميلاً (150ك . م .) في الجانب الشمالي من دهلي عاصمة الهند .

قرية ديوبند

وهذه القرية تقع في مديرية «سهارنبور» بولاية «أترابراديش» وتحيط بها من الجنوب مدينة «مظفر نكر» التي تبعد عنها بمسافة 25 ك . م . ومن الجانب الشمالي الشرقي مدينة «روركي» ، ومن الشرق مدينة «بجنور» ومن الجانب الشمالي الغربي مدينة «سهارنبور» التي تبعد عنها بمسافة نحو 48 ك . م ، ومن الجانب الغربي مدينة «كرنال» التي تقع في ولاية «هريانا» ويسقي «سهارنبور» من الشرق نهرُ «كنج» ومن الغرب نهر «جمنا» الشهيران المقدسان لدى الهندوس . يشكّل المسلمون فيها نسبة 55% .

وتُعَدّ «ديوبند» من البلاد القديمة جدًّا على أرض الله . فيرى الشيخ ذو الفقار علي الديوبندي وغيره من العلماء أنها من المناطق التي حظيت بالعمران فيما بعد طوفان نوح عليه السلام . وظل اسمها يتغير كما هو شأن أسماء الأمكنة في العالم ، فكان «دِيْوِيْ بَنْ» ثم كان «دِيْوْبَنْدْ» بكسر الدال المهملة ، فالياء الساكنة ، فالواو الساكنة ، فالباء المفتوحة الموحدة ، فالنون الساكنة ، فالدال المهملة الساكنة .

وقد أنجبت «ديوبند» على مر العصور العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء . وطبّق صـيتُها – كما ذكرنا آنفًا – الآفاقَ بفضل الجامعة الإسلامية دار العلوم / ديوبند ، وأحيانًا بذّت شهرتُها شهرةَ الهند ، فَعُرِفَتِ الهندُ عن طريق «ديوبند» بأنها البلد الذي تقع فيها مدينة «ديوبند» التي تحتضن الجامعةَ الإسلاميةَ الأمَّ دار العلوم / ديوبند .

وهي إحدى القرى الجامعة في مديرية «سهارنبور» (SAHARANPUR) آخر المديريات في جهة الغرب للولاية الشمالية المعروفة بـ «أترابراديش» (UTTAR PARDESH) .

وصارت القرية الآن مدينةً ، وتوجد في المدينة خرائب وآثارُ قلقة قديمة ، كما توجد قلعة بُنِيَتْ على عهد الإمبراطور المغولي «أكبر» المتوفى 1014هـ – 1605م قال عنها المؤرخ أبو الفضل في كتابه «آئين أكبري» (الدستور الأكبري) باللغة الفارسية : «ديوبند ، قلعه أز خشت بـخته دارد» (آئين أكبري ، ج :2 ، ص :143) . أي : إن ديوبند فيها قلعة مبنية من الآجر المنضوج .

وفيها مساجد كثيرة بُنِيَت على العهد الإسلامي في الهند ، منها مسجد القلعة المبني على عهد السلطان «سكندر» اللودهي المتوفى 923هـ – 1517م ومسجد الخانقاه (مسجد التكية) المبني على عهد الإمبراطور «أكبر» ومسجد في حي «أبو المعالي» بني على عهد الملك المغولي الصالح أورنك زيب عالمكير المتوفى 1118هـ – 1706م ، وهي مساجد توجد عليها لوحات تاريخها ، وهناك مساجد يقال إنها أقدم منها ، ولكن لا يوجد على ذلك دليل تاريخي .

مؤسس جامعة ديوبند

أمّا مؤسس جامعة ديوبند فهو : الشيخ الإمام حجة الإسلام في الهند ، العالم الكبير محمد قاسم بن أسد علي الصديقي النانوتوي أحد العلماء الربانيين الكبار والمفكر الإسلاميّ العبقري الفريد في عصره . وُلِدَ عام 1248هـ ببلدة «نانوته» بمديرية «سهارنبور» بولاية «أترابراديش» الهند ، وتوفي سنة 1297 هـ ببلدة «ديوبند» ودُفِنَ بها . تلمذ على الشيخ مملوك العلي النانوتوي (المتوفى عام 1267هـ) وقرأ عليه سائر الكتب الدراسية ، وأخذ الحديث عن الشيخ عبد الغني المجددي الدهلوي (المتوفى سنة 1296هـ) والمحدث أحمد علي السهارنبوري(المتوفى 1297هـ) .

كان أزهد الناس وأكثرهم عبادة وذكرًا ، وأبعدهم عن زي العلماء ، ولبس المتفقهة من العمامة ، والطيلسان وغيرها . له مشاهد عظيمة في المباحثة مع النصارى ، وعلماء الديانة الآرية . أشهرها المباحثة التي وقعت ببلدة «تشاندابور» بمديرية «شاه جهانبور» بولاية «أترابراديش» ؛ فناظر أحبار النصارى ، وأساقفهم ، وعلماء الهنادك غير مرة ، فغلبهم وأقام الحجة عليهم . وله مصنفات علمية دقيقة تبلغ زهاء ثلاثين ، تدل على سعة علمه ، وعمق تفكيره ، ودقة نظره في دقائق العلوم ، ومعارف الكتاب والسنة ، وحكمه البالغة في الجمع بين خيري الدين والدنيا .

قاد حركة التحرير ، والثورة على الاستعمار البريطاني في مستهل عام 1857م ؛ فكان قائد قوات المسلمين في ساحة «تهانه بهون» و «شاملي» وقد أبلى فيها بلاءً حسنًا ، سجّله التأريخ بحروف ذهبية ، ولما أخفقت هذه الثورة لأسباب مؤسفة ، ولم يعد للمسلمين طريق يضمن لهم الثبات على دينهم ، بدأ العلماء ، وعلى رأسهم الإمام النانوتوي ، بحركة شاملة لنشر التعليم الديني والثقافة الإسلامية في المسلمين عن طريق مدارس وكتاتيب إسلاميّة عمادها التبرعات الشعبية العامّة . وفعلاً قام هو ، وأصدقاؤه بتأسيس مدرسة إسلامية في «ديوبند» لتكون معقل المسلمين ، ومركزًا لتوجيه الشعب المسلم .

كما أسس بيده عددًا من المدارس في عدد من المدن والقرى ، منها «الجامعية القاسميّة مدرسةُ شاهي» بمدينة «مرادآباد» بولاية «أترابراديش» ومدرسة «منبع العلوم» بمدينة «كلاؤتهي» بمديرية «بُلاَند شهر» بولاية «أترابراديش» ومدارس أخرى بكل من «تهانه بهوان» بمديرية «مظفر نكر» و «كيرانه» بمديرية «مظفر نكر» و «دانبـور» بمديرية «بلاند شهر» ومدينة «ميروت» .

وبذلك فكان الإمام محمد قاسم مؤسس حركة حيّة شاملة لإقامة المدارس والكتاتيب الإسلاميّة إبقاءً على الإسلام والمسلمين في هذه الديار الواسعة التي تُعْرَفُ بشبه القارة الهنديّة .

وتوفي رحمه الله في 49 من عمره وقت صلاة الظهر ، يوم الخميس 4/ جمادى الأولى 1297هـ / 1880م ، ودُفِنَ في قطعة أرضيّة وهبها لدفنه بعضُ محبيه في الجانب الشمالي الغربي من دار العلوم / ديوبند ، ثم عُرِفَتِ القطعة بالمقبرة القاسميّة ، ودفن ولا يزال بها معظم مشايخ وأساتذة دار العلوم والعلماء والصلحاء الآخرون .

(انظر للتوسّع في ترجمته : «تاريخ دار العلوم / ديوبند» بالأردية لمؤلفه الشيخ السيد محبوب رضوي ج1 ، و «سوانح قاسمي» بالأردية في ثلاثة مجلدات لمؤلّفه الكاتب الإسلامي والعالم الهندي البحاثة الشيخ مناظر أحسن الكيلاني ، و «نزهة الخواطر» ج7 ، ص320-322 ، ط : لكنؤ 1993م لمؤلفه المؤرخ الهندي السيد عبد الحيّ الحسني ، و «الإمام محمد قاسم النانوتوي» بالأردية لمؤلفه الشيخ نور الحسن راشد الكاندهلوي)

حديث عن التلميذ الأول بجامعة ديوبند

أمّا التلميذ الأوّل في هذه المدرسة الإسلاميّة العربيّة التي صارت الآن جامعة فريدة في العالم ، فهو :

الشيخ العلاّمة محمود حسن الديوبندي ابن الشيخ العالم الأديب شاعر العربية ذو الفقار علي الديوبندي المتوفى 1322هـ الموافق 1904م . تخرج عليه كبار العلماء في الهند ، ولد عام 1268هـ الموافق 1851م ، وكان الشيخ محمود حسن على رأس الدفعة الأولى من الطلاب التي التحقت بالجامعة الإسلامية دار العلوم / ديوبند ؛ حيث كان لدى تأسيسها يوم الخميس 15 / محرم 1283هـ الموافق 30 / مايو 1866م يجتاز المراحل الثانوية من تعليمه ؛ فالتحق بها وتخرّج منها عام 1290هـ الموافق 1873م . و وُلّي التدريس بالجامعة عام 1291هـ / 1874م ، ثم مُنِح الترقية ، وبات رئيس هيئة التدريس بها عام 1308هـ / 1890م .

كان الشيخ محمود حسن آية باهرة في علو الهمة وبعد النظر ، والأخذ بالعزيمة ، وحبّ الجهاد في سبيل الله ، شديد البغض لأعداء الإسلام ، كثير التواضع ، دائم الابتهال ، ثابت الجأش ، جيد المشاركة في جميع العلوم العقلية والنقلية ، ومُطَّلِعًا على التأريخ ، كثير المحفوظ للشعر ، كثير الأدب مع المحدثين والأئمة المجتهدين ، تلوح على محياه أمارات التواضع والحلم ، وتشرق أنوار العبادة والمجاهدة في وقار وهيبة .

وكان أعلم العلماء في العلوم النافعة ، وأحسن المتأخرين ملكة في الفقه وأصوله ، وأعرفهم بنصوصه وقواعده . ولقّبه الشعب المسلم الهندي بـ «شيخ الهند» وبهذا اللقب كان يُعْرَف في شبه القارة الهنديّة .

وضع خطّة محكمة لتحرير الهند من مخالب الاستعمار الإنجليزيّ عام 1323هـ / 1905م ، وكان يودّ أن يستعين فيها بالحكومة الأفغانية والخلافة العثمانية .وقد هيّأ لذلك جماعة من تلاميذه تمتاز بالإيمان القوي ، والطموح ، والثقة بالنفس ، والتوكل على الله ، والحزم وثقوب النظر . وكان من بينها الشيخ عبيد الله السنديّ (المتوفى 1363هـ / 1944م) والشيخ محمد ميان منصور الأنصاري (المتوفى 1365هـ / 1946م) وكان الاتصال يتم بينه وبين تلاميذه وأصحابه المناضلين عن طريق الرسائل التي كانت تُكْتَب على الحرير ،ومن هنا عُرِفَ نضاله ضدّ الاستعمار بـ «حركة الرسائل الحريرية»

وقد أعدّ لذلك مراكز مأمونة في المناطق المتأخمة للهند التي تتصل بأفغانستان ، ويسكنها مسلمون قبليون أحرار جلداء أباة الضيم ، ولا سيّما «ياغستان» وقد وجّه إليها للبدء في تنفيذ الخطة من تلاميذه مولانا فضل ربي ، ومولانا سيف الرحمن ، ومولانا فضل محمود وغيرهم . ورضي المسلمون في تلك المنطقة لبذل النفس والنفيس ؛ لأنهم كانوا مُفْعَمِين غضبًا على الإنجليز من قبل . وكانت اشتباكات مع الإنجليز حَقَّقَ فيها المسلمون انتصاراتٍ رغم قوة الإنجليز العسكريّة ؛ لكن المسلمين من أجل حرب شاملة حاسمة كانوا يحتاجون إلى الإمدادات العسكرية والمؤن والمعدات ؛ فكتبوا إلى شيخ الهند يطلبون منه ذلك ، فوجّه تلميذَه العبقري ذا العقل السياسي المحنّك الشيخ عبيد الله السندهي إلى «كابول» وتوجّه بدوره إلى «استانبول» وفي طريقه إليها وصل الحجازَ ، واجتمع بـ «غالب باشا» وقائد قوات تركيا «أنور باشا» و «جمال باشا» وغيرهم ، وكلهم أكدوا له بكل دعم مادي وعسكري ، ورضيت ألمانيا كذلك بالتعاون معه ، لكونها حليفة لتركيا . وكان الغرض هو الهجوم على الهند بمعاونة القبائل المسلمة الحرة بدعم من تركيا وحلفائها ، في الوقت الذي كانت بريطانيا مشغولة في شتى الجهات بمجابهة جيش التحالف خلال الحرب الكونية الأولى (1914-1918م) وكانت الفكرة صائبة حكيمة جدًّا ، غير أنها لم توضع موضع التنفيد من أجل أسباب عديدة تختصر في انهزام تركيا في الحرب العالمية ، واعتقال شيخ الهند وسجنه بيد الشريف حسين أمير مكة الذي خرج على تركيا وتحالف مع الإنجليز ، وخيانة بعض من وثق بهم شيخ الهند .

وبما أن بعض الرسائل التي تم بها الاتصال بين رموز الحركة كانت مكتوبةً على قماش من الحرير الأخضر . فسميت الحركة بـ «حركة الرسائل الحريرية» .

والجدير بالذكر أن المتحف البريطاني يحفظ الوثائق وتقارير مخابرات الحكومة البريطانية بكامل تفاصيلها عن هذه الخطة ، وقد نُشِرَتِ الوثائق بالأردية . وكانت الخطة تهدف القضاء على الحكم الإنجليزي لا في الهند وحدها ولكن في سائر المستعمرات البريطانية . وكان الشيخ محمود حسن أَنْشَأَ مراكز في كل من دهلي ، وكراتشي ، وأتمان زي ، وراندير ، للتدريب العسكري وتحريض جنود الإنجليز على الثورة ، وتهيئة المناخ للانتفاضة الشاملة ، كما أَنـْشَأَ خمسة مراكز في تركيا ، والمدينة المنورة ، وبرلين ، والقسطنطينية ، وأنقره ؛ وذلك لتحريض بعض الدول على إشعال الحرب والحصول على التأييد العسكري والدعم المعنوي . كما قام الشيخ بإرسال خمس بعثات إلى اليابان ، والصين ، والولايات المتحدة ، وفرنسا لحمل كل منها على تأييد الشعب الهندي ، وأنشأ حكومة موقتة في «كابول» وكانت تركيا معقد الآمال في شن الحرب ضد الإنجليز (حركة الرسائل الحريرية بالأردية)

ولتنفيذ خطته سافر الشيخ محمود حسن رغم كبر سنه إلى الحجاز عام 1333هـ / 1915م ، وقابل في المدينة المنوّرة كبار المسؤولين عن الخلافة العثمانية ؛ ولكن من سوء الحظّ اطلعت حكومةُ الاستعمار الإنجليزي على الرسائل الحريريّة عام 1334هـ / 1916م ، وألقت عليه القبض عن طريق الشريف حسين أمير مكة – الذي كان قد خرج على الدولة العثمانية – في صفر 1335هـ / نوفمبر 1916م ومعه عدد من تلاميذه وأصحابه ، من بينهم الشيخ السيد حسين أحمد المدني المتوفى 1377هـ / 1957م ، وسُفِّروا إلى «مالطة» وسُجِنُوا بها ؛ حيث لبثوا بها نحو 3 سنوات وشهرين ، وأُطْلِقَ سراحُهم في جمادى الأخرى 1338هـ / يناير 1920م ، و وصل الشيخُ الهندَ يوم 20 / رمضان 1338هـ الموافق 9/ مايو 1920م ، وتلقّاه الناس بحفاوة غير عاديّة ، وغلب عليه لقب «شيخ الهند» واستُقْبِلَ في كل مكان استقبالاً لم يعهد الناس مثلَه .

ورغم كبر سنه وضعفه ومرضه وكونه مُحَطَّمًا لطول الأسر في الغربة ، لم ير أن يستجم في وطنه ديوبند ، وإنما ظل يزور ويجول في أرجاء البلاد يدعو الشعب إلى النضال ضد الإنجليز ومقاطعتهم ، من خلال خطبه ومحاضراته . وفي هذه الحالة سافر إلى «عليجراه» و وضع حجر الأساس للجامعة الملية الإسلامية يوم 29/ أكتوبر 1920م (16 صفر 1339هـ) وقد انتقلت فيما بعد إلى دهلي .

ثم اشتد به المرض والضنى ، حتى استأثرت به رحمة الله تعالى في صباح يوم 18 / ربيع الأول 1339هـ الموافق 30 / نوفمبر 1920م ؛ وذلك في دهلي ؛ حيث كان يتلقى العلاج . ونقل جثمانه في اليوم التالي إلى ديوبند ، ودفن بجوار أستاذه العظيم الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ / 1880م في المقبرة الجامعيّة التي عُرِفَتْ بـ «المقبرة القاسميّة» .

وقد تشرّف رحمه الله بنقل ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأردية وهي من أحسن التراجم الأردية وأكثرها قبولاً ورواجًا ، وأضاف إليه تلميذه العلامة شبير أحمد العثماني المتوفى 1369هـ / 1989م تعليقات مفيدة عُرِفَتْ بـ «التفسير العثماني» . وقد قام مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة بطباعة هذه الترجمة مع التفسير عام 1409هـ الموافق 1989م بعدد مئات الآلاف وتوزيعها على المسلمين في العالم .

(انظر للتوسّع في ترجمته كتب «حياة شيخ الهند» للشيخ ميان أصغر حسين الديوبندي و «نقش حياة» و «أسير مالطة» للشيخ السيد حسين أحمد المدني و «تذكرة شيخ الهند» للشيخ عزيز الرحمن البجنوري و «حركة شيخ الهند» للشيخ السيد محمد ميان الديوبندي الدهلوي و «أسيران مالطة» له أيضًا و «نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر» للشيخ الشريف عبد الحي الحسني ، ج 8 ، و”تأريخ دار العلوم / ديوبند» لمؤلّفه السيّد محبوب رضوي ، ج 2)

المدرسة تحوّلت جامعة

وعُرِفَت المدرسةُ فيما بعد بـ «دار العلوم / ديوبند» وقد باركت المدرسةَ منذ اليوم الأول يدُ الرحمن ، فشهدت خلال أعوام قليلة ازدهارًا مثاليًّا لا يعرفه التأريخ لأية مدرسة إسلامية في الهند ، وأَضْفَتْ عليه من مسحة القبول والحب والشعبية ما لم تحظَ به أية مؤسسة دينية في شبه القارة الهندية ، وأَكْسَبَتْهَا من الاعتبار ما لم يُكْتَبْ لأية حركة قامت لإنهاض المسلمين ثقافيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا ودينيًّا في هذه الديار ، حتى صارت اليومَ علامةً بارزةً لِشخصية المسلمين الدينية وهويتهم الإسلامية في هذه البلاد ، ومنها تفجرت ينابيع الثقافة والإصلاح والدعوة التي عمّتِ الهندَ والبلادَ المجاورةَ ثم البلادَ الدانيةَ والقاصيةَ ، ومنها انتشرت شبكة المدارس والكتاتيب والجامعات في شبه القارة ، وباسمها تسمت ؛ فجلُّ المدارس أسمتْ نفسها «دار العلوم» وإليها تنتسب ، وبها تفتخر ، وعلى فتاواها وتوجيهاتها الدينية والاجتماعية وحتى السياسية يعتمد الشعب المسلم ، ومهما استنار بغيرها من المؤسسات ، فإنه لا يرتاح ما لم يستفتِ دار العلوم هذه ، وإن خريجيها أو الخريجين عليهم هم الذين يقودون منذ قرن ونصف قرن سفينة الشعب المسلم في هذه البلاد التي تتصارع فيها أمواج الديانات والدعوات ، والحركات والاتجاهات ، والحضارات والثقافات ، وتنمو فيها العصبيات الطائفية ، والتناحرات السياسية ، والتصادمات الاجتماعية ، بشكل لا يوجد نظيرُه في أية دولة من دول العالم .