ما هي الديوبندية؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين والمعصومين، وعلى أئمة الهدى والدين، الذين تمسكوا بالكتاب وسنة الرسول الأمين، واستنبطوا منها الشرائع الفرعية ببذل الصدق واليقين، وصدّقوا صحف الأولين ، وجعلوا الكعبة المقدسة قبلة لقرباتهم وهي مركز للعالمين؛ فرضينا بالله رباً و إلهاً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، وبالإسلام ديناً و شريعةً، وبالإيمان محبة واعتقاداً، وبالإحسان تزكية ومعرفةً، وبدفاع الفتن إعلاءً و إظهاراً، وبتداول الأيام عبرةً و نصيحةً وبالقرآن حجةً و إماماً، وبالحديث شرحاً و بياناً، وبالفقه تفريعاً و تفصيلاً ، وبالكلام تعقلاً و تدليلاً، وبالرسل تصديقاً و إقراراً، وبالكتب المنزلة إيقاناً وشهادةً، وبالملائكة عصمةً و تدبيراً، و بالشخصيات المقدسة حباً و انقياداً، وبتربيتهم سمعا و طاعةَ، وبالكلمة الطيبة جمعاً واجتماعاً، وبالكعبة المعظّمة قبلةً و جهةً، و بجميع شرائع الله تعظيماً و تبجيلاً، و بالقضاء والقدر رضاءً و تسليماً، وباليوم الآخر حشراً و نشراً، وبالبعث والوقوف صدقا و عدلاً، وبجميع هذه الأمور مسلكاً (مذهباً) و مشربًا، وكفانا هذا الرضاء سراً وعلانيةً.

وبعد فإن هذا بيان لمسلك (مذهب) أهل الحق و الإتقان، وشرح لمشرب أهل الصدق والإيقان، وإيضاح لذوق أهل المحبة والعرفان، فنسأل الله التوفيق والسداد والعدل والاقتصاد، وبه الثقة وعليه الاعتماد.

ما هي الديوبندية؟

اتجاه علماء ديوبند الديني و مزاجهم المذهبي أو منهجهم الفكري و جهة نظرهم و مشربهم وذوقهم ، شيء ظل معروفاً لدى العامة والخاصة؛ حيث ظلوا يُرَبّون عليه المسلمين منذ أكثر من قرن. وكانت دعوتهم شاملة وعالمية عمّت الشرق والغرب؛ ولكنهم لم يعتمدوا في نشرها على الدعايات والإعلانات والنشرات: وسائل الإعلام المعروفة المتبعة، وإنما اعتمدوا في ذلك – ولا يزالون- على الدرس والتدريس، والتعليم والتربية، والدعوة والتوجيه ، والإصلاح و تزكية الظاهر والباطن. إن هدفهم الوحيد هو إبقاء الأمة في ضوء الكتاب والسنة على ذلك المزاج الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم بصحبته و تربيته في الصحابة ، والصحابةُ في التابعين، والتابعون فيمن بعدهم من الأجيال المتلاحقة على اختلاف الأمكنة و مرور الأزمنة.

لكن التحرر الفكر والانطلاق العقلي في هذا العصر، قد أنشأ مدارس فكرية شتى، وظهرت دعوات متنوعة بل متضاربة، وبدأت كل جماعة تدعو الناس باسم الإسلام إلى توجّهاتها و مزاياها؛ الأمر الذي أدى طبيعياً إلى حدوث بلبلة فكرية و تقلقل نفسي لدى الجمهور ، ونشأ عن ذلك أن مذهب علماء ديوبند و مشربهم اللذين كانا لديهم مُتَوَارَثَيْنِ من السلف ومعروفَين و ممتازين، عادا لحد ما مشتبهاً فيهما لدى العامة، وصارت بعضُ الأوساط تتساءل:

ما هي «الديوبندية»؟ وأن جماعة ديوبند أهي فرقة حديثة من فيض الساعة، أم أن لها سنداً من السلف، وأنها من أهل السنة والجماعة أم أنها شيء آخر؛ وإن كانت من أهل السنة والجماعة فما هي مركزها بين الحشد من المدعين بالانتماء إلى أهل السنة الأحناف، وما هو الخط الفاصل بينها وبينهم، وما هي النقطة المميزة في معتقداتها، التي تضع فرقاً واضحاً بينها – جماعة ديوبند – وبين من يختلف عنها. وما إلى ذلك من التساؤلات التي عادت تطفح اليوم.

ولذلك كله شعرتُ بالحاجة إلى تدوين اتحاههم الديني ومزاجهم المذهبي لحد مستطاع، ولهذا الغرض أقدمت على كتابة السطور الآتية. وإنها ليست قائمة كاملة بمعتقدات علماء ديوبند، كما أنها ليست دراسة للمسائل الفرعية الجزئية المتصلة بمذهبهم ، وإنما هدفتُ منها إلى الدلالة على المبادئ والكليات لمزاجهم الديني وذوقهم المذهبي، تلك التي تحتل مكانة الروح في عقائدهم و توجهاتهم العملية، التي تضع خطاً فاصلاً بينهم وبين من يخالفهم.

أمور أساسيّة :

وقبل أن ندخل في صميم الموضوع، يجب أن نضع في الاعتبار أموراً أساسيّة توطئ للتوصل إلى الغرض و لفهمه ولإدراك مبادئه الأساسية.

  • الأمر الأول أن المراد من علماء ديوبند في هذه المقالة ، ليست فقط تلك الجماعة التي تقيم في الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند وتقوم فيها بخدمة التدريس والتعليم أو الإفتاء والقضاء، أو التبليغ والوعظ، أو التأليف والكتابة، وما إلى ذلك؛ وإنما المراد منهم جميع العلماء الذين ينبع فكرهم من فكر الشيخ مجدّد الألف الثاني أحمد بن عبد الأحد السرهندي المتوفى 1034هـ / 1624م فمن فكر الإمام الشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم المتوفى 1176هـ / 1762م و يتصل بفكر مؤسس جامعة دارالعلوم ديوبند. الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ / 1880م والشيخ الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي المتوفى 1323هـ / 1905م والشيخ محمد يعقوب النانوتوي المتوفي 1302هـ / 1884م. وسواء كانوا من خريجي جامعة دارالعلوم ديوبند، أم من خريجي جامعة «مظاهر علوم» بسهارنفور، أم خريجي «الجامعة القاسمية» و «المدرسة الإمدادية» و «حياة العلوم» و «جامعة الهدى» بمدينة «مراد آباد» أم خريجي مدرسة الجامع بأمروهه، أم خريجي «المدرسة الأمينية» بدهلي و «مدرسة عبد الرب» و مدرسة جامع فتحبوري» و «مدرسة كاشف العلوم» في منطقة «نظام الدين» بدهلي ، أم خريجي مدرسة «مفتاح العلوم» بمدينة «جلال آباد» أم خريجي مدسة «نور الإسلام» و مدرسة «دارالعلوم» و «المدرسة الإمدادية» بمدينة «ميروت» ، أم علماء مدارس «مئو» أم علماء «الجامعة الرحمانية» بمدينة «مونجير» أم علماء مدارس بيهار, أم علماء «الجامعة الأشرفية» و «المدرسة الحسينيّة» بمدينة «راندير» أم علماء مدارس ولاية «غوجرات» أم علماء مدارس ولايتي «بنغال» و «آسام» أو مئات العلماء في الولايات والمديريات الهندية.

وسواء كانوا مشتغلين بالتعليم أوعمل من الأعمال المدنية والسياسية والاجتماعية، أو كانوا منتشرين في العالم يقومون بالدعوة والتبليغ، أو كانوا منصرفين إلى التأليف؛ وسواء كانوا في أوروبا و آسيا وإفريقيا و أمريكا؛ كل هؤلاء يندمجون في «علماء ديوبند» وكلهم علماء ديوبند في الواقع.

  • انتماء علماء ديوبند إلى مدينة ديوبند، أو إسماؤهم بــ «جماعة ديوبند» ونسبتهم «الديوبندية» أو «القاسمية» ليست نسبة وطنيّة أو قوميّة أو طائفيّة, و إنما هي نسبة تعليمية عُرِفَتْ بمكان التعليم: «ديوبند» أو شخصية محور الرواية : الإمام محمد قاسم النانوتوي، مما يؤكد ويبين انتماء الجماعة التعليمي وثقة روايتها ودرايتها الفكرية ؛ ولذلك فهي ليست عنوان فرقة أو طائفة أو حزب؛ فلا يجوز أن يُفْهَمَ هذا الانتماء إلا في هذا الإطار، وأن يُوضعَ في الاعتبار أن جماعة ديوبند هي جماعة المشتغلين بالتدريس والتربية والتوعية والتزكية والدعوة والتبليغ، كما يُعْرَفُ خريج جامعة «علي كره» بــ «عليك» و خريج «الجامعة الملّية الإسلامية» بدهلي بــ «جامعي» وخريج «مظاهر علوم» بسهارنفور بــ «مظاهري» وخريج ندوة العلماء بلكناؤ بــ «ندوي» وخريج مدرسة الإصلاح بــ «إصلاحي» وخريج الباقيات الصالحات بــ «باقوي». وكل هؤلاء ليسوا أحزابًا أو فرقاً أو طوائف، وكلذلك فـ «الديوبندي» -أو «القاسمي» لا يشف عن الطائفية أو الحزبية.
  • إن علماء ديوبند بالنسبة إلى اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي من أهل السنة والجماعة تماماً ، وليسوا فرقة جديدة أو جماعة حديثة تحمل معتقدات من نوع جديد، أدت الظروف الراهنة إلى نشوئها . إن جماعة ديوبند هذه سعدت باتخاذ كل ما كانت تستطيعه للحفاظ على عقائد أهل السنة والجماعة ومبادئها وأصولها في داخل الهند وخارجها، ولقّنتها الجماهيرَ، مما ساعد على بقاء أهل السنة والجماعة بهويتها الصحيحة؛ وقد جعل مؤسسوا جامعة ديوبند هذه المهمة بصبغتها الأصلية علامةً عالميةً عن طريق تلاميذهم و أتباعهم المُرَبَّينِ لديهم مباشرة أو غير مباشرة.
  • وبما أن فضائل أهل السنة والجماعة ومزاياهم مستقاة من النصوص الشرعية – كما ستعرفون من خلال السطور الآتية – وبما أن علماء ديوبند انتهجوا طريقهم بشكل كامل؛ فانعكست عليهم أنوارهم ، فثبت لهم من خلال تطبيق صفات أهل السنة والجماعة عليهم، من الفضيلة والمزية ما هو خاص بأهل السنة والجماعة ، وما جاء ذكره في الحديث عنهم؛ ولكن إثبات هذه الفضيلة لجماعة ديوبند إنما جاء كبيان للواقع للواقع؛ لأن اتجاهها الديني ومزاجها المذهبيّ لم يكن ليتضح بدون ذلك؛ ولذلك فلا يجوز أن يوضع ذلك في إطار الفخر والمباهاة أو العصبية الجماعية، ولا يجوز الظن بأن «المثني على الشمس راح يثني على نفسه» كما يقول المثل الفارسي؛ فإنما صنعنا ذلك كحديث عن النعمة، وإيضاح للحقيقة ، ولم يكن الغرض هو التفاخر والتعصب أوالإعجاب بالذات.
  • وما عرضناه في هذه المقالة إنما جاء في إطار الأصول، وتحدثنا عن القضية بشكل موضوعي، وكميزان فقط ، يمكن أن نزن به أنفسنا نحن و يمكن أن نزن به الجماعات الأخرى أنفسها؛ لكي يستطيع كل منا أن يحاسب نفسه و يقيّمها تقييماً صحيحاً، ولم نضع في الاعتبار في حديثنا هذا شخصية بعينها أو جماعة بعينها أو فرقة بعينها. وما اعترض حديثّنا من كلمة سلبية أو شبه سلبية، فإنما جاء لتحقيق الجانب الإيجابي وإبانته، ولم يجئ للنيل من أحد. على كل فهذه المقالة إنما وُضِعَتْ كميزان مبدئي، فمن وزن به نفسه فجاءت كاملة غير منقوصة، لكان ذلك مكسباً لنا جميعاً يجدر بنا أن نشكر عليه، وإن لم تجئ كاملة، يجب أن تُبْذَلَ المحاولات للإكمال، ومن ثم فلا يجوز أن يُحْسَبَ هذا الحديثُ ضد جماعة أو فرقة، أو إساءةً إليها ؛ لأن ضمير الكاتب خالٍ عن ذلك، وكفى بالله شهيداً.
  • وفي مبادئ التربية والإعداد النفسي التي تحدثنا عنها في هذا الكتاب ركّزنا على التعليم والتدريس الذي قام به السلف باعتباره الآلة الوحيدة لتربية القلب والعقل. وقد صرح الأنبياء عليهم السلام وعلى رأسهم سيدنا خاتم الأنبيياء صلى الله عليه وسلم بأن الغرض من بعثتهم هو تعليم الدين وتكميل مكارم الأخلاق، واعتبر القرآن الكريم «التدريس» لازماً للعلماء الربانيين لكي يكونوا ﴿رَبانيين﴾ في قوله ﴿وَبَمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُوْنَ﴾ (آل عمران/79). ولذلك على هذه الناحية ركّزنا في هذه المقالة تركيزاً أكثر؛ ولكن المقالة إذا كانت تتبنى «التدريس» فإنها لا تتبنى «المدرسة» ؛ فلو وُجِدَ هناك شخص تلقّى التعليم والتربية بدون مدرسة، على «طريقة التدريس المنزلية» على شيخ في الأسرة، أو على عالم رباني، وبالشروط التي ذكرناها في هذه الرسالة، وتخرّج عالماً ضليعاً ثقة، فإنه سيُعَدُّ ثقة وإن لم يتعلم في «مدرسة».

ولكنه بما أن أداء هذه الفريضة إنما يتم في هذه الأيام عن طريق المدارس الدينية؛ حيث خلت البيوتات من النظام التعليمي – المتبع لديها في الماضي – في الأغلب ؛ فعاد «التدريس» و «المدرسة» شيئًا واحداً؛ وبالتالي أصبح أمراً طبيعياً ومألوفاً أن يقال بلزوم المدارس الدينية وأن يُعَدُّ تعليمها وتدريسها مِحَكًّا لتقييم الشخصيات.

  • وكما أن الإسلام هو أعدل الأديان في العالم بالقياس إلى روايته ودرايته وأصوله و فروعه؛ وكما أن الشريعة الإسلامية هي أعدل الشرائع بين شرائع الأديان بالنسبة إلى مسائلها الأصولية والفروعية ؛ كذلك مذهب أهل السنة والجماعة بالنسبة إلى أساسه أعدل المذاهب بين المذاهب الشرعيةالإسلامية ، وأتباع هذه المذاهب – سواء كانوا أحنافاً أو شوافع أومالكيين أوحنابلة، على اختلاف أصول تفقههم – من أهل السنة والجماعة؛ حيث يمتازون بعدم الغلو والمبالغة، واللاإفراط واللاتفريط، ولا يوجد فيهم تشدد أو تقصير، وإنما يوجد فيهم كمال العدل والاعتدال، ويتصلون في أصولهم وفروعهم وكلياتهم وجزئياتهم بالكتاب والسنة، ويصح أن يوصفوا بــ «أمة وسط» وهم يشكلون حجة فيما بين جميع المذاهب.

﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا لِّتَكُوْنُوْا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا﴾ (البقرة/ 143)

  • وستشتمل هذه السطور على ثلاثة أجزاء :
  • الشرح الأساسي لمذهب أهل السنة والجماعة وذوقهم و مشربهم و مزاجهم الديني، و تحليل العناصر التي يتألف منها، وذلك في ضوء الكتاب والسنة.
  • تطبيق مذهب علماء ديوبند على المذهب المذكور والتدليل والتفصيل لكونهم جزءاً أصيلاً من أهل السنة والجماعة.
    • تقديم أمثلة نوعية على ذلك.
  • ومن أجل القيام بعملية التطبيق والتوفيق قد يشعر القراء بالتكرار في محتويات الرسالة؛ لأننا قد احتجنا في بيان التوافق إلى إعادة الأمور التي كنا قد ذكرناها كمبادئ وأصول لدى الحديث عن مذهب أهل السنة والجماعة؛ حيث سقناها في الحديث عن اتجاه علماء ديوبند الديني كنتيجة ؛ وذلك لأن عملية التطبيق والمقارنة لم تكن لتتم بدون ذلك، وبما أن العناوين ستختلف في الإعادة مهما كانت المعاني واحدة، فلا تبدو الإعادة إعادة وإنما تبدو معنى جديداً لا يثقل علىالذهن، وإنما يفيض بطرافة وجدة. ومثل ذلك مثل المحدثين الذين يسوقون حديثاً واحداً مرات عديدة في أبواب شتى، ويستنبطون منه أحكاماً شتى؛ لكونه مشتملاً حقاً على نواحٍ عديدة تليق بأبواب شتى ؛ فيتحدثون عن كل ناحية في الباب المخصص لها، مما يُحْوِجُهم إلى ذكر الحديث مرتين أو ثلاث مرات أو أكثر ؛ ولكن تغيّر ترجمة الباب وعنوان المسألة يجعل القارئ لا يشعر بالتكرار ؛ لأن ذلك يصبح إذاً معنى جديداً. ونفس الصورة حدثت في هذه المقالة؛ فالمرجو من العلماء أنهم سوف لا يسأمون مثلَ هذه الإعادة والتكرار وإنما سيتمتعون بها – إن شاء الله.
  • وقد سبق أن وضع كاتب هذه السطور مقالات و رسائل في بيان مذهب علماء ديوبند وذوقهم الديني؛ ولكننا كنا قد احتجنا فيها إلى الإيجاز في هذا الموضوع ؛ لكونها لم يُقْصد منها أصلاً بيانُ مذهب علماء ديوبند، وإنما تعرضنا له من خلال الحديث عن موضوعات أخرى؛ فلم نتحدث عن مذهبهم إلا بالقدر الذي اقتضته تلك الموضوعات ولم يتسع المجال للتفصيل.

وصدرت المقالة الأولى في الموضوع عام 1350هـ تحت عنوان «تقرير عن دارالعلوم التي مضى عليها 67 عاماً» . وكان موضوعها بيان إنجازات دارالعلوم ديوبند عبر 67 عاماً من حياتها، وتحدثنا فيها عن المذهب بشكل فرعي، واكتفينا بإشارة مجملة إليه؛ حيث لم يكن الموضوع هو الحديث عنه.

وصدرت المقالة الثانية عام 1375هـ بعنوان «تاريخ دارالعلوم» وكان غرضها هو الحديث عن المنهج العام لدار العلوم وأحوالها السنوية، وكان محتوياً على تعريف موجز بها ، وتعرضنا فيها عبر صفحات عن مذهب علماء ديوبند، ولكننا لم نتعرض لأي تفصيل في هذ الصدد.

والمقالة الثالثة صدرت عام 1396هـ كمقدمة لـ «تأريخ دار العلوم» وكان موضوعها أيضا تأريخ دار العلوم، والحديث عن مؤلفه ، والتقريظ اللائق بالكتاب، ولم يكن الموضوع هو بيان المذهب ؛ ولكنه جاء ذكره بمناسبة الحديث عن تأريخ دارالعلوم ؛ ولكنه اكتفينا هنا بالحيثية التأريخية للمذهب، أي إن هذا المذهب من تلَقَّاه من علماء ديوبند و متى تلَقَّوه وما هو مبدؤه و مبتدؤه، وكم مرحلة تاريخية قد مضت عليه، و ما هي الصور التي أخذها لدى الظهور، ولم نتعرض في هذه المقدمة أيضا عن جميع تفاصيل المذهب؛ حيث لم يكن ذلك موضوعها ، ورغم ذلك تم فيها تسليط ضوء كاشف عليه يكفي لفهم المذهب.

والمقالة الرابعة كنا قد وضعناها عام 1383هـ حول موضوع مذهب دارالعلوم ديوبند؛ ولكنها لم تصدر، وقد تعرضنا فيها للمذهب رأساً ، فتحدثنا فيها عن نوعيته وعناصره و مظاهره العلمية، مما كان يلقى ضوءاً على نوعية المذهب ، وسقنا في شأنه أمثلة نوعية، ولكننا لم نتعرض فيها أيضا لذكر الدلائل ومصادرها الشرعية، ولشهادة السلف الصالحين باعتدال المذهب وتوسطه ؛ لأنه لم يكن هناك داع لكتابة تلك الدلائل والتفصيلات آنئذ، وإن كان مؤلف تاريخ دارالعلوم ديوبند (السيد محبوب رضوي) المتوفى (1399هـ / 1979م) قد جعل كثيرًا من محتويات المقالة جزءاً من التأريخ بإذن منا وبألفاظنا ، فهذه المقالة وإن كانت لم تصدر مستقلاً؛ ولكنها صدرت ضمن الجزء الأول من «تاريخ دارالعلوم، ديوبند».

والآن لما ظهرت تساؤلات عن ذوق علماء ديوبند الديني ومزاجهم المذهبي ، أشرنا إليها من قبل، رأينا الحاجة ماسة إلى إتمام معاني هذه المقالة وأن تُجْمَع من أجل وجود الدواعي – وهي التساؤلات المشار إليها – الدلائل والشواهد التي كانت تنقص تلك المقالة وأن يُعَضَّد كل جزء من البحث ببراهين من الكتاب والسنة وآثار السلف. وبذلك كله فقد حولناها موضوعاً مستقلاً و نقدمه في صورة كتاب مستقل عام 1400هـ ، وهي المقالة الخامسة في هذا الموضوع، وهي صورة متكاملة لحد ما لعلماء ديوبند و اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي.

فالمقالات الأربع السابقة تشكل متناً وهذه المقالة أو الرسالة تشكل شرحاً لها؛ ولكنه بما أن تلك المقالات تتضمن صوراً أخرى للمذهب، فإن تناولها قارىءٌ دراسةً ولاسيما مقدمة تاريخ دارالعلوم وصفحات أخرى من التأريخ يتصدرها عنوان «مذهب دارالعلوم» فإنه يكون قد استوعب هذا المذهب والذوق دراسةً ، وتجلت له كل ناحية من نواحيهما كالمرآة.

ولا بد أن نصرح بأن هذه السطور بما أنها وُضِعَتْ لبيان المذهب والذوق الديني الذي هو قضية علمية تماماً مشتملة على مباحث علمية ، فتخللتها كلمات اصطلاحية وتعبيرات علمية و عبارات فنية، ثم إن العبارات المصوغة في الأردية هي الأخرى ليست أردية سلسة كالأردية التي تُتَدَاوَل اليوم؛ فالمرجومن القراء ألا يبحثوا فيها عن الحلاوة الأدبية والصبغة الإنشائية ، على أن لغتي هي الأخرى لغة التلميذ، ولستُ أديباً في الأردية ولا أتمتع بالكفاءة الإنشائية؛ فالملتمس من القراء أن يضعوا نصب أعينهم المعاني والأهداف فقط، وسيفهمونها إن شاء الله بهذه العبارة المتكسرة أيضا، ومهما خلت العبارة من «الأدبية» فإنها لا يشوبها سوء الأدب في موضع ما.

وبعد هذه الأمور الموطئة نرجو القراء أن يدرسوا أولاً مذهب أهل السنة والجماعة ، الذي سيجدون طيه ذوق علماء ديوبند الديني ومزاجهم الإسلامي متبلوراً، وبالله التوفيق.

مذهب أهل السنة والجماعة ، تحليل عناصره ومكانته الشرعية :

ولإدراك الذوق المذهبي لأهل السنة والجماعة ، الذوق الذي عُجِنَتْ طينته بغاية الاعتدال والتوازن، يكفي أن نمعن النظر في لقبهم المذهبي : «أهل السنة والجماعة» لأن النظر فيه يجلي مرتكزاته بشكل تلقائي كما يُبَلْوِرُ نوعيته الاتزانية والشمولية.

واللقب مركب من الكلمتين : السنة والجماعة، ومجموعتُهما هي التي تُشَكِّلُ مذهبهم الذي لا يتكوّن من إحداهما. والسنة تشير إلى القانون والدستور والطريق والهداية والصراط المستقيم الذي أُمِرَتِ الأمة باتباعه: ﴿هَذَا صِرَاطِيْ مُسْتَقِيْمًا فَاتَّبِعُوْهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ﴾ (الأنعام/153.)

والجماعة ترمز إلى هداة الطريق: الذوات القدسية والشخصيات المقدسة ذوي الصدق والصفاء، الذين في هدايتهم وصحبتهم وتربيتهم أُمِرْنَا أن نسلك الصراط المستقيم و ننتهج سبيل التقوى ونعيها.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللهَ وَ كُوْنُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ﴾ (التوبة / 119)

مما يوضح أن الأصول والقوانين في هذا المذهب في معزل عن الذوات وأن الذوات في غنى عن الأصول والقوانين غير موثوق بها؛ حيث إن القوانين إنما انتقلت إليها عن طريق هؤلاء الذوات وإن هؤلاء الذوات إنما عُرِفَتْ و كَسَبَتِ الاعتبارَ عن طريق هذه القوانين.

والسبب الواضح في الجمع بين عنصري المذهب الأساسيين: القانون والشخصية في تعليم الدين والقانون السماوي، أن الحقائق المعنوية إنما تُوْجدُ منطويةً على تعبيراتها الخاصة ومعجونةً بها، فلو حدث تغير ما في التعبير لتغيرت هذه الحقائق من داخلها، وتبدلت بغيرها تماماً، ويتلاشى ما كان المتكلم قد أراده من ورائها. ولذلك فإنه فيما يتعلق بالقوانين الوضعية هي الأخرى تناقش مجالسُ التشريع لدى وضعها جملةً جملةً منها لأسابيع، حتى تتوصل إلى كلمات مرضية لديها. وهذه الكلمات هي التي يكمن فيها غرض القانون الذي تتم تسوية قضايا الدول والأمم في ضوئه ؛ فكأن الحكومات أيضاً إنما تدار بألفاظ القانون و تغيراتها. ولو وُجِدَتْ ثغرة ما في ألفاظ القانون أو حصل تغير ما، فإن سياسة العالم تنقلب ظهراً لبطن و تحدث ثورات كبيرة.

كلمات القانون تحمل أهمية مثل معانيها:

ومن الواضح أنه إذا كان عماد المعاملات العاجلة في الدنيا الباقية لأيام محدودة ، وعماد قضاياها و مرافعاتها هو تعبيرات القانون وصياغته اللفظية ، فإن شؤون الآخرة الأبدية أهم بكثير و أخطر من شؤون الدنيا الفانية. إن هذه الكلمات الإلهية للقانون الأخروي، وتعبيراته الغيبية واصطلاحاته الدينية، لئن لم تنزل من السماء أو لم تبق محفوظة أو تسرب إليها تغير، فإن هذه الحقائق هي الأخرى التي كانت مودعة تلك الألفاظَ، لا تبقى محفوظة ، مما يجعل جهاز الهداية والنجاة في الآخرة يختلّ بدوره. ولذلك اختار الله عز وجل في كل عصر أن يُنْزِل قانونه في تعبيراته و تعبيرات رُسُله وألفاظهم ، و أقام تعالى نظاماً دقيقاً للحفاظ عليها حتى تبقى الحقائق المطلوبة بألفاظها، وحتى يبقى عرض هذه الألفاظ هو وسيلة لاستحضار الحقائق وتذكرها كلما طرأ عليها نسيان أو خطأ.

ومن الواضح أنه لئن لم تكن قد نزلت التعبيرات اللفظية لكتاب الله عز وجل ، فإن فهم محتويات قانونه ومضامينه وبقاءها وتذكرها من جديد لدى النسيان، لم تكن إلى ذلك سبيلٌ ، على حين إن كثيراً من المعاني والأغراض إنما تُسْتَنْبَطُ من نص الكلام الإلهي، وكثيراً منها تتضح من دلالة أسلوبه، وإشارته، بينما تتجلى كثيرٌ منها من مقتضيات نصه. ولم تكن لتتجلّى هذه المعاني والأغراض لئن لم تُوْجَدْ تعبيراته البليغة. وجملة القول: إن هذه المدلولات لا يمكن أن تتضح لئن لم توجد التعبيرات الإلهية تلك بأسلوبها.

كان القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، وأنزله الله ليبقى ليوم الساعة؛ فأنزل الله تعالي تعبيراته اللفظية هي الأخرى من عنده، وتولى هو حفظها. ولم يتم الاكتفاء بذلك وإنما تولى الله عز وجل بجانب إعطاء الضمان بحفظ القرآن، الاهتمامَ بكتابة بيانه وحفظه أعنى الأحاديث النبوية الشريفة. بل كان الاهتمام بها أكثر لكونها شرحاً عملياً وعلمياً لمعاني القرآن ومراداته، وكونه تفسيراً أوليًّا لها أثبَت في الأذهان و رَسَّخ فيها مفهومات القانون القرآني ومراداته الحقيقية؛ فتم حفظها – مثل القرآن – أولاً في الصدور ثم تم تدوينها في السطور؛ حيث لم يكن ممكناً بدونها فهم المرادات الربانية؛ فلم يكن الاكتفاء بإنزال تلك الألفاظ والتعبيرات فقط ، وإنما كان الاهتمام باتخاذ تدابير بصيانتها الكتابية وتدوينها و قراءتها، حتى تكون هذه التعليقات والمذاكرات والقانون المدون ذريعةً للحفظ والتذكّر لدى الذهول والغفلة. ومن ثم كانت العناية إثر نزول الألفاظ بكتابتها بشكل دقيق؛ حيث كانت صيانة المعاني متوقفة على صيانة الألفاظ، وقد كان السبيل الوحيد إلى ذلك هو الكتابة والتقييد، وقديماً جاء المثل قائلاً؛ «العلم صيد والكتابة قيد».

وكان الله عز وجل هو الذي قيّد تعبيراته تلك بقلمه الأعلى في اللوح المحفوظ، ثم أنزلها مكتوبة إلى بيت العزة الذي هو مكان سامٍ في السماء الدنيا، ثم أنزلها منه مُنْجمَّةً على قلب النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأنّ هذه الألفاظ هي التي كُتِبَتْ في الأماكن العليا في السماوات، وهي التي أعيدت كتابتُها في الأماكن السفلى في الأرض، حتى تبقى هي مُقَيَّدَةً مضبوطةً في جميع دوائر السماوات والأرضين، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه النبوي على الصحابة رضي الله عنهم فثبتها في قلوبهم.

وجرياً على السنة الإلهية تلك عُنِيَ صلى الله عليه وسلم عنايةً كاملة بكتابة الآيات القرآنية هذه وألفاظها وتعبيراتها، وكلّفَ جماعة خبيرة من الصحابة رضي الله عنهم بكتابة القرآن، حتى تم جمع هذه الكتابات وتدوينها على عهدي أبي بكر الصديق و عثمان ذي النورين رضي الله عنهما، وفي صورة المصحف، وبنفس الترتيب الذي وُجِدَتْ به على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مُوَزَّعَةً في الأوراق والأحجار والألواح الجلدية . وذلك كله لكي تصل إلى الأمة نفسُ الألفاظ الإلهية عن طريق هذه الكتابات، وتبقى تصل إلى الأجيال المتلاحقة حتى يوم الساعة.

محاسن الذات والصفات مكنونة في التعبيرات:

ومن الواضح أنه لما كانت المعاني والمرادات الربانية وأيضا كانت محاسن الذات والصفات الإلهية مكنونةً في تلك التعبيرات، وكانت الألفاظ والنقوش مرآة تتجلى فيها هذه المعاني، كانت هذه الألفاظ وسيلة لانتقال المحاسن العلمية والمعرفية إلى الأذهان. وذلك كما جاء في الشعر الفارسي الذي قال فيه الشاعر عن نفسه :

«إني كامن في حديثي كرائحة الزهرة في وُرَيقَاتِها؛ فكلُّ من يود أن يراني فَلْيَرَني في حديثي».

وجملة القول إنه فيما يتعلق بنزول الوحي أعطيتِ الأوليةُ لأداء الألفاظ وقراءتها، ثم ضُبِطَتْ في اللوح المحفوظ بالكتابة، ثم أنزِلَتْ هي إلى بيت العزة مكتوبة، ثم أنزِلَتْ على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كُتِبَتْ عن طريقه صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، ثم جمعها الصحابة في مصحف بالتدوين والترتيب. وكل ذلك يؤكد جلياً أن الكلمات والألفاظ هي التي أُعْطِيَتِ الأولويةَ في كل من النزول والقراءة والحفظ والكتابة، لكونها مداراً لجميع المعاني والأغراض والحقائق والمعارف، حتى انتشرت مجموعتها – الألفاظ – بشكل كتاب في الدنيا كلها، ودُعِيَ «كتابَ الله» ولذلك أطْلِقَ على الكلام الإلهي هذا لقبُ «قرآن مبين» في جانب؛ حيث قُرِىءَ في العالم الأعلى والعالم الأسفل، وأطْلِقَ عليه في جانب آخر لقب «كتاب مبين» حيث كتب في العالم الأعلى والعالم الأسفل.

الحاجة إلى الشخصية بجانب الكتاب:

وإلى جانب ذلك هناك حقيقة لا تُنْكَرُ أن الكلام الإلهي مهما كان جامعاً كاملاً وغاية في البلاغة بل كان معجزةً كلامية وكان محفوظاً بصورة معجزة؛ فإنه مهما جاء إلى الدينا فإنما جاء عن طريق شخصية تولت إبلاغَه إلى الناس وقراءته عليهم، ولم يحدث أن الكلام الإلهي نزل على جبل أو حجر لا يقدر على السمع والإسماع والقراءة والإقراء؛ مما يؤكد أنه من أجل إبلاغ ألفاظ الكتاب وتعبيراته ومن أجل فهم مراداته ، كانت الحاجة إلى شخصية معلم الكتاب أشدّ منها إلى الكتاب نفسه ونقوشها نفسها، حتى تتلوه على الناس وتفهّمهم مراداته.

وإذا أمعنا أكثر، أدركنا أن الحاجة إلى الشخصيات بجانب الكتب، إنما كانت أشد لسبب أكبر آخر، وهو أن الكلام له مزايا كثيرة لا يمكن أن تُدْرَك إلا بلهجة المتكلم وأسلوب أدائه وطريقة إلقائه وكيفية تفهيمه وحركاته وسكناته الكلامية، ولا يمكن أن ترتسم هذه الكيفيات في الورق و نقوشه وحروفه ما لم يكن هناك معلم ومتكلم، بهيئاته الكلامية والإلقائية، يقوم بأدائه باللهجة والكيفيات الصوتية والحركات الحديثة ، التي لابد منها طبيعيًّا من أجل فهم مراداته . وجملة القول إن المراد الحقيقي للكلام لا يمكن أن يتضح بمجرد الورق أو بمجرد المكتوب فيه.

وإلى جانب ذلك إن منبع الكلام إنما هو الكيفيات التي يصدر عنها الكلام والتي تجعل المتكلم يصوغ بشكل طبيعي أسلوباً خاصاً للهجته وهيئة تكلمه . فالجملة الواحدة إذا أدِّيتْ بالأسلوب الغاضب وبالعينين المفتوحتين المحمرتين ، فإنها ستعطي معنى الزجر والملام مهما كانت الألفاظ لينة مُؤَدَّبَةً، وإذا ألقيت بأسلوب ملؤه الحنان واللطف وبطرف خافض ، فإنها ستشف عن الرحمة والكرم مهما كانت الألفاظ قاسية خشنة.وكذلك فحركة التعجب إذا أُدِّيَتْ بالأسلوب التعجبي كان الكلام باعثاً للعجب، وإذا أُدِّيَتْ بهيئة الدهشة كان الكلام باعثاً على الدهشة، وإذا أدِّيَتْ بلهجة التحكم والبطش كان تعزيرياًّ تأديبياًّ، وإذا أُدِّيَتْ بلهجة الحب كان نامًّا عن الحب والحنان، وإذا أُدِّيَتْ بلهجة التساؤل دلّ على السؤال. وخلاصة القول إن هيئة التكلم وكيفية الأداء ونوعية الصوت تنم عن الكيفية الباطنة التي صدر عنها الكلام والتي تحدد أغراضه وتشخص الأهداف التي أُطْلِقَ من أجلها. وإذا كان الكلام صادراً عن كيفياته الباطنة فكيف يجوز أن لا تكمن هي فيه وأن لا تبرز هي بشكل خاص لدى التكلم.

وجملة القول إنه مهما كانت الألفاظ واحدة وموحدة في شتى المواضع ؛ ولكنها تأتي مصوغة في قالب الكيفيات الباطنة للمتكلم ، التي تدلّ عليه لهجته وأسلوب أدائه و هيئة تكلمه. فإن تبدلت هيئة التكلم ولهجة الأداء، تبدلت المعاني وتغيرت الحقائق . ومن الواضح أن اللهجة، وهيئة التكلم، وإحداد النظر، والحياء المترشح من العينين، أو التموجات المتلبسة بالصوت، والأشكال المعنوية للعواطف، والكيفيات النفسية، وظهور ذلك كله بالأسلوب الأدائي للألفاظ ، لا يمكن أن ينطبع ذلك كله في الورق أو الحروف والنقوش، وإنما يتجلى ذلك كله من شخص المتكلم . وعلى ذلك فالحاجة إلى الشخصية بجانب الكتاب، ليست من أجل ألفاظه فقط، وإنما هي كذلك من أجل فهم معانيه هي الأخرى. وذلك كما يقول الشاعر الفارسي:

«إذا حاول المصور أن يقوم بالتقاط صورة للحبيب القاتل ذلك، فإني أحتار أنه كيف يقدر على التقاط صورة لدلاله وغَنَاجِه»؟.

الورق والحروف لا تستوعب الحقائق:

ثم إن مرادات كلام الله تعالى تنطوي على ذخيرة كبيرة من الحقائق الغيبية المكنونة التي يكون الغرض منها هو الوصول بالمخاطب إلى أبعاد الأهداف وإحداثُ السمول والتعمق في علمه. وإذا تقدمنا خطوةً وجدنا أن هذه الحقائق تكون مشتملة على أحوال و مراتب إنما تطرأ على القلب عند ما تتشرب هذه الحقائق، ويكون الغرض هو صبغ قلب المخاطب وتكييفه بتلك الأحوال والمراتب، كالحب والأنس ، والرغبة والاشتياق ، والرجاء والخوف، والحرص على الغرض الحق، والأخذ بالعزيمة في ذلك، والاجتناب مقابل ذلك من الباطل والابتعاد عنه، وامتناع المخاطب عنه وعن مقتضياته، والخوف من الاقتراب منه، والشعور بعاطفة الاستنكار والرفض تجاهه. ويراد أن يمتلئ قلب المخاطب بذلك كله حتى لا يبقى هو في مرتبة «القال» وإنما يتحول إلى مرتبة «الحال» ويعود جزءاً من طبيعته وسارياً مع روحه.

ومن الواضح أنه من غير الممكن أن يستوعب الورقُ هذه الأمورَ كلها وأن تصل هي إلى القلوب مباشرة بدون واسطة صاحب الكلام أو رسله أو الأشخاص الذين تربَّوْا عليه وتلقَّوا منه التفهيم والتمرين والتدريب. وبكلمة أخرى: إنه من غير الممكن أن يقدر قلب المتكلم على صياغة قلب المخاطب في بوتقته بمجرد الورق والنقوش الموجودة فيه ما لم يؤثّر المتكلّم في المخاطب بهمته الباطنة.

فإذا كان الذهن البشريّ لا يقدر على استيعاب المراد اللفظي من الكلام بدون شخص من البشر يقوم بتفهيمه إيّاه على حين إن الألفاظ الدالة على المراد تكون موجودة أمام عينيه؛ فأنّى للورق و نقوشه أن تستوعب تلك الكيفيات الباطنة والأحوال اللطيفة. إنها لا يمكن أن تَثْبُتَ في القلب بدون معلم يكون قد تلقّى التربية وبدون تفهيمه و تمرينه، فضلاً عن أن يصطبغ بها القلب و يأخذ صبغة الله.

وإلى جانب ذلك لا يمكن أن يُنْكَرَ أن القانون الإلهي إنما الغرض منه هو العمل الذي تتوقف عليه سعادة البشر. ومن الواضح أن القانون مهما كان جامعاً مانعاً و بالغاً من البلاغة أن يكون دالاً بنفسه على معانيه، فإن قوة تكلم المتكلم هي الأخرى – فضلاً عن مجرد الألفاظ والنقوش والحروف- لا يمكن أن تكشف الهيئة المطلوبة للعمل ما لم يكشفها شخص عامل من خلال عمله هو؛ ولذلك فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بتلاوة الأمر الإلهي «صَلُّوْا» – أي أيها الناس ! صَلُّوْا كما تشاؤون – وإنما قال (ليحدّد الهيئة المطلوبة لأسوته الحسنة) : «صَلُّوْا كَمَا رَأيْتُمُوْنِيْ أُصَلِّيْ».

وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن المطلوب بجانب مفهوم الصلاة هو الشكل المرضيّ لها عند الله تعالى. وذلك الشكل لا يمكن الوصول إليه ما لم يحدده الرسول الإلهيّ، ولا يمكن أن يحدده الورق أو التكلم ، ولذلك فإن جبرئيل – عليه السلام – علّمه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة بشكل عملي بجانب إبلاغه إيّاه الأمر الإلهيّ بها، كما حدد عليه السلام مواقيتها بعمله هو.

ومن الواضح أن جاهلاً أو متعنتاً إذا اعتمد – بعد نزول القانون – على مجرد الكتاب و نقوشه السوداء في معزل عن المعلم – الذي جاء ليعلم القانون – تلك النقوش التي لا تشتمل على لهجة التفهيم ولا على مسحة للحركات والسكنات الكلامية وأسلوب الأداء، ولا على ارتسامة للشكل المطلوب للعمل، ولا على كيفية معنوية له، ولا على صبغة للحرارة القلبية والوجدان السليم؛ فإنّه لا يفهم من ذلك الكلام إلا ما تكيفت به نفسه هو من المراد الذي لا يكون المراد الإلهيّ وإنما يكون مراده هو. ومن الواضح أن ذلك لا يكون منه مجرّد سوء الفهم، وإنما يكون سوء السلوك والسيرة كذلك، الذي يُعَبَّرُ عنه بــ «التلبيس» الذي يعني أن يُؤخَذ اللفظ الإلهي ويُحَمَّلَ من المراد ما ترضاه النفس.

فكان من اللازم أن يجيء مع القانون المنزل من الله الأشخاصُ المبعوثون من الله كذلك، وأن يتتابع فيما بعد من العصور الأشخاصُ المباركون المتلقون منهم التربيةَ؛ فيقوموا بتلاوة الكلام وتفهيمه وتعليم مراداته، ويطرحوا النموذج العملي، وأن يطهروا قلوب المخاطبين بتعليمهم وتربيتهم عن الزيع والضلال، و يزودوها بالاستقامة والفهم والعقل والكيفيات الروحانية، ويجعلوها صالحة لفهم المراد الحقيقي والحرص على العمل والتكيف مع الأحوال المعنوية. وذلك كله استلزم أن يصاحب الكتابَ الشخصُ الذي يقوم بتعليمه؛ حتى يتم تجاوز هذه المراحل كلها في صحبته وتحت تربيته وتدريبه؛ وإلا فلم تكن هناك حاجة إلى بعثة الأنبياء عليهم السلام مع الكتب التي نزلت من السماء.

الكتاب غرضه التذكير والمعلم غرضه التبيين :

وإذاً فإن الكتاب غرضُه «التذكير» ، يقول تعالى : ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ (القمر/17) والمعلم غرضُ بعثته هو «التبيين» يقول تعالى : ﴿لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ» (النحل/ 44) حتى تطّلع القلوب على الأغراض الحقيقية للكتاب والحقائق والكوائف المكنونة في الأغراض . ولهذا كله أعطى الله عز وجل بعد نزول «الذكر» – القرآن الكريم – الأولويةَ لتبيين المعاني وإيضاح المراد، إذ قال:

﴿وَ أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُوْنَ﴾ (النحل 44)

والنقطة الجديرة بالتأمل في هذه المناسبة أن الآية الكريمة قدَّمت «لتبيين للناس» على «لعلهم يتفكرون»؛ حيث إن الجملة الأولى تتعلق بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخَّرت الجملة التي تأمر بالتأمل والتفكير؛ مما يؤكّد أن تبيين المراد مقدم على التأمل والتفكير الذي يتعلق بالعقل. وذلك يدل على أن التأمل إنما ينبغي أن يُعْمَلَ في حدود المراد، حتى تتضح حقائق المراد الرباني وأن لا يُحَدَّدَ المرادُ عن طريق التأمل الشخصيّ، وإنما ينبغي أن يُحَدَّدَ عن طريق إبانة شخص النبي المعلم، وإلا فإنه يكون مرادَ النفس ولا يكون مراد الله تعالى.

وإذاً فإن مراد النص سماعي؛ حيث أسْنِدتْ إبانته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس قياسياًّ حتى يُقْتَدى فيه بالعقل والفكر ، وإنما سُمِحَ للعقل أن يتأمل ويتفكر في إطار المراد؛ حتى تنكشف عليه حقائق المعنى المراد؛ ولكنه رغم ذلك أُسْنِدَتْ تربية العقل هو الآخر إلى شخصيات الرسل المقدسة؛ لأن زلة العقل أشد من زلة الشعور؛ الأمر الذي يدل عليه دلالةً واضحةً تضاربُ أقوال الفلاسفة.

وذلك يؤكد أن حقائق المراد الرباني العميقة هي التي سُمِّيَتْ بالحكمة، واستنتاجُ النكات من المراد الذي منشؤه النفس ، هو مجرد الفلسفة التي لا علاقة لها مع الحكمة.

ولذلك فإن مدار كون عالمٍ ما أعلى أو أدنى أو أوسط ليس هو جودة إخراج الكتاب ورواؤه، أي ليس أنه إذا كان ورق الكتاب من النوعية الممتازة، وكان مصقولاً ، وكان قطعه متزنا ، فإن العالِم القاريء منه يُعدّ عالماً كبيراً ؛ وإذا كان الكتاب رديء الإخراج والطباعة؛ فإنّ العالم القارئ منه يُعَدُّ عالمًا سافل الرتبة ؛ وإنما العبرة في كون العالم كبيراً أو صغيراً بقوة أو ضعف ثقة الشخصيات و مستوى تعليمها وتربيتها؛ حيث يُنْظَرُ إلى شيوخها الذين تلقت منهم وإلى أسنادهم ، وإلى مدى علمهم وتقواهم، وإلى أن أسنادهم ورواياتهم وإجازاتهم هل ترتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؛ فلو لم يكن لهم سند, أو كان سندهم منقطعاً؛ فإن هؤلاء العلماء يُعَدّون علماء صناعين مزعومين غير حاملين لرصيد سوى قراءة وكتابة وقوة دراسة. ولكونهم غير مُرَبَّيْنَ – على صيغة اسم مفعوم – إطلاقُ كلمة «العلماء» عليهم سيكون من قبيل «قلب الوضع الصحيح» ؛ فأقوالُهم وأفعالُهم لا تُعْتَبَرُ حجةً في الأمور الدينية ولا يُلْتَفَتُ إليها فيها.

ثقةالعالم تقاس بشهادته:

على كل فإن ثقة العالم تقاس بشهادته التي يتم بها الاطلاع على شيوخه ومربيه، ولا تقاس بأسماء الكتب التي قرأها وبجودة أوراقها وكتابتها وطباعتها؛ وإذا جاء ذكر الكتاب فإنما يجيء خلال ذكر الشهادة بشكل غير مباشر ولا يأتي ذكرها مستقلاً. وإلا فإن هناك أدعياء كثيرين للعلم اليوم، لا يستند علمهم إلاّ إلى قراءة تراجم الكتب، أو إلى بعض الإلمام بالأدب واللغة، أو إلى قوة المطالعة أو الذكاء الشخصي والفطانة الموهوبة ؛ وقد تحتشد حولهم جموع للجهال أو «العلماء الجهال» ولكنهم لكونهم محرومين من السند المتصل والتربية المتوارثة، مجردون في الواقع من الإرث العملي. وإذا كان الأمر كذلك، فلا حاجة إلى الحديث عن مدى ما يتمتعون به هم ومن يستفيدون منهم، من العلم والفهم وصحة إساغتهم للمراد واستقامتهم على الطريق؛ ولهذا عدّ النبي صلى الله عليه وسلم ذهابَ العلم من الدنيا نتيجةً لذهاب العلماء الحق ولم يعدّه نتيجةً لفقدان الكتاب؛ فقد جاء في الحديث فيما يرويه سيدنا عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:

«إن الله لا يَقبِض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً ، فسئُلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».

( رواه البخاري ، كتاب العلم 2/ 41، الحديث رقم 100. و رواه مسلم، كتاب العلم باب (5) الرقم 13)

وذلك يدل على أن العلم ليس معناه مجرد القراءة والكتابة، وإنما العلم هو التلقي من العلماء الثقات والمسندين والتربي عليهم ؛ حتى يعود المتلقي المتربي صحيحَ الذوق والمزاج. والأصلُ في ذلك أن العلم في الواقع هو تراث النبوة، وإنما يستحق هذا الإرثَ من يتصل سنده الروحاني دونما انقطاع بصاحب النبوة. ومثلُ ذلك مثلُ الإرث الماديّ الذي لا يستحقه المرأ إلاّ إذا ثبت نسبه من جده وأبيه؛ فإن لم يثبت نسبه منهما يعود محروماً من الإرث. وكذلك فإرث العلم النبوي لا يستحقه إلا من ثبت سنده المتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك السند يصح أن نسميه بـ «النسب الروحاني»؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه:

«أنا لكم بمنزلة الوالد». (السلسلة الصحيحة للألباني 3 / 289)

أي إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الوالد الروحاني للأمة؛ فإن لم ينتهِ هذا السند العلمي للمرإ وهذه السلسلة التعليمية والتربوية إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارًّا بشيوخه ومعلميه، فإنه يُعَدّ محجوب الإرث بالنسبة إلى علم النبوة، ويكون علمه لفظيًّا مزعوماً و ناتجاً عن أفكاره وعواطفه هو؛ فلا يُعَدُّ حجة في الأمور الدينية ولا جديراً بأي اهتمام، ولا يتسبّب في الهداية ، وإنما يؤدي إلى الضلال.

والحديث يوضح أن السبب في فقدان العلم ليس هو فقدان الكتب، وإنما هو فقدان رجال العلم؛ وأن مراتب العلم إنما تتفاوت بتفاوت شخصيات العلم الثقات وكونها العليا والدنيا في السند ، ولا تتفاوت أبداً بكون الكتب جيدة أو رديئة. ولهذا السبب أوجب القرآن الكريم للمذهب الحق الشخصية الربانية مع الكتاب الرباني؛ حيث لم يكن بالإمكان – عادةً – بدون هذا الاقتران أن يتم تحديد مرادات الكتاب الإلهي ، وتحديد هيئة العلم وفق هذه المرادات، وأن تترتب على هذا العلم والعمل آثارهما من الخوف والتقى ، والرجاء والثقة ، والخشية والأمل، وحبّ الحق، وعداء غير الحق.

حكمة أخرى في الجمع بين الكتاب ومعلم الكتاب:

و لا يعزبنّ عن البال بهذه المناسبة أن الجمع بين الكتاب ومعلم الكتاب لم يكن ضرورياً لمجرد العلم أو فهم مرادات الكتاب أو التكيف مع الأحوال والكيفيات ؛ وإنما كان ضرورياً من أجل الأخلاق هي الأخرى التي هي منبع العلم وبمنزلة البذرة للعمل؛ وأيضاً إن الكيفيات الباطنة للعمل إنما تنشأ منها. أي إننا إذا أخذنا الكتاب واستغنينا عن المعلم أو اكتفينا بالمعلم دون الكتاب، فإننا لا نخطىء فقط في فهم مراداته، وإنما نخطىء في الأخلاق كذلك، ونتعرض في شأنها للإفراط والتفريط واللااعتدال. والسبب الأساسي في ذلك أن العلم ليس صفة ذاتية للإنسان، وإنما هو صفة إلهية؛ فلا يمكن أن تظل سافلة بل إنها رفيعة الرتبة وعظيمة المكانة بذاتها فلا تقبل الذل والانحطاط في وقت من الأوقات؛ فالشخصية الحاملة للعلم الإلهي هي الأخرى لا يمكن أن تصبر على الانحطاط.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه كان هناك خطر كبير لأن ينشأ في العالم عن طريق الرتب العلمية العالية، التكبرُ والتعالي، والإعجابُ بالنفس والأنانية، وما إليها من العواطف الكريهة من الاستبداد بالرأي، والنرجسية. والشعور بالعلو، واحتقار غيره ؛ الأمر الذي يجعله لا يبقى عالماً ؛ حيث لم يكن العلم صفته الذاتية ؛ ولا يبقى جاهلاً ساذجاً؛ حيث توجد عليه – على كل حال – مسحة من العلم. وعلى ذلك فلا تبقى فيه أصالةُ العلم التي كان من شأنها أن تكيّفه بالخشية والتقوى، ولا يبقى فيه الجهل الذي كان من شأنه أن يجعله لا يتردد لحظةً في الاعتراف بجهله. ومن الواضح أن تعليمه في هذه الحالة لا يعطي ثمرة، وإن أثمر، فإن نقائصه و معايبه ستنتقل إلى المستفيدين منه كذلك؛ فكان لزاماً أن يثار في العالم الانكسارُ والتواضع وإنكار الذات وما إلى ذلك من العواطف. وما كانت لتثور بدون الخضوع لرجل ربّاني، وما كان لذلك طريق سوى أن يضطر أن يخضع ويستمر خاضعاً أمام المعلم والمربي بكل أدب و احترام، وتذلل وانقياد، وطاعة واستسلام؛ حيث لم تكن أنانية وتكبره العلمي ليزولا بدون ذلك. وكلنا يعلم أن ذلك لم يكن ليتحقق بالخضوع للورق الذي هو والحروفُ والكتابات المُثْبَتَة فيه إنما كانت من صنعه هو؛ فلم يكن ليخضع أمام صنيعه . وأكثر ما كان ممكناً أن يحترمه تقليدياً ؛ فما كانت هذه العقدة لتنحل إلا بالمعلم والمربي – مكان الورق – وبالخضوع لديه والإكثار من ملازمته ومصاحبته والتعامل معه بالتواضع والأدب. وما كانت هذه الأنانية لتتلاشى والأكدار الخلقية لِتزولَ إلا بتعليم المربي وتربيته وتهذيبه؛ فالقرآنُ الكريم استوجب مصاحبة الصادقين من أجل هذا الأساس الأخلاقي إلى جانب فهم مراداته كذلك، وفيما أمر بالتزود بالتقوى والطهارة وتزكية النفس عن طريق العلم، إذ أمر بملازمة الصادقين فقال: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوا اللهَ وَ كُوْنُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ﴾ (التوبة/119)

وبينما علّم في سورة الفاتحة مسألة الهداية «اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ» إذاً لم يدع الصراط مطلقاً، ولم يُخيّره أن يختار من الصراط ما يراه هو مستقيماً بعقله، وإنما نماه إلى «الَّذِيْنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» و أمر أن لا يسأل الإنسانُ ربّه إلا الصراطَ الذي سلكه المُنْعَمُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والذي لا يمكن أن يناله بدون أن يتعلق بهم ؛ فهو كما يقول الشاعر الأرديّ:

تَعَلَّق بالذين يلاقونه؛ فإنه ليس هناك سبيلٌ إلى لقائه إلا ذلك.

وليس يعني ذلك إلا الأمرَ – بجانب اتّباع الصراط المستقيم – باتباع الشخصيات المقدسة – الأنبياء – التي هي التي تهدي إلى الصراط المستقيم وتدع المرأ يسير عليه دائماً.

فذكرُ هداة الطريق في سورة الفاتحة بجانب تعليم مسألة الهداية يعني طبيعيّاً وبشكل مؤكد أنه عُلِّمَ المسألةَ للتوفيق لمصاحبة تلك الشخصيات الهادية ؛ مما يدلّ دلالة صارخة على كون تعليم و تربية وصحبة الشخصيات المقدسة لازمة.

الصحبة النبوية هي السبب الأساسيّ في كون الصحابة أفضل أفراد الأمة:

ولو تأملنا وجدنا أن هذه الصحبة النبوية هي السبب الأساسيّ لكون الصحابة رضي الله عنهم أفضل من جميع أفراد الأمة؛ لأن الصحابي معناه المتمتع بالصحبة ، وليس معناه مجرد المتلقي للتعليم، ولذلك عُدَّتْ صحبتُهم هذه في موضع بعد موضع منقبةً عظيمةً لهم و فضيلةً كبرى، على أساسها فَضِّلُوْا على الأمة تفضيلاً مطلقاً:

﴿مُحَمَّدٌ رَّسُوْلُ اللهِ وَ الَّذِيْنَ مَعَه أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ الخ﴾ (الفتح/ 29)

وجاء في ذكر التهجد : ﴿وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِيْنَ مَعَكَ﴾ (المزمل/20)

و في موضع ذُكِرَ المُنْعَمُ عَلَيْهِم فَعُدَّتِ المعية نعمةً على أتباعهم: ﴿فَأولئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّيْنَ وَ الصِّدِّيْقِيْنَ والشُّهَدَآءِ وَ الصَّالِحِيْنَ وَ حَسُنَ أولئِكَ رَفِيْقًا﴾ (النساء/69)

ولهذا السبب لم يُطْلَقْ في السلف الصالحين على المستفيدين والمتلقين للعلم والتربية كلمةُ «التلاميذ» أو «الطلاب» وإنما كانت تُطْلَقُ عليهم كلمةُ «الأصحاب» فكان يقال: «أصحاب أبي حنيفة» وهكذا. وكان ذلك اتّباعاً للحديث؛ حيث وصف النبي صلى الله عليه وسلم المستفيدين منه بلقب «الأصحاب». فقال: «وددت أنا قد رأينا إخواننا ! قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ويؤيده أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي وصف فيه الصحابة رضي الله عنهم بقوله : «أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ».

على كل حال فإن اتّباع السلف والاصطباغ بصبغتهم بشكل كامل لم يكن ليتحقق بدون مصاحبتهم و ملازمتهم، فكلما ذُكِرَ هذا الاتباعُ المقصود عُدَّتْ أشخاص هؤلاء البررة سنداً للاتباع وحجة، وجاء التركيز على اتّباعهم بعناوين مختلفة:

﴿وَاتَّبِعْ سَبِيْلَ مَنْ أنَابَ إلَيَّ﴾ (لقمان/15)

وفي بعض المواضع أُمِرَ الأنبياء عليهم السلام بإصلاح الخلق وبالامتناع عن سبيل المفسدين ؛ فقد قال سيدنا موسى عليه السلام، وهو قاصد للطور لإتمام ميقات ربه، لأخيه سيدنا هارون عليهما السلام:

﴿وأَصْلِحْ ولاَ تَتَّبِعْ سَبِيْلَ الْمُفْسِدِيْنَ﴾ (الأعراف/42)

ومن الواضح أن الأمر بالامتناع عن معية المفسدين يستلزم الأمر الخفي باتّباع المصلحين ؛ حيث لا يمكن أن يتحقق اجتناب سبيل المفسدين بدون صحبة المصلحين.

وفي موضع أمِرَ موسى وهارون عليهما السلام بـ ﴿وَلاَتَتَّبِعانِّ سَبِيْلَ الَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ﴾ (يونس/89.) والأمر بالامتناع عن اتّباع سبيل الذين لا يعلمون يقتضي اتّباع «الذين يعلمون»؛ لأن النهي عن شيء يعني – مبدئيّاً – الأمر بضده.

ولهذا السبب فإن المحدثين يفضلون أحاديث الراوي الذي ثبت أنه بجانب لقائه شيخَه ، وُفِّقَ أن تمَتّعَ بصحبته طويلاً ولازمه في أدب و طاعة لمدة أطول، فاصطبغ بصبغته . وقد جاء فيما قاله عليّ رضي الله عنه ما يُعَدُّ أساساً لإطاعة المربين والمصلحين ؛ حيث استوعب جميع الطاعات وأشكال الخضوع والتواضع التي يمكن أن يتعامل بها المرأ مع شيوخه و مربيه: «أنا عَبْدُ من علّمني حرفاً، إن شاء باع وإن شاء أعتق». (تعليم المتعلم في طريق التعلم، للإمام برهان الدين الزرنوجي، ص:43)

على كل حال فإن التعاليم القرآنية وآثار وروايات الشخصيات المُشْربَةِ بتعاليم القرآن تؤكد أن عالماً لم يكن ليتخلى عن الأناينة والتعالي العلمي، وما إلى ذلك من الأدواء الكريهة، بدون صحبة و ملازمة العالم الذي فوقه، من المنيبين إلى الله، وذوي الصدق والتقى، المتبعين للصراط المستقيم، والمُنْعَم عليهم من رب العالمين؛ ولم يكن ليكون بدون ذلك متواضعاً منكسراً و منكراً لذاته، الصفات التي هي وحدها التي تجعله مُؤَهَّلاً لإصلاح خلق الله ؛ بل إن إعجابه بنفسه كان ليكون فتنة أشد في حق العباد؛ ولذلك قُيِّدَ العلمُ بالكتاب بملازمة معلّم الكتاب ومربي النفوس ؛ حتى يكون المرأ صالحاً فيكون مُؤَهَّلاً للإصلاح؛ لأن الإصلاح بدون الصلاح يؤدي حتماً إلى الفساد.

وقد نقل تلميذ مؤلف الهداية [الإمام الفقيه برهان الدين الزرنوجي] قطعة شعرية أنشده إيّاها أستاذه الفقيه برهان الدين صاحب الهداية المتوفى 593هـ / 1197م لبعض العلماء صَوّرَ فيها اولئك الذين ينهضون للإصلاح بدون الصلاح وللتربية بدون أن يتلقوا التربية، وعدّهم فتنة كبيرة في أبلغ تعبير و أصدق تصوير فقال:

فَسَادٌ كبيرٌ عالمٌ مُتَهَتِّك         وأكبرُ منه جَاهِلٌ مُتَنَسِّك

هُمَا فتنةٌ في العالمين كبيرةٌ لمن بهما في دينه يتمَسَّك

ولذلك فلم يَخَفِ النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من العوام، وإنما خاف عليها من الخواص الذين لا يمتون إلى الصلاح والإرث النبوي بصلة، فقال:

«وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين»

(رواه الترمذي، أبواب الفتن ، باب ما جاء في الأئمة المضلين)

«إذا وُضِعَ السيفُ في أمتي لم يُرْفَعْ عنها إلى يوم القيامة»

(رواه الترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء في الهرج).

وهؤلاء المضلون ليسوا إلا نوعين : الأول عالم بلا سند، والثاني عابد جاهل . ولذلك ركّز العلماء على الاجتناب من كلا النوعين، فكان العلماء القدامي يقولون:

«احذروا من الناس صنفين: عالم قد فتنته هواه و عابد قد أعمته دنياه».

إعجاب التابع بمتبوعه قد يجعله يظنّه ربًّا من دون الله:

واتضح من ذلك جليّاً أن العالم لا يستحق أن يُعَدَّ عالماً ثقة ومصلحاً ثبتاً ما لم يتصل – بجانب تلقيه العلم – بعالم صالح و مُرَبٍّ تقيّ، ويُقَوَِّمُ سيرته وأحواله العلمية والخلقية في صحبته ؛ بل اتّخده قوّامًا ومسيطراً ومؤاخذاً على سيرته وسلوكه . ولا يتسحق بدون ذلك أن يُعدّ عالماً مهما أسماه جمع غفير من الناس «عالماً» واتّبعوه.

ومن الحقيقة الصارخة أن هذه التربية الخلقية والتزكية النفسية لا يمكن أن تتحققا بالورق والنقوش والكتابات الموجودة فيه، وإنما تتحققان بشخصية مربية. مما يؤكد أن ملازمة الشخصيةالمعلّمة المربية واتّباعها لا يتوجّبان من أجل الحصول على العلم ومن أجل تفهم المرادات فقط، وإنما يتوجّبان كذلك من أجل تقويم الأخلاق و تزكية السيرة؛ لأن صحة العلم تتوقف على صحة الأخلاق.

ولكنه كانت هناك مخافة من أن إعجاب التابع بمتبوعه ، وانقياده له في كل وقت، وملازمته له بالحب والتكريم، قد يُحْدِث فيه – التابع – غايةَ التذلل النفسي وعاطفة تقديس الشخصية ، ويدفعه ذلك بالتالي إلى اعتبار المربي دكتاتوراً مستبداً بالأمر في شأن الدين ، فيظنه رباً من دون الله ، فيسير على درب البدع والشرك والمنكرات.

ولا حاجة إلى القول إن مثل هذا العالم المتذلل الذي يتخذ العبد معبوداً ، أخطر على عباد الله من العالم المتكبر ؛ لأنه يفسد الخلق ولا يصلحهم ؛ حيث يعود مُفْعَماً بجراثيم العصبية والحمية الجاهلية والطائفية ، ويتعودعلى الخصام والجدال، وتترسخ فيه العادة السيئة من البدعة والشرك و نبذ التوحيد، والناشئة عن الاتّباع الجارف للأقوال والأفعال لشخصيات المربين. ومن لوازم هذه العادة هو الجدال والنزاع، وإثارة الفتنة والمفسدة ، والتفريق بين المسلمين وتوزيعهم في أحزاب وجماعات ، والوقوف في وجوه أهل الحق والترغيب عنهم وتحدّيهم. وكلُّ ذلك من الخواص الطبيعية للبدعة والشرك، وقد صرّح بذلك كله الحديث النبوي الشريف.

الحكمة في الإلزام بالجمع بين علم الكتاب وحبّ الشخصيات:

ولذلك ألْزِمْنَا بعلم الكتاب بجانب حب الشخصيات المقدسة واتّباعهم ؛ حتى يعرف المرأ الحدود في ضوء العلم، ويفرق بين التوقير والعبادة، وبين التربية والربوبية، وبين الطاعة والعبودية؛ حتى لا يتدرّج إلى إحلال المربي محلّ الرب، كمثل اليهود والنصارى الذين نبذوا هذا الفرق ، و وضعوا الشخصيات نصب أعينهم، ضاربين عرض الحائط الفرق بين العباد و رب العباد . وبلغ الأمر ببعض الجهال أنْ أضْفَوْا على الرب صفات ناقصة يتصف بها العبد . وكان ذلك غاية في إهانة الرب عزّ و جلّ، بينما أدّت غاية الإعجاب بالشخصيات البشرية ببعض الناس إلى أن أقرّوا لها بالصفات الربانية الخاصة، وكان ذلك غاية في تعظيم العباد. وعلى ذلك فالبعض عادو يعبدون الخلق، والبعض عادوا ينصرفون عن عبادة الخالق.

وموجزُ القول أنه ما لم يتزامن مع الكتاب تعليمُ الشخصيات المقدسة و تربيتهم وصحبتهم وتزكيتهم، ومالم يصاحب ذلك علمُ كتاب الله، والشعورُ بالمراتب والفروق، لن يقوم أساس لمذهب معتدل ، فضلاً أن يخطو هذه المذهب إلى إحداث الاتزان والاستقامة في القلوب.

فبهذين النوعين الحكيمين من التعليم لئن أزِيْلَتْ في جانب مساوىء التكبر بالتقييد بإطاعة الشخصيات ؛ فإنه في جانب آخر وُضِعَ سدٌّ أمام التذلل الزائد و عبادة المخلوق ، عن طريق علم الكتاب و معرفة الفروق بين العبد والمعبود. وذلك لأن الاعتدال لا يتحقق إلا بإزالة الإفراط والتفريط في الجانبين المذكورين . وعلى هذا الاعتدال يقوم أساس المذهب الحق . ولذلك فإن القرآن الكريم عرض هذين العنصرين : الكتابَ والشخصيةَ – اللذين هما مدا العدل والاعتدال – أمام الأمم والأقوام كضابطة كلية وقانون عام، وأكد أن الغرض منهما هو إقامة العدل و القسط فيما بين الخلق؛ فقال تعالى:

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ المِيْزَانَ لِيَقُوْمَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد/25)

والنظرُ في الآية يبين أن الله تعالى قدّمَ إرسال الرسل على إنزال الكتب ، وأشار إلى أن الحاجة إلى الشخصية أشد من الحاجة إلى الكتاب؛ على حين إن الكتاب إنما ينزل على الشخصية، كما أن الإشعار بأن الكتاب هو كتاب الله وأن تبليغ ألفاظه وتعبيراته إلى الناس، وتفهيمهم لمراداته، وإزالة الزيغ عن عقولهم و قلوبهم ليكونوا قابلين لفهم المرادات بشكل صحيح ، إنما كان ذلك كله متوقفاً على الشخصية ، ولم يكن متوقفاً على الحروف المكتبوبة في الورق،. فالقرآن الكريم قدّم الشخصيات المقدسة على الكتب ليُجْلِيَ ما للشخصيات من الأهمية والأقدمية؛ ولكن ذلك لا يعني أن يفهم الإنسان أن الكتاب ليس له أهمية – معاذ الله – وإنما المراد أن ظهور كتاب الله يتوقف على الشخصية ، وليس المراد أن الكتاب لا يحمل أهمية ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم تكن حاجة إلى ذكر إنزال الكتب . فثبت أن إنزال الكتب ليس مُهِمًّا فقط وإنما هو ضروري لابد منه؛ لأن قوانين التعليم والتربيةوتعاليم التزكية والتقويم ، لمن تكن لِتُؤْخَذَ إلا من الكتب .

الكتاب مذكرٌ والشخصية مُبَيِّنة:

وتجلّى مما أسلفنا أن الكتاب «مذكر» وأن الشخصية «مبينة» وكلا العنصرين لابد منهما للهداية والإرشاد والتعليم والتربية. ولذلك تقرر إرسال الرسل وإنزال الكتب كما ينص عليه القرآن الكريم ؛ لأنه لو لم ينزل القرآن لما وُجِدَ القانون، ولو لم تُبْعَث الشخصية لما فُهِمَت مرادات القانون وأغراضه ، وهي روح القانون التي وجوده وعدمه سواء بدونها. في حالة عدم إنزال الكتب لم يكن وجود للقانون، وفي صورة عدم إرسال الرسل ما وُجِدَت روح القانون، ويكون الخلق قد تعرّض للفوضى، وذلك أمر كان مستبعداً من رحمة الله الواسعة ولطفه بعباده؛ فأخبر في كتابه الأخير بتحقيق كلا الأمرين ، وأكد على الجمع بينهما، وأشار إلى الفرق الموجود بينهما في الرتبة بأسلوبه المعجز: ﴿ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيْهِ مَنْ يَّشَآءُ وَ اللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيْمِ﴾ (الجمعة/4)

ولذلك لم يأت في هذه الدنيا عهدٌ خلا من العنصرين ، أي لم يمضِ عهد لم ينزل فيه كتاب من الله ولم يُبْعَثْ فيه نبي منه تعالى، أو نزل فيه كتاب ولم يُرْسَلْ نبي أو بالعكس. ففي بداية العالم لئن نزلت صحف آدم فإنه في الوقت نفسه نزل صاحبها آدم، وإن نزلت صحف إبراهيم بُعِثَ معها إبراهيم أيضاً، وإن نزلت التوراة بُعِثَ معها موسى، وإن نزل الزبور والإنجيل فإنه أرسِلَ معهما داؤود و عيسى، وإن نزل خاتم الكتب: القرآن فإنه بُعِثَ معه خاتم الرسل: سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى الأنبياء والمرسلين وسلم.

فالآية التي جاء فيها الإخبار بإكمال الدين ، جاءت فيها أيضاً الإشارة إلى عنصري الهداية المذكورين ، والبشارة بالجمع الدائم بينهما، وذكرت الآية ذلك كله في معرض المن من الله تعالى على عباده، إذ قالت:

﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ إذْ بَعَثَ فِيْهِمْ رَسُوْلاً مِّنْ أنْفُسِهِمْ يَتْلُوْا عَلَيْهِمْ آياتِه وَ يُزَكِّيْهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وإنْ كَانُوْا مِنْ قَبْلُ لَفِيْ ضَلاَلٍ مُبِيْنٍ﴾ (آل عمران/164)

فـ «رَسُوْلاً مِنْ أنْفُسِهِمْ» تدل على الشخصية المربية و «يَتْلُوْ عَلَيْهِمْ» إلى آخر الآية تبين مسؤولية شخصية النبي المربية وهي إبانة قانون الدين وأحكامه.

وهي تتلخص في أربع نواح آتية:

  • تلاوة الآيات، حتى تُوْضَع أمام الخلق نفس التعابير التي وضعها الله عز و جل وأودعها أغراضَ الهداية ومناهجَ الإرشاد.
  • تعليم المرادات، حتى يفهم العباد من ألفاظ القانون تلك الحقائقَ والأهدافَ التي أرادها الله تعالى منها.
  • النموذج العملي أو الأسوة الحسنة، حتى يأتي عمل الأمة مطابقاً لما عمله النبي صلى الله عليه وسلم .
  • تزكية النفس ، حتى يزول زيغ النفس، وتنشأ فيها قابليةُ فهم المراد الإلهي، ولااندفاعُ إلى العمل، ولااحوالُ والكيفيات المعنوية، والعنايةُ بالاحتفاظ بها في حدودها.

أربعة مواقف بالنسبة لعنصري الهداية:

وفي ضوء الآية السابقة، لا يمكن أن يبرز إلا أربعة مواقف بالنسبة إلى عنصري الهداية: القانون وشخصية المربي أومعلم القانون.

  • أن يؤخذ بالعنصرين عن عاطفة إيمانية.
  • أن يكون الصدود عنهما جميعاً.
  • أن يؤخذ بألفاظ القانون و يُسْتَغْنَى عن شخصية المعلم المربية.
  • أن يؤخذ بشخصية المربي و يُسْتَغْنى عن القانون.

والموقف الأول هو موقف أهل الحق الذين انقادوا للقانون الإلهي وشخص النبي في وقت واحد، ولم يخضعوا لعواطفهم العقلية ونزعاتهم الطبيعية أو تقليد الآباء، ولم يتخذوا من مجرد ألفاظ القانون منارةً نور؛ وإنما سلكوا الطريق الذي أحاطه الله تعالى بالقانون وشخصية المعلم. وعلى ذلك عادت طائفة متبعي الحق هذه مصداقاً للمنة والنعمة التي ذكرها الله تعالى قائلاً: «قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ» (آل عمران/164) ويأتي ضمن هذه الطائفة كل من الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان من بعدهم، الذين سلكوا هذا الطريق المستقيم و وضعوا عليه غيرهم يسلكون عليه.

ومن الواضح أن الطرق الثلاثة غير الطريق الأول المنصوص عليه في الكتاب، طرق مصطنعة، وسالكوها يأتون ضمن ﴿لَفِيْ ضَلاَلٍ مُّبِيْنٍ﴾.

وفي ضوء هذا المبدإ إذا ألقينا نظرة على تأريخ أقوام العالم ، وجدنا أن قوماً منهم لم يضلّ إلا لرغبتهم عن العنصرين أو لأخذهم بأحد منهما في غنى عن الآخر.

وقد أوضح القرآن ذلك في الحديث عن الأمم السابقة . فمثلاً إن أول أمة زرعت بذرة الشرك والكفر في الدنيا كانت أمة نوح، وإن أول نبي بُعِثَ لمقاومة الكفر والشرك كان سيدنا نوحاً عليه السلام. فلما دعاها نوح رفضت الإيمان به قائلة: إنك لا تفوقنا بفضيلة : فلماذا نخضع لك، ونؤمن بك؛ ولاسيما وإن الذين اتبعوك إنما هم أراذلنا، وأقل منا عقلاً و حلماً؛ فكيف نكون أعضاء منهم؟

﴿مانَرَاكَ إلاّ بَشَرًا مِثْلَنَا﴾ (هود/27)

﴿وَ مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ (هود/27)

﴿وَ مَا نَرَكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِيْنَ هُمْ أرَاذِلُنَا بِادِيَ الرَّأيِ﴾ (هود/27)

كما رفضت الإيمان بالقانون الذي جاء به نوح من عند الله قائلة:

﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِيْنَ﴾ (هود/27)

ورفضت أن تستمع لدعوته وحديثه ، وجعلت أصابعها في آذانها؛ حتى لا تقع كلمةُ حقٍ فيها يقولها نبي الله نوح، وكانت تضع النقاب على وجوهها حتى لا تقع عيونها على وجه نوح.

قوم نوح نبذوا كلا العنصرين:

وجملة القول إن قوم نوح عليه السلام نبذوا كلا العنصرين :

الشخصية والقانون، فأخذهم الطوفان الذي عم الأرض.

وهذا الموقف نفسه وقفته عاد؛ حيث إن طبقتها العليا – التي كانت تخضع لها جميع طبقات القوم– رفضت الإيمان بسيدنا هود عليه السلام، قائلة إن بعض آلهتنا المصنوعة من الحجارة قد أصابك بسوء في عقلك فعُدْتَ تهذي :

﴿إنْ نَقُوْلُ إلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوْءٍ﴾ (هود/54) فأهْلِكَتْ بالعاصِفَةِ.

وهذا الموقف هو الذي وقفته ثمود؛ حيث أنكرت القانون الإلهي قائلة: إنه مشكوك فيه لدينا:

﴿وَإنَّنَا لَفِيْ شَكّ مِمَّا تَدْعُوْنَآ إلَيْهِ مُرِيْبٌ﴾ (هود/62)

ورفضت الإيمان بالشخصية النبوية قائلة: إنك كنت رشيداً ومرجواً فينا من قبل ؛ ولكنك عُدْتَ مشتبهاً فيه لدينا منذ أن بدأت تُبْعِدُنا عن آلهتنا الحجرية المعبودة منذ عهود آبائنا. فأخذتها الصيحة: صيحة جبرئيل عليه السلام وطارت لها قلوبها شعاعاً.

وكذلك قوم إبراهيم رفضوا الإيمان بشخصية إبراهيم عليه السلام قائلين : إنك من الظالمين . و وصفوا القانون الإلهي بأنه لهو ولعب:

﴿أجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أمْ أنْتَ مِنَ اللاَّعِبِيْنَ﴾ (الأنبياء/55)

وكذلك صنع قوم شعيب عليه السلام؛ حيث رفض الإيمان به المتهالكون منهم على الجاه قائلين :

﴿إنَّا لَنَرَاكَ فِيْنَا ضَعِيْفًا﴾ (هود/91). فكيف نخضع لك وليس لك أي قيمة لدينا ﴿وَمَآ أنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيْزٍ﴾ (هود/91). واعتبروه كاذباً فقال لهم شعيبٌ: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ مَنْ يَّأتِيْهِ عَذَابُ يُّخْزِيْهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ (هود/93)

وهددوه بإخراجه من قريتهم:

﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَآ أوْ لَتَعُوْدُنَّ فِيْ مِلَّتِنَا﴾ (الأعراف/88)

وقالوا في شأن ما جاء به شعيب من عند الله:

﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيْراً مِمَّا تَقُوْلُ﴾ (هود/91).

فأُهْلِكُوا بعذاب من النار.

وكذلك كان موقف فرعون وقومه من سيدنا موسى عليه السلام ؛ حيث رفضوا الإيمان به قائلين : ﴿إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ﴾ (الأعراف/109) وقالوا: ﴿مَا هَذَآ إلاّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ (القصص/36). ثم استدعى فرعون جميع السحرة وأرغمهم على مقاومته، وصرح فرعون: ﴿وَإنِّيْ لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِيْنَ﴾ (القصص/38).

ورفض الإيمان بالآيات الإلهية البينة قائلاً:

﴿إنّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوْهُ فِي الْمَدِيْنَةِ﴾ (الأعراف/123) فأغرِقَ ومن معه في بحر القلزم.

وخلاصة القول : إن هؤلاء الأقوام رفضوا شخصيات الأنبياء وما جاؤا به من عند الله في وقت واحد ، وكانوا صادرين في ذلك عن الكبر والتعالي حيناً مثل قارون وهامان وفرعون ؛ فسمى القرآن الكريم كلاً منهم، وصرح بأنهم كانوا مصابين بداء الاستكبار:

﴿وَ قَارُوْنَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَآءَهُمْ مُوْسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوْا فِي الأرْضِ وَ مَا كَانُوْا سَابِقِيْنَ﴾ (العنكبوت/39)

وحيناً آخر صادرين عن التقليد الأعمى للآباء والعصبية الجاهلية والاعتقاد في الشخصيات ؛ فرفضوا الإيمان بالنبي ودعوته التي جاء بها من عند الله :

﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِيْ ءَابَائِنَا الأوَّلِيْنَ﴾ (المؤمنون/24)

وجملة القول إن الطبقات المحبة للجاه والسلطة من الأقوام رفضت الإيمان بكلا العنصرين صادرة عن الاستكبار والعلو، بينماالجماهير منها رفضت الإيمان بهما صادرة عن الجهل والتقليد والعصبية ، وأثرت الناب على «العار».

الدعوة المحمدية قُوْبِلَتْ بالطبقات الأربع المذكورة:

ولما طلعت الدعوة الإسلامية ظهرت بالقياس إلى عنصري الهداية المذكورين الطبقات الأربع المذكورة في هذه الأمة هي الأخرى؛ طبقة آمنت بالعنصرين وكانت صحابةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفاقت العالم كله. أما الطبقات الثلاث، فالطبقة الأولى كانت طبقة المشركين التي كفرت بالعنصرين كالأمم السابقة ، وتضمنت أيضاً المنافقين الذين كان الفرق بينهم وبين المشركين أنهم – المشركين – كانوا قد كفروا بهما بالقلب واللسان معاً، أما المنافقون فكانوا يكفرون بهما قلباً؛ ولكنهم كانوا يقرون بهما لساناً إبقاء عليهم وعلى مصالحهم. وكلتا الطائفتين لم يعد لديهما دستور سماوي ولا شخصية مربية مقدسة تقوم بتربيتهما ؛ فأخذ الضلال بتلابيبهما لحد أن أحد عنصري الهداية وهو شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر، سمّتاه شاعراً، ودعتاه كاهناً، وساحراً، وكذاباً أشراً، ومجنوناً . ولما ظهر عنصر آخر للهداية وهو القرآن الكريم ، أسمتاه ﴿أسَاطِيْرُ الأوَّلِيْنَ﴾ (النحل/ 24) و ﴿قَوْلُ شاعرٍ﴾ (الحاقة/41) وهكذا رفضتا العنصرين.

وعلى ذلك فلم تؤمنا بالشخصية ولا بالقانون الذي جاءت به. فظلّنا بدون شخصية وقانون، كما كانتا من قبل: قبل مبعث النبي ونزول الكتاب ، وبقيتا محرومتين من الهداية حرماناً مطلقاً. ولم يقتصر أمرهماعلى الحرمان، وإنما بذلتا كل ما كانتا تستطيعانه من أجل استئصال العنصرين؛ فتناولتا الشخصية النبوية بكل نوع من الأذى، ودّبَّرتا خطةً لقتلها، فهاجرت إلى المدنية المنورة على أمر من ربّها ، فلم تدعاها تستريح فيها، فجهزتا الجيوش وخاضتا بها الحروب معها، ولم تألوا جهداً في ممارسة الأذى التي اهتدتا إليه. أما القانون الإلهي – القرآن الكريم – فإنهما كانتا تثيران ضجيجاً ضده؛ حتى لا تقع كلمة منه في آذانهما، وكانتا تمنعان صبيتهما منه خوفاً أن يؤثر فيهم، فانصرفتا عن الشخصية والقانون معاً و حُرِمَتَا الاهتداء إلى الصراط المستقيم، واستحقّتا نار جهنم.

﴿وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِيْنَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِيْنَ فِيْهَا، هِيَ حِسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيْمٌ﴾ (التوبة/68)

أما الفرقتان الأخريان فقد اختارتا أحد العنصرين ، وتركتا الآخر ،وهما اليهود والنصارى.

إن اليهود جُعِلَتْ أمةً علمية فأكْرِمَتْ بالتوراة التي كانت قد تضمنت تفصيلاً لكل شيء، الأمر الذي جعلها تفوق العالم في عصرها مكانة وفضيلة؛ ولكنها من أجل النخوة العلمية نهضت بعد قليل لتنفصل عن الشخصيةالمربية، ورأت أنه إذا كان لدينا الكتاب والعقل الذي فكر فيه والذكاء الذي يعين على فهمه، فلا حاجة بنا لفهم الكتاب إلى الشخصية واتباعها وتبني العبودية الفكرية لها؛ فكأنها رأت بعقلها الناقص أن اتباع الشخصية هو قبول العبودية لها؛ ولكنها لم تَرَ أن الإعجاب بالنفس أسوأ من الإعجاب بشخصية النبي؛ فالإعجابُ بالنفس والحرمان من تعليم الشخصية وتربيتها أدّيا بها إلى التجرد من كل رصيد من السمع والطاعة وإلى التملّؤ من الإثم والمعصية ، الأمر الذي ذكره القرآن الكريم في لفظها هي (اليهود):

﴿وَيَقُوْلُوْنَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا﴾ (النساء / 46)

فلما حلّ هوى النفس محل المربي، والعصيانُ محل الطاعة ، نتج عن ذلك أنها رفضت كل حكم من أحكام كتاب الله يتصادم مع هواها، وقد تحدّث القرآن الكريم عن ذلك بما يلي:

﴿أفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُوْلٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ (البقرة / 87)

والنتيجة الثالثة لصنيعها، أن ألفاظ كتاب الله بقيت أمامها؛ ولكنه من أجل أهواء عقلها الذي لم يَعْرِفِ التربية ، ونفسها التي لم تنل التهذيب ، لم تتوارَ معانيه عنها ولم تختفِ عليها أحوالُه وكيفياته فحسبُ ، وإنما حلّت محلها مقتضياتُ نفسها واختراعات هواها، وهي التي باتت لديها معاني للكتاب، ونشأت فيها من ذلك أسوأ خصلة ، وهي أنها تعودت على رفض الحق باعتباره باطلاً، وعلى قول الباطل باعتباره حقاً. أي إن فهمها هو الذي انقلب ، وحلّ الوهمُ محلَّ الفهم، والجهلُ محلَّ العلم ؛ وأدى ذلك كله إلى أن الله تعالى قد صرف عنها آياته وحرمها الحقّ ، وكان كما قال القرآن الكريم:

﴿سَأصْرِفُ عَنْ ءَايتِيَ الَّذِيْنَ يَتَكَبَّرُوْنَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إنْ يَّرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوْا بِهَا وَ إنْ يَّرَوْا سَبِيْلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلاً وَ إنْ يَّرَوْا سَبِيْلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلاً﴾ (الأعراف / 146)

والنتيجة الرابعة لذلك كانت أنه لما لم تعد لديها أهلية التفريق بين الحق والباطل، فإنها لم تمتنع عن التكذيب الصريح للآيات الإلهية ، فحلّت السفاهة والغباء والغفلة والتكذيب محلَّ العقل والفكر الصحيح والرأي السديد؛ وكان الأمر كما قال القرآن الكريم :

﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمْ كَذَّبُوْا بِآيتِنَا وَ كَانُوْا عَنْهَا غفِلِيْنَ﴾ (الأعراف / 146)

وترتبت على ذلك النتيجة الخامسة ، وهي أنها لم تقتصر على تكذيب آيات الله ، وإنما تجرأت على القيام بالتحريف والتغير فيها، فقال عنها القرآن:

﴿يُحَرِّفُوْنَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ وَ نَسُوْا حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُوْا بِهِ﴾ (المائدة/ 13)

والنتيجة السادسة المرتبة على ما سبق أنها لم تكتفِ بتكذيب الأنبياء ، والانقطاع عنهم ، وإنما نصبت لهم العداء والبغضاء وتجرأت على قتلهم ، فتحدث عنها القرآن بما يلي:

﴿فَفَرِيْقًا كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيْقاً تَقْتُلُوْنَ﴾ (البقرة/87)

وعلى كل فإن هذا الإعراض عن الكتاب الإلهي و القانون الحق، ثم الاستكبار الناتج من هوى النفس ، ثم التكذيب ، ثم التحريف، ثم صريح الإنكار، ثم مباغضة الحق ومعاداته، وبالتالي تبني العنف والإقدام على قتل الأنبياء؛ كان ذلك كله نتيجة للإعجاب بالنفس والعلو والاستكبار الذي ترسّخ فيهم من أجل انقطاعهم عن شخصيات المربين ؛ فشبوا وعاشوا علىاللاتربية. مما أدى إلى فقدان الرقة واللين والنعومة في قلوبهم، تلك التي تبعث على قبول الحق والسمع والطاعة والانقياد والانكسار. وقد سمى القرآن الكريم هذه الصفة بالقساوة ، فقال:

﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوْبُكُمْ مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أشَدُّ قَسْوَةً﴾ (البقرة / 74)

إذا نظرنا بعين الاعتبار وجدنا أن هذه النتائج كلها ترتّبت على الإعراض عن أوراق كتا ب الله ،غير أنها إنما برزت من خلال الإعراض عن شخصيات المربين والحرمان من تعليمهم وتربيتهم ؛ الأمر الذي سلبهم كلَّ بركة من بركات الدين ، وسقطت أقوام بعد أقوام في قعر المذلة وصارت مغضوباً عليها . وتلك كانت نتيجة ثامنة، امتدت من دنياهم لآخرتهم ، كما قال كتاب الله تعالى:

﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَ بَآءُوْا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ﴾ (البقرة / 61)

ومن جهة أخرى كانت النصارى قد جُعِلَتْ أمة عاملة ، وأُكْرِمَتْ بالإنجيل المقدس الذي كان يحمِل من الأحكام في باب إصلاح الباطن وتزكية النفس، أكثر مما كان يحمله في باب الفقه. وذلك لكي تصلح القلوب ، وتميل لعبادة الله وتزكية الأخلاق، وتمتليء رقة ونعومة. ومن الواضح أن هذه المرحلة من التربية لا يمكن أن تُقْطَعَ بالورق، وإنما كانت لتُقْطَعَ بتربية المربين وتعليمهم وتزكيتهم ، ولذلك أُكْرِمُوْا بشخصية سيدنا المسيح عليه السلام، فأقبلوا إليه وارتموا في حضنه ، فتخرج الحواريون ؛ ولكنه كلما قلّت فيهم البصيرة والمعرفة مع الأيام، وظل إعجابهم بالمربي في غنى عن البصيرة باقيا على حاله، نشأ فيهم الغلو مع التقليد الأعمى، مما جعل الأمة النصرانية تتطرف في تقديس الشخصية والتذلل النفسيّ. ولكي تبقى على مستوى الاعتدال كان مفروضاً عليها أن تلتزم بمعرفة الحدود إلى جانب علم الكتاب؛ ولكنها لم تتقيد بذلك ، ولم تُبالِ إلا بالشخصيات وأقوالها وأفعالها، وعادتترى أن أوراق الكتاب: التوراة والإنجيل ، كتاب ساكت وأن الحواريين والأولياء كتاب ناطق ؛ فماذا يمنعنا من أن نلجأ إلى الكتاب الناطق بدل الكتاب الساكت؟

وإذا كان التقيد مقتصرا على الشخصيات دون الكتاب فهناك يعود دينُ الله خليطاً من الأفعال والأقوال البشرية ، ومعجوناً من البدع والطقوس الخرافية ؛ لأن الشخصيات أفعالُها وأقوالها قد تكون شخصية أيضاً ، ويكون فيها احتمال الخطأ والصواب ؛ كما أنه قد تصدر عنها في أوقات غلبة الحال أفعالٌ و أقوال لا تتوافق بعضَ الأحيان مع ظواهر الشرعية وإن كانت غير متصادمة مع الشريعة في الواقع، لكونها صادرة بموجب رتبهم الرفيعة في الدين ؛ ولكنها تكون – على كل حال – شخصيَّةً لا تتفق والقانونَ العامَ ؛ فلا تكون رسالةً مُوجَّهةً إلى عامة الناس. وإذا كان الأمر كذلك فمن المحتمل أن تتسرب إلى هذه الأقوال والأفعال والأحوال نقائص بشرية فيما بعد عهد النبي المعصوم ؛ فلا تعود شريعة أو أحكاماً شرعية ؛ لكنها تصير مع الأيام ديناً خالصاً وشريعة محضة لدى العوام ولدى الخواص الفاقدين للبصيرة. وذلك بجراء تقديس الشخصية والغلو في الاعتقاد. فيضحي الدين الذي يكون قد أنزله الله تعالى على نبيه مجموعةً من البدع والخرافات والطقوس والأوهام.

وذلك هو الضلال الذي وقع فيه النصارى ، وتدرّجوا من البدع إلى الضلال الصريح . وقد تحدث القرآن الكريم عن بدعهم و طقوسهم التي أحدثوها ولم يكلفهم الله تعالى بها:

﴿وَرَهْبَانِيَّةَنِ ابْتَدَعُوْهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ وَ كَثِيْرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُوْنَ﴾ (الحديد / 27)

ومع الإعراض عن كتاب الله لم تقتصر النصارى على هذا الإعجاب الزائد بالشخصيات ، وإنما جرّتها البدع إلى الشرك الذي هو من لوازم البدعة ومن عواقبها الطبيعية ؛ فاتّخذتِ الشخصيات حاكمةً مطلقةً ودكتاتورةً فيما يتعلق بالدين؛ فأحلّت حلالها وحرّمت حرامها، وبالتالي نسيت الرب الحقيقي، واتخذت الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، واعتبرت أقوالها و أفعالها هي الدين الواجب الاتباع. وقد كان ذلك رتبة الربّ القدير وليس رتبة بشر ضعيف . وتحدث القرآن عن تصرّفها هذا فقال:

﴿اِتَّخَذُوْآ أحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ وَالْمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مَآ أُمِرُوْآ إلاَّ لِيَعْبُدُوْآ إلهًا وَاحِدًا﴾ (التوبة / 31)

وتخطوا عاطفة الغلو في العقيدة والإعجاب البالغ بالشخصية المربية إلى اتّخاذها شريكةً في الألوهية، فوصفوا المسيح عليه السلام بأنه «ثالث ثلاثة»:

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِيْنَ قَالُوْا إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلثةٍ﴾ (المائدة / 73)

وتجاوزا هذا الحدّ أيضاً فجعلوا المسيح عَيْنَ اللهِ:

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِيْنَ قَالُوْا إنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيْحُ بْنُ مَرْيَمَ﴾ (المائدة / 72)

ولما جعلوا المسيحَ وخالقَ المسيح شيئاً واحداً ، لم يعد شاقاً عليهم أن يعتبروا في المسيح خواص الألوهية ؛ فادّعوا له علم الغيب، واعتبروا أحياء الموتى تصرفاً شخصياً منه ، وعدّوه منجياً ، وتوصّلوا أخيراً إلى القول بأنه ابن الله، وأعلنوا أن هناك إلهاً مجرداً وهو الذات الإلهية وإلهاً مجسدًا وهو المسيح ابن مريم. وهذه النتائج كلها ترتبت على انقطاعهم عن الكتاب وغلوهم في الاعتقاد في الشخصية . و وقعوا فريسةً للتذلل النفسي، وأفسدوا عليهم أنفسهم في العمل والقول .

على كل فقد كانت هناك أمة وهي اليهود انقطعت عن الشخصيات المقدسة ، و وقعت فريسة للإعجاب بالنفس والغلو والاستكبار، وبلغت من الجحود أن كذّبت الأنبياء ، وتجرأت على قتلهم.

بينما وُجِدت أمة وهي النصارى، امتنعت عن الكتاب وتهالكت على الشخصية ، وغالت في الإعجاب بها والتذلل لها، وتسلفت في ذلك لحد أنها لم تعتبر النبيّ فحسب وإنما اعتبرت أتباعه وأصحابه كذلك أرباباً وشارعين مستقلين فأحلّت حلالهم وحرّمت حرامهم.

فكانت هناك أمة انقطعت عن الشخصيات وهلكت بالعلو والاستكبار، بينما كانت أمة انقطعت عن الكتاب الإلهي وتشبعت بالعبودية لغير الله ، وبلغت النهايةَ في المذلة النفسية . إحدى الأمتين تعرضت لفتنة الشبهات ، وأخراهما تعرضت لفتنة الشهوات.

المقارنة بين هذه الأمم وبين أمة محمد صلى الله عليه وسلم :

وإذا وضعنا في الاعتبار هذه القصص والأخبار لتلك الأمم ، وقارنا بينها وبين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وجدنا أن ما كانت عليه الأمم الضالة أي اليهود والنصارى وغيرهما من الضلالات والإفراط والتفريط، ظهر في هذه الأمة كذلك . وكان ظهوره مُؤكَّدًا ؛ حيث جاء الخبر بذلك على لسان النبوة على صاحبها الصلاة والسلام:

«لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في حجر ضب، لا تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» (رواه مسلم في كتاب العلم، رقم الحديث: 5)

وبين حديثٌ آخر صورةً أسوأ وأخبث لتشبّه هذه الأمة باليهود والنصارى ومحاكاتها لهما:

«ليأتين على أمتي ما أتىعلى بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى على أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك».

وطبقاً لهذا التنبأ الصادق ، ظهرت في هذه الأمة محاكاة كاملة للأمم الماضية بالقياس إلى القانون المركب للهداية: الكتاب وشخصية معلم الكتاب.

فقد ظهرت في الأمم فرقة لم ترتحْ إلى أي من الأساسين، ولا تزال لها فروع تمتد وتزهر وتثمر. ورغم أنها تدعي الإسلام؛ ولكنها لا تقول من أعمال القلب بالشخصيات النبوية المقدسة ولا بالقانون المقدس.

فعندما تُعْرَضُ عليها قوانينُ الدين وأصولها وفروعها ، تقول بصوت خفي وبأسلوب مُلْتَوٍ متداول اليوم وبشكل حكيم عندها: إن الزمن القديم قد ولّى بدون رجعة ، وإن الإسلام لن يساير الحياة اليوم بمعناه القديم ؛ فهو في أمس الحاجة إلى التعديل ، وفقهُه يقتضي إعادةَ النظر، وقانونُ أحواله الشخصية لا يتمشى اليوم مع الحياة ما لم يُتَنَاوَلْ بالتغيير والتعديل وفق المتطلبات المعاصرة والحاجات الحاضرة؛ وبالجملة فالإسلام القديم يجب أن يُصاغَ إسلامًا جديداً.

وهي لا تصدر في ذلك عن حجة مقنعة ، ولا تقدر على تقديمها ، وإنما تصدر في ذلك إما عن المصالح الساسية أو الدواعي الاقتصادية والاجتماعية ، أو الملازمة الدائمة للكفار، بالإضافة إلىالجهل التام بقانون الدين وأحكامه .

ولذك كله عندما تحال إلى الشخصيات المقدسة ترفضها قائلة: «نحن رجال وهم رجال» أي إننا أيضاً رجال ذوو عقل وشعور، وهم أيضاً كانوا رجالاً؛ فلما ذا يُعْطَوْنَ هذه الفضيلةَ غَيْرَ العادية، ولماذا نُبْهَرُ بأقوالهم ورواياتهم. بل إنها ترى في شخصيات العلماء رؤيةً واضحةً، فتصارح أن العلماء الذين يُوْصَفون بأنهم المربون هم الذين يحولون دون تقدّم الأمة ، وهم المسؤولون عن تخلفها وانحطاطها ، ولن تتقدم ما لم يُزَالُوْا عن الطريق.

وعندما يوضع أمامها الكتاب والسنة ، تتظاهر بالأدب الجم وتقول: إنهما طيبان ؛ ولكنهما كانا كافيين للبدو وغير المتحضرين . أما اليوم فهو عصر الاستنارة الفكرية ، فالمسلمون مُطَالَبُون بالتقدم إلى الأمام، وبتفهم مقتضيات العصر الذي لا يجيز التقليد الأعمى.

على كل فإنها غير مطمئنة إلى القانون ولا إلى علماء القانون بل إنها ترفض أن تعدّهم جديرين بالاقتداء والطاعة.

نشوء طوائف في الأمة:

وكذلك فقد نشأت في الأمة طائفة اتصلت – على زعمها – بكتاب الله ضاربةً الشخصيات المربية المقدسة عرض الحائط، وقد أقدمت على ذلك أولاً الخوارج الذين نادوا بـ «إن الحكم إلا لله» والذين اكتفوا بفهم مرادات حروف كتاب الله ونقوشه تحت ضغط من «تنورهم» المزعوم وبعقولهم الناقصة وبعقلانيتهم غير المهذبة ، وانقطعوا عن شخصيات المربين ، ولم يكتفوا بالإعراض عنهم وإنما عارضوهم ، حتى أصبح شغلهم الشاغل هو استغلالهم لاسم كتاب الله. وذلك باللسان أو القلم حيناً وبالسيف حيناً آخر: ﴿فَفَرِيْقًا كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيْقًا تَقْتُلُوْنَ﴾ (البقرة / 87)

وكان ذلك ليؤدي طبعاً – وقد أدّى فعلاً – إلى أن حدثت فيهم فتنة العلم، وثارت فيهم الوساوس، وأثر ذلك أولاً على العقائد؛ حيث بدأوا يستقون العقائد من العقل السقيم بدل النقل الصحيح ، واتخذوا الوحي الإلهي خاضعاً لعقولهم ، حتى سبحوا بعقولهم في خضم المتشابهات ، واختلقوا لها معاني من عندهم ، مما أدّى إلى حدوث فرق عديدة في الذين اتبعوا آثارهم من بعدهم. وذلك من أجل عقولهم المريضة ؛ فوقعوا فريسة للعقائد والأفكار المتضاربة ، ولم يجدو منها فكاكاً قط.

القدرية وغيرها :

فَوُجِدَتْ «قدرية» قسمت قدرة الخالق عزّ وعلا بينه وبين خلقه على حد سواء ، واعتبرت العباد خالقين لأفعالهم . و وُجِدَتْ «جبرية» اعتبرت العباد مجبورين تماماً كالطوب والحجر ؛ فسلبتهم الصلاحيات التي لم يعتبرها فيهم النقل الصحيحُ فقط؛ ولكن اعتبرها فيهم العقل السليم والحس المستقيم كذلك. و وُجِدَتْ «مجسمة» اعتقدت أن الله أعضاءً وجوارح كالبشر. و وُجِدَتْ «مشبهة» شبهت الله تعالى بخلقه واعتقدت فيه بصفات توجد في خلقه من البشر وغيره. و وُجِدَتْ «معطلة» أنكرت جميع الصفات التي يملكها الله عزّ وعلا ؛ فجعلت الذات الإلهية مجردة من صفات الكمال، معطلة من كل قدرة وفضيلة ، واعتقدت أن ذلك هو التوحيد الخالص. و وُجِدَتْ «لا أدرية» أنكرت وجوداً محسوساً للكون والعالم كله ، وصرّحت أن وجوده إنما هو خيالي.

حتى جاءت طوائف في الأزمة اللاحقة تحذو حذو الطوائف القديمة ، تقول : إذا كان القرآن قانوناً أبدياً، وضروراتُ الحياة والنظريات تتغير بتغير الزمان ؛ فلماذا لا يجوز لنا أن نصوغ الآيات القرآنية في بوتقة أفكارنا، في ضوء المستجدات والمتغيرات ؛ فالمعاني التي تتفق والمستجدات نعتبرها مصداقاً لآيات القرآن . وأضافت: إننا لسنا في حاجة إلى هؤلاء العلماء القاصري النظر والفكر، وإلى المربين الضيقي الأفق؛ إننا أنفسنا وعقولنا حرة ويجوز لنا أن نستخرج من القرآن المعاني التي تتفق ونداء الوقت!

وخلاصة القول أنه تعدد المذاهب بعدد القول. وبما أن هذه العقول صارت إماماً بنفسها تعمل ما تهواه ؛ فاتخذت كتاب الله أيضاً ألعوبةً؛ حيث أخضعته لأفكارها ، حتى تجرأت على الأحكام الدينية من أجل إفراطها في التحرر في التفكير ، وقامت بتحريفات في معاني آيات القرآن الكريم، حتى ساغ لها أن تثبت الإلحاد من القرآن نفسه:

﴿إنَّ الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِيْ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ (حم السجدة / 40)

وتجرأت طائفة من أصحاب العقول المريضة هذه ، على اصطناع مَعانٍ للأسماء والصفات الإلهية ، تاركة وراءها المعاني المرادة منها في الشّريعة الإسلامية:

﴿وَذَرُوا الَّذِيْنَ يُلْحِدُوْنَ فِيْ أسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ﴾ (الأعراف / 180)

ولو حال الحديث النبويّ دون اختلاقاتها هذه ، رفضته قائلة : إنه ليس حجة شرعية ؛ وكأن أقوال النبي هي الأخرى ليست حجة إذا تعارضت مع مرئيات عقولها. ثم حالت دون إلحاداتها هذه الجزئياتُ الفقهيةُ وأصولُ التفقه، فرضتها بشكل قاطع؛ وكأنها زعمت : إننا بدورنا فقهاء فلا حاجة بنا إلى فقه السلف. وكان مصدرُ هذه الفوضوية في الأفكار ، والإلحاد في العقائد والأعمال، هو الاستكبار العقلي ، والاستعلاء العلمي، على شاكلة اليهود؛ الأمر الذي كان قد أدّى دائماً إلى الإنكار والجحود اللذين نشآ من الإعراض الكلي عن الشخصيات وتربيتها وعن اللجوء إلى اقتدائها، والاكتفاء – بدلاً من ذلك – بمجرد الكتاب. وكشف القرآن، الكريم القناعَ عن هذا العلم الخيالي والاصطناعي وعدّه إخلاداً إلى الدنيا، واتّخاذاً لزيناتها ومباهجها، وزهداً في ذكر الله ، وتقصيراً في الغايات ، وضلالاً عن سبيل الله تعالى . وأوصى اللهُ باجتناب هؤلاء الذين يتبنون هذه الصفات ، فقال:

﴿فَأعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إنَّ رَبَّك هُوَ أعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيْلِهِ وَ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ (النجم /29-30)

وفي موضع آخر اعتبر القرآن الكريم هذا «العلم الاصطناعيّ» علماً سطحياً معادلاً للجهل ، نابعاً من الغفلة عن الآخرة والانهماك في الحياة الدنيا:

﴿يَعْلَمُوْنَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُوْنَ﴾ (الروم / 7)

وفي جانب ظهرت طائفة ثالثة أعرضت عن الكتاب وأعْجبت بالشخصيات المقدسة إعجاباً مفرطًا؛ فاعتبرت الكتاب «كتابًا ساكتاً» والشخصيات «كتاباً ناطقاً» واتخذت كل قول من أقوالها وكل فعل من أفعالها وكل موقف من مواقفها وكل مظهر من سلوكها الشخصي ديناً لها. وخَطَتْ إلى ذلك أولاً الروافض التي كان مذهبها هو اتّباع الشخصيات واتّباع الأسر والبيوتات. إنها باسم حبّ أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وصفت كبارَ الصحابة بالنفاق والغدر والتعامل بالتفريق، واعبترت اللعن والطعن عليهم والتبرأ منهم، جزءاً من الدين أو عينَ الدين. ومقابل ذلك اعتبرت صحابةً معدودين – كانوا وحدهم موضع إعجابها – معصومين عن الخطأ كالأنبياء، حتى اعترفت لهم باسم «الإمامة» بالحق في ممارسة التغيير في شريعة الله تعالى ، وهو الحق الذي لم يُعطِ الله الأنبياء أيضاً ؛ مما أدى إلى ترك الرب الحقيقي إلى أرباب من دون الله متمثلين في هذه الشخصيات ؛ فكانت هذه الطائفة كالنصارى التي اتّخذت الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله.

ونهجت نهجها كثير من الطوائف اللاحقة التي ظهرت باسم حبّ الأولياء، وكانت تتسم هذه الطوائف بالحزبية والعصبية العفنة ، و وصلت بحب الأولياء وتعظيمهم إلى حد العبادة ، وروجت أعمال الشرك باسم التوحيد؛ فعبدت الصالحين الأحياء باسم «سجدة التعظيم» وعبدت الأموات منهم باسم «سجدة القبور» فطافت حولها، واعتكفت لديها ، و استغاثت بها، ونذرت بأسماء أصحابها ، وسألتها قضاءَ الحوائج ، وقدّمت لها القرابين، ونادت بأسمائها ، وهتفت عندها بـ «شيئاً لله». ولإبداء العبودية لها سمّت أولادها بأسماء «عبد الرسول» و «عبد النبي» و «عبد المصطفى» و «عبد الحسين» كما كان الجاهليّون في الجاهلية يسمون أولادهم «عبد العزى» و «عبد اللات» و «عبد مناة» – تلك الأسماء التي غيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها ومحا هذه العبودية المزعومة – و وصلت أعمال الشرك إلى أن كانت وجوههم – وجوه الجاهليين – متهللة إن ذُكِرَ غيرُ الله و مسودة بالحزن إن ذُكِرَ الله:

﴿وَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَ حْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوْبُ الَّذِيْنَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ وإذَا ذُكِرَ الَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُوْنَ﴾ (الزمر / 45)

وجملة القول إن كتاب الله وسنة رسوله أضحيا متروكين لدى هذه الطوئف المعادية للتوحيد ، المعجبة بالشخصيات ، الزاهدة في الكتاب، الراغبة في الأشخاص ؛ واعتمدت على الشخصيات كل الاعتماد وكان موقفها كما يقول القرآن :

﴿وَمَا يُؤْمِنَ أكْثَرُهُمْ باللهِ إلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُوْنَ﴾ (يوسف /106)

وعلى ذلك، فتعرضت طائفة للشبهات ، وأخرى للشهوات، وثالثة لفتنة العلم ، ورابعة لفتنة العمل ، وخامسة انصرفت عن الكتاب إلى الشخصيات ، وسادسة انقطعت عن الشخصيات إلى مجرد حروف الكتاب ونقوشه ، وسابعة ضلّت بالكبر والعلو ، وثامنة انحرفت عن الصراط بالسقوط الفكري والمذلة النفسية . وقد قال سفيان الثوري [أبو عبد الله المتوفى 161هـ / 778م] رحمه الله فيما يتعلق بالطائفتين : اليهودية الواقعة في الإفراط والنصرانية الواقعة في التفريط . وكأنه رحمه الله وضع في اعتباره عصرَنا هذا ؛ فمقاله ينطبق عليه انطباقاً حياً:

«من فسد من علمائنا ، ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من عُبَّادنا ، ففيه شبه من النصارى». (اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية رحمه الله)

على كل فقد خلصنا إلى تلك النتيجة الحتمية التي أشرنا إليها من قبل ، من العنصرين اللازمين للهداية وهما: (القانون والشخصية) ولعلاج ذلك أطلق السلف مقولة حكيمة للغاية أثرها عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

«احذروا من الناس صنفين ؛ عالم قد فتنته هواه وعابد قد أعمته دنيا».

وإذا كانت الاستقامة والعدل والاعتدال لم تكن لتأتي بدون الجمع بين العنصرين (القانون والشخصية) وقد خلّف النبي صلى الله عليه وسلم هذه التركة – الجمع بين العنصرين – في أمته من بعده ؛ فحصر الهداية للأبد في الجمع بينهما، إذ قال:

«تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله و سنة نبيه». رواه الإمام مالك في المؤطا في «كتاب القدر». وقد أشار بالكتاب إلىالقانون، وبــ «السنّة» إلى ذاته الشريفة وأسوته في العمل.

وقد ظهرت – كذلك – في الأمة طائفة رابعة لا تكاد ترضى بالثقة بالشخصيات الموثوق بها لدى الشريعة، وهي شخصيات الصحابة رضي الله عنهم ، لكونها – الطائفة – غنية لحد كبير عن شخصية المعلم المربي، وكأنها تدّعي أن نفسها هو المعيار لديها ؛ فإذا وافق قولٌ من أقوال السلف معيارها هذا ، فهو مقبول ، وإلا فهو مرفوض ، مهما أدّى ذلك إلى بقاء عظمة السلف أو إلى زوالها.

وإذا كانت أقوال السلف غير معتبرة في فهم مرادات الشريعة ، فإنما تعود عمليةُ حلّ معاني الكتاب والسنة نابعة من الآراء الاصطناعية الشخصية ، التي ليس فيها ضمان بالثقة بالمرادات المأثورة.

إن النية لا يعلمها إلا الله الخبير، ولكن المسائل التي تستنبطها هذه الطائفة من مجرد الألفاظ ، والتي لا مسحة عليها من تعليم المربين وتربيتهم ، ولا أثر فيها للذوق المُتَوَارَث من الصحابة فمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك الذوق الذي جاءت الإشارة إلى إيجاده عن طريق النبي بقوله تعالى: «وَيُزَكِّيْهِمْ» (آل عمران/164). وكم من السلف والخلف صقلوا قلوبهم وجعلوها تتصف بالاستقامة بتربية المربين عن طريق الرياضيات الشاقة؛ الذوق الذي لا يزال مُتَوَارَثًا بين الأمة خلفاً عن سلف. إن هذه المسائل والمرادات المستنبطة في غنى عن الاهتداء بالآثار والأقوال المنقولة عن السلف لا تُعْتَبرَرُ – إذاً – إلا مرادات مُلْهَمَةً من النفس. ولذلك فإن هذه المنطلقات الاصطناعية لاستقاء مسائل الدين وحلها، المجردة من العناصر المذكورة ، مخالفةٌ للطريقة المتبعة لدى أهل السنة والجماعة، وحائدةٌ عن المبدإ القرآني لفهم الشريعة ، المتمثل في الجمع بين الكتاب ومعلم الكتاب. كما أنها منحرفة عن طريق الجمع بين التعليم والتربية والحب والعلم، التي ظلّت تسلكها الأمة عبر تأريخها الطويل. وقد ذكرنا تفاصيل ذلك بدلائلها في الصفحات الماضية.

ومن الواضح أنه لئن كان أساس فهم الدين مُعْوَجًّا، فإنه سيأتي البناء القائم عليه مُعْوَجًّا كذلك. وقد يجوز أن تقوم مثل هذه الطائفة بمواقف فرعية إيجابية ، ولكنها ستُعْتَبَرُ خاطئة بشكل إجمالي، لكون المورد الذي تصدر عنه مُكَدَّرًا، وصدق الشاعر الفارسي إذ قال: «إن الخطأ خطأ وإن صحَّ».