مذهبهم فيما يتعلق بالكلام والمتكلمين

وهذا الموقف المعتدل هو الذي يختاره علماء ديوبند في شأن الكلام والمتكلمين . إن العقائد الثابتة بالنصوص الصريحة مُجْمعٌ عليها لدى الجميع؛ فهي مُعَضَّدَةٌ بالإجماع بالإضافة إلى تلك النصوص: نصوص الكتاب والسنة . أما العقائد المُسْتَنْبِطَةُ أو العقائد الفرعية ، وكذلك تفسيرات العقائد القطعية المشار إليها أي الثابتة بنصوص الكتاب والسنة، فقد يختلف فيها العلماء المتكلمون . فمن أجل أن يكون المرأ على ثقة وطمأنينة لابدّ له أن يلوذ بأحد من أئمة الكلام ذوي البصيرة ، كما كان لابدّ له أن يتقيد بفقه مُعيّن فيما يتصل بالفقهيات والخلافات الاجتهاديّة.

وقد ظل ذوقُ ومذهبُ علماء ديوبند في شأن علماء الكلام ، أنهم لا يتخذون من أنفسهم خصماً لأحد منهم لدى وقوع الخلاف فيما بينهم ؛ وإنما يعمدون إلى التوفيق والتواصل بينهم ، انطلاقاً من الاعتراف بمكانة كل منهم.

الإمام النانوتوي:

ورغم أنهم تقيدوا في هذا الباب أيضاً بـ «كلام معين» كما تقيدوا في الفقهيات بفقة معين؛ ولكنهم لم يَفُتْهُمْ التمسك بجانب التحقيق والدراسة والبحث. وقد غلبت عليهم في هذا الشأن «الصبغة القاسمية» التي هي مستقاة من الأفكار الحكيمة للإمام مولانا محمد قاسم النانوتوي (المتوفى 1297هـ / 1880م) – قدس الله سره – مؤسس الجامعة الإسلامية دار العلوم ، ديوبند ، الهند.

كان من أبرز خصائص الإمام النانوتوي رحمه الله لدى تناوله لهذه المسائل ، أنه لم يسلك طريق الطعن والتجريح في خصوص الخلافات بين الأشاعرة والماتريدية ، وإنما سلك طريق التوفيق ورفع الخلاف فيما يتعلق بالمسائل المهمة الأساسية؛ الأمر الذي جعل أكبر الخلافات الكلامية يبدو مجرد نزاع لفظي صوريّ، وجعل المتكلمين جميعاً تَعْظُمُ مكانتهم في القلوب بشكل مُوَحَّد، وجعل معظم المسائل الكلامية لا ينشأ في شأنها الشعورُ بالخلاف بين الأشعرية والماتريدية .

بين العقل والنقل:

والأمر الذي يجب أن نضعه في الاعتبار بهذه المناسبة أن المحاربين للدين بينما استخدموا أسلحة كثيرة لمقاومته ، إذاً وظّفوا في المسائل الكلامية بصفة خاصة، العقلَ الذي قدّموه على كل شيء. فالشكوك والشبهات ذات القائمة الطويلة التي يثيرها أعداء الدين ضده ، إنما كان مصدرها في الأغلب هوالعقل القاصر المحدود. ومن ثم احتاج العلماء لتنفيدها إلى الاستعانة بالعقل لحد كبير ؛ حتى وُجِدَ هذا الفن المستقل المعروف بعلم الكلام ،الذي امتاز بأسلوب خاص مزيج من العقل والنقل. وهنا ثار سؤال بشكل طبيعي ما هو نسبة العقل من النقل في شأن الدين ؟ هل هما سيّان بالقياس إلى الدين ؟ أم يختلفان ويقلّ أحدهما مكانةً عن الآخر؟ ونشأت هناك طائفتان إحداهما ردُّ فعل للآخر بما تتّسمان به من الإفراط والتفريط. والطائفة التي كانت مُعْجَبَةً بالفلسفة قدّمت العقل على النقل، وجعلت الأول أصلاً مقابل الآخر ، كالمعتزلة الذين لا يثقون بالأحكام الدينية ما لم يُفْتِ العقلُ بكونها جديرةً بالقبول؛ مما يعني بشكل واضح أن الوحي الإلهي خاضع للعقل الإنساني لدى هذه الطائفة . وقدخان المعتزلةَ التوفيقُ ههنا، وأعلنوا صريحاً بكون العقل مسيطراً على الوحي ،وتجرأت الطوائف القائلة بالاعتزال على المحاولة لجعل صفات الله تعالى المتعلقة بالعلم والخبر والهداية والحاكمية خاضعةً لعقولهم المحدودة القاصرة .

أما الفلاسفة القدامي فقد خَطَوْا مرحلةَ الإعجاب بالعقل إلى تقديس العقل والخضوع له، وكأنهم أشركوا العقل في صفة الخلق الإلهية ، فافترضوا «العقول العشرة» التي وصلوا بها مرحلياً إلى مكانة الخالق للكون ، وإن لم يقولوا بكونها «خالقة» فإنهم جعلوها بمنزلة «الخالق» دونما شكّ ؛ حيث قالوا : بالعقل الأول الذي خلق العقل الثاني الذي وُجِدَتْ بفضله العقول الثمانية المتبقية التي تحكّمت في وجود الكون وقيامه ودوارنه!!.

المادّيّون المعاصرون:

أما فلاسفةالعصر، أي المادّيون ؛ فقد تقدموا أربع خطوات أخرى ، فوثقوا بالعقل الضعيف لحدّ أن جحدوا بوجود الله تعالى. والأمورُ كلها لديهم – وليس الدين فقط – إنما يسير بهذا الشكل المحكم الدقيق بفضل العقل وحده الذي يسيطر على جميع الأمور : دقيقها وجليلها.وجملة القول إن القاسم المشترك بين هذه الفرق كلها هو تفضيل العقل على الوحي . وظلت أشكالها تختلف حَسَبَ العصور وإيحاءاتها واقتضاءاتها.

وكرد فعل لهذه الطوائف وُجِدَت في الإسلام بعض الطوائف التي منعت العقل من الدخول في حدود الدين منعاً باتاً، واعتبرته بالقياس إلى الدين مُهْمَلاً ضعيفاً تافهاً، وأعلنت إعلاناً صارخاً أن الدين لا صلة له بالعقل والعقلانية ، وأنه لم تُرَاعَ في حكم من أحكامه أيةُ مصلحة عقلية ؛ لأن الدين إنما هو مِحَكُّ اختبار قُصِدَ به العلمُ بطاعة العباد وعصيانهم. ومثل ذلك مثل المولى يأمر عبده بحمل حَجَرَةٍ أو بمسّ شجرةٍ لاختبار مجرد طاعته من عصيانه ؛ حيث لا يقصد من ذلك إلى غير الاختبار. وإذاً فالأعمال الدينية لا تشتمل لدى هذه الطوائف على أيّ حسن أو قبح عقليّ، وإن اشتملت عليه فإن معنى ذلك لا يكون إلا استحقاق العبد للثواب أوالعقاب، ولن يعني ذلك كونَ عمل من الأعمال الدينية مشتملاً على معقولية أو على ما يعين الإنسان على التقدم والتمدن!!.

خصيصة علماء ديوبند فيما يتعلق بالعقل:

لكنّ علماء ديوبند يأخذون في هذا الباب أيضاً بالاعتدال والشمول ؛ فهم لا يعتبرون العقل في باب الدين مهملاً عاطلاً لا غناء فيه ولا فائدة ، على حين إن النصوص الشرعية زاخرة بما تشتمل عليه الأحكام من المصالح العقلية والعلل الكلية والحقائق الجامعة، ويتجلى تأثير تلك الأمور العقلية في مواضع شتى فيما يتعلّق بإثبات المسائل واستخراج الأحكام واستنباط الحقائق؛ فالحاجة إلى العقل لا تقبل الإنكار. غير أنّهم لا يعدّونه شيئاً مستقلاً حتى يجعلوه أصلاً مقابل الوحي ، ويعتبروه مُنْشِئًا للأعمال ، وخالقاً للأفعال، أو حكماً فيما يتعلق باستحقاق العبد للثواب أو العقاب.

فعلماء ديوبند يرون العقل نافعاً في الدين ، ولكنهم لا يرونه حكماً أو موجداً للأحكام أومؤدّيا إلى ثمرات للأحكام.إنهم يرون العقل آلة في إثبات العقائد والمسائل، ولا يرونه مصدراً لها ومؤثراً فيها، حتى يروحوا يستقون منه العقائد والأحكام . إنهم لا ينتقدون النقل بمقياس العقل ، وإنما يرون النقل الصحيح معياراً لنقد صحة العقل من سقمه . إنهم يرون العقل ميزاناً لتقدير المحسوسات ، ولا يرون له دخلاً في إدراك المغيبات. فأصل الدين عندهم هو الوحي الإلهي وحده، والعقل خادم كالحواس الخمس التي تُوَظَّفُ لإثبات الوحي الإلهي. ومهما كان العقل أشرف هؤلاء الخَدَمَة؛ ولكنه ليس حاكماً أو حكماً.

إن علماء ديوبند ليسوا إذاً فلاسفة ولا معتزلة ولا أشاعرة متصلبين ، وإنما هم يعتبرون العقل آلة نافعةعلى شاكلة أهل السنة والجماعة، تُسْتَخْدَمُ للتوصّل إلى الحِكَم والحقائق الخفية؛ لكنها لا تُوَظَّفُ لإيجاد الحِكَم والحقائق ؛ فهي ليست واضعة للأحكام، وإنما هي تابعة لها، أي إنها موضحة للأحكام وليست موجدة للأحكام. ثم إن الحكمة المُسْتَخْرَجَةَ من الأحكام عن طريق العقل، لا تكون مُؤَسَّسَةً عليه – العقل – وإنما تكون مبنية على الأحكام.

فالأحكام الإلهية هي مصدر الحِكَم والأمور العقلية ، وليس العكس، أي ليست الحكم والعقليات هي مصدر الأحكام؛ فالعقل مُسْتَدَلٌّ للأحكام ، وليس واضعاً لها؛ مدرك للأحكام وليس مُنْشِئًا لها؛ مفهم للأحكام وليس مُلهِمًا لها. إن العقل تتضح به المصالح الشرعية ولا تتحق به .

العقل الفاعل ههنا:

ومن الواضح أن العقل الفاعل ههنا إنما هو العقل المتمتع بمعرفة الله تعالى، والغارق في التفكير في العاقبة، والمنهمك في ذكر الله تعالى وعبادته. إن العقل الغافل عن ذكر الله والتفكير في الآخرة ، لا يتأهّل أن يكون خادماً للدين. وقد سمّى القرآن الكريم ذلك العقل المطلوب السعيد بذكر الله بـ «اللّبِ» الذي لا يبقى متورطًا في مجرد زينة الأشكال وجمال الصور ، وإنما ينفد في باطنها ويستخرج منها الحق الأبلج.

فقد أشاد القرآن بصفتي الذكر والفكر اللتين يتسم بهما أولو «الألباب» الذين يستخرجون آيات القدرة الإلهية من خلال التفكير في خلق السماوات والأرض.

﴿الَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ اللهَ قِيَامًا وَّ قُعُوْدًا وَّ عَلَى جُنُوْبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُوْنَ فِيْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ (آل عمران / 191)

مما يدلّ على أن مجرد العقل الذي لا يتّصف بالذكر والفكر ، لا يجوز أن يكون خادماً للدين ، فضلاً عن أن يكون متقدماً على الدين. فالحديث كلّه إنما يدور حول «اللّبّ» الذي هو العقل الشرعي ، وليس يعنينا جنسُ العقل الذي يُعْرَف لدى عامة الناس بـ «العقل الطبيعي» أو «العقل المعاشي» الذي يعين فقط على صنع السكين والشوكة والمحرك والماكينة والآلات ؛ فهو ليس خادماً للدين على الإطلاق. ويمكن بذلك تقدير الموقف المعتدل الذي يقفه علماء ديوبند فيما يخص الأسس والمبادئ الكلاميّة وعلماء الكلام.

علماء ديوبند ليسوا أشعرية أو ماتريدية وإنما هم يأخذون بالاعتدال:

أما القضايا الكلامية فقد وقف منها أيضاً علماءُ ديوبند موقف الاعتدال والشمول هذا ؛ فهم سلكوا في المسائل المختلف فيها مسلكَ التوفيق ورفع الخلافات، مكان التجريح والطعن أو الرفض والترك. وهنا ينشأ السؤال أولاً : هل علماء ديوبند يتبعون الإمام أبا الحسن علي الأشعري [المتوفى 324هـ / 936م] ((1)) أوالإمام محمداً أبا منصور الماتريدي [المتوفى 333هـ / 944م] ((2)) ؟ والجواب: أنهم في عُرْفِ علماء ديوبند أنفسهم يُعْرَفون بأنهم ما تريديون، ولكن جماعةً منهم ترى أنهم أشعريون. وذلك أولاً لأن مورثهم الأعلى العلمي هو الإمام الشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي ((3)) الذي تشف أقواله عن أنه أشعري فهم يرون أنهم أشعريّون؛ وثانيا لأن علماء ديوبند يراعون المسائل الأشعرية في دروسهم ومحاضراتهم وكتاباتهم و خطاباتهم ؛ إلا أن الأحسن – نظراً إلى موقفهم المعتدل المزيج من المذهبين – أن يُوْصَفُوْا بأنهم ما تريديون مائلون إلى الأشعرية ؛ فهم جامعون بين الأشعرية والماتريدة . بل إن دراسة أبحاثهم الجامعة تدلّ على أن الخلافات بين الأشعرية والماتريدية إنما تعود أخيراً خلافات صوريّة . فالمسائل المنصوص عليها لا يمكن أن يحدث فيها خلاف، إنها جميعاً متفق عليها، اللهم إلا الخلاف الذي يقع في عرضها وشرحها وتفسيرها ، والذي لا يجوز أن يُسَمّى اختلافاً أساسياً؛ حيث يؤدي ذلك إلى الاتفاق على الغرض. وتبقى هناك قضايا اجتهادية معدودة يوجد بينها تضادّ في ظاهر الأمر ، وهي اثنتا عشرة قضية فيما يقول المحقق الكبير العلامة ابن كما باشا((4))، وقد عدّدها في رسالة له موجزة، وقد يجوز أن تكون هناك قضايا أخرى عند بعض السادة غير هذه القضايا.

========

((1)) هو علي بن إسماعيل بن أسحاق أبو الحسن من سلالة الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري. هو مؤسس مذهب الأشاعرة . ولد عا 260هـ الموافق عام 874م بـ «البصرة» ، وتوفي ببغداد عام 324هـ الموافق سنة 936م.

كان عالماً حنفيا، مجتهداً من أئمة المتكلمين ، وكان في بداية أمره معتزليا ، ثم تاب من القول بالعدل، وخلق القرآن ، وتخلى عن آراء المعتزلة تماماً، وردَّ عليهم، وفضح معائبهم،وقام برد مفحم على الملاحدة ، والرافضة ، والجهميّة ، والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة.

بلغت مؤلفاته ثلاث مائة كتاب. (وفيات الأعيان 1/326؛ الجواهر المضيئة 1353؛ البداية والنهاية 11/187)

((2)) هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي الحنفي من أئمة علماءالكلام . نبسته إلى «ماتريد» محلة بسمرقند . تفقه على أبي بكر أحمد الجوزجاني وتفقه عليه خلق كثير ، منهم الحكيم القاضي إسحاق بن محمد السمرقندي، وعبد الكريم بن موسى البزدوي. وله تصانيف نفيسة ، منها «كتاب التوحيد» ، و «بيان أوهام المعتزلة» و «تأويلات القرآن» ، وهو كتاب لا يوازيه فيه كتاب، بل لا يدانيه شيء من تصانيف من سبقه في هذا الفن . مات سنة 323هـ الموافق عام 944م ودفن بسمرقند. وإليه تنسب «الطائفة الماتريدية». (الفوائد البهية 195؛ الجواهر المضيئة 2/130؛ كشف الظنون 335)

((3)) قد مضت ترجمته ضمن عنوان «ماهي الديوبندية؟»

((4)) هو أحمد بن سليمان بن كمال باشا شمس الدين الحنفي من علماء الحديث والتفسير ، تركي الأصل. وُلِدَ في «طوقات» من نواحي «سيواس» . تعلم على المولى القسطلاني والمولى خطيب زاده، والمولى معروف زاده بمدينة «أدرنة» ، ودرَّس بمدرسة سلطان بايزيد ، ومدرسة علي بك فيها، ثم وُلّي القضاء، ثم الإفتاء بـ «الآستانة» إلى أن توفي عام 940هـ الموافق عام 1534م.

قال محمد بن عبد الرحمان التاجي : قلما يوجد فن من الفنون ، وليس لابن كمال باشا مصنف فيه . فقيل : تبلغ مؤلفاته مائة كتاب، معظمها في المباحث المهمة الغامضة. (شذرات الذهب ج:4، ص238؛ الفوائد البهية ص21؛ الأعلام للزركلي 1/133: معجم المؤلفين 2/238)

========

فالقضايا المختلف فيها بين الأشعرية والماتريدية قليلة جداً، وأبرزها قضية الحسن والقبح. أي إن الحسن والقبح اللذين يوجدان في الأعمال هما شرعيان أو عقليان. وهذا الاختلاف أدّى إلى الاختلاف في مسائل كلامية أخرى؛ فلو وُجِدَ التوفيق بشكل ما في هذه المسألة ، لارتفع الخلاف عن المسائل المذكورة لحد كبير، ولاجتمع المذهبان على قاسم مشترك، أو قلَّ الخلاف، وأصبح في مكان اللااختلاف.

مذهب الأشعرية في حسن الأفعال وقبحها:

فمذهب الأشعرية فيما يتعلق بحسن الأعمال وقبحها أن هذا الحسن والقبح شرعيان، أي الحسن والقبح يُوْجَدَان في الأعمال بالأمر والنهي الصادرين عن الشريعة ، وإلا فإنها في ذاتها خالية عن كل من الحسن والقبح. إن الشريعة إذا أمرت بشيء فإن المأمور به يعود حسناً من ساعته، وإذا نهت عن شيء فإنه يعود قبيحاً من ساعته، حتى في صورة التغيير في الأحكام إذا نهت الشريعة عن فعل كان حسناً لوقت النهي ، تغيّر حسنه قبحاً، وعاد هذا الفعل الحسن قبيحاً من ساعته؛ وإذا أمرت بفعل كان قبيحاً لوقت الأمر، أصبح حسناً من ساعته. فحسنُ الأعمال و قبحُها إنما يترتبان على إيجاب الشريعة لها أو تحريمها إياها، ولا يترتبان على استحسان العقل لها أو استهجانها لها؛ فهما ليسا عقليين لدى الأشعرية.

مذهب الماتريدية في ذلك:

على العكس من ذلك يقول الماتريدية : إن الحسن والقبح يُوْجَدَانِ في ذات الأعمال كخاصية لها مُوْدَعَة إيّاها، ولا تنشئهما الشريعةُ فيها، وإنما تَرِدُ الشريعة على الموجود في الأعمال من الحسن والقبح من قبل، فتكشف اللثام عنهما. بل إن الأمر والنهي الشرعيين إنما يتوجّهان إلى الأعمال لما يُوْجَدَ فيها من الحسن والقبح ، باستثناء بعض الأشياء الفرعية المباحة أصلاً. فالأمور الحسنة بذاتها، إنّ حسنها هو الذي اقتضى أن يُؤْمَرَ بها. والأمور القبيحة بذاتها ، إن قبحها هو الذي اقتضى أن يُنْهَى عنها؛ تماماً كفن الطبّ الذي إذا منع عن استعمال السم أو أمر باستخدام الترياق؛ فإن الأمر والنهي هذين لا يكونان قد أنشآ في الأول قبحَ الممات وفي الثاني حسنَ الحياة، وإنما يعنيان أنّهما إنما توجَها إليهما للحسن والقبح اللذين يوجدان فيهما من قبل.

وتلك هي صورة الطبّ الروحاني والشريعة؛ فالحسن والقبح لا يحدثان بأمرهما ونهيهما، وإنما يرد أمرهما ونهيهما على الحسن والخبث الموجودين في ذات الأفعال بشكل طبيعي؛ إلا أنهما لا يتضحان بشكل كامل إلا بنزول الشرائع، لا بمجرد العقل .

فاتضح أن انكشاف الحسن والقبح شيء، وإحداث الحسن والقبح شيء آخر؛ فهما عقليان وليسا شرعيين.ومن ثم فإن الأفعال التي نهت عنها الشريعة، قد قدّمتْ خبثَها الذاتي الموجود فيها من قبل توجه النهي إليها علّةً للحكم ؛ فقد نهت عن الزنا قائلة ﴿إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ ((الإسراء /32)) أي كونه فاحشة مؤدية إلى الوقاحة الزائدة هو الذي دعا إلى النهي عنه، ولم يكن النهي الشرعي هو الموجد للخبث فيه. وكذلك نهت الشريعة الخمر قائلة ومشيرة إلى علة النهي: ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ ((المائدة / 90)) أي كونه رجساً شيطانيّاً هو الذي حمل على النهي عنه. وكذلك أمرت الشريعة بالصلاة قائلة : ﴿إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَ الْمُنْكَرِ﴾ ((العنكبوت /45)) وإنها تُكسِبُ صاحبَها التقرّبَ إلى الله. وأمر بالصيام مصرحة بأنه يزود صاحبه بالتقوى. وأمرت بالزكاة والصدقات مشيرة إلى أنّها تُكْسِب القائمَ بها السخاء، وتعين على مواساة الفقراء والبر بالمحتاجين ، وتحول دون ارتكاز الثروة في أيد متلاعبة بها.

فاتضح من ذلك أن الأعمال المأمور بها كانت حسنة بذاتها، فورد الأمرالشرعي بالإتيان بها. وإن الأعمال المنهي عنها كانت قد عُجِنَتْ بالخبث من قبل، فورد النهي الشرعي عنها.

والعقل أيضاً يقتضي أن تسبق العلةُ الحكمَ ، حتى يترتب عليها الحكم بالإيجاب أو التحريم ، ولا يسيغ العقلُ أن يسبق الحكمُ العلةَ وتتولد منه.

على كل فإن الحسن والقبح كانا مخلوقين في هاتي الأعمال من قبل أن يرد الأمر أو النهي في شأنها، وقد كان العقل يدركهما بشكل مُجمل، واعتبرهما الله تعالى لحكمة يعلمها فأنزل من أجلهما الأمر والنهي، فجاء تشريعه تعالى موافقاً تماماً لتكوينه وخلقه، وتجلى لنا نحن البشر العجزة التوافقُ الكامل بين قوله تعالى وفعله. وذلك هو معنى كون الإسلام ديناً طبيعيًّا؛ حيث يُحوِّل الخلقيات الطبيعيات بامتثال الأمر الإلهي شرعيات، حتى لا تتوحش الطبائع المستأنسة بتلك الطبيعيات من الشرعيات ، ولا ترى الأمر والنهي الشرعيين غير طبيعيين ، فتعتبرهما مفروضين عليها بشكل إجباري، فتعرض عنهما مستثقلة إياهما. وكل ذلك لا يعني إلا أن حسن الأفعال و قبحها عقليان، لا يتوقفان على نزول الشرائع، ولا ينشآن بالإيجاب والتحريم الشرعيين، وإنما يترتب الإيجاب والتحريم بدورهما على تلك الحجج العقلية.

العقول الكبيرة تدرك الحسن والقبح في أول وهلة:

على أن بعض العقول الكبيرة قد تدرك الحسن والقبح بأول وهلة إدراكاً عميقاً، وبعضها لا تبلغ هذا المستوى فتدركهما بعد التنبيه إلى ذلك؛ لكن ذلك لا يخلّ بكونهما عقليين ، وإلا لم تكن تلك الحجج العقلية لتُقُدّم كعلة للحكم في الكتاب والسنة والفقه معاً ؛ بل كان الواجب إذاً أن تُفرضَ الأحكام إجبارياُ ، على الناس أن يتقيدوا بها مهما رأها العقل البشري حجة معقولة أو لم يرها ذلك. وهنا لم يكن ليطلع على الدين أنه «لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ» وأن للإنسان أن يتبعه «على بصيرة» ؛ فقد صرّح كتاب الله تعالى:

﴿لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ﴾ (البقرة / 256)

﴿عَلَى بَصِيْرَةٍ أنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِيْ﴾ (يوسف/108)

﴿إذَا ذُكِّرُوْا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوْا عَلَيْهَا صُمًّا وَ عُمْيَانًا﴾ (الفرقان /73)

ثم إن القرآن عرض هذه الأحكام في كثير من المواضع، مسندة إياها إلىحجة ﴿لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ﴾ (الروم/24) و ﴿لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَّتَفَكَّرُوْنَ﴾ (الروم /21) و ﴿لآياتٍ لأولِي الألْبَابِ﴾ (آل عمران/190) و ﴿لآياتٍ لأولِي النُّهَى﴾ (طه/128). وذلك كله خطابٌ للألباب أي العقول أو لأولي الألباب أي لأولي العقول. ومن الواضح أن هذا الخطاب بالبصيرة والتعقل والاستماع والتفكر، لم يكن ليصح إلا إن كانت الأحكام المنقولة – كما هي في الواقع – مبنية على الحجج العقلية والعلل المعقولة ، وأيضاً إن كان الممتثلون لهذه الأحكام – كماحصل ذلك في الواقع – امتثلوها على بصيرة وتعقل، لكون روح التعقل موجودة وسارية فيهم ، الأمر الذي يدلّ على أن الحسن والقبح في الأفعال عقليان لا غير.

وجملة القول أن الدراسة المسرودة أعلاه تبين ما يوجد بين مذهبي الأشعرية والماتريدية من تضادّ.

علماء ديوبند وروحهم الاعتدالية في هذه القضية:

لكن الذوق الكلامي لعلماء ديوبند ههنا أيضاً ينبني على الجامعية والشمول والاعتدال ؛ فهم يودّون الجمع بين «الضدين» في أمثال هذه المسائل . فالعمل على رفع هذا التضاد في هذه القضية الأساسية مهما تم عن طريق رجل عادي في هذه الجماعة: جماعة ديوبند، فإن ذلك يكون أثراً من آثار الشمول والتوازن اللذين يتسم بهما المذهب الديوبندي.

فلرفع التضاد عن قضية الحسن والقبح ، يجوز أن يقال: إنه لا يوجد على ظهر الأرض قوم ينكرون المبدأ القائل بأن الأفعال مهما كانت حسنة أو سيئة إنما تخضع لضابطة وترتبط بقاعدة كلية. فإذا وضعنا ذلك في الاعتبار وجدنا أن كل قوم في العالم ، مهما كانت ديانتهم أو مهما كانوا متبعين لدين أو منكرين لكل دين، يعترفون بفطرتهم بحسن الأفعال وقبحها.

فمن الذي لا يعلم أن العدل حسنٌ وأن الظلم قبيح، وأن العلم حسنٌ وأن الجهل قبيح ، وأن البر والإيثار حسنان وأن الأثرة والبخل قبيحان ، وأن الوقار والجد حسنان وأن الهزل والاستخفاف قبيحان، وأن العفّة والنزاهة حسنتان وأن الوقاحة والاستهتار قبيحان، وأن الأمانة حسنة والخيانة قبيحة ، وأن الطهارة والنظافة حسنتان وأن النجاسة والقذارة قبيحتان . من الواضح كلّ الوضوح أن الأقوام كلها وإن كانت دهرية وملحدةً لادينية، تعترف بهذه الحقائق على أساس العقل ، ولا تعترف بها على أساس الدين.

وكلنا يعلم أن إجماع البشر – منذ أن وُجِدَتِ الخليقة – على شيء ما يُعَدُّ حجةً ، لا يتغاضى عنها حتى الشريعة الإسلامية ، والتنكر لها يُعَدُّ تنكراً للفطرة. فإن كان الأشعرية هم أيضاً من سكان هذه الدنيا وجزءاً من أقوام الدنيا، فإنهم كذلك سوف لن ينكروا هذه القاعدة الكلية، ولن يعرضوا عن الاعتراف بكون الحسن والقبح عقليين.

الحسن والقبح في هذه المبادئ:

فكون الحسن والقبح في هذه المبادئ الكلية عقليين ثبت بإجماع العالم ، الأمر الذي يُضْطَرَّ الأشعرية هي الأخرى إلى الاعتراف به ، أما الماتريدية فهم قائلون وعاملون به من قبل. فعلى هذه النقطة اتحد الأشعرية والماتردية.

أما فروع هذه الأصول والمظاهر العملية التي إنما تأتي نابعةً من تلك الأصول والكليات، فلما ثبت بالإجماع كون الحسن والقبح في تلك الكليات عقليين ، فلا يمكن أن لا تسري في الفروع والجزئيات نوعيةُ الصفات المودعة الكلياتِ والأصولَ ، بما فيها صفتا الحسن والقبح؛ فلامعدى لنا عن اعتبار ما يوجد في الفروع والجزئيات من الحسن والقبح عقليّاً، وإلا فتتلاشى الصلة التي تربط بين الأصل والفرع وبين الكلي والجزئي، على حين إن مثل هذه الصلة لازمة الوجود؛ فكون الحسن والقبح في الفروع عقليين بشكل مجمل شيء لا مجال لإنكاره للأشعرية ولا للماتريدية ؛ ولكن الحقيقة الجلية التي لا يجوز إنكارها ههنا هي أن المنهاج – الذي يُعْتَمَدُ عليه في هذا الباب في شأن استنباط الجزئيات من الكليات والفروع من الأصول، وتحديد هذه الجزئيات، و وضع النقاط على الحروف في خصوص أحوالها وكيفياتها ومواضع استخدامها – متوقفٌ على الشريعة الإسلامية، ولا يمكن العقلَ المجردَ أن يتّخذه من عنده. فليُعلَمْ أن هذا الاستنباط للفروع والجزئيات إنما يتم بالنص الشرعي أو الاجتهاد والاستنباط؛ لأن ذلك هو الحجة الشرعية الموثوق بها.

فالعقل قد يدرك مثلاً أن العلم حسنٌ ، ولكن ما هو النافع من العلوم وما هوالضار، وما هو المطلوب وما هو الجدير بالرفض، وإلى أي مرحلة يجوز طلب العلم، وعلى أي مرحلة يجب الامتناع عنه؟ وما هو العلم المقصود أصلاً ، وما هو العلم الذي هو بمنزلة مجرد الوسيلة والآلة؟. إن ذلك كّله لا تدلّ عليه إلا الشريعة الإسلامية. ويمكن أن يقاسَ بذلك كل مبادئ العدل والطهارة وما إلى ذلك؛ حيث إن تحديده والدلالة على حدود العمل في شأنه، وعلى ما هو المقصود منه وما هو غير المقصود، وعلى ما هي النواحي النافعة منه والضارة، وعلى نوعية الآثار التي يتركها والتي تتعلق بالأولى والآخرة؛ كل ذلك أمور إنما يتوقف الاطلاع عليها على إيجاب الشريعة وتحريمها واستحسانها واستهجانها ؛ لأن العقل ليس بوسعه أن يتخذ أي برنامج شامل فيما يخص الغيب والشهادة ، بمنجاة من العلم الإلهي وبسند من علمه وخبرته، وإلا لما مسّت الحاجة إلى النبوة.

وإذا كانت هذه الجزئيات المشار إليها لا يمكن أن يتم تحديدها إلاّ بالشريعة ، فمن الطبيعي أن يؤثر «الموقوف عليه» في «الموقوف» والأساس في البناء والأصل في الفرع. وإذا كانت الشريعة هي «الموقوف عليه» وهي الأساس، وهي الأصل؛ فإن الحسن والقبح الموجودين في هذه الجزئيات إنما ينبعان من الشريعة ، فلا يُسَمَّيَان إلا شرعيين.

إن الصلاة حسنة في ذاتها؛ ولكنها إذا صدر الأمر بها من الله عز و علا، فإن هذا الأمر هو الآخر يضفي عليه حسناً إلى حسنها. وإن الخمر قبيحة في ذاتها، ولكنه إذا صدر النهي عنها من قبل الشريعة ، فإن القبح سيأتي مؤكَّدًا، لا يمكن الماتريدية أيضاً أن ينكروا ذلك؛ لأن الأمر الإلهي الذي هو حسنٌ بذاته إذا نزل ، نزل بحسنه، وتوجه إلى الجزئيات بذلك الحسن ، فيزيده حسناً على حسن، وإلا لكان توجّهُ الأمر هذا غير فاعل. وذلك أمر غير معقول يرفضه العقل والنقل معاً؛ فهذه المرتبة من الحسن والقبح إنما تكون شرعية لكونهما ناشئين من الإيجاب والتحريم الشرعيين، ولا يمكن أن تُسَمَّى عقلية.ولئن صدرت هذه الأحكام بدورها من قبل حكومة دنيوية لكان ما في الصلاة من حسن وفي الخمر من قبح متوقفاً عى ذاتهما، ولكان عقليًّا فقط، ولما تبلور فيهما أي شيء من الحسن والقبح بهذا الأمر والنهي البشريين؛ بل كانا – أي الأمر البشري والنهي البشري – مُسْتَحْسَنَينْنِ من أجل ما فيهما من حسن وقبح. أما الأحكام الربانية ، فإنها على العكس من ذلك تأتي بنفسها بحسن من عندها كذلك، فتزيد المأمور به والمنهي عنه حسناً و قبحاً.

هذا الموقف نفسه يحدث لدى نسخ هذه الأحكام:

وهذا الموقف نفسه يحدث لدى نسخ هذه الأحكام الجزئية ؛ حيث إذا نهت الشريعة في وقت ما عن أمر حسن، لا يسلبه ذلك حسنه الذاتي العقلي؛ ولكن الأمر الشرعي المتضمن لمصالح العباد يضيف إليه حُسناً جديداً. فمثلاً : إذا سقطت الصلاة عن فاقد للحواس أو مُغْمًى عليه أو عن مريض مشرف على الموت، وكذلك ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ ما اشترط عليه صحابيٌ، من أنه لا يصليّ إلا صلاتين((1)). فإن ذلك كله لا يغيّر من حسن الصلاة الذاتي العقلي شيئاً وإنما يأتي ذلك ليزيدها حسناً في شأن الفرد المذكور ، وهذا الحسن الجديد المضاف إلى الحسن الذاتي العقلي يُسَمَّى حسناً شرعياً. ومثلاً: إن الكذب قبيح جدًّا في ذاته؛ ولكنه إذا سمحت به الشريعة لمصلحة ملحة، فإن ذلك لا يغير من قبحه الذاتي؛ ولكنه يضيف إليه بشكل استثنائي حسناً إنما يكون مصدره هو الأمر الشرعي الإلهي.

======

((1)) والحديث كما يلي:

عن نصر بن عاصم عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين فقبل ذلك منه، وفي «بذل المجهود في حلّ سنن أبي داؤد» فظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم أسقط عنه ثلاث صلوات فكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يخص من شاء بما شاء من الأحكام ويسقط عمن شاء ما شاء من الواجبات ، كما بينته بكتاب الخصائص ، فهذا منه. والظاهر أن هذا الرجل المبهم هو فضالة؛ فإنه ليثي ونصر بن عاصم ليثي فقال: عن رجل منهم،وفي هامش «البذل» : وقد ذكر السيوطي في الخصائص الكبرى له نظائر وكذا الجصَّاص في «أحكام القرآن». (بذل المجهود في حل سنن أبي داؤد» للعلامة المحدث خليل أحمد السهارنفوري المتوفى 1346هـ / 1927م، ج3، ص234، دار الكتب العلمية، بيروت، باب المحافظة على الصلاة؛ مسند الإمام أحمد ج5ص25 رقم الحديث 19776)

======

وخلاصة القول أن حسن هذه الأمور الجزئية وقبحها إذا يُنْظَر إليهما من خلال أصولهما ، فإنهما عقليان؛ وإذا يُنْظَرُ إليهما من خلال الأمر الشرعي والاقتراح الإسلامي ، فإنهما شرعيان. وكلا الأمرين لا يمكن أن يفارقا هذه الجزئيات ؛ فاجتماع النوعين من الحسن والقبح فيها، شيء طبيعي بالتأكيد.

ولئن كان الأشعرية قائلين بكون الحسن والقبح شرعيين فإن الماتريدية أيضاً لا يسعهم أن ينكروا ذلك بالقياس إلى هذه النسبة الشرعية التي تحدثنا عنها في السطور الماضية على حين أن هذه الأعمال لم تفقد في هذه الحالة أيضاً ما كانوا قد زعموه من الحسن والقبح العقليين ، كما أنه لا يتنافى مع الشريعة ما حدث فيها من مزيد الحسن بفضل الأمر الشرعي؛ لأن الماتريدية لم يدّعوا أن الحسن والقبح العقليين لا يجتمعان مع الحسن والقبح الإضافيين في حال من الأحوال؛ أي إن الدين يقوم على الجانب الإيجابي وليس على الجانب السلبي؛ فلم يعد الماتريدية منكرين بشكل كلي ما كان قد ادّعاه الأشعرية من كون الحسن والقبح شرعيين في الأفعال، كما أن موقف الماتريدية لم يتغيّر بإقرارهم بهذا الحسن والقبح الجديدين الإضافيين . وكذلك فالأشعرية لم يعودوا منكرين للحسن والقبح العقليين اللذين اكتسبتهما الأفعال الجزئية من خلال أصولها، واللذين ادّعاهما الماتريدية . وعلى ذلك فكلتا الطائفتين عادتا قائلتين بكلا النوعين من الحسن والقبح، الأمر الذي أكسبهما التوافق مكان التضاد، والتقارب مكان التباعد، على حين إن دعاويهما بقيت في مكانها.

الفرق بين الماتريدية والأشعرية في هذا الخصوص:

ويبقى الفرق بين الماتريدية والأشعرية في هذا الخصوص أن الماتريدية تقول بكون الحسن والقبح عقليين في هذه الجزئيات بالقياس إلى أصولها؛ ولكنها لم ترفض الحسن والقبح الناشئين فيها من قبل الأمر الشرعي في شأنها.

وعلى ذلك فإن الطائفتين قد اجتمعتا على القول بهذين الحسن والقبح من اعتبارات متعددة . وبذلك ارتفع التضاد المشهور عنهما في هذه القضية أو يكاد يرتفع لكونه يعود منكمشاً جداً. وإنما يبقى الاختلاف في النسبة والاعتبار ، ولا يبقى الاختلاف في أصل القضية وفي أصل الحكم. وههنا يجوز أن نقول إن إحدى الطائفتين غلبها «العقل الشرعي» فقالت بكون الحسن والقبح في الأفعال عقليين ، وإن الأخرى غلبها الذوق الشرعي؛ فقالت بكون الحسن والقبح شرعيين، غير أن إحداهما إذا لم تنكر نسبة أخراهما ، فلم يعد الأمر مرتبطاً بمغلوبية أصل القضية وإنما عاد مرتبطاً بالاعتبارات والنِسب وأذواق الطائفتين المعنيتين، وعادت القضية نفسها متفقاً عليها بينهما لحدّ كبير.

وعصارة القول أن المسائل الكلامية لم يكن فيها خلاف قط فيما يتعلق بالمنصوص عليه. وإنما كان الخلاف في المسائل الاجتهادية ، فأما الأصول والحقائق فقد أجمعت الأمم والأقوام على كون الحسن والقبح فيها عقليين بما فيها الأشعرية والماتريدية . أما الجزئيات فقد علِمْتَ آنفاً أن فيها اختلاف النسبتين: نبسة الحقائق والأصول ونسبة الاستنباط الشرعي؛ فاجتمع فيها الحسن والقبح من الاعتبارين ؛ العقلي والشرعي؛ فتلاشى هذا الاختلاف هو الآخر، ولم يعد جديراً بالنقاش على صعيدي الخطابة والكتابة.

الماتريدية و الأشعرية يجتمعان على قاسم مشترك:

الموقف الذي طرحناه يجعل الأشعرية والماتريدية يجتمعان على القاسم المشترك في قضية الحسن والقبح في كل من الأصول والفروع. وذلك الشمول والتوافق والاتحاد والتوازن هو الذي يضعه علماء ديوبند نصب أعينهم في شأن القضايا الكلامية.

وبذلك فيعود الخلاف بين الطائفتين نزاعاً لفظيًّا وليس نزاعاً حقيقياً.

ومن الواضح أنه إذا وُجدَ موقفٌ للاتحاد والتقارب من خلال وضع الاعتبارات والنسب في الذهن، فمن الطبيعي أن يُوجدَ مثل هذا الموقف الاتحادي في القضايا الأخرى أيضاً؛ ولا سيما في القضايا التي إنما يرجع فيها الخلاف إلى الخلاف في قضية الحسن والقبح في الأعمال . وذلك إذا وضعنا هذه النسب والحيثيات في الاعتبار.

فمثلاً: إن الأشعرية يقولون بالنقص والزيادة في الإيمان ، والماتريدية لا يقولون بذلك. وإذا أمعنّا النظر وجدنا أن أساس هذا الخلاف أيضاً إنما هو الخلاف في حسن الأعمال وقبحها؛ لأنها هي مظاهر الإيمان، فإذا زادت ونقصت فلا بدّ أن يزيد الإيمان وينقص. إذا زادت الأعمال الحسنة فإن الإيمان واليقين سيزيدان ويقويان، وإذا زادت الأعمال القبيحة وغلب القبحُ على الحسن والخبثُ على الصلاح، فلا بد أن ينقص الإيمان وأن تخف كيفية اليقين. و كلنا يعلم أن الإيمان يتعلق بسبعة أمور عقائدية أساسيّة: الإيمان بالله ، والإيمان بالرسول، والإيمان بالكتب ، والإيمان بالملائكة ، والإيمان بالقدر والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث بعد الموت . فإذا زاد الإيمان ونقص بالاعتبار العددي والمقداري وبالقياس إلى أجزائه، فإن الإيمان يزيد وينقص بكل تأكيد.

والأمور التي أشرنا إليها إذا فَقَدَ أحدٌ الإيمانَ بأحد منها، فإنه يفقد أصلَ الإيمان. وكذلك إذا نقص إيمانُه بأحد منها فإنه يفقد أصلَ الإيمان في هذه الصورة كذلك. وذلك أمر سيقول به الماتريدية كالأشعرية. فكلتا الطائفتين تقولان بالنقص والزيادة ، ولكن إحداهما تقول بالنقص والزيادة في الكيفية . وقد أشرنا إلى أن النقص والزيادة في العدد والمقدار يؤديان إلى فقدان الإيمان أصلاً؛ فلا يبقى هناك إلا النقص والزيادة في الكيفية ، وذلك هو الأمر الذي يقول به الماتريدية ، أي إن كيفية الإيمان تزيد وتنقص، ولا يحدث نقص وزيادة في الإيمان بالقياس إلى الكمية والعدد والمقدار.

فكلا الفريقين يقولان بالنقص والزيادة في الإيمان:

فكلتاهما تعترفان بالنقص والزيادة في الإيمان، فقالت إحداهما بكونهما متعلقين بالكمية وأخراهما بكونهما متعلقين بالكيفية. وقد رأيتَ أننا تناولنا النوعَ الأول من النقص والزيادة – وهما الواقعان في الكمية – بالتحليل والدراسة ؛ فأدّى إلى نشوء قضية فقدان الإيمان. وذلك ما لا يقول به حتى الأشعرية أيضاً؛ فلا يسع الفريقين إلا أن يتفقا على النقص والزيادة الحاصلين في الكيفية . وعلى ذلك فيعود هذا النزاع نزاعاً صوريّاً لا يمس إلا العوارض والكيفيات الخارجية ، أما أصل الإيمان فيعود النقص والزيادة في كيفيته أمراً متفقاً عليه.

وكذلك مثلاً: إن الماتريدية يذهبون إلى أن الإنسان له القدرة على أعماله ، ومن ثم كُلِّفَ بالكسب والاكتساب؛ ولكن الأشعرية لا يقولون بهذه القدرة .

والموقفان يبدوان متضادين؛ ولكننا إذا تناولناهما بالدراسة والتحليل ، وجدناهما على غير ما يبدوان في الظاهر؛ حيث إن الأشعرية عندما ينفون عن الإنسان القدرة فلا يعنون أنه جماد لا يعقل وأنه كالطوب والحجر، وإلا فهم يكونون قد أثبتوا صحة من يقولون بالجبر ويُعرفون بـ «الجبرية» على حين إنهم ممن يفندون مذهب القائلين بالجبر ؛ فلا يجوز لهم أن يسلبوا الإنسانَ القدرة كليًّا وينفوا الفرق بينه وبين الجماد ؛ فلا يبقى محلاً للتكليف الشرعي والثواب والعقاب؛ فيجب عليهم أن يعترفوا مبدئياً – شاؤوا أو أبوا – بالقدرة لحدّ ما. وكذلك فعندما يقول الماتريدية بكون الإنسان قادراً على الأعمال فلا يعنون أنه قادر بشكل مستقل، وأنه تعالى أقدره بصورة مطلقة ، وجعله يفعل ويصنع ما يشاء بقدرته وأنه عاد لا دخل في أعماله للقدرة الإلهية ، وأنه عاد خالقاً بنفسه لأفعاله؛ حيث إن ذلك هو مذهب القدرية الذي يفنده الماتريدية كاملاً، فلا يُتَصَوَّرُ أن يكونوا هم قائلين به.

الإنسان لا يملك قدرة مستقلة لدى أي من الفريقين :

فينبغي أن نقول : إن الأشعرية ينفون عن الإنسان القدرة المستقلة ولا ينفون عنه القدرة نفسها، وإن الماتريدية يثبتون للإنسان القدرة الخاضعة للقدرة الإلهية، ولا يقولن له بالقدرة المستقلة . وعلى ذلك فإن الأشعرية لن ينكروا القدرة التي يقول بها الماتريدية ، وهي القدرة التابعة للقدرة الإلهية ، والقدرة التي لا يقول بها الأشعرية وهي القدرة المطلقة لا يدّعيها الماتريدية كذلك. وعلى ذلك فارتفع الخلاف، وتلاشى النزاع، ولم يعد هناك أي تناقض بين الموقفين .

وتلك هي حال القضايا الكلاميّة الأخرى، حيث تبدو مختلفاً فيها ولكنها متفق عليها في الواقع.

لِنَقسِ القضايا الأخرى بالقضايا السالفة:

على كل فإن هذه القضايا المعدودة التي أشرنا إليها تدلّ على أن القضايا الكلامية بتدو مُختلفاً فيها شديد الاختلاف بين الأشعرية والماتريدية في بداية الأمر ؛ ولكن الاختلاف يتلاشى مع الوصول إلى النتائج.

فإذا كان علماء ديوبند يحاولون التوفيق بينهما، ولا يقولون بالتناقض الحقيقي بين المذهبين ، فهم على حقّ في هذا الشأن ، ونظراً لذلك إذا يذهب كاتب هذه السطور إلى أن علماء ديوبند ماتريديون مائلون إلى الأشعرية ، فلا يكون ذلك خلافاً للواقع.