الاستعراض المفصّل للأساسين اللذين يقوم عليهما مذهب علماء ديوبند

في ضوء ما قدمنا يتلخّص مذهب علماء ديوبند في ضوء مراد الحديث النبوي في أنه «اتّباعُ السنة عن طريق أهل الإنابة» أو «العمل بالدين ممزوجاً بتربية أهل اليقين» أو اتّباع الدين والتقيّد بالشريعة في ضوء تربية أهل السنة» أو «انصباغ القلوب بصبغة علاّم الغيوب» أو «اتّباع أوامر الله بصحبة أولياء الله».

فإذا أردنا أن نبيّن المذهب بشكل أكثر وضوحاً يجوز أن نقوم به من خلال سرد التفاصيل الدلالية الواسعة لكلمة «السنة» وكلمة «الجماعة» الموجزتين. وذلك بأن نقول: كل ما تكوّن ضمن «السنة» من شُعَب الدين بفضل السيرة النبوية هو عناصر مذهب علماء ديوبند، أما «الجماعة» فكل من وُجِدَ بفضل الصحبة النبوية من الشخصيات العظيمة من الصحابة فالتابعين فالأئمة المجتهدين والعلماء الراسخين في العلم ضمن تلك الشُعَب، احترامُهم جميعاً – مع مراعاة الفرق بين مراتبهم – واتّباعهم و تعظيمهم والتأدب معهم هو روح مذهبهم. وعلى ذلك فهذا المذهب بالسنة إلى مبادئه وبالنسبة إلى الشخصيات المتبوعة المعتبرة لديه، كشجرة ناشئة عن السنة النبوية وحب واحترام شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، وتتملأ كل زهرة وثمرة منها – الشجرة الناشئة عن السنة النبوية – من نفس رائحة ولون السنة النبوية ؛ فلا توجد شعبة دينية – ولا يمكن أن توجد – لا تكون متصلة بآثار السنة النبوية ، وإلا لم تكن لتُسَمَّى «دينية» ؛ ولا توجد شخصية دينية من نوع «أولي الأمر» لا تكون مستنيرة بالشخصية النبوية ، وإلا لم تكن ليُطْلَقَ عليها «شخصية دينية» فلن يتطابق مذهب ما مع رغبة النبوة إلا إذا اتخذ تبني جميع الشعب المنتمية إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتعلق بجميع الشخصيات الصالحة المتصلة به صلى الله عليه وسلم عنصراً من نفسه ، وإلا إذا خطا إلى الأمام في ضوء ذلك؛ حتى يتمتع بكلا النوعين من الانتماء الشامل الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ الانتماء المبدئي والانتماء الشخصي . وإذا كان شخص النبي صلى الله عليه وسلم شخصاً كاملاً وجامعاً لجميع انتماءات العلاقة مع الله تعالى، فكل الانتماء الصالح الذي ينبع منه صلى الله عليه وسلم ويصل إلينا سواء عن طريق شعبة من شعب الدين، أو تجلّى عن طريق شخصية دينية معتبرة، إنما يصل بصاحب الانتماء ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يجعله يتعلق به صلى الله عليه وسلم .

وإذا أعلملنا النظر في ضوء هذا المبدإ ، وجدنا أن جميع شعب الدين العلمية والعملية – ليس الشعب الفرعية فقط بل جميع الدلائل والحجج الدينية التي تُشَكِّلُ الشريعة – إنما هي آثار وثمار للانتماءات المتنوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالانتماء الإيماني إليه صلى الله عليه وسلم أوجد شعبةً العقائد التي تُسَمَّى في اصطلاح الفن «كلامًا» ؛ والانتماء الإسلامي إليه صلى الله عليه وسلم أوجد شعبةَ الأحكام العملية التي تُسَمّى اصطلاحاً بــ«الفقه» ؛ والانتماء الإحساني إليه صلى الله عليه وسلم أوجد شعبةَ تزكية النفس وتتميم الأخلاق التي اطّردت تسميتُه بــ «فنّ التزكية والإحسان».

وأوجد الانتماء إليه في إطار «إعلاء كلمة الله» شعبة الجهاد والسياسة التي أُطْلِقَ عليها لقب «الإمارة والخلافة» ؛ والانتماء الإسنادي إليه أوجد شعبةَ نقل الدين وحمله إلى من بعده، التي تُسَمّى اصلاحاً «فن الرواية والإسناد» ؛ والانتماء الاستدلالي إليه أوجد شعبة طلب الدليل وإبانته التي تُسَمّى في الاصطلاح «فن الدراية والحكمة»؛ والانتماء التقائي إليه أوجد شعبة علوم الفراسة والمعرفة التي أُصْطُلِحَ عليه بــ«فن الحقائق والأسرار»؛ والانتماء الاستقرائي إليه أوجد شعبة القواعد الشرعية وأصول الدين التي يُطْلَقَ عليها «فن الأصول» سواء أكان أصول الفقه أو أصول التفسير أو أصول الحديث وما إلى ذلك.

والانتماء الاجتماعي إليه صلى الله عليه وسلم أوجد شعبةَ التعاون المتبادل وحسن المعاشرة التي تُسَمّى اصطلاحاً «حضارة و مدنية» ؛ والانتماء التيسيري إليه أوجد شعبة الاعتدال والتسهيل التي تُسَمّى «العدل والاعتدال» ؛ وقد تجلى وتبلور بالانتماء الإنبائي إليه (أي كونه مُكْرَمًا بالنبوة) الوحيُ المتلوّ وقد سُمِّيَ مجموع هذا الوحي بالقرآن الكريم. وظهر بالانتماء البياني إليه الوحيُ غير المتلو بقسميه القولي والفعلي ، وقد سُمِّيَ مجموع هذا الوحي بـ «الحديث»؛ والانتماء التلقيني إليه نشأت منه شعبةُ الاستنباط واستخراج المسائل التي يُصْطَلَحُ عليه بـ «الاجتهاد»؛ والانتماء إليه في إطار «الخاتمية» نشأت منه صورة الهداية الأبدية في الأمة وعدم الاجتماع على الضلالة ، وقد تجلّت بذلك مكانة الحجية في هذه الأمة، وقد سُمِّيَ ذلك بـ «الإجماع».

وخلاصة القول: إن الانتماء إليه – صلى الله عليه وسلم – أقام حجج الدين الأربع التي منها تتفرع مسائل الشريعة : كتاب الله وسنة رسول الله وإجماع الأمة واجتهاد المجتهد. وكلها معروفة في الأمة باختلاف مراتبها؛ ولكن كلها حجة شرعية في الدين. والحجتان الأوليان تشريعية على اختلاف الرتبة بينهما، أما الأخريان فهما تفريعيتان.

وجملة القول إن جميع الشعب الدينية العلمية والعملية وجميع الحجج الدينية إنما هي نابعة من الانتماءات المختلفة إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام. وقد اتُّخِذَتِ الأسماءُ الاصطلاحيةُ للشعبة الفرعية منها فيما بعد. بينما صيغت هي وقواعدُها المستقاة من السنة النبوية في قالب الفنون؛ لكن حقائقها ظلت متصلة بشخص النبي صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول. ولذلك فجميعُ هذه الشعب من الفقه والحديث والتفسير والرواية والدراية والحقائق والحكمة والأصول وفن التزكية والإحسان والكلام والسياسة ؛ إنما هي كلها تأتي ضمن السنة وأجزاءً منها. وقد أخذ بها علماء ديوبند دونما تغيير فيها واتخذوها عناصر لمذهبهم.

ثم ظهرت في الإسلام طوائف مختصة كان لها اختصاص وبراعة وتعمق في شعبها وفنونها؛ فسُمِّيَتْ كل منها بأسماء شعبها. نحو المتكلمين والفقهاء ، والمحدثين والمجتهدين، والأصوليين والحكماء، والقائمين بالتربية والتزكية. وقد نبغ في هذه الطوائف كلها رجال في شعبهم وفنونهم وعاشوا بها وفيها ولها، حتى عادوا أسماءً على مُسَمَّيات هذه الفنون، وعاد من الصعب الفرق بينهم وبين الفنون التي نبغوا فيها واختصوا، حتى عادوا حججاً مقبولة ودلائل معتمدة في الدين، واعتُبِرُوْا أئمة في فنونهم، لمواهبهم ومآثرهم التي قاموا بها في تلك العلوم والفنون ، كأئمة الاجتهاد: أبي حنيفة نعمان بن ثابت التيمي الكوفي المتوفى عام 150هـ / 767م. ومالك بن أنس الإصبحي الحميري أبي عبد الله المتوفى 179هـ / 795م، والشافعي محمد بن إدريس الهاشمي القرشي المطلبي أبي عبد الله المتوفى 204هـ / 820م، و أحمد بن محمد بن حنبل أبي عبد الله الشيباني الوائلي المتوفى 241هـ / 855م وغيرهم رحمهم الله؛ وكأئمة الحديث : البخاري (1) ومسلم (2) والترمذي (3) وأبي داؤد (4) وغيرهم رحمهم الله . وكأئمة الدراية والتفقه: أبي يوسف (5) ومحمد بن الحسن الشيباني (6) والمزني (7) وداؤد الطائي (8) والزعفراني (9) وابن القاسم (10) وابن وهب (11) وابن رجب (12) وغيرهم. وكأئمة الحكمة والحقائق: الرازي (13) والغزالي (14) والشاطبي (15) والشاه ولي الله الدهلوي (16) وغيرهم. وكأئمة الأصول: فخر الإسلام البزدوي (17) والعلامة الدبوسي (18) وغيرهما. وكأئمة الإحسان والتزكية: الجنيد (19) والشبلي (20) ومعروف (21) وبايزيد (22) وغيرهم رحمهم الله.

===========

  • هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أمير المؤمنين في الحديث. وُلِد سنة 194هـ الموافق سنة 810م في «بخارى» ، ونشأ يتيماً. قام برحلات طويلة في طلب الحديث ؛ فزار خراسان، والعراق و مصر والشام. وسمع من نحو ألف شيخ ، وجمع نحو ستمائة ألف حديث. اختار منها في صحيحه ما وثق برواته . وهو أول من وضع في الإسلام كتاباً على هذا النمط، و كتابه «الجامع الصحيح» أوثق الكتب الستة، المعوَّل عليها في الحديث. أقام بـ«بخارى» ، فتعصب عليه جماعة ، ورموه بالتهم، فأخرج إلى «خرتنك» من قرى «سمرقند»، ومات بها سنة 256هـ الموافق عام 870م. كان حبر الإسلام، عالماً مخلصاً للعلم، حافظاً نادرة في الحفظ ، كريماً أعجوبة في الكرم، مجاهداً سبّاقاً إلى الجهاد ، وصدراً في كل شيء. وكان مع ذلك من أعبد العباد وأزهد الزهاد، وأشد المتواضعين. وقد صدق من قال: إنه أحد أعاجيب الرجال في تأريخ الإسلام العلمي. (تهذيب التهذيب 9 / 47؛ تاريخ بغداد 2 / 4-36؛ وفيات الأعيان 1 / 455؛ الأعلام للزركلي 6/ 34).
  • هو أبو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري؛ أحد أئمة الحفاظ وأعلام المحدثين . وُلِد بمدينة «نيسابور» عام 204هـ الموافق 820م، وتوفي بها عام 261هـ الموافق 875. رحل إلى الحجاز ومصر والشام والعراق. وأخذ الحديث من يحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأخرين. وروى عنه الترمذي وغيره . ولما استوطن البخاري نيسابور و وقع بين محمد بن يحيى النيسابوري والإمام البخاريّ ما وقع في مسألة اللفظ بالقرآن ، قطعه الناس إلا مسلماً ، فإنه لم يتخلف عن زيارته غير مكترث بنهي السلطان. أشهر كتبه «الصحيح» جمع فيه اثنى عشر ألف حديث. وهو أحد الصحيحين عند أهل السنة. (وفيات الأعيان ج5، ص194؛ تاريخ بغداد ج:13، ص:100؛ الأعلام ج:7، ص:221؛ تذكرة الحفاظ 2 / 150).
  • هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى السلمي، البوغي الترمذي، من أئمة علماء الحديث، وحفاظه. من أهل «ترمذ» على نهر جيحون. تلمذ للبخاري وشاركه في بعض شيوخه ، وقام برحلة إلى خراسان و واسط والريّ والعراق والحجاز، وعمي في آخر عمره. وكان يضرب به المثل في الحفظ.

 وُلِدَ سنة 209هـ الموافق 824م، في «ترمذ» ، وتوفي بها عام 279 هـ الموافق عام 892م. من تصانيفه الجامع الكبير باسم جامع الترمذي في الحديث ، والشمائل النبوية ، و «التأريخ والعلل» في الحديث . (ميزان الاعتدال 3/ 117؛ وفيات الأعيان 1 / 484؛ تذكرة الحفاظ 2 / 187؛ الأعلام للزركلي 6 / 323).

  • هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي أبو داؤد السجستاني محدث البصرة . أصله من «سجستان» . وُلِدَ عام 202هـ الموافق 817م وتوفي بــ «البصرة» سنة 275هـ الموافق عام 889م. رحل إلى مصر والحجاز والشام والعراق وخراسان، وسمع بها ، كما انتفع بالإمام أ؛مد ولازم مجلسه. كان إماماً ، فقيهاً، حافظاً للحديث ، عالماً بعلله وأسانيده مع غاية في الصدق والعفاف والورع والصلاح . وكان على مذهب السلف في اتّباع السنة والتسليم لها، وترك الخوض في مضائق الكلام. قال الصاغاني : لُيِّنَ لأبي داؤد الحديث كما لُيِّنَ لداؤد الحديد. له السنن وهو أحد الكتب الستة، جمع فيه 4800 حديثاً انتخبها من 50000 حديث . (تاريخ بغداد ج9، ص55؛ سير أعلام النبلاء ج13 ص203؛ وفيات الأعيان 1 / 214؛ تذكرة الحفاظ 2 / 152؛ الأعلام للزركلي 3/122).
  • هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، الكوفي ، البغدادي أبويوسف صاحب الإمام أبي حنيفة . ولد سنة 113هـ الموافق سنة 731م بالكوفة . وتوفي ببغداد عام 182هـ الموافق 798م، وهو على القضاء في خلافة هارون الرشيد العباسي. تفقه بالحديث والرواية على ابن أبي ليلى، والأعمش. وعطاء بن السائب وغيرهم. ثم لزم أبا حنيفة رحمه الله . تولّى القضاءَ ببغداد في أيام المهدي والهادي والرشيد من خلفاء الدولة العباسية. وكان الرشيد يكرمه ويُجِلُّه وهو أول من دُعيَ «قاضي القضاة» وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. كان فقيهاً ، علامةً من حفاظ الحديث، واسعَ العلم بالتفسير والمغازي. من كتبه «الخراج» ،و «مسند أبي حنيفة» ، و «أدب القاضي»، و «الجوامع» وغيرها، من الكتب النفيسة العلمية. (الجواهر المضيئة 2/220؛ وفيات الأعيان 2/303؛ شذرات الذهب 1/298؛ الأعلام للزركلي 8/193).
  • هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء. وهو الذي نشر بتصانيفه علمَ أبي حنيفة. أصله من قرية «هرسته» في غوطة دمشق. ولد بواسط سنة 131هـ الموافق 748م ونشأ بالكوفة. قرأ الحديث على مالك والثوري والأوزاعي من الأعلام. ثم ورد على أبي حنيفة وتفقه عليه، وأخذ عنه الإمام الشافعي. وقال: ما رأيت سميناً أفهم منه. ولاّه الرشيد القضاء بالرقة، ثم عزله . ولما خرج الرشيد إلى خراسان صحبه ومات في الري عام 189هـ الموافق 804م ودفن بها. فكان الرشيد يقول: دفنت الفقه والعربية بالريّ.

كان أعلم بكتاب الله، إماماً بالفقه والأصول، بارعاً في النحو والعربية ، والرياضيات ، مع عفة وورع وكثرة صلاة والذكر لله. له تسع مائة وتسعة وتسعون كتابا معظمها في الفقه والأصول . (وفيات الأعيان ج4 ص184؛ الجواهر المضيئة ج2، ص42؛ الفوائد البهية 163؛ الأعلام للزركلي 6/80).

  • هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر. ولد عام 175هـ الموافق 791م بـ «مصر» وتوفي بها عام 264هـ الموافق 878م، ودُفنَ بالقرب من تربة الإمام الشافعي. نسبته إلى «مزينة» من مصر (قبيلة مشهورة)

كان زاهداً ، عالماً ، مجتهداً ، فقيهاً، محققاً، مجاب الدعوة، وإمام الشافعيين في زمانه. وكان أعرفهم بطرق الشافعي و فتاواه وما ينقله عنه. قال الشافعي يصفه : المزني ناصر مذهبي ، ولو ناظر الشيطان لغلبه. وله مصنفات عديدة في مذهب الإمام الشافعي، من بينها «الجامع الصغير» و «الجامع الكبير» و «مختصر المختصر» وهو أصل الكتب المصنفة في الفقه الشافعي. (وفيات الأعيان ج1، ص217؛ الأعلام للزركلي 1/329).

  • هو داؤد بن نصير أبو سليمان الطائي من أئمة المتصوفين ، كان في أيام المهدي العباسي (المتوفى 169هـ / 785م) أصله من «خراسان». ولد بـ «الكوفة» ، وتوفي بها عام 165هـ الموافق 781م. رحل إلى بغداد، وسمع من كبار العلماء وروى عنه الأكابر، وأخذ عن أبي حنيفة، ثم عاد إلى الكوفة ، فاعتزل الناس ولزم العبادة إلى أن مات فيها، وكان ممن شغل نفسه بالعلم ودرس الفقه وغيره من العلوم.

قال أحد معاصريه: لو كان داؤد في الأمم الماضية ، لقص الله تعالى شيئا من خبره. وله أخبار مع أمراء عصره وعلمائه. (وفيات الأعيان ج2 ص259؛ حلية الأولياء 7/335؛ الجواهر المضيئة 2/536؛ الأعلام للزركلي 2/335).

  • هو الحسن بن محمد الصباح البزاز، الزعفراني، البغدادي، أحد الفقهاء و رجال الحديث . نسبته إلى «الزعفرانية» قرية بقرب بغداد. سمع من سفيان بن عيينة، و وكيع بن الجراح، ومن في طبقتهما، ثم لازم الإمام الشافعي، وتبحَّر و ذاع صيته في الآفاق. كان راوياً للإمام الشافعي لأقواله القديمة، بارعاً في الفقه والحديث، ولم يكن في وقته أفصح منه ولا أبصر باللغة . توفي عام 259هـ الموافق عام 873م. (وفيات الأعيان ج2 ص73؛ تهذيب التهذيب ج2 ص318؛ الأعلام للزركلي 2/212).
  • هو عبد الرحمان بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي ، المصري أبو عبد الله المعروف «بابن القاسم» فقيه مالكي. جمع بين الزهد والعلم، تفقه بالإمام مالك ونظرائه، وتفقه عليه كبار المالكيين . ولد بــ «مصر» عام 132هـ الموافق عام 750م، وتوفي بها عام 191هـ الموافق 806م، ودفن خارج «باب القرافة الصغرى». له «المدونة الكبرى» في ستة عشر جزءاً ، وهي من أجل كتب المالكية ، رواها عن الإمام مالك. (وفيات الأعيان ج3 ص129؛ الأعلام للزركلي 3/323).
  • هو أبو محمد عبد الله بن وهب الفهري بالولاء ، المصري، من أصحاب مالك. ولد بــ «مصر» عام 125هـ الموافق 743م، وتوفي بها عام 197هـ الموافق سنة 813م.

سمع من مالك وعبد الرحمن بن القاسم، وصحب مالكاً عشرين سنة، وصنف الموطّأ في الحديث . عُرِض عليه القضاء بمصر، فخبأ نفسه ، ولزم منزله. كان عابداً ، حافظاً، فقيهاً، محدثاً مجتهداً شديد الخوف من الله تعالى. ذُكِرَ أنه قُرِئَ عليه «كتاب الأهوال» من جامعه، فأخذه شيء كالغشي، ولم يزل كذلك حتى مات. مؤلفاته معروفة في الفقه. (وفيات الأعيان ج3 ص36؛ تذكرة الحفاظ 1/279؛ تهذيب التهذيب 6/71؛ الأعلام للزركلي 4/144).

  • هو الشيخ الإمام المقرئ المحدث شهاب الدين أحمد بن رجب عبد الرحمان البغدادي ، ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بـ «ابن رجب». ولد بمدينة بغداد عام 763هـ الموافق عام 1335م وتوفي بدمشق عام 795هـ الموافق عام 1393م.

قدم مع والده إلى دمشق وهو صغير، فقرأ على ابن نقيب ، ويحيى بن شرف النووي وسمع بـ «مكة» من الشيخ عثمان بن يوسف وبمصر من الشيخ صدر الدين أبي الفتح الميدومي. كان غراً كريما، واعظاً مبكياً، حافظاً للحديث، وكان أعرف أهل عصره بالعلل والأسانيد. تخرج عليه غالب الحنابلة بدمشق. من كتبه شرح جامع أبي عيسى الترمذي، وشرح الأربعين للنووي، وشرح لصحيح البخاري لم يتمه. (شذرات الذهب ج3ص349؛ الأعلام للزركلي 3/295).

  • هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله فخر الدين الرازي من علماء الشافعية . أصله من «طبرستان» ، مولده في «الري» من أعمال «فارس» عام 544هـ الموافق عام 1150م، وإليها نسبته. وتوفي بــ «هراة» عام 606هـ الموافق عام 1210م. رحل إلى «خوارزم» وما وراء النهر وخراسان، وأخذ عنه خلق كثير، قدم على شهاب الدين الغوري سلطان غزنة، فبالغ في إكرامه.

 كان أصولياً ، حكيماً، متكلماً، مفسراً، فقيهاً، أديباً، شاعراً أوحد زمانه في المعقول والمنقول. وكان يحسن الفارسية. له مؤلفات نفيسة. (وفيات الأعيان 1/474؛ البداية والنهاية 13/55؛ الأعلام للرزكلي 6/313).

  • هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي، الطوسي أبو حامد حجة الإسلام ، فيلسوف، زاهد متصوف له نحو مائتي مصنف في شتى العلوم. ولد في «الطابران» قصبة ببلاد «طوس» بخراسان سنة 450هـ الموافق 1058م. وتوفي بها عام 505هـ الموافق عام 1111م.

نسبته إلى صناعة الغزل أو إلى «غزالة: من قرى «طوس». درس و تخرّج على الشيخ أبي المعالي الجويني إمام الحرمين (المتوفى 478هـ / 1085م).

كان مدرساً بالمدسة النظامية ببغداد ، ثم ترك جميع ما كان عليه، وسلك طريق الزهد والانقطاع ، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهد المقدسة. واتّخذ بجوار بيته مدرسة للمشتغلين بالعلم وزاوية للصوفية بمدينة «نيسابور» و وزّع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس إلى أن توفي. (وفيات الأعيان 1/463؛ شذارت الذهب 4/100؛ الأعلام للزركلي 7/22).

  • هو القاسم بن فَيُّرة بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي إمام القراء. كان ضريراً وُلِدَ بــ «شاطبة» في الأندلس عام 538هـ الموافق عام 1144م. وتوفي بـ «مصر» سنة 590هـ الموافق 1194م.

كان عالماً بالحديث والتفسير والنحو واللغة ، قوي الحفظ والإحاطة . وهو صاحب «حرز الأماني» قصيدة في القراءات تعرف بــ «الشاطبية» . قال ابن خلّكان: كان إذا قرئ عليه «صحيح البخاري» ، و «مسلم» ، و «الموطأ» تُصّحَّحُ النُّسَخُ من حفظه. والرعيني نسبة إلى ذي رعين أحد أقيال اليمن . (وفيات الأعيان 1/422؛ شذرات الذهب 4/301؛ الأعلام للزركلي 5/180).

  • قد مضت ترجمته ضمن عنوان «ماهي الديوبندية».
  • هو علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم أبو الحسن فخر الإسلام البزدوي . من أكابر الحنفية من سكان مدينة «سمرقند» . نسبته إلى «بزدة» قلعة بقرب «نسف». ولد عام 400هـ الموافق عام 1010م، وتوفي عام 482هـ الموافق عام 1089م. دَرّس وأفاد لمدة مديدة بسمرقند، و وُلّيَ القضاءَ بها.

كان محدثاً، فقيهاً، مناظراً مُفْحماً، بارعاً في الفروع، والأصول والكلام، وفنون جمة. وكان يُضْرب به المثل في حفظ المتون والمذاهب. من تصانيفه «كنز الوُصول» في أصول الفقه يُعَرفُ بأصول البزدوي، و «تفسير القرآن» وهو كبير جداً. (الفوائد البهية 124؛ الجواهر المضيئة 1/372؛ الأعلام للزركلي 4/328).

  • هو عبد الله بن عيسى أبو زيد الدبوسي،نسبته إلى «دبوسية» بين بخارى و سمرقند . تفقه على أبي جعفر الأشتروني.

كان فقيهاً، باحثاً، أصولياً، وأول من وضع علم الخلاف و أبرزه إلى الوجود. ذكر الإمام السمعاني أنه كان يُضْرب به المثل في النظر واستخراج الحجج. وكان له بسمرقند وبخارى مناظرات مع الفحول.

توفي بــ «بخارى» عام 430هـ الموافق 1039م. من كتبه «تأسيس النظر» فيما اختلف به الفقهاء أبو حنيفة. وصاحباه، ومالك ، والشافعي؛ و «الأسرار» في الفروع ؛ و «تقويم الأدلة» في الأصول . (وفيات الأعيان 1/253؛ كشف الظنون 1/334؛ البداية والنهاية 12/46؛ الأعلام للزركلي 4/109).

  • هو الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي ، الخزاز أبو القاسم صوفي من العلماء بالدين. وُلِد و نشأ ببغداد، وتوفي بها عام 297هـ الموافق 910م. أصل أبيه من «نهاوند». تفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي. عدّه العلماء شيخ مذهب التصوف ، وهو أول من تكلم في علم التوحيد ببغداد. قال أحد معاصريه ؛ ما رأت عيناي مثله، الكتبة يحضرون مجلسه لألفاظه والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه.

كان فقيهاً، أديباً ، صوفياً مصوناً من العقائد الذميمة ، سالماً من كل ما يوجب اعتراض الشرع. من كلامه: من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث ، ولم يتفقه، لا يُقْتَدَى به. (تاريخ بغداد 7/241؛ حلية الأولياء 10/255؛ وفيات الأعيان 1/117؛ الأعلام للزركلي 2/141).

  • هو دلف بن جحدر الشبلي ، ناسك، أصله من خراسان، ونسبته إلى «شبلة» قرية ببلاد ماوارء النهر. ولد بمدنية «سَرّ من رأى» عام 247هـ الموافق 861م، وتوفي ببغداد سنة 334هـ الموافق 946م.

كان في مبدإ أمره والياً في «دنباوند» من نواحي الريّ، وحاجباً للموفق العباسي، كما كان أبوه حاجب الحجاب، ثم ترك الولاية ، وعكف على العبادة، فاشتهر بالزهد والصلاح، له شعر جيد سلك به مسالك المتصوفة. (وفيات الأعيان 1/180؛ حلية الأولياء 10/366؛ تاريخ بغداد 14/389؛ الأعلام للزركلي 2/341).

  • هو معروف بن فيروز الكرخي أبو محفوظ، أحد أعلام الزهاد والمتصوفين . كان من موالي الإمام علي الرضي بن موسى الكاظم. ولد ببلدة «كرخ» ببغداد. ونشأ و توفي بها عام 200هـ الموافق عام 815م. كان أبواه نصرانيين، فأسلما بإسلامه. اشتهر بالصلاح وقصده الناس للتبرك به، حتى كان الإمام أحمد بن حنبل في جملة من يختلف إليه، كان صاحب الأحوال والكرامات، ومشهوراً بإجابة الدعوة. (شذرات ج1ص360؛ وفيات الأعيان ج2 ص104؛ تاريخ بغداد 13/199؛ الأعلام للزركلي 7/269).
  • هو طيفور بن عيسى البسطامي، أبو زيد ، ويقال بايزيد، زاهد مشهور. ولد بـ «بسطام» بلدة من أعمال «قومس» بين خراسان والعراق عام 188هـ الموافق عام 804م، وتوفي بها سنة 261هـ الموافق 875م. كان جده مجوسياً ، فأسلم.

كان أبو يزيد يقول : لو نظرتم إلى رجل أعْطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء ، فلا تغتَرُّوا به ، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وأداء الشريعة. قيل: إنه أول من قال بمذهب الفناء، ويُعرف أتباعه بالطيفورية والبسطامية. (وفيات الأعيان ج2 ص531؛ حلية الأولياء ج10 ص33؛ ميزان الاعتدال 1/481).

==========

هذه الفنون والشعب وغيرها التي نبغ فيها رجال سعداء ، بجهودهم وصل الدين والعلوم الدينية إلينا؛ فهؤلاء الأعلام البررة كلهم احترامُهم واجب في مذهب علماء ديوبند، وكذلكهم مراجع في فنونهم ونواحي اختصاصهم لدى علماء ديوبند.

فكما أن علماء ديوبند يرجعون إلى هذه الشعب كلها رجوعاً مُوَحَّدًا ولا يقتصرون على إحدى منها ولا يتشاغلون بها عن غيرها. فمثلاً لا يأخذون بشعبة التزكية والإحسان وحدها، حتى ينبذوا وراءهم الحديث؛ أو لا يأخذون بالحديث وحده، حتى يستغنوا عن الكلام وشعبة التزكية والإحسان؛ أو لا يأخذون بالفقه وحده، حتى ينصرفوا إلى الحقائق والأسرار؛ ولا يصنعون عكس ذلك ، حتى يتشاغلوا عن الفقه وجزئياته. فهم يأخذون بجميع هذه الشعب بشكل سواء.

كذلك فهم يثقون برجال هذه الشعب المختصين فيها ويحترمونهم احتراماً متساوياً، لأن كلاً منهم ينتمون إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أو أخرى، ويقتبسون النور من سراج النبوة الوهاج.

فكونُ علماء ديوبند محدّثين لا يعني أبداً أنهم لا يُلِمُّوْن بالفقه، أو كونُهم فقهاء لا يعني أنهم لا يُعْنَوْنَ بالحديث، أو كونُهم أصوليين لا يعني أنهم يحتقرون رجال التزكية والإحسان، أو كونهم رجال التزكية والإحسان لا يعني أنهم لا يقيمون وزناً للمتكلمين. وذلك أن هؤلاء الأشخاص كلهم خلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار من الاعتبارات ومتبعون لآثاره صلى الله عليه وسلم . كمثل الصحابة الذي كان فيهم رجال من كل نوع ومن كل لون؛ ولكنهم جميعاً كانوا على مكانة مرموقة في تبادل التأدب فيما بينهم واحترامهم بعضهم للبعض.

ولذلك فإن الأفضل الأسمى الأكثر قبولاً ومحبوبيةً فيما بين أفاضل الأمة وأعلامها، إنما عُدَّ من كانوا يجمعون بين الإحاطة والتعمق في هذه العلوم والفنون كلها؛ فكانوا في وقت واحد مفسرين ومحدثين ، وفقهاء ومتكلمين، ورجال تزكية وإحسان؛ وكانويتمتعون بالأحوال والكيفيات المشتركة من الرواية والدراية ، والأخلاق والعمل، والفقر والإمارة ، والزهد والمدنية، والعبادة وخدمة الخلق، وحب العزلة والاجتماع، والخلوة والجلوة، وافتراش الغبراء مع الحكم والسلطان. كما كانت حياة الصحابة رضي الله عنهم نموذجاً واضحاً لهذه الجامعية والشمول، وفيما بعدهم أيضا لم يخل تأريخ الأمة من الذين اقتفوا آثارهم واتبعوا خطواتهم في الجامعية هذه. وإن كانت بعض الشخصيات قد غلبت عليها بعضُ الشعب فعُرفت بها في الناس؛ ولكن ذلك لم يُخِلَّ بجامعيتها.

فكما أن جميع شعب الدين هذه : العلمية والعملية واجبة الاعتبار والأخذ، كذلك شخصياتُها كلها واجبة الثقة والإعجاب والاحترام؛ ولذلك فإن حبها جميعاً واحترامها معاً أساسٌ أهمُّ من أسس مذهب علماء ديوبند؛ لأن هذه الجامعية هي التي كانت مُتَّبَعَةً لدى الصحابة رضي الله عنهم، وهي التي كانت مذهباً لديهم عن طريق اتباعهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، أي أنهم بجانب اتباعهم لجميع السنن النبوية وأخذهم بجميع شعب الدين أجادوا احترام الأشخاص ، و وَقَّر بعضهم بعضاً. وهذه الطريق نفسها: طريق الجامعية، سلكها أهلُ السنة والجماعة الذين اختير لقبهم هذا : «أهل السنة والجماعة» من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى تتجلى جامعية مذهبهم وأعمالهم باللقب هذا وحده.

وهذه الطريقة الجامعة هي التي وصلت كابراً عن كابر إلى الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بــ «الشاه ولي الله الدهلوي» [المتوفى 1176هـ / 1762م]««««مضت ترجمته ضمن عنوان «ماهي الديوبندية»»»» رحمه الله تعالى: تلك الطريقةن التي تمتاز بالجمع بين «الارتفاقات» والاقترابات». وإذا كانت «الارتفاقات» لها مصاديق كثيرة ؛ فإننا إذا نظرنا إليها من وجهة «الرفق» فإن مصداق معنى هذه الكلمة الأشدّ أهميّةً سيكون الاهتمامَ بتوجيه وإرشاد رفقاء الطريق وزملاء السفر، الذي إنما يتحقق عن طريق الشخصيات. أما «الاقترابات» فإنما تعني جميعَ شعب التقرب إلى الله تعالى التي يُغطّيها كتابه القيم «حجة الله البالغة» ((1)). وهذه الطريقة الجامعة – التي اتّبعها الصحابة ومن بعدهم – هي التي انتهت إلى علماء ديوبند مارّةً به – الشاه ولي الله الدهلوي – وأصبحت هي شعاراً لهم ورمزاً على شخصيتهم وهويتهم.

========

 ((1)) حجة الله البالغة ، كتاب باللغة العربية، في فن أسرار الشريعة ؛ ألفه الإمام الشاه ولي الله الدهلوي (أحمد بن عبد الرحيم) المتوفى 1176هـ / 1762م. وهو من نوادر المؤلفات في الموضوعات الإسلامية.

كان الإمام الدهلوي رحمه الله متاكّداً من أن العهد القادم سيكون عهداً عقلانياً، تكثر فيه إثارة الشكوك ضدّ أحكام الشريعة. وسدًّا لهذا الخطروَضَعَ مُؤَلَّفَه المنقطع النظير هذا ، على الحاج من الشيخ محمد عاشق الفلتي (المتوفى نحو 1187هـ / 1773م) بأسلوب يجمع بين الكلام والفقه والفلسفة والمناقشة العقلية ، الأمر الذي لم يكن ليتأتّى لغيره . وقد أثبت فيه كونَ تعاليم الإسلام موافقةً للفطرة، وكونَ الأحكا الشرعية مبنيّةً على العدل. وقد ذكر أسرار وحِكَمَ كل حكم من أحكام الشريعة بأسلوب مُعَضَّد بالدلائل يفنّد كل شك يمكن أن يثيره المتشككون ، ويفحم المعارضين الذين يوجّهون إلى الأحكام اعتراضات.

قد حاول الإمام الدهلوي من خلال هذا الكتاب أن يطرح فلسفة الإسلام بشكل منسق. وعقد أبواباً بأسلوب فقهيّ ، وتناول فيها جيمع الأحكام بالتحليل والتعليق ، وذكر لكل منها علة بطريقة تجعل القارئ يؤمن بهذه الأحكام إيماناً مبنياً على البصيرة.

فهذا الكتاب شرح لفلسفة الإسلام، وهو على شاكلة كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي (المتوفى 505هـ / 1111م) بل يفوقه بكثير من الأمور. وإلى جانب ذلك يمثل أسلوباً جميلاً فريداً متقناً رائعاً للكتابة بالعربية نبغ فيه عالم عبقريّ عسلته خلية الإسلام في ديار العجم .

========

وإذاً فإن مذهب علماء ديوبند ليس مجرد الأصولية (Fundamentalism)((1)) أو الشخصانية (Personalism) ولا يغني عندهم لفهم الدين أو التربية الدينية مجردُ الكتب والكتابات، ولا مجردُ الشخصيات، ولا مجردُ المطالعة والدراسة، ولا مجردُ التفكير الشخصي، ولا مجردُ الاعتماد على أقوال و أفعال الشخصيات. وإنما تكوّنَ مزاج هذا المذهب بالأصول والقانون وبالذوات والشخصيات معاً؛ أو بتعبير آخر: بالكتب والكتابات بشرطِ معية وملازمة الصديقين، وبالدراسة والتدريس المنتظمين معاً؛ فلا يجوز عندهم صرف النظر عن شيء من ذلك. وإذا كانت الجامعية والاعتدال والتحفظ والتوسط هي روح هذا المذهب؛ فإن التقيد بجميع الجزئيات الدقيقة واتّخاذها منارةَ نور – في حمة واعتدال – في كل شعب الدين وحجج الشرعية بدءاً من القرآن والحديث ، ومروراً بالفقه والكلام وغيرهما ، وانتهاء إلى الإحسان والتزكية ، أضحى شعاراً للمذهب.

أما في خصوص الذوات والشخصيات فإن اتّباعها وحبها والانتهاج بمنهجها في نجوة من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير ، بدءاً من شخصيات الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وانتهاء إلى أئمة الاجتهاد، والعلماء الراسخين ، والصلحاء المتقين، والمشايخ العظام، ورجال التزكية والإحسان الكرام، وحكماء الإسلام ، كان ميزة لهذا المذهب ؛ مذهب علماء ديوبند.

الأصل الأصيل في مذهب علماء ديوبند هو التوحيد:

وإذا أمعنا النظر وجدنا أن أصول هذه الشعب كلها وقوانينها وعلومها و فنونها، إنما تتلخص في أمرين: العقيدة والعمل، ولأجلهما نزلت الشريعة التي وضعت الشعب المذكورة كلها . أما الأمور الأخرى فإنما هي آثار لهما ونتائج تبحثها تلك الفنون والشعب . أما العقائد فعلى رأسها بل التي هي أساس العقائد كلها هي عقيدة التوحيد التي ظلت أصلَ الدين لدى جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام . أما الأعمال فإن أساسها هو اتباع السنة والتقيد بالأسوة الحسنة للنبي صلى الله عليه وسلم . وجميع طرق العمل المأثورة بالسند سواء أكانت طرق السلف أوالخلف إنما هي آثار ونتائج للسنة النبوية . ولذلك فإن الأصل الأصيل في هذا المذهب: مذهب علماء ديوبند إنما هو التوحيد والتركيز عليه بشكل لا يدع مجالاً لشوائب الشرك ودواعيه. ومع ذلك فإن هذا المذهب لا يتضمن بصورة أو بأخرى، الاعتقاد بأن احترام الصلحاء والأتقياء وحب ذوي الفضل والكمال من العلماء وأعلام الدين ، ينافي التوحيد.

إذاً فإن هذا المذهب ليس يعني تحقير الشخصيات والاستهزاء بها والتجرأ عليها، بالاهتمام بالتوحيد و التركيز عليه؛ لأن ذلك ليس كمال التوحيد، بل هو الغلو في التوحيد، أو الخلو عن الحقيقة ، أو الشعور بالعلو الشخصي. وكذلك فإن المغالاة في تعظيم الشخصيات ، التي تُخِلُّ بالتوحيد أو يَشوبه الشرك، ليست من هذا المذهب في شيء؛ لأن ذلك ليس تعظيماً ، وإنما هو غلو في التعظيم يتضمن صريحاً الاستهانة بالتوحيد. فالتعظيم بشكل لا يخدش التوحيد، والتوحيدُ بصورة لا تحول دون التعظيم ، هما نقطة الاعتدال التي هي مذهب علماء ديوبند.

أمثلة لاعتدال المذهب:

في هذا الخصوص إذا أخذنا في الاعتبار قضية الشخصيات والذوات ، وجدنا أن منبع الشخصيات المقدسة في العالم هو شخصيات الأنبياء عليهم السلام، ولا سيما شخصية آخرهم وخاتمهم سيدنا وسيد ولد آدم نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، التي كان حبُّها و تعظيمها والإعجاب بها واتباعها أصلَ الإيمان. لكن علماء ديوبند في هذا الشأن كذلك لم يبرحوا نقطةَ الاعتدال ، ولم يُمْنَوْا بالغلو ، ولم يتبنوا الإفراط والتفريط، وذلك جرياً وراء مذهب أهل السنة والجماعة.

فليس مذهبهم فيما يتعلق بالأنبياء عليهم السلام كمذهب الطوائف وأبناء شتى الديانات القائل بعدم الفرق بينهم وبين الله ، وإنما الفرق هو كون الله وجوداً ذاتياً وكون الأنبياء وجوداً عرضياً و نعوذ بالله من ذلك؛ أو القائل بأن الله قد حلَّ في الأنبياء وأنهم مُغَطَّوْنَ بالحجاب المجازي ، وقد تمثلت فيهم الحقيقة الربانية السماوية ، أي أنهم مظهر الألوهية ؛ أو القائل بأنهم شيء فوق النوع البشري العام، فلا يوجد بينهم وبين البشر أية مماثلة؛ أو القائل بأنهم – ومعاذ الله تعالى من ذلك – خلاصة الروح الإلهية؛ أو القائل بأنهم من صلب الله أو أعزاؤه أو أحباؤه أو أولاده وأحفاده.

وكذلك فليس مذهب علماء ديوبند كمذهب الماديين السيّئي الأدب الوقحاء، القائلين بأن الأنبياء عليهم السلام – معاذ الله تعالى – مجرد الرسل أي حاملي الخطابات وسُعاة البريد؛ فوظيفتُهم تنتهي لدى نقل رسالة الله إلى العباد، وليست لهم قيمة وراء ذلك؛ أي أنهم لا يستحقون أي احترام أو تكريم أو حب و تقدير؛ لأنه مجرد واسطة؛ اللهم إلا الاحترام العادي الذي تميله الأخلاق الإنسانية نحو أي رسول ناقل للرسالة من شخص إلى شخص.

ومن الواضح أن ذلك ضلال مبين و تورط في الإفراط والتفريط، إنما يسببه الجهل والغباء، على حين إن الدين نابع من منبع العلم الإلهي الصافي. والإفراط والتفريطُ والغلو والمبالغة ، إنما نشأ من الظلم والسفاهة، وكلنا يعلم أن الدين مبنيّ على أساس العلم والعدل، وليس على أساس الظلم والجهل.

ولذلك فإن مذهب علماء ديوبند يتوسط بين هذا الإفراط وذلك التفريط، ويقوم على أساس الاعتدال والتوازن ؛ فعلماء ديوبند يقولون : إن الأنبياء عليهم السلام لئن كانوا رسل الله إلى عباده، نقلوا رسالاته إليهم في غاية الأمانة والاهتمام، ونهاية الحزم والاحتياط ، دونما نقص وزيادة وإفراط وتفريط؛ فإنهم في الوقت نفسه يعلمون حقائق الرسالة وأسرارها ؛ وبذلك فهم مُعَلِّمُوْا الخلق ومربوهم، والمحسنون إليهم؛ أي أنهم إذا كانوا رسلاً صادقين أمناء أوفياء لله تعالى إلى عباده، فإنهم معلمون و مربون ومزكون للعالم كله.

وبجانب ذلك فإنهم شيوخ يلقّنون الإنسانَ الأخلاقَ والآداب الإنسانية؛وجديرون بكل أدب واحترام وتقدير وتعظيم، وامتثال واتباع واقتداء؛ ولكنهم مع ذلك بشر،ولكنهم بشر مُطَهَّرُ مُزَّكيًّ كالياقوت في الحجر. أما اعتبارهم أنهم ليسوا بشراً فلا يعني إلا الوصول بهم إلى حدود الألوهية، وذلك شرح واضح . فإذا كانت إساءة الأدب معهم كفراً وكان احترامهم عين الإيمان، فإن مزج هذا الاحترام بالشرك كفر صريح أكفر من الكفر.

مذهب علماء ديوبند فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم :

والأكرم بين هذه الشخصيات النبوية المقدسة هو شخص النبي الأعظم سندنا ونبينا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، الذي مكانتُه وعظمتُه سموه ، أكبر وأكثر بدرجات لا معدودة من جميع الشخصيات العظيمة السامية الرفيعة ؛ فحقوقُه من الاحترام والتوقير، أكثرُ من حقوق جميع العظماء من التقدير والحب.

غير أن مذهب علماء ديوبند فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم كذلك قائم على نقطة الاعتدال والتوسط التي هي مستقاة من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومضبوطة في ضوء توجيهات ورثته. ويتلخص مذهبهم في شأنه صلى الله عليه وسلم أن النبي المصطفى الأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم هو أفضل ا لكائنات ، وأفضل البشر، وأفضل الأنبياء، ولكنه صلى الله عليه وسلم بشر. ولا يتجرأ هذا المذهب أبداً حتى على استخدام أي كلمة ترمز من قريب أو بعيد إلى كونه صلى الله عليه وسلم شيئاً فوق البشر أو شخصيَّةً ماورائية، أو كونه مظهراً للألوهية، أو مصداقاً لقدرة الله تعالى. ونعوذ بالله من هذه التصورات الباطلة كلها.

إن علماء ديوبند يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين جميع الفضائل التي كان يتصف بها الأنبياء عليهم السلام على حدة، من الخلة والاصطفائية، والكليميّة والروحيّة والصادقية، والمخلصية والصديقية، وما إليها. بل إنهم يرونه صلى الله عليه وسلم منبع ولاية الأولياء، وصلاح الصالحين، وإصلاح المصلحين؛ ولكنهم يعتقدون أنه صلى الله عليه وسلم كان عبداً لله. ولا يستعينون في إثبات فضائله النبوية ودرجاته الرسالية العالية بالتجاوز به حدود العبودية إلى حدود المعبودية ، ولا يرون جواز ذلك بشكل من الأشكال. إنهم يعتقدون أن إطاعته صلى الله عليه وسلم فرضُ عين؛ ولكنهم يرون أن عبادته حرام الحرمةَ كُلَّها. إنهم يعتقدون أنه أفضل البشر ، وأكمل الناس أجميعن، وسيد الأنبياء والرسل؛ ولكنهم لا يعتقدون أنه كان – ونعوذ بالله من ذلك – يمتمتع بخصائص الألوهية، من الرزاقية والفتاحية ، ولإحياء والإماتة ، والعلم المحيط ، والقدرة المحيطة.ولا يأخذون في ذلك بالاعتبار العرضي والاعتبار الذاتي. إنهم يعتقدون أن ذكره صلى الله عليه وسلم ، والحديث عنه، ومدحه و الثناء عليه، واللّهج بفضله، نوعُ عبادة يثاب عليه العبد، ويزداد بذلك إيماناً ويقيناً؛ ولكنهم لا يجيزون مبالغةَ النصارى وإطراءهم ،ومزجهم حدودَ البشرية بحدود الألوهية.

إنهم يعتقدون بحياته صلى الله عليه وسلم في البرزخ، ولكنهم لا يقولون بعيشه هناك كعيشه في الدنيا . إنهم يقرون أن حفظ إيمان الأمة اليوم كذلك إنّما يتم بفضل الله وقدرته، من خلال المنبع الإيماني الروحاني له صلى الله عليه وسلم ؛ ولكنهم لا يعتقدون بكونه صلى الله عليه وسلم حاضرا في كل مكان، وناظراً لجميع الكون والأحداث الحاصلة فيه؛ لأن ذلك من خصائص الألوهية. إنهم يعتقدون بكون علمه صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل و أوسع بدرجات كثيرة من علم جميع من في الكون ، بمن فيهم الملائكة والأنبياء والأولياء؛ ولكنهم لا يعتقدون بكونه محيطاً وشخصيًّا كعلم الله عز و جل.

وخلاصة القول: إن علماء ديوبند يرون النبي صلى الله عليه وسلم منقطعَ النظير بين الخلق أجمعين، في جميع الفضائل والكمالات الظاهرة والباطنة؛ ولكنهم يرون أن نسبة فضائله وكمالاته من فضائل وكمالات وقدرات الله تعالى هي نفس نسبة الخلق منه تعالى ؛ حيث إن ذاته تعالى و صفاته وكمالاته وقدراته كلها لا متناهية؛ أما ذوات الخلق وصفاته وكمالاته فهي كلها محدودة متناهية . ثم إن الأولى ذاتية والثانية عرضية. إن الأولى أزلية أبدية عفوية، والثانية زائلة فانية موهوبة من عنده تعالى.

على كل فإن مراعاة الحدود ، والأخذ بالاعتدال هو الأساس الأصيل والمُرْتَكَز المتين الذي يقوم عليه مذهب علماء ديوبند.