موقفهم من السياسيات والاجتماعيات

السياسة الشرعية شعبة مهمة من شعب الإسلام ، ولذلك فهي جزء من مذهب المظهر الأول الكامل للإسلام، وهو – المظهر الأول الكامل للإسلام – أهل السنة والجماعة ، كما أنها عنصر مهم من عناصر المزاج المذهب لعلماء ديوبند باعتبارها – السياسية الشرعية – مظهراً أصلياً وقديماً لإسلام أهل السنة .

ولكنه من الواضح أن السياسة الشرعية غيرُ مُتَّبَعَة اليوم حتى في البلاد الإسلامية؛ لأن هذه البلاد زاهدة في السياسة الشرعية و مُغْرَمَةٌ بالسياسة الغريبة ؛ فالإفاضة في هذه السطور في قضية السياسة وتفاصيلها لا حاجة بنا إليها.

غير أن علماء ديوبند – رغم أنهم عاشوا فترة طويلة للحكم الأجنبي – لم يكونوا منعزلين عن السياسة كلياً وعن الاهتمام بالقضايا الوطنية في خضم هذه السياسة غير الشرعية وغير الإسلامية التي مُنُوا بها. فبينا هم تقيدوا بأحكام الإسلام في جميع أمور الدين والدنيا لم يَفُتْهُمْ أن يقوموا بدور قياديّ في حرب تحرير الهند من نير الاستعمار . وكان على رأسهم مؤسس الجامعة الإمام محمد قاسم النانوتوي الذي ساهم مع رفقته في الانتفاضة الكبرى [هي انتفاضة عام 1857م الشهيرة) التي قام بها الشعب الهندي ولاسيما الشعب المسلم ضد الاستعمار الإنجليزي، وجابههم هو وإخوانه بالسيوف والسنان في بعض المعارك، وسقط عدد منهم شهداء على أرض المعركة ، كما استشهد مئات من المسلمين في شتى المناطق من البلاد. وعندما غزت روسيا الخلافةَ التركيةَ بذل الإمام النانوتوي مساعيه المكثفة من أجل وقوف الشعب المسلم الهندي صفاً واحداً بجانب الخلافة التركية وضد روسيا، وجمع تبرعات آلاف من الروبيات ، كما رصد لذلك جميع أثاث بيته ، وأرسل ذلك كله مساعدة لتركيا وإبقاء على الخلافة الإسلامية.

علماء ديوبند وحزب المؤتمر:

وعندما استتبَ الأمر للإنجليز في الهند، وتأسس المؤتمر للمطالبة بحقوق الهنود ، فكان أول من أفتى بجواز اشتراك المسلمين فيه الشيخ الكبير والفقيه الجليل رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله تعالى (المتوفى 1323هـ / 1905م) المشرف الثاني على جامعة ديوبند. وعندما مالت الخلافة التركية الإسلامية للسقوط بمؤامرة بريطانيا ، نهض علماء ديوبند رغم تشاغلهم الدعوي والتعليمي المستمر، ونَظَّموا احتجاجات ومواكب تظاهرات ضد هذه المؤامراة الماكرة، وعقدوا لذلك احتفالاً كثيرة في طول البلاد وعرضها.

حركة الرسائل الحرية:

ومن الذي لا يعلم حركة الرسائل الحريرية التي كان قد أسسها الشيخ محمود حسن الديوبندي رئيس هيئة التدريس الأسبق بجامعة ديوبند رحمه الله تعالى (المتوفى 1339هـ / 1920م)، الذي تحمَّل من أجلها – حركة الرسائل الحريرية – مشاق الاعتقال والنفي والتشريد والسجن بــ «مالطة» لمدة سنوات.

ولما قامت حركة تحرير الوطن على قدم وساق ، أسس علماء ديوبند بقيادة المفتي الأكبر محمد كفاية الله – أحد كبار أبناء الجامعة الإسلامية دارالعلوم ، ديوبند (المتوفى 1372هـ / 1952) – «جميعة علماء الهند» وقد قادها العالم العامل السيد حسين أحمد المدني رحمه الله (المتوفى 1377هـ / 1957م) – رئيس هيئة التدريس الأسبق للجامعة – سنوات طويلة رغم مشاغله التدريسية وأعماله الدعوية وبذلك تم تحرير الوطن .

المساهمة القيادية في العصبة الإسلامية:

ولما نهضت العصبةالإسلامية بحركة باكستان ، عارضها في ذلك في البداية قطاع كبير من العلماء ؛ لكنهم لما أدركوا أن قيام باكستان أمر يقيني ، ويمكن أن تكون هي معمل القوانين الإسلامية ، وقف عدد من العلماء بجانبها، وقادها من علماء ديوبند الشيخ الكبير والعلامة الجليل أشرف علي التهانوي [المتوفى 1362هـ / 1943م) والعلامة شبير أحمد العثماني رحمهما الله تعالى (المتوفى 1369هـ / 1949م) حتى لا يعود الصوت الديني في باكستان بعد قيامها خافتاً.

وكذلك لما استقلت الهند قامت جميعة علماء الهند من أجل الحفاظ على حقوق المسلمين في هذه البلاد بنضال قوي لن ينساه التأريخ.

علماء ديوبند وتأسيس هيئة الأحوال الشخصية لعموم الهند:

ونهض مسلمون متحررون جاهلون بالدين على إيعاز من الحكومة بمؤامرة مدروسة لإدخال تغييرات على الأحوال الشخصية للمسلمين ، فقابلتُهم من قِبل جامعة ديوبند أنا كاتب هذه السطو بمعارضة قوية ، وعقدتُ اجتماعاً موسعاً في داخل الجامعة دعوتُ له أبناء الجامعة ومفكري المسلمين . وعلى قرار من الاجتماع أسس أبناء الجامعة هيئة لعموم الهند للأحوال الشخصية لمسلمي الهند ، من أجل مجابهة كل محاولة مغرضة للتدخل في الأحوال الشخصية ، سواء جاءت مباشرة أوغير مباشرة أو بشكل مستور أو مكشوف (وذلك في ذي القعدة 1392هـ / نوفمبر 1972)، وقد أجمع الشعب المسلم الهندي على إسناد رئاسة الهيئة إلى رئيس جامعة ديوبند. ولا تزال الهيئة لحدّ اليوم ، وكذلك جمعية علماء الهند وعلماء المدارس الإسلامية في الهند ، نشيطين في الدفاع عن قضايا الإسلام والمسلمين في هذه الديار.

ورغم ذلك كله من أجل النظام المتعدد الأحزاب المُتَّبَعَ في البلاد، لما نهضت الأحزاب المعادية للديموقراطية للإجحاف بحقوق المسلمين وإبادة أرواحهم وممتلكاتهم ؛ نهض علماء ديوبند فأسسوا مجلس التشاور الإسلامي الذي كان جبهة موحدة لجميع الجماعات والأحزاب الإسلامية ، هدفت إلى اتخاذ تدابير مشتركة للحيلولة دون الاعتداءات التي أريد صبّها على المسلمين .

وقد تم ذلك كله تحت قيادة أحد أبناء الجامعة الأذكياء المفتي عتيق الرحمن العثماني الديوبندي عضو المجلس الاستشاري لجامعة ديوبند رحمه الله تعالى (المتوفى 1404هـ / 1984م).

فهذه الخطوات كلها إنما قام بها أبناء جامعة ديوبند الذين اضطلعوا بصيانة الحقوق السياسية لجميع المسلمين بل لجميع الأقليات بجانب استمرارهم في القيام بمسؤولية تدريس علوم الكتاب والسنة.

قائمة علماء ديوبند بالخدمات السياسية طويلة:

وإنما سقنا هذه النماذج كمثال، وإلا فإن قائمة خريجي جامعة ديوبند القائمين بالخدمات السياسية طويلة، ولا يعنينا ههنا عرضها. وإنما نود أن نقول: إنهم رغم كونهم محكومين في هذا القرن قد ساهموا في السياسيات، وإن كانت مساهمتهم مساهمةَ دفاع؛ فإنها كانت مساهمة في السياسة، التي لم يَدَعُوا فيها روحَ إبائهم و سيادتهم تموت، ولا يمكن لأحد أن يجحد أن هذه الخطوات والحركات إنما هي نابعة من تعليم و تربية دارالعلوم / ديوبند، وبيئتها العلمية والفكرية ، الأمر الذي ظل يرتسم في طبائع خريجي دارالعلوم / ديوبند بشعور أو بدون شعور؛ فيجوز أن يقال: إنها ليست مدرسة تعليم و تدريس فقط، وإنما هي إلى جانب ذلك مدرسة فكريّة شاملة نفخت في خريجيها روحَ الاستقلال منذ اليوم الأول. وإن لم نعدّ هذه الخطوات التي قام بها علماء ديوبند «مذهباً» فإنه لا يسعنا إلا أن نعدّها سياسةً من أجل الحفاظ على المذهب. وبذلك فلا يجوز أن يقال: إن دارالعلوم كانت منعزلة عن السياسة أو غير لصيقة بها. نعم: إنها لم تتخذ مؤسسة التعليم رصيفاً سياسياً؛ ولكنها لم تتغافل قط عن تخريج جماعات سياسية أو كوادر سياسية عملت في مجال السياسة ، صادرةً عن مزاجها و ذوقها، ومتشبّعة بروحها العلمية والفكرية.