مذهب علماء ديوبند فيما يتعلق بالحديث والمحدثين

ومذهب علماء ديوبند فيما يتعلق بالحديث والمحدثين أيضا واضح ؛ فهو يتسم في هذا الشأن كذلك بالشمول والاعتدال ، اللذين يتسم بهما في أغراض الدين الأخرى. والأساسُ في هذا الخصوص أنهم بما أنهم يعتبرون الحديثَ بياناً للقرآن الكريم ، ويعتبرونه مصدراً من مصادر الشريعة ؛ فلا يرفضون حديثاً ما، مادام حرياً بأن يُسْتَدَلَّ به، حتى إنهم فيما يتصل بالروايات المتعارضة كذلك يعمدون أولاً إلى الجمع والتوفيق بينها، بدلاً من تركها أو اختيار بعض منها. وذلك بغيةَ العمل بكل حديث من الأحاديث بشكل من الأشكال، والأخذ بجميعها دون الاحتياج إلى ترك أحد منها؛ فهم يؤمنون في خصوص الروايات بالعناية بالإعمال مقابل الإهمال. ويرجع إلى جامعية هذا المذهب أن علماء ديوبند يأخذون من حين لآخر بجميع الأشكال المبدئية ، التي يمارسها أئمة الاجتهاد لرفع التعارض عن الروايات المتعارضة ، في إطار المناهج والمبادئ الحنفية .

مذهب الأئمة الأربعة لدى التعارض بين الروايات:

فعند التعارض بين الروايات يتركّز الاهتمام لدى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على صحّة الروايات وقوة السند؛ فهو يأخذ بأصحّ ما في الباب من الروايات ، ويترك الروايات الضعيفة لديه ، أو يجعلها تابعةً للرواية القوية عن طريق التأويل.

وعند الإمام مالك رحمه الله تعالى تتوجه العناية في هذه الحالة إلى الأخذ بعمل أهل المدينة أو بعمل أهل الحرمين ؛ فهو يأخذ بالرواية التي تتفق وعملَهم ، ويردّ ما سواها أو يؤوّلها.

أما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فهو عند تعارض الروايات يبحث عن كثرة فتاوى الصحابة رضي الله عنهم؛ فالرواية التي تحظى بهذه الكثرة يأخذ بها، ويترك ما سواها، أو يؤوّلها تأويلاً لائقاً.

ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى يركّز الاهتمام على الجمع بين الروايات. وذلك يتأتّى من وجوه: فقد يُحْمَلُ كل حديث على محمل لائق، وقد تُجْمَعُ الروايات في الباب كلها، ويُنْظَرُ:

ما هو الغرض النبوي الذي يدل عليه جوهر الروايات ؟ وما هو القاسم المشترك بينها الذي تتحدث عن شتى نواحيه شتى هذه الروايات؟ فالإمام أبو حنيفة – قبل أن يَنْظَرَ إلى قوة السند أو عمل أهل الحرمين أو فتاوى الصحابة – يستخرج من النصوص مناط الحكم ، ثم يتناوله بالتنقيح والنقاش فبالتحقيق، ثم يجعل الرواية – التي يتجلى فيها غرض الشارع عليه اسلام بشكل أقوى وتنطوي على سبب الحكم أو على الحكم صراحة أو دلالة – أساساً من أسس مذهبه ، ويعمد إلى باقي الروايات فيصلها بتلك الرواية على أساس مناط الحكم وغرضه عليه السلام؛ وعلى ذلك فتأتي كل رواية معمولاً بها في موقعها، وتنضم – على أساس مناط الحكم – أجزاءُ الحكم التي كانت مُبَعْثَرَةً في مختلف الروايات ، بعضُها إلى بعض ، في أوقاتها المناسبة ، وتشكل علماً كبيراً في الباب ، يسع جميعَ نواحي العمل ، التي كانت منثورة في عدد من الروايات. والسبب الجلي في ذلك أن كل حديث من الأحاديث منبعٌ مستقل للعلم والحكمة؛ وبالجمع بين الروايات الذي يجعلها جميعاً معمولاً بها، يعود ما فيها من العلوم والحِكَم مُحافَظًا عليه . وهذه العلوم والحكم كلّها تتصل بمعيار فتعود رصيداً كبيراً من أرصدة العلم المضبوط؛ الأمر الذي لم يكن ليتحقق لدى ترك حديث من الأحاديث. ثم إنه بهذا الشكل لا يتكوّن هذاالرصيد العلمي وحده، بل يتجمع مجموعُ علوم الأحاديث كلها، فيفتح من أبواب العلوم الجديدة ما لا يحصى. وإذا انضمت إلى هذه الروايات مؤيداتها من فتاوى الصحابة وعمل أهل الحرمين ، فهناك يجتمع إلى هذا العلم علم كبير آخر، فيضحي البحر العلمي، محيطاً لا ساحل له ، وتكون النقطة الأساسية هي مناط الحكم الذي يتخذه الأحناف أساساً، ويستخدمون أصولهم الاجتهادية إلى جانب الاستئناس بأصول أئمة الاجتهاد كلهم ؛ مما يرفع التعارض في جانب، ويجمع بين الأصول كلها في مواقعها في جانب آخر، ولا يحتاجون بذلك إلى إعمال أسباب ترك الحديث إلا نادراً . غير أنهم يضطرون لترجيح حديث على آخر عندما لا تتأتى صورة لرفع التعارض بين الحديثين أو الأحاديث. وهناك يفتي المذهب الحنفي بالأخذ بصحة السند أولاً ، ثم ترجيح حديث على آخر في ضوء تفقه الراوي ودراسته ؛ فلا يقتصرون على مجرد قوة السند ، بل يرجحون الرواية التي تنطوي على الفقه ويكون راويها فقيهاً ويتجلّى فيه وجه التفقه.

ملخص مذهب الإمام أبي حنيفة لدى تعارض الروايات :

فمناطُ الحكم في صورة الجمع بين الروايات ، والتفقهُ في صورة ترجيح رواية على غيرها من الروايات الواردة في الباب ؛ هما الأصل لدى علماء ديوبند، وليس الأصل لديهم مجرد قوة السند أو كون رواية أصح ما في الباب؛ لأن قوة السند إن دلت على شيء فإنما تدلّ على قوة ثبوت الحديث؛ ولكنه ليس من اللازم أن الحديث الأقوى ثبوتاً هو الذي يكون متضمناً للفقه الأساسي في الباب.

فلو أُخِذَ بأصح ما في الباب من الحديث الذي إنما يُوْجَدُ فيه مجرد الحكم وتُرِكَ ما هو دونه في ذلك الباب ، رغم كونه جديراً بالاستدلال ، وكونه متضمناً لعلة الحكم ومناطه؛ فإنه يبقى الحكم بلا علة، على حين إن العلة هي التي تؤدي بالحكم إلى الأمثال والنظائر، الأمر الذي هو السبب في كون الحكم ذا مرونة وسعة وامتداد، وإنما تُرِكَتْ هذه العلة لأن مصدرها لم يكن أصحّ ما في الباب، وإنما كان بروايته ضعيفَ السند بالقياس إلى غيره. وبذلك فينتهي كون الحكم جامعاً و مصدراً للنظائر، وبالتالي فتنتهي شمولية الفقة وكذلك سعة نظر المتبعين للفقة. ومن ثم يركز الإمام أبوحنيفة رحمه الله تعالى إلى جانب قوة السند على استخراج مناط الحكم وتحقيقه وتنقيحه والنظر إلى تفقه الرواة ، الأمر الذي تتجلّى به قوة الحكم وسعته معاً. ومن الواضح أن اجتماع الدراية إلى الرواية هو الأحسن؛ فإن الحديث الواحد الذي يكون مشتملاً على مناط الحكم تَثبتُ به كثير من الأحكام في الباب وتنحلّ به كثير من المسائل راجعةً إلى مصدرها . وهنا لا تفوت الروايات الضعيفة إذا كانت جديرة بالاحتجاج ، فضلاً عن الروايات القوية التي لا غبار عليها. فالجمع بين الروايات والتوفيق بينها أصل مُهِمٌّ من أصول الأحناف ، يركزون عليه كثيراً حتى لا تفوتهم رواية.

ليس من العصبية أن يُوْصَفَ الأحناف بالقيّاسيّة؟:

ورغم ذلك كله تفعل العصبية فعلها فتتهمهم – الأحنافَ – بترك الحديث، وتصفهم بأنهم «قيّاسون» على حين إنهم بالنظر إلى أصولهم الجامعة ليسوا فقهاء فقط؛ ولكنهم كذلك جامعون بين أنواع من الفقه لدى شتى المذاهب ، ومحافظون عليها . ومن هنا كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد قال في الإمام أبي حنيفة رحمه الله:

«الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة» (سير أعلام النبلاء، 6/403، ط: بيروت عام 1996م)

كثرة التأويلات والتعليلات ليست تخمينا وإنما هي مُمَدَّةٌ بالنصوص:

ولاشك أن الجمع بين الروايات وعمليةالتحقيق وتنقيح المناط، أدّيا إلى كثرة التأويلات والتعليلات لدى الأحناف؛ لأنه لم تكن الروايات بدونها ليتّصل بعضها ببعض وتُشَكِّلَ إطاراً شاملاً للحكم. لكن هذه التأويلات والتعليلات ليست ظناً أو تخميناً، وإنما هي مُمَدَّةٌ بالأصول والنصوص ؛ فهي بمنزلة تفسير للحديث الشريف. وملخص القول أن مذهب علماء ديوبند في الحديث هو الجامعيّة والاعتدال دون التساهل والتشدد، وإنما هم يأخذون لحدّ مستطاع بأصول جميع الأئمة في خصوص الروايات.