مذهب علماء ديوبند ليس مذهباً نظرياً فقط

فمذهب علماء ديوبند ليس مذهباً نظرياًّ فقط، وإنّما هو مذهب عملي حركي دعوي دُعِيَ له منذ أكثر من قرن و ربع قرن من الزمان ، ولا يزال قائماً بعد هذه المدة المديدة ؛ لأنه لا يزال نافعاً كما كان بالأمس؛ لكنّ صبغته تعليمية ؛ وانتشاره تبليغي؛ وثباته اجتماعي ؛ وصيانته أفتائية ورقيّه مرهون بالرياضة والفروسية، وبالتربية وضبط النفس، وبالجهاد والعمل؛ ودعوتُه عالمية. إن شمولية هذا المذهي هي التي شكّلت مزاج جماعة ديوبند، وهي التي زينته بالتوازن إلى جانب الشمول.

فالأخذ بمسائل محدودة والإصرار على نواحي العمل الخاصة المعدودة، وحصر الإسلام فيها أو جعلها كل الإسلام ، ليس من مذهب علماء ديوبند.

على كل فعلماء ديوبند، من أجل مذهبهم الشامل المظهر والمخبر، ليسوا مستغنين عن المنقولات والأحكام الظاهرة ، وكذلك ليسوا متحررين من التقيد بمقتضياتها الباطنة ومتطلباتها العامة، مدفوعين بالنفسية المذهبية أو القومية أو متطلبات العصر أو ضيق الأفق.

إنهم توارثوا هذا المذهب المعتدل المتبع لدى أهل السنة والجماعة من مورثهم الأعلى العلمي في العهد الأخير الإمام الشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي فمن الإمام محمد قاسم النانوتوي مؤسس جامعة ديوبند فمن المشرف الأكبر عليها الشيخ الكبير المحدث الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي ، فمن رئيس هيئة تدريسها الأول الشيخ محمد يعقوب النانوتوي [المتوفى 1302هـ / 1884م] قدس الله تعالى أسرارهم، ولا زال علماء ديوبند متقيدين بهذا المذهب ويقيدون به جميع المستفيدين منهم.

مذهبهم مذهبٌ جامعٌ:

وهذا المذهب جامع بين العقل والحب، والعلم والمعرفة ، والعمل والأخلاق، والجهاد مع النفس، والجهاد مع العدو، والدين والسياسة، والرواية والدراية ، والخلوة والجلوة، والعبادة والفروسية، والحكم والحكمة، والظاهر والباطن ، والحال والقال.

إن طَرْحَ النقل في إطار العقل، قد تَعَلَّمهُ المذهب من حكمة الإمام ولي الله الدهلوي، وعرضَ أصول الدين بحيث تصبح محسوسة ، تَعَلّمه من حكمة الإمام محمد قاسم النانوتوي، وروح الرسوخ والإتقان لفروع الدين وأحكامه ، تشربها من الشيخ الكنكوهي ، والتفاني في العبادة والتملأ من عواطف الحب الجيّاشة للرسول صلى الله عليه وسلم ، قد تلقاه من الحاج إمداد الله المهاجر المكي [المتوفى والمدفون بمكة المكرمة عام 1317هـ / 1899م]، والجمع بين التزكية والتقيد الكامل بالشريعة ، تعلمه من الشيخ أحمد بن عبد الأحد المعروف بمجدد الألف الثاني والإمام السيد أحمد بن عرفان الشهيد الرائي بريلوي [المتوفى مستشهداً في 1246هـ / 1831م].

فعلماء ديوبند متشربون لمعاني الكتاب والسنة وحقائقهما الدقيقة ومطالبهما العميقة وأسرارها الباطنة. وقد تلقوا هذا الذوق من ملازمة شيوخ العلم الذي كانوا متعمقين في ظواهر النص وبواطنه، وانتقل ذلك إليهم ؛ فهم يقدرون على الاستدلال بظواهر النص وبواطنه في وقت واحد؛ فهم ليسوا من أصحاب الظواهر الذين يقفون عند الألفاظ وحدها، ولا يتجاوزونها إلى بواطن النص وحقائقه ؛ وكذلك لسيوا من الباطنية الذين يصفون ظاهر النص، بأنه مجرد رسم و كتابة؛ فلا حاجة إلى الاعتناء به ؛ أو من الذين يجعلون اختلاف التعابير الشرعية لا قيمة له لديهم ،وإنما يهيمون في المتاهات الذهنية .

مذهب علماء ديوبند يأخذ بظاهر النص وباطنه معاً:

فمذهب علماء ديوبند يقرّر أن التعبيرات الشرعية بصرف النظر عن معانيها ومدلولاتها ، منبع بالنسبة إلى نظمها وعبارتها لآلاف من العلوم والأحكام؛ وأن كلاً من عبارتها ودلالتها وإشارتها واقتضائها قد ولّد آلافاً من المسائل التي أثـْرَتِ الدين وجعلته ربيعاً مخضراً ، وفي جانب آخر إن معاني هذه التعبيرات ليست حاملة للعلوم بالنسبة إلى مدلولها اللفظي والمعنوي فقط، وإنما هناك آلاف من المعاني والحقائق ، مستورة في تلك المعاني ، تنكشف للقلوب في ضوء القواعد الشرعية وقواعد اللغة العربية ، إذا صاحبَها العملُ الصالح، وملازمةُ الصلحاء ، والجهادُ، والرياضةُ في العبادة.

فعلماء ديوبند يرون أنه من الواجب لدى الاستدلال بنص من النصوص الشرعية الجمعُ بين ظاهر النص وباطنه، وتوفية كل منهما كالظاهرية أو الباطنية ، وهذا المذهب الجامع ظل يُخرّج العلماء الذين كانوا علماءَ بالله وعلماء بأمر الله في وقت واحد.

مذهبهم يؤكد على الاستفادة القصوى من المرونة الموجودة في الشريعة إلى جانب الإصرار والثبات على الثوابت والمسلمات في الدين:

وكذلك هذا المذهب يقرر أن بينما كان الواجب تبليغَ المنصوصات من القرآن والحديثن والفقه بصحة مدلولها ومعناها إلى الأمة لازماً؛ لأنه لا يمكن أن يظل الدين قائماً بدون ذلك، ولا سيما إن الشريعة مدارها على ظاهر الأحكام ؛ حيث جعلتها معياراً للمؤاخذة والعقاب.. إذاً كان الواجب إفادة القوم بحقائق تلك المعاني المنصوص عليها وأسرارها وعللها وحكمها ؛ لأن مرونتها وسعتها وسماحتها هي التي جعلت الأحكام الشرعية تفي بأغراض كلّ عصر ومقتضيات كلّ قوم؛ فبهذه السماحة والمرونة استطاع قادة الدين أن يقنعوا الناس أن الإسلام دين كل زمان و مكان، وأنه يلبي حاجة كل عصر ومصر، وأن فيه شفاءً لكل الأمراض، وحلاًّ لجميع المشكلات. ولولا هذه المرونةُ والسماحة لقال السفهاء وقاصرو النظر: إن الإسلام دين قد تقادم عهده كما يقول المتغربون .

وبهذه المرونة سيظل القادة والعلماء والمؤهلون يعرضون أحكام الإسلام عرضاً يتفق وكلَّ عصر، مهما تقدم ، ومهما تنوّر، ومهما تكاثرت مقتضياته، وتعقّدت مشكلاته، وتراكمت قضاياه.

فبينما يقرر مذهب علماء ديوبند التقيد بكل جزئي ، فقهياً كان أو حديثاً أو قرآنياً؛ إذاً يقرر الاستفادة من المرونة والسعة اللتين توجدان في الشريعة الإسلامية ، وقرر أنه لا بد من تجنيب الأمة من مواقف التشدد والبطش ؛ لأن هذه المواقف من شأنها أن تقضي على هذه المرونة وهذه السعة اللتين إنما تتعلقان لحد كبير بالجانب الباطن من الدين.

سبع سنابل

قد رأينا أن نوجز ما فصلناه في الصفحات الماضية في سبع نقاط أسميناها بـ «سبع سنابل» تمضمن كلّ سنبلة منها كثيراً من المسائل ، وهي كما يلي:

  • العلم بالشريعة .
  • العقيدة الماتريدية الأشعرية.
  • التقليد الفقهي.
  • اتّباع الطريقة الإحسانية .
  • مجابهة الزيغ والضلال.
  • الجامعية والجماعية.
  • التمسك بالسنة.

ثم أوجزنا هذه النقاط السبع في أربع نقاط، اصطلحنا عليها بما يلي:

  • الإيمان.
  • الإسلام.
  • الإحسان.
  • إعلاء كلمة الله.

حيث قد استوعبت هذه النقاط الأربع السنابل السبع وجميع الأمثلة الاستدلالية التي تحدثنا عنها بالتفصيل في السطور الماضية. وقد سمينا هذه النقاط الأربع بــ «أربعة أنهار» ؛ لأن هذه الأنهار الأربعة كأنها تسقي تلك الأراضي السبع.

وإليك أولاً السنابل السبع:

العلم بالشريعة :

إن الأساس الأوّل هوالوحي الإلهي الذي يقوم عليه بناء الدين ، والدينُ حججه أربع:

  • كتاب الله .
  • وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
  • وإجماع الأمة .
  • وقياس المجتهد.

وسنة الرسول تتضمن خمسة أمور:

  • القول النبوي .
  • والفعل النبوي.
  • والتقرير النبوي.
  • والأثر النبوي أو الرفع الحكمي، وهو أثر الصحابي في أمر غير قياسي وغير اجتهادي؛ لأنه يحتلّ مكانة الحديث المرفوع ؛ فهو يسمى بـ «الأثر النبوي» أو “الرفع الحكمي».
  • والاجتهاد النبوي.

ويُشترط في الحصول على العلم بالشريعة ، أن يتم ذلك عن طريق علماء الدين الثقات ورجال التربية والتزكية ، ومن خلال تدريسهم وتربيتهم وإفادتهم ومصاحبتهم وملازمتهم، أولئك الذي تكون سلسلةُ علمهم وعملهم وفهمهم وذوقهم تنتهي بالسند المتصل إلى صاحب الشريعة – على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم – كما أنه يجب أن تُفْهَم مراداتُ هذا العلم ومعانيه في إطار أقوال السلف الصالحين و تعاملاتهم، ولا يُقْبَلُ في ذلك موقف المكابرة والإعجاب بالذات أو بالرأي الشخصي أو الاقتصار على مجرد الدراسة وإجهاد العقل وإعمال الفكر في غنى عن الاتجاهات السلفية. ذلك لأنه بدون ذلك لا يمكن التمييز بين دقائق وخفايا الحلال والحرام ، والمكروه والمندوب، والسنة والبدعة ،والتوحيد والشرك. كما أنه لا يمكن بدون ذلك التنحي الكامل فيما يتعلق بأمور الدين عن التخيلات والأفكار الوضعية ، والنظريات الفلسفية ، والتوهمات الغيبية ، والشكوك التي يثيرها الملحدون.

وذلك يقتضي ثلاثة أمور:

  • تفويض المتشابهات إلى الله عز وجل وعدم التقوّل فيها كالمعتزلة.
  • والعمل في المشتبهات بما هو أكثر تحفظاً وحيطةً، واجتناب اللجوء إلى الأقوال الشاذة فيها كما يصنع من غلبتهم الأهواء.
  • العمل في المحكمات بالسنة الغالبة المعروفة لدى عامة الصحابة رضي الله عنهم، وعدم الحرص على الروايات المختلف فيها والأقوال الشاذة كالمغرضين .

وهذا الأساس يندرج تحت عنوان «الإيمان» الذي عنصره هو العلم الحقيقي ومعرفة الباطن ، والذي موضوعه إنما هو إنشاء الاستقامة العقدية في القلوب وتزكيته من الأوهام والأخيلة .

﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيْعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فاتَّبِعْهَا وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ﴾ (الجاثية /18).

الماتريدية الكلامية الموافقة للأشعرية:

والأساس الثاني هو بناء العقائد الحقة في ضوء فكر أهل السنة والجماعة حسب المبادئ التي قام بتنقيحها كل من الأشعرية والماتريدية ؛ حيث لا يمكن بدون ذلك تنزيه العقائد من شكوك الزائغين وقياسات الفرق الباطلة ، وتزيدات المبطلين ، وتقولات المغرضين. وهذه الشعبة تلي الإيمان، والإيمانُ إنما هو عبارة عن مجموع العقائد الحقةالتي عهد بها الله تعالى إلينا:

﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالرَّسُوْلُ يَدْعُوْكُمْ لِتُؤْمِنُوْا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أخَذَ مِيْثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ﴾ (الحديد/8).

التقليد الفقهي:

الأساس الثالث هو تقليد فقه معيّن في الفروع الإسلامية والخلافات الاجتهادية ؛ لأنه لا يمكن بدون ذلك التنحي – في المسائل المختلف فيها – عن الاحتيار وهو النفس والتحرر النفس الجام، كما لا يمكن بدون ذلك لغير المجتهد الذي لا يملك أهلية الاجتهاد والاستنباط، والاحتراز – إذا سُمِحَ بالعمل بشتى المذاهب الفقهية – من التلفيق والتذبذب والتلوّن والحذف والزيادة من عنده في المسائل الاجتهادية.

إن علماء ديوبند يتقيدون في الاجتهاديات بالفقة الحنفي ويتبعون أصول التفقه الحنفي التي تسري في جميع المسائل الاجتهادية والقضايا الاستنباطية كالروح بشكل مطرّد؛ فالتقليد الفقهي لا يعني التقيد بالجزئيات الاجتهادية ، وإنما يعني التقيد بأصول التفقه فيها، التي تسع جميع الجزئيات المتعلقة بشتى أبواب هذا الفقه.

فالعمل بشتى أبواب الجزئيات للمذاهب الفقهية عن طريق التلفيق؛ مثلاً: العمل بالفقه الشافعي في الصلاة والعمل بالفقة الحنفي في الزكاة، وإن كان يبدو جميلاً في الظاهر ويمكن للقائل: إن في هذه الحالة أيضاً لم أتحرر من التقيد بالأئمة وفقههم ؛ ولكنه في الواقع ضرْبُ أصول فقهٍ بأصول فقهٍ ، وإحدادثُ تصادم في الدين ، الأمر الذي إنماهو المؤدي إلى مفسدة أي مفسدة للمزاج الديني لغير المجتهد؛ فالعمل بجزئيات فقه معين بأسرها هو الذي يحول دون العامل ودون هذا التعارض الفقهي. ومن الواضح أن هذا التضييق – إذ صحّ التعبير عن ذلك بـ «التضييق» – إنما يقتصر على العمل ولا يتجاوزه إلى العلم والعقيدة ، فلا يتأتى الحدّ من العلم وإنما يتأتى الحدّ من العمل.

ثم إن علماء ديوبند لا يسمحون في حال من الأحوال – فيما يتعلق بالعم – بالتشنيع على فقه آخر أوتوجيه انتقاد إليه أو تناوله بطعن وتجريح، لأن كل جزئيّ من المسائل المختلف فيها إذا صوّبه فقهٌ فإنما يصوّبه مع احتمال الخطأ، وإذا خطّأه فقهٌ فإنما يخطّئه مع احتمال الصواب، كما أن حديث الاجتهاد هو الآخر إنما يعقد المقارنة بين الخطأ والصواب ولم يعقد المقارنة بين الحق والباطل ؛ فوعد للمجتهد على الخطأ بأجر وعلى الصواب بأجرين ؛ فلو كان هناك حق يقابله باطل لما أمكن الوعد بالأجر ؛ لأن الباطل لا يُجْزَى عليه مرتكبه بالأجر، وإنما يعاقب بالزجر ، ولا يُكرم بالثواب وإنما يُهان بالعذاب. فلئن ورد الوعد بالأجر على الخطأ والصواب كليهما ، ظهر أن الخطأ لا يدخل في إطار المعصية ؛ فالطّعن على فقه آخر أو فقيه آخر أو إبطال مسائله التي توصّل إليها بالاجتهاد، رفضٌ عملي لما تقرر في الشريعة:

«المجتهد يخطىء ويصيب فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد».

وأخرج الشيخان حديثاً في هذا المعنى:

«إذا حكم الحاكم ، فاجتهد، ثم أصاب؛ فله أجران. وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر». ( رواه البخاريّ، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، ج8، ص510، ط: الهند ، رقم الحديث 7352؛ ورواه مسلم ، كتاب الأقضية، باب (6) رقم الحديث 15).

فعلماء ديوبند رغم أنهم حنفيون لم يجيزوا مدفوعين بالعصبية أو ضيق الأفق أن يطعن أحد منهم على فقه آخر أو على أئمة مذاهب فقهية أخرى، فضلاً عن أن ينالهم بالاستهزاء والسخرية . فهم يقولون في المسائل الفرعية بالتعليل والتأويل ولا يقولون بالرفض والتفنيد أو التكذيب. وإذا لم يكونوا مجتهدين فإنهم يرون النجاة في هذه القضايا في الرجوع إلى المجتهدين الكرام، ويرون ذلك الموقف هو الواقعية ؛ وعلى ذلك فهم يحترمون جميع المجتهدين دونما استثناء؛ لكونهم «أولي الأمر» الذين أشار إليهم القرآن الكريم:

﴿وَلَوْ رَدّوْهُ إلَى الرَّسُوْلِ وَ إلَى أولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَنْبطُوْنَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء /83)

وهذه الشعبة تأتي في إطار عنوان «الإسلام» الذي هو موضوع الفقه. والفقهُ عبارة عن مجموع أعمال المكلفين ، وهو يبحث المسائل المجتهدة والمستنبطة في ضوء المنصوصات.

اتّباع طريقة التزكية والإحسان:

والأساس الرابع هو تهذيب الأخلاق، وتزكية النفس، واستكمال السيرة والسلوك في ضوء سلاسل الناسكين المحققين وأصول تجاربهم ؛ لأنه لا يمكن بدون ذلك تطهير النفس، وكسب البصيرة والتوازن الخلقي، واستقامة الذوق ، وتقويم الفهم والمزاج، وتوجيه الذكاء وجهة صحيحة، ورؤية الحقيقة.

وهذه الشعبة تأتي في إطار «الإحسان»:

﴿قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس /9-10).

مقاومة الزيغ والضلال:

والأساس الخامس هو مقاومة الفتن المثارة من قبل الفرق المتعصبة وأولي الزيغ والضلال، وإدارك ما قيوم به المتسللون إلى الصفّ من المؤامرات وعمليات الشطارة، ثم التصدي له بالمقاومة والتفنيد بروح جهادية . سواء أتت هذه المؤامرات متلبسة بالدين أو متقمصة بالروح السياسية وبقوانين البلاد؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق بدون ذلك أغراض مكافحة المنكرات والبدع والخرافات والشركيات، وإصلاح المجتمع، ومقاومة التقاليد غير الإسلامية. وبالإيجاز: لا يتحقق بدون ذلك غرض إعلاء الدين وإعلاء كلمة الله.

وهذه الشعبة تأتي في إطار «مقاومة الفتن» وهذه الفتن إنما تحركها الدعوات الاقتصادية والحركات السياسية الفلسفية المتحررة عن الدين ، التي لا يمكن مقاومتها إلا بتعرية الأنظمة الاقتصادية الوضعية عن طريق طرح الفكر الإسلامي المتعلق بالاقتصاد والاجتماع في صبغة استدلالية. وقد سبق أن ألّفتْ كثير من الكتب حول الملل والنحل فيما يخص الديانات، والحاجة ماسة حالاً إلى وضع كتب حول الملل والنحل فيما يخص السياسة والاقتصاد، تُطْرح فيها الأفكار السياسية والفلسفات الاقتصادية الحديثة في ضوء الدراسة المقارنة مع الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية الاقتصادية.

على كل فإن مقاومة هذه الفتن من الواجب الديني كما تقتضي الآية القرآنية ، كما أن ذلك جزء لا ينفكّ من المذهب الحق.

﴿إنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِيْنَ آمَنُوْا إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُوْرٍ﴾ (الحج/38).

الجامعية والجماعية :

الأساس السادس هو الجامعية، وذلك يعني اكتمال المذهب وشموله . وهذا المذهب يحتلّ مكانة عظمى من الجامعية والشمول؛ لكونه هو مذهب أهل السنة والجماعة الذين يمثلهم علماء ديوبند خير تمثيل.

كان هذاالمذهب جامعاً للأحكام و جامعاً للأقوام، وجامعاً لزوايا الأحكام التي تشمل جميع شعب الدين الاساسية ، من الرواية والدراية ، والعقل والنقل، والعلم والحبّ، والقانون والشخصية، والاعتدال والتوازن ؛ إلى جانب ما يُقَوّم الأخلاق، ويهذّب السيرة، ويزكّي المعنويات ، ويسمو بالروح، إذاً به – المذهب – يجمع بين الأحكام الاقتصادية التي تكسب المرأ قدرة المقاومة المطلوبة للانظمة الإقتصادية الفاسدة والفلسفات الاجتماعية الباطلة .

فهذه الشعبة تأتي تحت عنوان «الإسلام» وقد أعلن الله عز وجل بإكمال دين الإسلام في كتابه الكريم قائلاً:

﴿اَلْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَ أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَ رَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيْنًا﴾ (المائدة /3).

وذلك يعني أنه لم يعد ناقصاً حتى يُزَادَ إليه شيء من خارجه ؛ ولا يشتمل على الشوائب والزوائد، حتى يُنقص منه شيء لتصفيته من الشوائب والأخلاط الزائدة. وتلك مزية لا تتحقق في شيء ما إلا إذا اتصفت بالاعتدال الذي يعني تنزهه من كل من الإفراط والتفريط. وهذا الاعتدال والتوازن نفسه يتصف به مذهب أهل السنة والجماعة ، الذي يتبنّاه علماء ديوبند.

والجامعية تؤدي إلى الجماعية التي تعني تحقيق التضامن والتكامل بين شتى طوائف الأمة المسلمة، وجمعها على قاسم مشترك ، وجعلها أمة موحدة متماسكة ؛ لأن العناصر الصالحة في كل مذهب من المذاهب عناص الأمة ، ومن طبيعة الكل أن يسع أجزاء نفسه .

ومن الواضح أن هذه الجماعية لم تكن لتتحقق بدون سعة الأخلاق وتوازن الفكر واعتدال العواطف . وسعةُ الأخلاق واعتدالها، لا يمكن تحقيقهما إلا بتزكية النفس وتطهيرها من أهوائها وأغراضها ، عن طريق المجاهدة في العبادة وتوطين النفس عليها.

فهذه الشعبة تأتي ضمن «الإحسان» الذي إنما كان موضوعه هو تزكية النفس. وبسماحة النفس وكرم الأخلاق وسعة القلب التي يمتاز بها هذا المذهب الديوبندي عمّ هوالشرق والغرب وانتشر في الشمال والجنوب، وجعل جميع المذاهب الحقة تتجاوب معه وتنضم إليه.

وإذا ألقينا نظرةً على التأريخ وجدنا أن سعة الأخلاق هذه آتت أكلها في كل عهد من العهود.

وقد شهد التأريخ في الهند أن رجال التزكية والإحسان وعباد الله الصالحين والصوفية الكرام رحمهم الله تعالى، إنما جعلوا الإسلام يعمّ الهند كلّها بهذه السعة الخلقية والسماحة القلبية ، كما كان قد سبق أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوه بهما ينشر في الآفاق ويضرب بجرانه في شرق الأرض و غربها.

وقد سبق أن عبَرتُ عن هذه السعة الخلقية والسماحة القلبية في مقدمة «تأريخ دارالعلوم، ديوبند» بـ «الذوق القاسمي – الرشيدي» ؛ لأن الشيخين : الإمام محمد قاسم النانوتوي والمحدث الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي كانا على الذروة السامقة من سعة الأخلاق وسماحة القلب وعواطف الحب الذي يفتح القلوب. وذلك هو الذي جعل رسالة الجامعة الإسلامية دارالعلوم ، ديوبند ، تغطي الشرق والغرب.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الموقف الكريم بقوله:

﴿يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا مَنْ يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَسَوْفَ يَأتِيَ اللهُ بِقَوْمٍ يُّحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّوْنَهُ أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِيْنَ يُجَاهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَ لاَ يَخَافُوْنَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ (المائدة / 54).

التمسك بالسنة :

الأساس السابع هو التمسك بالسنة ، التي تسمى بـ «الأسوة الحسنة» التي قدّم بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته نموذجاً لكل عمل من الأعمال بفعله هو صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأسوة تحوي جميع الأعمال في الإسلام وتشمل جميع الأنواع التي أشرنا إليها من قبل.

ومن الواضح أنه لا يمكن بدون التمسك بأسوته صلى الله عليه وسلم صيانة الأعمال الإسلامية على هيئتها المطلوبة ، ولا يمكن بدونها الاحتراز من البدع والمحدثات ، ولا يمكن أن تظل الصورة المعهودة للإسلام العملي ماثلة في الذهن بدونها.

فهذا العنصر هو رأس العناصر الشرعية والأساس الأصيل لجميع الأعمال والأخلاق، وهذا النوع أيضاً إنما يأتي ضمن عنوان «الإسلام» .

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةً لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَ الْيَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثِيْرًا﴾ (الأحزاب/21).

أربعة أنهار

وإذا أمعنّا النظر وجدنا أن السنابل السبع المذكورة في الاصطلاح الشرعي تختصر في الأركان الأربعة : الإيمان والإسلام والإحسان وإعلاء كلمة الله، التي هي الأنهار الأربعة: نهران ظاهران ، ونهران باطنان؛ فالإيمان والإحسان نهران باطنان، والإسلام وإعلاء كلمة الله نهران ظاهران. وهذه الأنهار الأربعة بمجموعها تسقي الأغصان السبعة المشار إليها باسم «السنابل السبع».

وإذا تعمقنا في النظر وجدنا أن هذا المذهب إنما هو عصارة حديث جبريل عليه السلام ، الذي اعتبره فقهاء الأمة «أم الأحاديث» حيث أجاب فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أسئلة جبريل عليه السلام الأربعة ، وتحدث صلى الله عليه وسلم في جلاء وإبانة عن معاني كل من الإيمان والإسلام والإحسان ومدافعة الفتن أي إعلاء كلمة الله ، وعبّر عن ذلك بــ «تعليم الدين» فقال:

«أتاكم يعلّمكم دينكم».

إن الحديث ينصّ على أن العناوين الأربعة ، تعليمها هو تعليم الدين وأنها هي المنهاج الأساسي للدين . ولا يمكن أن يكون لها إلا أربع حجج أساسية : كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع الأمة ، وقياس المجتهد؛ لأن تعليم هذه الحجج هو الذي يدخل أصلاً في تعليم الدين.

والحجتان الأوليان تشريعيتان ، أي بهما تتكون الشريعة ، والحجتان الأخريان تفريعيتان ، أي أنهما تبينان الشريعة وتوضحانها. إن الأولين منبعان للنصوص عليه من الأحكام، وهما مأثورتان لابدّ لهما من السند والرواية، وإن الأخيرين مدارهما الدراية ، وتعتمدان على العقل المصقول بالتربية والفهم ، المشحون بالتزكية والتفكير السليم ، المُمَدّ بالتقوى والذوق المتوارث. ولابدّ من انتماء ذلك كله انتماء متصلاً إلى مجتهد ذي دراية.

أما العلوم الأخرى التي يتم كسبها كآلة و وسيلة، لا تكون في عداد العلم الديني الأصيل، وإنما تكون في عداد الوسائل والذرائع.

فهذا المذهب مذهب معتدل يعتمد النقل والعقل والرواية والدراية معاً، ولكن بشكل لا يخرج من إطار العقل، ولا ينبني على العقل ، وإنما امتزج فيه العقل بالنقل بحيث جاء النقل والوحي أصلاً فيه ، وعاد العقل خادماً له ومنفذاً لأوامره.

فمذهب علماء ديوبند ليس مذهب المعتزلة المتبنّين للعقل ، الذين جعلوا العقل مسيطراً على النقل ومتحكماً فيه، فاعتبروه أصلاً وجعلوا الوحي تابعاً له؛ فبات الدين مجردَ فلسفة ، تمهد السبيل أمام الجماهير إلى الزندقة والإلحاد، كما أن السذَّج من المتدينين يعودون لا علاقة لهم مع الدين ومع رجال الدين.

وكذلك فهذا المذهب ليس مذهب الظاهرية الذي يعتمد ألفاظَ الوحي فقط، ولا يلتفت إلى العقل والدراية ، ولا يبالي بأسرار الدين وعلله الباطنة وحكمه ومصالحه ؛ فتعود طريق الاجتهاد والاستنباط مسدودة، ويعود الدين شيئاً جامداً لا حقيقة له ولا معنى من ورائه، ويعود العقلاء وكأنّ الدين لم ينزل لهم، ويعود الحكماء وكأنّ الإسلام لا علاقة له معهم.

فهناك مذهب يتمتع فيه العقل بجميع الصلاحيات وكامل السلطات ، وهناك مذهب آخر إنما يتشبث بمجرد ألفاظ النقل أو صورة الوحي ، ولا يتجاوزها إلى الحقيقة . ومن الواضح أن كلا المذهبين يتعرضان للإفراط والتفريط ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف/28) اللذين يتبرأ منهما المذهب المتوازن.

فالمذهب الجامع إنما يكون المذهب الذي يجمع بين العقل والنقل في توازن كامل يسمح للعقل أن يظلّ فاعلاً بجانب النقل، ولكن بشكل خادم للنقل وليس متحكماً فيه، فيوفّر لكل كلي وجزئي منه براهين عقلية ودلائل معتبرة، وشواهد ونظائر ملموسة؛ الأمر الذي يجعل المذهب مُتَّبَعًا لدى كل فئة من فئات الأمة ، ودستوراً للحياة شاملاً مقبولاً لديها جميعاً ؛ فيعود المتبعون له مصداقاً لقوله تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَّسَطاً﴾ (البقرة / 143)

وهذا المذهب هو الذي يُسَمّى مذهَب أهل السنة والجماعة ، وهو الذي يتبنّاه علماء ديوبند ؛ ولكونهم يتبعون هذا المذهب الجامع ويجوزون عناصره و موادّه كلّها – التي قد سبق أن تحدثنا عنها في الصفحات الماضية – هم مفسرون و محدثون معاً، وفقهاء و متكلمون معاً، وزاهدون ومجاهدون معاً،ومقلدون و مفكرون معاً. وبامتزاج هذه العناصر والعلوم الدينية جاء مزاجهم معتدلاً متوسطاً يتنزّه عن الغلوّ والمبالغة . وبفضل هذا التوسط وسعة الأفق والقلب لا يتبنّون عملية التكفير وتوجيه الشتائم ، ورمي فرد أو جماعة بالسباب والاتهام والنقيصة، ولا نصب العداء ضدها والحسد والكراهية والسخط، ولا يقعون فريسة للترف والتطرّف بغلبة الجاه والمال. وإنما يعمدون إلى بيان المسألة وكشف الحقائق أو إحقاق الحق وإبطال الباطل. وبكلمة أخرى : إلى إصلاح أحوال الأمة وتحقيق الاتحاد والتضامن بين المسلمين ؛ الأمر الذي لا يقدمون عليه مدفوعين بعاطفة احتقار شخصيات الطوائف المخالفة أو تناولهم بالإساءة أوالطعن والاستهزاء.

وكذلك فإنهم لا يتورطون من خلال خطاباتهم وتصريحاتهم بدون حاجة في التعرض للطوائف التي تختلف عنهم مذهباً، وفي إثارة الكراهية لدى الجماهير ضدها وإشعال عواطفها حتى تندفع للنيل منها؛ حيث إن ألسنتهم لا تجد فرصة من بيان المسائل وما يحتاج إليه الجمهور من التوعية بأمور الدين ، حتى يتشاغلوا بهذه الخرافات.

الحقيقة أنهم لا يجدون فرصة لذكر رجالات الطوائف الأخرى، فضلاً عن أن يتناولوهم بالتكفير والإساءة والانتقاص؛ لأنهم متشاغلون كل وقت بيان المسائل التي يحتاج إليها المسلمون .

فتلك الصفات والمزايا المشار إليها، ومجموعها هو الذي يسمى «دار العلوم / ديوبند» وتلك الشمولية والجامعية العلمية والعملية والعقلية والأخلاقية، هي التي جعلت نفوذها يمتدّ إلى معظم أقطار العالم.

ونظراً إلى هذه الجامعية والاعتدالية في المزاج اللتين يمتاز بهما مذهب علماء ديوبند، كان الشاعر الإسلامي الدكتور محمد إقبال رحمه الله (المتوفى 1938م) يقول في شأن «الديوبندية» كلمة بليغة شاملة للغاية ، عند ما سأله سائل:

ما هذه الديوبندية؟ هل ديانة أو فرقة؟.

قال: «لا، إن الديوبندي عنوان لكل متدين يحب المعقول».

فالمذهب النابغ من شمولية المبادئ وامتزاج الشخصية هو الذي يسمى «الديوبندية» و «القاسمية» وليست «الديوبندية» عبارة عن مجرد تدريس ودراسة كتب المقررات الدراسية.

فهذه أمور مبدئية كانت مستقرة في ذهني عما يتعلق بإتجاه علماء ديوبند الديني و مزاجهم المذهبي،وذلك لِما سَعِدتُ من صحبة مشايخ ديوبند وتعليمهم وتلقينهم وتربيتهم وملازمتهم . وقد طرحناها في هذه العجلة بقلمي طرح الطالب لقضية ما، ولم أكن في ذلك مدفوعاً بالعصبية أو الإعجاب بالنفس.

وإن جاءت كلمات الثناء والمدح في موضع فإنما جاءت في شأن المشايخ الذين هم جديرون بها لحدّ علمي ودراستي، ولم أستخدمها كفرد من الجماعة حتى أكون مصداقاً للمثل الفارسي:

«إن مادح القمر مادح لنفسه» ؛ لأن ذلك يكون عصبية لا غير، على حين إنني – ولله الحمد – خالي الذهن عن أي عصبية.

فالمتوقع من قراء هذه العجالة أنهم سوف لا يحملون أي كلمة فيها على أنني استخدمتُها للثناء على جماعتي أو جرياً وراء المباهاة الطائفية أو العصبية الجماعية .

ولا يجوز أن يقال: إن هذا الكتاب يعطي صورة متكاملة للذوق الديني والمزاج المذهبي لعلماء ديوبند؛ لأن الله هو وحده العليم بما يكون قد صدر عن قلمي من التقصيرات والنقائص في هذا الشأن ، الأمر الذي إنما يدركه العلماء وهم الذين من شأنهم أن يصححوا ما يكون قد صدر مني من التقصيرات.

أما العاجز كاتب هذه السطور فلا يسعه إلا أن يقول: إن هذه السطور سيمهد السبيل إلى فهم الذوق الديني والمزاج المذهبي لدى أولئك العلماء المخلصين ، لمن لم يروهم ولمن جعلهم أعداؤهم يرون صورة مشوهة لذوقهم الديني ومزاجهم المذهبي. إن دراسة هذه السطو ستعطي صورة لمذهبهم وستقرب فهمه للأذهان.

ولكن الذين خُلِقوا ليتعمّدوا فهمهم على عكس ما كانوا عليه ، وليقدموا أمام العالم صورة مشوّهة تماماً، عن فكرهم وعقيدتهم ، ومذهبهم وذوقهم، وإخلاصهم وتفانيهم في الدين ، وجهودهم وجهادهم في سبيل نشر التوحيد ومحاربة البدع وخدمة الكتاب والسنة والحفاظ على روح الدين في شكله الصحيح ؛ فإنهم بدل أن يتأثروا بهذه السطور بشكل إيجابي ، سيعمدون إلى البحث فيها عن نقاط تعينهم على إعمال عملية التكفير ضدهم أو على الأقل عملية الاستهزاء والانتقاص والاحتقار، فسينجحون في إثارة التهم والمطاعن والشتائم؛ فهؤلاء لا يعنوننا في هذه السطور.

﴿وَلاَ يَزَالُوْنَ مُخْتَلِفِيْنَ إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود / 118-119)

ولا يسعنا أن نقول فيهم إلا ما قال الله تعالى وتبارك:

﴿فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى القُلُوْبُ الَّتِيْ فِيْ الصُّدُوْرَ﴾ (الحج / 46)

وإن العاجز كاتب هذه السطور لم يألُ جهداً لحد مستطاع في تقديم هذا المذهب والذوق الديني بشكل واضح، وفي تحليل عناصرهما ومقوماتهما ومقارنتهما، وفي بيان مصادرهما من الكتاب والسنة . أما التقصيرات التي بدرت مني نابعةً من قلة بضاعتي من العلم، فأتضرع إلى الله تعالى أن يغفرها لي «اللهم إنك عفوّ تحبّ العفو فاعف عني». والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وله الحمد أولاً و آخراً.

محمد طيب

رئيس جامعة دارالعلوم الإسلامية ديوبند ، الهند

غرة محرم 1400 هـ / 23/ أكتوبر 1979م