مذهب علماء ديوبند فيما يتعلق بالتزكية والإحسان ورجالهما

و موقفُ العدل والاحتياط هذا هو الذي يقفه علماء ديوبند من عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين ؛ ولكن الفرق بين موقفهم من الأنبياء عليهم السلام والصحابة – رضي الله عنهم – وبين موقفهم من عباد الله والمشايخ الصالحين ، أن الأمة إنما يُمكن أن تمارس الغلو وتتجاز الحدود فيما بتعلق بالأنبياء عليهم السلام بالنسبة لحبها لهم؛ لأنه لا يُتصَوَّرُ فيما سوى لفكرة – أن تُوْجَد في الأمة طائفة تعارض النبي صلى الله عليه وسلم أوتعاديه مكانَ أن تحبه ؛ حتى يتحقق الغلوّ في الخلاف أوالعداء تجاه النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك لا يُتَصَوَّرُ عداء أو خلافٌ للصحابة رضي الله عنهم لدى فرد أو جماعة من أهل السنة والجماعة ؛ حتى يُوْجَدَ الغلو في العدا أو الخلاف.

أما المشايخ الصالحون فيمكن أن يُوْجَدَ بينهم التفاوت الطبقي، حيث يمكن أن تتعلق طائفة بمشايخها وحدهم، وتستغني عن مشايخ طائفة أخرى. ومن الواضح أن هناك مظنةً للغلو في الحب لدى الملازمين المنتمين إليهم لأجل الاتحاد في الذوق والميل للحب والإعجاب، ومظنّة لقلة التقدير بل للخلاف من قبل غير المنتمين . على ذلك فيُتَصَوَّرُ أن يتجاوز الناس الحدودَ فيما يتعلق بالجماعتين كلتيهما، وقد يجوز أن يقف فريقٌ موقف الإطراء والمبالغة في المدح والثناء ، وفريقُ آخر موقف المبالغة في الإساءة والهجو ، كما يحدث عموماً في عصرنا هذا : عصر الجهل والغباء ودوس القيم.

أما علماء ديوبند فهم يبعدون كل البعد عن الموقف المُغَالِي في الحب والبغض للعباد الصالحين والمشايخ المنيبين . إن في قلوبهم للمشايخ والصلحاء الآخرين الذين لا يتعلقون بهم نفسَ الحب والتوقير اللذين يحملونهما لمشايخهم وعلمائهم ؛وإن رأوا أتباعهم ومريديهم يأتون بشيء يبدو للناظر في أول وهلة حائداً عن السنة بعضَ الشيء ، و وجدوا مشايخهم قائمين على السنة متقيدين بطريق السلف الصالحين ؛ فهم يمتنعون عن توجيه الملام إلى المشايخ وعن الطعن فيهم ، ولا يتّخذون زلات المريدين ذريعةً إلى تجريح المشايخ.

سلاسل الطريقة الإحسانية ومسائلها الفنية:

ونفس هذا الموقف وقفه علماء ديوبند من سلاسل الطريقة الإحسانية ومسائلها الفنية ؛ فهم يرون وصفَ العلاج عن طريق التدابير الموضوعة من قبل رجال التزكية والإحسان المحققين ، لإصلاح الباطن وتزكية النفس ودراسة الأمراض النفسانية ، يرون وصفَ العلاج هذا حقيقةً من الحقائق. ولو كانت هناك طريقة من طرق التزكية تبدو للعيان لأول وهلة غيرَ مربوطة بعضَ الشيء بتعامل السلف أو كانت غير مأثورة عنهم ، فإن علماء ديوبند لا يتجاسرون على نفيها نفياً قاطعاً إذا كانت مباحةً في الأصل؛ ولكنهم في الوقف نفسه لا يتبنَّون القيامَ بنشرها وتبليغها، بل إنهم يثقون بحُذّاق الفن وسالكي الطريق المجربين ، ويرونها – طريقتهم – اجتهاداً فنياً واستبناطاً علاجياً منهم تكون قد اقتضته نوعية المرض، ويكون مُعْتَبَرًا و مُتَصَوَّرًا من كل حاذق في فنه. وإذا كانت – الطريقة المشار إليها – غير مُتَّبَعَةٍ لدى السلف الأولين ، فلأن الأمراض النفسانية المنتشرة اليوم في عصرنا لم تكن معهودة في عصرهم ؛ فلم تكن الحاجة ماسة لعلاجها إلى هؤلاء المعالجين . كما لم تكن كثير من الجزئيات والمجتهدات الفقهية موجودةً في عهد السلف ؛ لأنهم لم يعايشوا الحوادث التي نعايشها اليوم ، غير أننا توارثنا الأصولَ التي وضعوها ، فاستنار بها الفقهاء اللاحقون في استنباط المسائل الجزئية للحوادث المستجدة.

أو كما يشير طبيب نطاسي بشتى الوصفات على شتى المرضى، حَسَبَ حالاتهم ونوعية أمراضهم ، وقد لا تكون هذه الوصفات منصوصاً عليها في كتب الطبّ؛ ولكنها تكون مذكورةً في أصول الفن، فيستخرجها الحاذق في الفن في ضوء براعته فيه وطول ممارسته له؛ مهما بدت غيرَ مستدة إلى أصل في نظر الجاهل بالفن .

وكذلك الشأن في العلاجات الروحانية، فكم من طريق لمعالجة النفس وتهذيبها وتزكية القلب وتطهيره – عندما ظهرت أمراض نفسانية جديدة – خرج بها الأطباء الروحانيون من المشايخ والعلماء الربانيين ، في ضوء قواعد الفن وأصوله الكلية مما لم يكن في الظاهر مُصَرَّحاً به في عبارة واضحة من الكتاب والسنة ؛ ولكنه كان مذكوراً ضمن الأصول والكليات ، فاستخرجه أطباء الروح والقلب من العلماء الصلحاء والمربين ، من أعماق الأصول ؛ كما يتسخرج الغواص البارع والسبَّاح المتفنن ، اللآلئ الثمنية من أعماق البحار ، ولا يقدر على استخراجها المتفرجون على الساحل، الجاهلون بفن السباحة والغياصة .

على كل فإن هناك شيئا كثيراً من دقائق تدابير تهذهب النفس ، إنما اعتُبِرت وأخِذَ بها ثقةً بالعلماء الربانيين المحققين في فن التزكية والإحسان ، واعتماداً على أئمة الزهد والعبادة ، المتذوقين للانقطاع إلى الرب الرحمن ، العارفين بفكرهم النير وبصيرتهم النفاذة بأحوال النفس ومكائد الشيطان والأدواء الروحانية تتسرب إلى القلوب دبيباً.

علماء ديوبند يقولون ويتعاطون هذه الطرق العلاجية :

وقد ظل علماء ديوبند يقولون بهذه الطرق العلاجية المُجَرَّبَةِ في معالجة أمراض النفس، شريطةَ أن تكون متوارَثَةً من أعلام هذا الفن، وأئمة الزهاد المصلحين ، والربانيين المتبتلين ، الذين لا ترتقي شبهة إلى فهمهم لروح الشريعة وأغوار طبيعة الإسلام، وتضلعهم من علوم الكتاب والسنة . لأنه إن أخِذَ بقول كل من هبّ و دبّ، لم تعد جزئيات الفقه أو المسائل الكلامية كذلك موضعَ ثقة.

انتهج علماء ديوبند – وهم كانوا متعمقين في علوم الكتاب والسنة ، وعارفين معرفة كاملة بفن الإحسان والتزكية – منهجَ الاعتدال والتوازن ، فلا يجيزون صرفَ النظر كلياً عن هذا الفن بوصفه «أفيوناً مخدراً للعقل والأدمغة» – كما يصفه كثير من الجاهلين بالفنّ – ولا يجيزون التظاهرَ بالأحوال الباطنة و وجدات القلب واتخاذها ذريعة للدعاية بالزهد والتقوى ومعرفة الله. فهم لا يعيرون التفاتاً للمتصوفين المتصنعين و «الفقراء» المزعومين الذين يرتدون أزياء خاصة ويَتَعَاطَوْنَ عرضاً خاصاً للوجد والهيام.

علماء ديوبند لا يرون الصلحاء الأحياء أو الأموات قادرين على دفع البلاء:

وخلاصة القول: إن جماعة الأولياء الكرام وسادة رجال التزكية والإحسان بموجب مذهب علماء ديوبند روحٌ وثابة في الأمة تقوم بها حياة الأمة الباطنة ؛ فيرى علماء ديوبند حبهم وإكرامهم ضروريين للحفاظ على الإيمان ؛ ولكنهم يتبرؤون ويتفادون من الغلو في حبهم والوصول بهم إلى منزلة الربوبية كما يصنع الجهال الأغبياء . يرون تقديرهم واحترامهم واجبين ؛ ولكنهم لا يجعلونهما مرادفين لعبادتهم – ونعوذ بالله عز وجل من ذلك – أو السجود لهم أو الطواف حول قبورهم ، أو تقديم النذور والقرابين إلى أضرحتهم أو اتخاذها مساجد. إن علماء ديوبند لا يظنونهم في حال من الأحوال قادرين على دفع البلاء والضراء ، وقضاء الحوائج ، وشفاء الأمراض ، وإعطاء الرزق ، وجلب المسرة . إنهم يجيزون زيارة القبور للاتعاظ والاستفادة الدينية ؛ ولكنهم لا يجيزون اتخاذها مساجد و مواضع للاحتفالات و أمكنةً للمهرجانات.

فهم يقولون بإثارة الروحانية ولا يقولون بإثارة الأهواء الشيطانية . إنهم يقولون بالانتماء إلى الربانيين ، وبتأثير هذا الانتماء في الصلاح والإصلاح، والترقي في الإيمان واليقين ، وفي الحرص على العمل ، وعلى التزود من الحسنات والتنحى عن السيئات ، وعلى التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل ؛ ولكنهم لا يرونه مداراً للنجاة.

إنهم يرون من اللازم في ضوء التجربة – لتتميم مكارم الأخلاق وتزكية النفس – أن يبايع المرأ صالحاً ربانياً ويصاحبه ويتبع إرشاداته وتعلمياته حَسَبَ طريقته في التزكية والإحسان ؛ يرونه نافعاً في التشفي من الأمراض القلبية والروحانية ؛ ولكنهم لا يرون طريقة التزكية والإحسان مستقلة عن الشريعة الإسلامية ومجرد متوارثة كابراً عن كابر وصدراً عن صدر، وإنما يرون أن شعبة تهذيب الأخلاق للشريعة هي التي تُسَمَّى «طريقة التصوف» التي هي الطريق إلى إصلاح القلب والتي سمتها الشريعة بـ «الإحسان» ؛ فهم يرون أن قواعدها الأساسية ثابتة بالكتاب والسنة ؛ ولكنهم يرفضون رفضاً كلياً تلك القواعد التي لا تمت بصلة إلى أصل من الكتاب والسنة ، وإنما تقوم على مزاعم وتقاليد موضوعة ومناهج مُحْدَثَة. يرفضون بعضها ، لأنه مخالف للسنة ، ويرفضون بعضها لأنه بدعة. إنهم لا يذهبون إلى محاكاة تقاليد الحال والقال، والتظاهر بالوُثوب القفز، والوجد والهيام، والكلمات الصادرة بغلبة الحال.

وكذلك يرى علماء ديوبند التبرك بآثار الصلحاء ومتروكاتهم جائزاً؛ ولكنهم لا يرون من الجائز أن يُسْجدَ لها أو يُعتقدَ فيها التأثير. وإن وُجِدَتْ آثار النبي عليه الصلاة السلام – من الشعر أو اللباس أو النعلين أو شيء من ذلك – بطريق موثوق به فإنهم يرونها أغلى من تيجان السلاطين ومن الدنيا وما فيها. وأما إذا كانت غير موثوق بها، ينصرفون عنها متفادين من سوء الأدب. وكذلك يورون أن الأمكنة التي عاشها الصلحاء جديرة بالتأدب ؛ ولكنهم لا يرونها جديرة بالتعبد.

حب الأولياء و رجال التزكية والإحسان حقيقة شرعية لدى علماء ديوبند:

وموجز القول أن حبّ ، أولياء الله تعالى – قدّس الله أسرارهم – والإعجاب بهم ، حقيقة شرعية لدى علماء ديوبند ، ولكن الغلو في ذلك ، والتقيد بطقوس ، أو تقاليد أوزمان و مكان ، أو اصطناع حدود و قيود في هذا الشأن ، كل ذلك يرفضه علماء ديوبند رفضاً باتاً. وقد يجوز أن تكون بعض هذه الأمور قد صدرت عن بعض العلماء العاملين ، بغلبة الحال اتفاقاً لا اطراداً، ويكون من لحقهم من الأتباع المحبين الفاقدي البصيرة والوعي قد ظنها أصولاً و قوانين مستقلة ثابتة ، ونشروها في العوامّ الجهلاء باسم الشريعة والإسلام ؛ فصارت بذلك عندهم جزءاً من الشريعة أو الشريعةَ نفسها. فلا شك أن هذه الأمور مصدرها المحبون المجردون من العلم والبصيرة ، ولا ترجع إلى المحبين الصادقين ذوي الوعي والبصيرة والعلم بالدين والشريعة ، الحريصين على التتبع لما جاء في الكتاب والسنة . والمذهبُ المتميز بالدقة والتعقل – كمذهب علماء ديوبند – يفرق في كل مرحلة بين الغث والسمين ، والحق والباطل ، والصافي والكدر ؛ فلا يتّبعون إلا ما يوافق الكتاب والسنة .

سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي أصل الدين لدى علماء ديوبند:

إذاً فإن مذهب علماء ديوبند يعتبر احترامَ أولياء الله والمشايخ الصالحين جزءاً من الدين ؛ ولكنه لا يعتبر مجاراة التقاليد والأوهام جزءاً منه. إن تقاليد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أصل الدين والتقاليد الموضوعة الموازية لها ليست من الدين في شيء.

الأقوال الصادرة لدى غلبةالحال والوجد عن بعض الصلحاء والنساك الزهاد:

وهذا التوازن هو الذي يعمل به علماء ديوبند فيما يتعلق بالأقوال والأفعال الصادرة عن بعض الصالحين لدى غلبة الحال؛ فهم لا يسمحون بأدنى إساءة إليهم وتجرَإٍ عليهم من أجل هذه الأقوال والأفعال ، التي تبدو حائدة في ظاهرها عن السنة والشريعة ، فلا ينكرون صلاحهم إنكاراً باتاً، ولا يشنّعون عليهم، ولا يتناولونهم من أجلها بالسباب والشتم ، ولا يرون هذا الصنيع هو وحده الدين على شاكلة غيرهم . كما أنهم لا يقعون فريسة للغلو في حبهم حتى يعتبروا أقوالهم وأفعالهم المبهمة الغامضة الموهمة هذه هي وحدها طريقة التزكية الصحيحة ؛ حتى يدْعُوْا إليها الناس، وحتى يجعلوا من لا يحبّهم مارقاً من الدين منسلخاً من الإسلام، كما يصنع ذلك بعض السفهاء.

فلا يردونها مطلقاً فتكون في نطاق «لا يُعْبَأ بها» على حين إنها تكون صادرة عن عباد الله المتقين ؛ ولكنهم في الوقت نفسه لا يعيرونها مكانة شرعية، حتى يروا النقاش فيها مضادًّا لطريقة التزكية والإحسان. وإنما لا يردونها رداً كاملاً؛ لأنها تكون صادرة من الصلحاء الأتقياء الذين يكونون هم متقيدين بالسنة والشريعة في حياتهم ؛ ولذلك فإن مذهب علماء ديوبند يحاول أن يحملها على ما يتفق وحياتَهم الزكية وإخلاصهم لله وحبهم الصادق لرسوله صلى الله عليه وسلم .

وقد أفرد عددٌ من العلماء والثاقبي النظر ، الجامعين بين العلم والعمل، رسائل وكتباً أبانوا فيها مصاديق لأقوالهم و أفعالهم المبهمة هذه بشكل يتفق و الحقيقةَ، ولا تبقى بعد ذلك مجردَ تأويلات باردة. وأكّدوا أن المرحلة التي بلغوها قد يجوز أن يصدر عنهم مثلُها، ولا ينبغي لمن لم يبلغ منزلتهم ولم يرد موردهم أن يتعرض لها.

فهذه الأقوال والأفعال الاضطرارية حقٌّ صدورها، ومعذورٌ صاحبها، وممكنٌ بل واقعٌ مصداقها الصحيح، وممنوعٌ تقليدها ومحاكاتها والدعوة إليها، وغيرُ لائق إساءة الأدب مع أصحابها ، ومُسْتَحْسَنٌ كفّ اللسان عنه والسكوت فيه وعدمُ التعرض له بالطعن والتجريح.

ولذلك فمذهب علماء ديوبند لا يسمح بالموقف المتعسف الذي يعني تكثيف الجهود وتكريسَ المحاولات، لحمل قول مبهم أو موهم لشخصية صالحة على معنى باطل ، و يُوجد له معنى صحيحٌ لا غبار عليه ويمكن حمله عليه، وتقتضيه حياته العفيفة العامرة بالتبتل إلى الله تعالى وإخلاص العبادة له، ويتطلبه سياق كلامه وبدايته و نهايته ؛ ولكن تُبْذَلُ كل الجهود لحمله على معنى مغلوط باطل حتى يسهل الطعن في حياتها – الشخصية – النزيهة. ومن الواضح أن ذلك ليس ديناً ولا أمانةً، ولا عدلاً ولا إنصافاً، ولا عقلاً ولا نقلاً؛ وإنما هو عناد و تحامل وتعنت ، لا يمت إلى المذهبية بصلة ، وإنما هو عاطفية عمياء.

نعم: إذا لم يكن صاحبها – الأقوال والأفعال المشار إليها – نفسه متقيداً بالسنة والشرعية ، وكانت حياته منحرفة عن إطار الدين العام، وكانت اصطناعية تتبع منهجاً وضعياً ، لا شائبة فيها لاتّباع السلف ولا لاحترام الخلف ، وتنطق – حياته – بذلك كله بدورها ؛ فهذا لن يكون ممن يُعْذَرون من أصحاب الرتبة والحال الصالحة في التقوى والعبادة. وهو ليس ممن يجوز حمل كلامه على محمل صحيح ، بل إن أمثاله خارجون من موضوعنا ، وإنما يعنينا ههنا المحبون المتفانون الذين سلكوا المحجة البيضاء ، ولاحت لهم صورة من المحبوب أثناء الطريق ، فأغمِيَ عليهم، فصدرت عن لسانهم كلمة رمزية مبهمة ، فهذه تكون ذات معنى ويمكن أن تُحمل عليه. أما المنحرف عن الطريق فهو ليس بمحب صادق ، فلا يُتَاح له أن يفوز بلمحة من المحبوب، فيفقد رشده ، فتصدر عنه كلمة ؛ وإنما هو يتكلم بدهاء وفي وعي كامل وبأسلوب مهذب بما يعلي شأنه و يرفع مكانه . فذلك لا يمكن أن نسميه إلا نفعياً أنانياً مشعوذاً، لا يستحق التفاتاً وإنما يجدر بالاستنكار والرفض الكامل.

فالأقوال الرمزية الصادرة لدى غلبة الحال قد تكن جديرة بالالتفات ، ولكن الكلمات المظلمة الصادرة عن التصنع والمحاكاة لا تجدر باعتبار.

منزلة غلبة الحال ليست منزلة مغبوطة :

ثم إن مذهب علماء ديوبند عندما يرى قبول عذر عباد الله المشار إليهم ، يرى أن منزلة غلبة الحال ليست منزلة مرموقة جديرة بالتنافس والطلب، وإنما المنزلة المرموقة المغبوطة أن لا يَدَعَ المرأ التمسكَ بالسنة والشريعة مهما كانت حاله؛ لأن أصحاب المنزلة الدينية العالية في الواقع ، إنما هو من يجمع بين الاحتراق وبين التأدب. والجامعُ بينهما هو الصوفي الحق، العالي المنزلة ، الجدير بالمحاكاة، المستحق للاغتباط. وقد كان ذلك هو موقف علماء ديوبند ومشيخة الجامعة الإسلامية دارالعلوم ، ديوبند ((1)) حيث لم يُسَجّل عنهم خروج حتى عن الإطار الظاهر للسنة والشريعة وفي أشد حالات الوجد والحب والشوق والاهتزاز.

((1)) قد مضى تعريف بجامعة ديوبند . تحت العنوان الفرعي «أمور أساسيّة» [المترجم]

فالتمسك بسنة سيدنا و نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم هوالأصل في مذهب علماء ديوبند؛ حيث يرون الأخذ بها في كل حال واجباً أوجبَ. فالأمور التي ليس لها أصلٌ في الكتاب والسنة وتعامل الصحابة ، أو سندٌ في إطار الذوق والعمل لدى العارفين بالشريعة ؛ وكذلك العادات التي تُطرَحُ كجزء من الدين وليس لها أساس في الدين أو الذوق الديني المُتَوَارَثِ؛ فهي بأسرها جديرة بالرد والإنكار لدى علماء ديوبند. فاجتناب هذه البدع والخرافات ، واتباعُ سنن سيد الموجودات، والتأدب بآداب الصالحين والعلماء والربانيين ، ذلك هو مذهب علماء ديوبند.

فالمذهب الديوبندي المتوازن يقف من أحوال هؤلاء الصلحاء موقف الاعتدال ؛ فلا يتعرض لهم فيها بالانتقاد والملاحقة ، وإنما يتركهم وشأنَهم وتخلى عنهم. ومن الواضح أنه لا سبيل في هذا الباب للسلامة والعافية سوى سبيل الاعتدال هذه .

فظل هذا المذهب يحترم رجال التزكية والإحسان ومشايخ الطرق الصوفية والنساك الزهاد وأفاضل الإصلاح والتربية ، مع ملاحظة الاختلاف فيما بينهم في الرتبة ، احترامَه للعلماء المشغولين بالشريعة والفقه والحديث وعلوم الكتاب والسنة ؛ ففي قلوب علماء ديوبند للشيخ محي الدين ابن عربي [محمد بن علي الحاتمي الطائي المتوفى 638هـ / 1240م] ((1)) نفس الحب والتقدير اللذين يحملونهما لشيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية [تقي الدين أحمد المتوفى 625هـ / 1254م] رحمهما الله تعالى . ويكنون في قلوبهم للشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي المعروف بــ «مجدد الألف الثاني» [المتوفي 1034هـ / 1624م] ((2)) نفس التقدير والاحترام اللذين يكنونهما للشيخ عبد الحق الردولوي ((3)) والشيخ صابر الكليري ((4)) رحمهم الله تعالى. ويوقرون الجنيد بن محمد البغدادي [أبا القاسم الزجّاج القواريري المتوفى 297هـ / 910م] و بايزيد البسطامي الخراساني ومعروف بن فيروز الكرخيّ [أبا محفوظ المتوفى 200هـ / 815م] ((5)) والإحسان والزهد والعبادة ، توقيرهم لأئمة الشريعة وعلوم الدين ، أمثال أبي حنيفة والشافعي ومالك و أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى جميعاً.

=============

((1))               هو محمد بن علي بن محمد بن عربي أبوبكر الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بـ «محي الدين ابن عربي» . حكيم ، صوفي ، متكلم.

وُلِدَ في «مرسية» بالأندلس عام 560هـ الموافق عام 1165م. وتوفي بدمشق عام 638هـ الموافق 1240م. رحل إلى مصر والعراق وبلاد الروم والشام ، وأنكر عليه أهل مصر بعضَ آرائه، وأرادوا قتله ، فحُبِسَ. ولما نجا استقر بدمشق . له نحو أربع مائة كتاب و رسالة. منها «الفتوحات المكية» في عشرة مجلدات في التصوف وعلم النفس. (شذرات الذهب 5/190؛ معجم المؤلفين 11/40؛ ميزان الاعتدال 3/108؛ الأعلام للزركلي 6/281).

((2)) اقرأ ترجمته على الهامش ضمن عنوان «ماهي الديوبندية».

((3))               هو الشيخ أحمد عبد الحق بن عمر العمري الردولوي، أحد العلماء الزاهدين المشهورين . وُلِدَ ببلدة «ردولي» بمديرية «فيض آباد» بولاية «يوبي» (الهند) وتوفي عام 837هـ . أصل من «بلخ» ببلاد ماوراء النهر . ورَدَ جده الهندَ في عهد علاء الدين الخلجي سلطان الهند، (المتوفى 716هـ / 1316م) وسكن «ردولي» . تلقى الدراسة الابتدائية في بيته، ثم توجه إلى دهلي، وهو ابن ثنتي عشرة سنة. وأخذ يقرأ على الشيخ تقي الدين أخيه الكبير. ولكنه كان لا يرغب في تلقي العلوم المتعارفة ، فترك ، وطاف البلاد يطلب الحق والمعرفة ، وينصرف إلى العبادة والزهد.

كان رجلاً عظيماً، صاحب الكرامات، زاهداً في الدنيا و ملذَّاتها، وكان متخلقاً بدوام التواضع والانكسار، والتبتل إلى الله، شديد التعبد، كثير الذكر ، والبكاء. («خم خانهء تصوف» للدكتور ظهور الحسن شارب، ص248-250، ط: دهلي 1965م؛ و «أخبار الأخيار» بالفارسية للشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي ؛ والترجمة الأردية للكتاب بقلم مولانا إقبال الدين أحمد ، ص384، ط: كراتشي عام 1968م).

((4)) هو الشيخ علي أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الكليري علاء الدين صابر، زاهد مشهور.ولد بـ «هراة» عام 592هـ ، وتوفي ودفن ببلدة «كلير» بولاية «أترابراديش» (الهند) عام 690هـ.

قرأ مبادئ العلوم على والده، ثم رحل إلى خاله الشيخ فريد الدين مسعود كنج شكر (المتوفى 670هـ / 1271م) بمدينة «أجودهن» ، وتلقى منه سائر العلوم ، وتخرج عليه. سافر إلى «كلير» التي كانت مدينة عامرة آنذاك للدعوة والإرشاد. وتوطّن بها.

كان عالماً ربانياً ، براً ، تقياً، صوَّاماً، قوَّاماً، مستجابا للدعوات. وله مشاركة جيدة في شتى العلوم من الفقه ، والحديث، والتفسير، والمنطق، والمعاني. (سير الأقطاب؛ 181؛ أنوار العارفين ص: 299؛ ترجمة «خم خانهء تصوف» ص:103).

((5)) قد مضت تراجمهم على الهامش ، ضمن عنوان «الاستعراض المفصل للأساسين اللذين يقوم عليها مذهب علماء ديوبند».

===========

إن مذهب علماء ديوبند يرى أن المقارنة بين أئمة العلوم وأعلام الطرق الصوفية وأفاضل التزكية والتربية، وتفضيل بعض منهم وانتقاص بعض منهم، هو بمنزلة صدم أبواب الدين وسنن النبوة بعضها ببعض، وجعلها واهنة غيرَ موثوق بها، وتلك عملية قبيحة وخطيرة ، ينبغي أن نتجنب ذلك.

التمرينات التربوية المُستخدمة في أساليب التزكية والإحسان إنما هي وصفاتُ علاج لأمراض النفس:

بعض الناس يرفضون في تحقيرٍ تعاملاتِ الصالحين الزهاد باسم العمل والتمسك بسنن النبي عليه الصلاة والسلام، بينهما يتبنى بعض الناس صنائع المشايخ ولا يعيرون اهتماماً لسنن النبي عليه الصلاة والسلام. أما علماء ديوبند فهم يأخذون بالاعتدال متفادين من المذهبين المتطرفين . فهم يرون أن أصل الأصول هو اتّباع السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام ، إلا أن تعاملات المشايخ الصالحين إذا لم تكن راجعة إلى غلبة الحال لا ينبغي اللامبالاة بها؛ لأنها إما أن تكون ثمرات ونتائج للعمل بسنن النبي صلى الله عليه وسلم أومبادئ يُمَهِّد التمسكُ بها الطريقَ المباشرَ إلى العمل بسنن النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فالتقصير فيها ولا سيما ممن لم ينضج في العبادة ولم تَتَقَوَّ لديه همةُ العمل والحرص على التقيد بأحكام الدين و أوامر الشريعة ونواهيها، التقصير فيها حرمان وشقاء. إلا أنها لا تكون شريعةً حتى يتخذها بعضُ الناس موضوعاً من مواضيع المنصّة وينهض للقيام بالتبليغ لها والدعاية بها، فتعود السنةُ النبوية التي هي الهدف الأصلي غيرَ مهمّة . إن هذا الصنيع يأتي في إطار الغلو والمبالغة الذي يجتنبه مذهب علماء ديوبند؛ وذلك لأن الإرشادات والتمرينات التربوية المستخدمة في أساليب التزكية والإحسان والطرق الصوفية إنما هي وصفاتُ علاج لأدواء النفوس. و وصفاتُ العلاج إنما تُستخدم لحد الضرورة فقط، ولا تكون قانوناً مُطَّرداً ومنهجاً عاماً للحياة، حتى يُدعى إليها دعوةً عامةً.

ولكن بجراء الجهل العالم بهذا الفرق بين الحقائق وبجراء تربية وصحبة «المصلحين» الفاقدي البصيرة ، ومن أجل الغلو والإفراط والتفريط ، يعود المشغوفون بالتقاليد والأوهام إنما يندفعون وراء الطقوس والتقاليد وحدها، لا في مجال الزهد والتصوف وحده، بل في مجالات الحياة كلها، سواء كانت دينية أومدنية؛ أوعائلية أو جماعية ؛ ويعضون عليها بالنواجذ ، فيتباعدون عن الحقيقة كلياً. ويؤدي ذلك أخيراً إلى نتيجة مهلكة، وهي أن هذه العادات المتّبعة تعود مع الأيام ديناً وإسلاماً في نظرهم ؛ ودعوتُهم للتنحيّ عنها تكون عندهم بمنزلة دعوتهم للتخلي عن الإسلام.

المسلم مُطالَبٌ في كل حال بالعضّ على سنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم :

على كل فهذه التقاليد غير الماتّة بصلة إلى أصل في الدين، سواء كانت تتعلق بالأفراح أو الأتراح، أو بالمناسبات أو القربات ، أو العبادات والصلوات ، أوالحضارات والمدنيات، أو الاجتماعيات والعائليات؛ كلها جديرة بالرفض لدى علماء ديوبند، ولدى مذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأنّها لا تحمل أساساً سوى محاكاة الأمم والتشبه بالأغيار، على حين إن المسلم مُطَالَبٌ في كل حال بالتقيد بسنة وأسوة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما تعارف واصطلح عليه السلف الصالحون المصوغةُ حياتُهم في قالب الإسلام وسنةِ النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُطَالَبْ باتباع التقاليد الجاهلية، ولم يخرجه الله ليدعو الناس إليها.

ومن ثم يستنكر علماء ديوبند بشكل مؤكد وينهون عن التقاليد البدعية الشركية ، التي يمارسها المبتدعون لدينا ، في مناسبات الزواج والمآتم، والاحتفال بالموالد والوفيات للمشايخ والزهاد ، وتقديم النذور والقرابين للقبور والأضرحة ، وتشييد البناء عليها ، وإنارة المباني عليها ، والسجود لديها، والمطاف بها، وطلب الحوائج من أصحابها؛ مُعتبرين ذلك كله بدعةً صريحة بل شركاً واضحاً. كما ينهون عن كل شيء لا يمت إلى السنة بصلة.

فسواء كانت التقاليد البدعية أوالتقاليد التي لا تتفق مع السنة ينهى عنها علماء ديوبند نهياً قاطعاً؛ ولكنهم يؤكدون على النهي عن التقاليد المتّبعة في المآتم، لأنها تُمارس باعتبارها أعمالاً يُثاب عليها العبد؛ فهي بدعُ تمس السنةَ بشكل مباشر وتفسد على المرإ عقيدته. أما التقاليد غير الشركية المتبعة لدى الأفراح من مناسبات الزواج وغيرها، فإنما تُمارس مجاراةً لما يأخذ به الناس في المجتمع بإيحاء الحضارة التي يعيشونها؛ فهي تقاليد لا تسمح بها السنة ولكنها لا تكون شركية.

إن البدع تفسد العقيدة ؛ حيث يظن مرتكبها غيرَ الدين ديناً. أما ما يكون مخالفاً للسنة، فإنه لا يفسد على المرإ عقيدته، وإنما يتوقف لدى الفساد العملي الناشئ من أهواء النفس . الأمر الأول يمحو الدين، والأمر الثاني يخل بالعمل ولا يمس العقيدة الكامنة في القلب.

وكذلك فإن علماء ديوبند يرون عملية إيصال الثواب إلى الأموات صحيحاً ، ويرون ذلك حقاً من حقوق الأموات؛ ولكنهم لا يقرون في ذلك بالتظاهر بأشكال خاصة ، وبتحديد أيام وساعات لذلك، ولا بالتقيد بتقاليد يتقيد بها المبتدعون والمشركون .

وجملة القول إن علماء ديوبند لا ينكرون التصوف أو طرق الصوفية ومناهج التربية لدى الزهاد العباد والمصلحين الموثوق بهم، وهم فعلاً يأخذون بهذه الطرق وهذه المناهج؛ وإنما ينكرون تقاليد أولئك المغالين الجهلاء الذين يمارسون مجرد المحاكاة ويقومون بعروض و تظاهرات. إن الطريق الأقوم الأسلم الأبيض الأوضح لدى علماء ديوبند هو اتباع السنة النبوية والمنهج الذي لقنه السلف الصالحون من الصحابة والتابعين ، والأئمة المجتهدين، والفقهاء والمحدثين الذي يَسْهُلُ الاطلاع عليه والأخذُ به عن طريق العلماء الربانيين ، رحمهم الله تعالى أجمعين، وعن كتب العلوم الدينيّة كذلك.