مزايا أهل السنة والجماعة

عصارة القول أن التنكب عن الصراط المركب من العنصرين : الكتاب ومعلم الكتاب، أو الضلال عنه – في التعبير القرآني- أدى إلى أربع صور ظهرت في إطارها أربع طوائف في الأمم والأقوام. وكذلك ظهرت الطوائف الأربع في هذه الأمة حسبما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها. وكان من اللازم أن نُفَصَّل ذكرها؛ لأن مذهب أهل السنة والجماعة لم يكن ليتضح كلياً ما لم يُذْكَرْ ضِدُّه؛ ولكنّ ما ذُكِرَ لم توضَعْ فيه في الاعتبار شخصيةُ فرد أو جماعة أو حزب، وإنما خضنا في البحث باعتباره مبدئياً، وكان الغرض من وراء ذلك هو إبانة مذهب أهل السنة والجماعة وما يضادّه من المذاهب ؛ حتى يتبين هذا المذهب بشكل مشبع ، بتسليط الضوء عليه ومقارنته مع المذاهب الأخرى؛ لأنه كما يقول المتنبئ (أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المتوفى مقتولاً 354هـ): «وبضدها تتبين الأشياء» .

فلو ألقينانظرة نابعة من صدق الضمير لوجدنا أنه إن كانت هناك طائفة تتقيد بالعنصرين معاً، بكامل الإعجاب والتقدير والاعتدال، ودونما انقطاع عن الكتاب أو معلمه ، ودونما إعراض عن أحدهما واتصال بالأخر اتصالاً مُغالًى فيه، وكذلك دونما الإفراط والتفريط اللذين تورطت فيهما اليهود والنصارى –إن كانت فإنما هي طائفة أهل السنة والجماعة، التي لم تُمْنَ بشقاء فهم كتاب الله في غنى عن معلمي الكتاب و مربي النفوس؛ حتى تتخذ القانون الإلهي ألعوبةً لآرائها ونظرياتها؛ ولا بشقاء الحب والإعجاب المتخطيين للحدود، بشخصيات المربين؛ حتى تَعْتَبرَ كلّ شيء من أحوالهم وأقوالهم ومواقفهم الشخصية قانوناً منزّلاً من الله تعالى. ولذلك تحتضن هذه الطائفة – طائفة أهل السنة والجماعة – بعد حب النبي صلى الله عليه وسلم بصفته الجدّ الأعلى لجميع الشخصيات المقدسة ، حبَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وطاعتهم ، قبل جميع السلف الصالحين ؛ لأنهم – الصحابة – الحَمَلَةُ الأولون للدين وطلائعُ دعاة الإيمان واليقين ؛ وترى أن استكمال الحب لهم والإعجاب بهم إنما هو وسيلة للإيمان؛ حيث إن حبهم إنما هو متفرع من حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وناشىء منه ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم :

«من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم». (رواه الترمذي ، أبواب المناقب، باب ما جاء فيمن سبّ أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم)

إن الحديث يؤكد أن حبّ الصحابة وبغضهم إنما ينبعان من حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وبغضه؛ فإيمان المرإ لا يتم إلا بحبهم. وإذا كان حبّ النبي صلى الله عليه وسلم أصلَ الإيمان فإن حبهم فرع من الإيمان . وأساس ذلك أن ما يوجد في شخص النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الحب كالأصل، يوجد في الصحابة كالفرع بفضل صحبته صلى الله عليه وسلم . ولذلك زكّى القرآن الكريم جماعة الصحابة من حيث الكل، واعتبرهم مطَهَّري النفوس، صادقي الضمير، راشدين، ومرشدين، راضين ، مرضيين ، هادين ، مهديين ، مطاعين و متبوعين . ولذلك أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول، ويرون أن تخطئتهم وانتقاصهم فسق ، يستحق مرتكبه التعزير.

الجمال المزين لظاهرهم وباطنهم:

وإذا أمعنا النظر في ذلك ، وجدنا أن هذه المزايا التي يتفرّد بها الصحابة رضي الله عنهم، من العدالة والإتقان وتقوى الباطن وكونهم راضين ومرضين وتحت الحماية النبوية المتمثلة في نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يتناولنّهم أحدٌ بالسباب والشتم أو اللعن والطعن وجدنا أن هذه المزايا هو الجمال المزين لظاهرهم وباطنهم، والذي غَرَسَ الميلَ إليهم والحبّ لهم بشكل جعل ذلك طبيعة ثانية لدى المسلمين .

فعلاقةُ أهل السنة والجماعة مع الصحابة رضي الله عنهم، ليست مجرد علاقة تأريخية أو تقليدية أو استنادية ، وإنما هي علاقة حبّ ؛ فهم ليسوا عندهم مُقْتَدَيْنَ – على صيغة اسم المفعول– فقط، وإنما هم يحلّون منهم محلّ القلب ؛ فهم – أهل السنة والجماعة – مُغْرَمُوْنَ بجمالهم الديني و مزاياهم الإيمانية . وبذلك يمتازون عن الروافض والخوارج؛ لأن هاتين الطائفتين لا تعتبران الصحابة كلهم عدولاً ولا أتقياء، ولا يرون حبهم ضرورياً باستثناء نفر منهم. وفي ضوء الحديث المسرود أعلاه تنحلّ بكل سهولة قضيةُ أن الصحابة لا يمكن أن يكونوا موضع انتقاد وانتقاص لدى من يدّعي حبهم والإعجاب بهم ، دع الحكمَ الشرعيَّ والفقهي في هذا الصدد؛ لأن اجتماع الحب والانتقاد هواجتماع الضدين لدى العقل والمنطق والأخلاق. إذا كان هناك رجل يقول: فلان غاية في الجمال والرشاقة ولذلك أحبّه وأكلَفُ به وأعشقه كل العشق؛ وفي الوقت نفسه يقول: ولكن هناك نقصاً في عينيه وأنفه ، وشحوباً في لونه ، وعدم اتزان في قامته وفي أعضائه ، ونقائص في شتى الأمكنة من جسمه ؛ فإنه سيقال له : من الذي أرغمك على عشقه ؟ . إن حبه له مع علاته المذكورة ثم انتقاده في شأنه هو اجتماع صريح للضدين.

ثم إنه إذا نظرنا في القضية في إطار المنظور الشرعي ، وجدنا أن الحديث النبوي يعطي معياراً لكون طائفة ما ناجية أونارية، وينص على أن الصحابة كلهم واجبٌ اتباعُهم بنص القرآن ؛ ولاشك أن ذلك نتيجة لجمالهم الظاهري والباطني. وفي جانب آخر نجد المدعين لمحبتهم هؤلاء يضعون فكرة كونهم غير جديرين بالثقة ؛ أوبكلمة أخرى يتخذون من أنفسهم محكاً ينتقدون به جمالهم.

إن هؤلاء المدعين الكاذبين للمحبة لا يمكن أن يكونوا معيارًا لمعرفة حقيّة أو بطلان الصحابة رضي الله عنهم أو حقية و بطلان الفرق من الأمة. وإنما الصحابة رضي الله عنهم هم المحك الدقيق في حق الأمة كلها تقاس بهم حقية وبطلان (73) فرقة فيها ؛ فهذه الجماعة : جماعة الصحابة المحبوبون لدى قلوب أهل السنة والجماعة فوق كل شبهة وانتقاد.

وباعتبار أنهم بهذا المستوى من العظمة يستوجب على أقل تقدير أن يكونوا موضع الحب والتقدير والاتباع دونما استثناء، فضلاً عن أن يكونوا هدفاً للتخطئة والتغليط. نعم يجوز أن يكون للعلماء الراسخين حق الاختيار والترجيح فيما يتعلق بأقوال الصحابة المختلفة ، وهذا الحق إنما يحصلون عليه بالسند المتصل ومن خلال الدرس والتدريس والعلم والعمل والأخلاق، كما يجوز لأئمة الفقه والحديث أن يمارسوا عملية الترجيح في خصوص الأحاديث المتعارضة . ولكن ذلك لا يُسَمَّى انتقاداً وانتقاصاً. غيرأن هذه الصلاحية لا ينالها إلا العلماء المتضلعون، ولا يجوز أن ينالها كل من هبّ ودب.

الفرق بين الترجيح والتخطئة :

وهناك فرق بين أن يُرَجّحَ قول اجتهاديّ من أقوالهم على قول اجتهاديّ لبعضهم وبين أن يُخَطَّأ قول مرجوح لهم أو يوصف بأنه ضار مشتمل على المفاسد؛ كما أن هناك فرقاً بين أن يُعْتَبرَ حديث من الأحاديث المتعارضة راجحاً في ضوء المبادىء المقررة وبين أن يوصف الحديثُ المرجوح بأنه مكذوب أو مغلوط. وإذا كانت هناك طائفة بريئة من هذا الذنب كل البراءة فهي طائفة أهل السنة والجماعة ، التي أكرمها الله تعالى – بفضل صحبة كبار العلماء والأتقياء الربانيين – بأن جَنَّبَهُمْ زيغَ القلوب والانحرافاتِ، وزوّدهم بسلامة الفهم واستقامة الفكر . فهم يعتبرون أقوالَ الصحابة كلهم دونما استثناء صحيحةً صادقةً، ثم يرجحون بعضها على بعض من أقوالهم المتعارضة – إذا مست بهم الحاجة إلى ذلك – نظراً للمصالح الشرعية ؛ ولكنهم لا يجترؤون على تناول قول من أقوالهم بانتقاص أو انتقاد، وإنما يتكلّمون – إذا تكلموا – في الأسناد التي وصلت بها الأقوال إليهم ، ولا يتكلمون بشيء في متن الرواية. على كل فإنهم يقفون من أقوال الصحابة المتعارضة الموقفَ الذي يقفونه من الأحاديث المتعارضة .

ومن الواضح أن أهل السنة والجماعة لئن كانوا يقومون بشرح مرادات الكتاب والسنة ضمن في إطار أقوال الصحابة؛ حيث يعتبرونهم في كل حال معياراً لدينهم وفهم مرادات تراثهم الديني ؛ فهم – طبعاً – فرقة حقة في ضوء المعيار الحديثي فيما بين الثلاث والسبعين فرقة ؛ لأنهم أخذوا بعنصري الهداية (القانون والشخصية) مُنْزِلِيْنَ كُلاًّ منهما في منزله الصحيح .

وكذلك فإن أهل السنة والجماعة ينظرون بكل أدب واحترام إلى الشخصيات الإسلامية المتلاحقة التي ظهرت فيما بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم، متشربة للتراث الديني المتوارث منهم – رضي الله عنهم – كالراسخين في العلم ، والمجتهدين من الأئمة ، والعلماء الربانيين ، والمشايخ الحقانيين . ويعتبرون واضعين في الاعتبار تعليمها – الشخصيات الإسلامية المشار إليها– وتربيتها لكونها متشربة لروح تعاليم الصحابة وصحبتهم ومعيتهم ، يعتبرون ذوقها ومزاجها الديني أساساً فيما يتصل بالرواية والدراية ؛ فلا يتعدون إطار اتّباعها.وذلك أيضاً يدل دلالة واضحة على أن ذوقهم ومذهبم جامع للسنة والشخصية ، وجامع للرواية والدراية ، وجامع للعقل والحب؛ ولذلك سُمُّوْا بأهل النسة والجماعة ، وكانوا فرقة ناجية من بين الفرق الثلاث والسبعين ؛ حيث إن صلتهم تنتهى بالسند المتصل مارة بالصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم دونما انقطاع، حتى إن كتبهم الدينية هي الأخرى ينتهى نسبها دونما انقطاع إلى الكتاب والسنة ؛ مما يؤكد أن هذه الفرقة ليست وليدة أحدثتها النظريات المعاصرة . ولذلك كانت فيما بين جميع الفرق الإسلامية مقياساً للحق بالنسبة للصحابة الكرام الذين ألحقهم النبي صلى الله عليه وسلم بذاته المقدسة معياراً للحق، كما جاء ذلك صريحاً في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:

«وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله ؟ . قال: ما أنا عليه وأصحابي. (رواه الترمذي في «أبواب الإيمان» باب افتراق هذه الأمة.

وهذه الفرقة – فرقة أهل السنة والجماعة – هي التي كانت رمزًا للحق في العصور المتلاحقة، كما يدل عليه التعبير النبوي الدائم الاتجاه «ما أنا عليه وأصحابي». ولقبها المركب من كلمات أهل «السنة» و «الجماعة» التي تلقي الضوء على كل من «ما أنا وأصحابي» قد تم وضعه في القرن الأول وليس وليد القرون اللاحقة . فهذا القلب هو الآخر ليس حديث العهد. كما أن هذه الفرقة الناجية أيضا ليست مستحدثة . ويشهد بذلك شهادةً حيَّةً الأثرُ الذي ساقه الإمام جلال الدين السيوطي [جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى 911هـ / 1505م] رحمه الله في كتابه «البدور السافرة» في تفسيره ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوْهٌ وَّ تَسْوَدُّ وُجُوْهٌ» نقلاً عن اللالكائي وابن أبي حاتم:

«عن ابن عباس في هذه الآية ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوْهٌ وَّ تَسْوَدُّ وُجُوْهٌ» قال: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والضلالة». (تفسير «الدر المنثور» ج: 2، ص:111)

خلاصة مزايا أهل السنة والجماعة:

وثبتت بهذا الأثر الأمور الآتية:

  • إن أهل السنة والجماعة هم الجماعة القديمة الحقة، وليست جماعة حدثت فيما بعد؛ وإنما هي الأصل، والفرقُ الأخرى هي التي ظهرت فيما بعد منقطعةً عنها. وذلك هو الدليل الواضح على قدمها وأصالتها ، وإلا فلمن وَضَعَ الصحابةُ هذا اللقب: لقب «أهل السنة والجماعة» إن لم تكن آنذاك جماعة تستحقه؟.
  • إن هذا اللقب للجماعة الحقة كانت معروفة بين الصحابة؛ ولذلك لم يَرَ ابن عباس رضي الله عنهما حاجة إلى تعريفٍ بها، وإنما رأى كفاية في ذكر اسمها ولقبها ؛ مما يُشَكَّل دليلاً على كونها معروفة معرفةً عامةً.
  • بمقارنة هذه الجماعة الحقة مع الجماعة التي تقابلها أُكِّدَ كونها حقانية مهتدية ؛ وذلك هو الدليل الساطع على أن الجماعات والفرق الأخرى غيرها مبتدعة ضالّة . ومن ثم كانت هي وحدها جديرة بأن تكون السنة النبوية صدراً لعنوانها : لقبها، ولم تكن الفرق والجماعات الأخرى المستحدثة فيما بعد، جديرات بذلك ؛ حيث إن عنوانها هو التقاليد والبدع ومحدثات الأمور.
  • إن أهل السنة إنما يكون لقب الجماعة التي يقابلها أهل البدع؛ ومن هنا لا تستحق جماعة مُلَطَّخَة بأرجاس البدع والمحدثات ، واختارت لنفسها طريقاً غير طريق السنة ومنهجاً غير منهج الصحابة لا يستند إلى أساس من السنة النبوية والسيرة الصحابية ، أن تطلق على نفسها هذا اللقب.
  • على كل حال؛ فإن هذا الأثر لا يُثْبِتُ فقط أن هذا اللقب لهذه الجماعة قديم الأيام، وإنما يثبت في الوقت نفسه أن الجماعة بدورها قديمة يرجع أساسها إلى اتباع السنة النبوية والذات النبوية وسيرة الصحابة وأشخاصهم ، ولذلك كان إجماعها حجةً قانونيةً في الدين . والجماعات كلها سواها جماعات ذات خصائص شخصية ومبادىء تقليدية ؛ فلا ترتقي إلى مستوى الاعتبار القانوني.

لقب أهل السنة والجماعة ثابت بحديث مرفوع:

ولو تقدمنا خطوة وجدنا أن هذا اللقب لهذه الجماعة لا يَثـْبُتُ بأثر صحابي فقط، وإنما يوجد ثبوته في حديث مرفوع. فهناك جزءٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه الترمذي:

«وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملّة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» (جامع الترمذي ، أبواب الإيمان، باب افتراق هذه الأمة)

ففي هذا الحديث إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرين معياراً لمعرفة الحق والباطل من بين (73) فرقة في الأمة ، هما «ما» و «أنا وأصحابي» . وفي «ما» إشارة إلى السيرة النبوية والدستور النبوي والأسوة النبوية التي كان هو وأصحابه قائمين عليها. ومن الواضح أن «السنة» إنما هي عبارة عن السيرة النبوية والأسوة النبوية اللتين عمل بهما هو صلى الله عليه وسلم وأخذ بهما أصحابَه . فكلمة «ما» هي عنوان لــ «السنة» التي هي أول جزء من لقب الفرقة الحقة. أما كلمة «أناو أصحابي» فمن الواضح أن المراد بها الشخصيات المقدسة التي في طليعتها شخصية النبي «فشخصيات أصحابه؛ فلا يمكن أن يراد بــ«أنا وأصحابي» إلا «الجماعة» التي هي جزء ثان من لقب الفرقة الحقة. ومجموع الجزئين هو «أهل السنة والجماعة».

وعلى ذلك فإن ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في شأن هذا اللقب في أثره صراحة ، ثبت بهذا الحديث المرفوع أيضاً. فاتضح أن هذا العنوان لهذه الجماعة في ضوء التحليل منطوق به من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، فابن عباس رضي الله عنهما لم يصنع سوى أن أوضح المراد وأجلى الحقيقة . وفي ضوء هذه الدلائل لا تبقى هناك شبهة في كون الفرقة الحقة قديمة وكون لقبها المركب من الجزئين قديماً كذلك.

ولو أضفنا إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما رواية سيدنا معاوية رضي الله عنه التي نقلها الإمامان أحمد و أبوداؤد، والتي تشتمل على الموضوع نفسه الذي تناوله حديث ابن عمرو رضي الله عنهما، لاتّضحت هذه الحقيقة بشكل أقوى. وقد ساق صاحب «مشكاة المصابيح» هذه الرواية بعد حديث ابن عمرو رضي الله عنهما قائلاً؛ «وفي رواية». مما يدل على أن حديث معاوية رضي الله عنه تكملة لحديث ابن عمرو رضي الله عنهما، وأن كليهما يسلطان الضوء على واقع واحد و موضوع واحد وحقيقة واحدة.

وفي رواية أحمد وأبي داؤد: «عن معاوية ثنتان وسبعون في النار، و واحد في الجنة وهي الجماعة». (مشكاة المصابيح ، كتاب الإيمان، باب الاعتصام بالكتاب والسنة)

وهذه الرواية عبّرت عن مفهوم «أنا وأصحابي» بــ«الجماعة» فهي صريحة في أن «الجماعة» المرادة من «أنا وأصحابي» التي فُهِمتْ من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما معنى ، قد نصّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية . وإذًا فإن معنى «أنا وأصحابي» قد اتضح جلياًّ بعبارة النص للحديث المرفوع الذي نص على أن المراد بها هي «الجماعة» ، فلا تعود حاجة في شأن «الجماعة» إلى نقاش استنباطي ومحادثة استدلالية.

وبقي سؤال ، وهو أن حديث معاوية رضي الله عنه لم ينطق بمدلول لكلمة «ما» التي تشير إلى القانون والدستور والسنة النبوية، كما نطق بـ«الجماعة»، فكلمة «ما» بقيت غير منصوص عليها .ولكننا إذا أمعنّا النظر وجدنا أن «السنة» موجودة في مفهوم «الجماعة»؛ لأن جماعة الصحابة لم يكن منهجهم غير منهج النبي عليه الصلاة والسلام وسنته، فمن يجرأ على القول بأن دستور حياتهم كان – معاذ الله – البدعةَ. إنهم كانوا قد انصهروا في بوتقة السنة بحيث عادت السنة وذواتهم شيئاً واحداً؛ فمن ذكرهم وحدهم فكأنه ذكر السنة بعينها. فالجماعة لئن دلت على الشخصيات المقدسة ، فإنها دلت كذلك بشكل عفويّ على السنة التي كانت هي دستور حياتها؛ لأن الصحابة إنما كانوا صحابة من أجل اتّباعهم للسنة هذه وليس لاتّباعهم معاذ الله البدعة. فحديث معاوية رضي الله عنه جمع بين الحقيقتين في كلمة واحدة وهي «الجماعة» ، تينك اللتين أُدِّيَتَا في حديث ابن عمرو رضي الله عنهما بكلمتي «ما» و «أنا وأصحابي». وقد جاء هذا المفهوم للكلمتين منصوصاً عليه في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحو لا تبقى معه حاجة إلى إعمال استنباط:

«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوْهٌ وَّ تَسْوَدُّ وُجُوْهٌ» قال: تبيض وجوه أهل الجماعات والسنة وتسود وجوه أهل البدع والأهواء» («الدر المنثور» ، ج2، ص:112)

وهذه الرواية موجودة في تأريخ الخطيب البغدادي كذلك. وجاءت في هذه الرواية كلمة «الجماعات» مكان «الجماعة» فيمكن أن يكون التعبير بــ«الجماعات» إما أن جاء لأن الصحابة رضي الله عنهم عند ما انتشروا في شتى البلاد، ظهروا في صورة «جماعات» وليس في صورة «جماعة»، أو لأنه قد تعددت الجماعات التي تربت على الصحابة .

على كل حال، فإن هذا اللقب «أهل السنة والجماعة» لهذه الفرقة الحقة الناجية قد ثبت بثلاثة أحاديث وأثر صحابي، مما يؤكد أن ذلك حقيقة محكمة لا تقبل شكاً.

والطائفة التي شكلها النبي صلى الله عليه وسلم بدوره ، والتي عدّ صلى الله عليه وسلم نفسه منها، والتي أطلق عليها صلى الله عليه وسلم بنفسه لقبها «أهل السنة والجماعة» والتي قام صحابته صلى الله عليه وسلم بأنفسهم بنشره، هذه الطائفة لا يعود شك في كونها ثقة ثبتاً حقانية قديمة أصلية . وكفاها ذلك فخراً.

عصارة المبحث:

وعصارة المبحث أن الجماعة التي تحتوي على عنصري «السنة» و «الجماعة» الأساسيين، وتتصل بالقرن الأول بالسند المتصل ، وتتمتع بتوثيق النبي صلى الله عليه وسلم المتسلسل ، وشهد بها الصحابة وعمّ قولهم بها ، إنما تكون هي الفرقة الحقة ، وهي التي تستحق أن توصف بالقدم والأصالة. ولا تستحق ذلك أبداً جماعات وطوائف مستحدثة نشأت كفيض الساعة وسانحة الوقت ، وانقطعت عن أحد من العنصرين . ومن هنا فالطائفة التي تشذ عن الطائفة الحقة هذه ، هي التي تُعَدُّ مثيرة للخلاف. أما الطائفةالتي لا يقوم أساسها على خلاف أو شقاق فلا تُعَدّ مشاقّة مُتَبَنَّيَةً للخلاف والشتات. ولذلك عُدَّ الإيمان كإيمان الصحابة مقياسًا للإيمان، الأمر الذي يبين وجوب طاعتهم واتباعهم:

﴿فَإنْ آمَنُوْا بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا ، وَ إنْ تَوَلَّوْا فَإنَّمَا هُمْ فِيْ شِقَاقٍ، فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ وَ هُوَ السَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ ، صَبْغَةَ اللهِ وَ مَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَّ نَحْنُ لِهُ عَابِدُوْنَ﴾ (البقرة / 137-138)

وهذا اللقب: لقب أهل السنة والجماعة، هو الذي كان من شأنه أن يُبدِيَ جامعية الفرقة الحقة وشمولها واعتدالها ومزاجها الديني الذي تكون لديها من الجمع بين الكتاب وشخصية معلم الكتاب . ولم يكن لقب آخر ليعبر عن هذه الحقيقة تعبيراً دققيقاً. مثلاً : لو كان لقبها في ضوء الاعتبار العلمي «أهل القرآن» أو «أهل الحديث» أو «أهل الفقه» أو «أهل الكلام» أو «أهل التصوف» ؛ وفي ضوء الاعتبار الجماعي «الجماعة الدينية» أو «الجماعة الإيمانية» أو «الجماعة الإسلامية» لتم لحد كبير إحضار مصداق «ما» في الذهن ، وهو القانون أوالملّة أو السنة ؛ ولكنه لم يكن ليتمثل في الذهن مصداق «أنا» وهو الانتماء إلى الشخصيات المقتداة وهداة الطريق ونظام الاستفادة من تربيتهم والصدور عن منهجهم ؛ الأمر الذي هو العنصر الأساسي لمذهب أهل السنة والجماعة. وعندئذ لم يكن ليتجلّى أنهم – أهل اسنة والجماعة – هل وصلوا إلى ما وصلوا إليه من المرتبة عن طريق تعليم وتربية طائفة كانت قد تلقت التربية ، أو أنهم بدورهم أصبحوا جماعة ناشئة بشكل اصطناعي. وكل ما يمكن أن يتجلّى حينئذ هو أنهم دائرون في فلك آرائهم الحرة ، مرتبطون بالورق وحروفه ونقوشه ، ولم يحظوا بمرب يتناولهم بالتهذيب والتربية بالذوق الديني المتوارث. فكانت هذه الألقاب كلها ناقصة غير وافية بأداء المطلوب والدلالة على المقصود.

وكذلك لو كان لقبهم في إطار الانتماء والانتساب «محبّو الرسول» أو «محبو الصحابة» أو محبو أهل البيت» أو «أتباع المحدّثين» أو «أتباع الفقهاء» أو «محبو أولياء الله» لحصلت به الإشارة إلى «أنا» ولكن بقيت «ما» دون أن تستوفي حقها ؛ ولأوْهَمَ ذلك أن هذه الطائفة مُعْجَبَةٌ بالشخصيات ، متعصبة متحزبة ، لا يوجد لديها، سوى فكرة تبني الشخصيات والإعجاب بها، قانون مبدئي و دستور أساسي واضح سويّ، تسير في ضوئه ، فتميز بين الحق والباطل والحلال والحرام. فكانت هذه الألقاب كذلك ناقصة غير مؤدية للغرض. وإذاً فلم يكن للطائفة الحقة لقب شامل سوى لقب «أهل السنة والجماعة» الذي يبين في وقت واحد أنها آخذة بعنصري الهداية: الكتاب والشخصية ، أو بالعلم وأهل العلم ، والذي يسلط الضوء على اتجاهها الديني ومزاجها المذهبي ، ويؤكد أنها جامعة بين المبدئية والشخصية ، وبين البصيرة والاتّباع، وبين الوقار والتواضع ، وبين العلم والحبّ.

ثم إن كل لقب سوى هذا اللقب إنما كان اصطناعياً كالجماعات المستحدثة التي تطلق على نفسها لقباً أو عنواناً مناسباً للظروف التي دعت إلى نشوئها. أما هذه الطائفة الحقة فبما أنها لم تكن طائفة مستحدثة ، وإنما يرجع تاريخها إلى القرن الأول، فلم يكن جائزاً أن يكون لها لقب أو عنوان اصطناعي سوى اللقب الذي كان قد وضعه لها القرن الأول.

وفي حالة كون هذا اللقب ثابتاً بالحديث النبوي وآثار الصحابة ، وشائعاً مشهوراً منذ القرن الأوّل بمشيئة الله تعالى ورغبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن أهل السنة والجماعة ليرضوا بألقاب أخرى اصطناعية محدودة المفهوم قاصرة الأداء، وبطرح أنفسهم كجماعة حديثة وهم جماعة قديمة. ولو صنعوا ذلك لكانوا مصداقاً لقوله تعالى:

﴿أتَسْتَبْدِلُوْنَ الَّذِيْ هُوَ أدْنَى بِالَّذِيْ هُوَ خَيْرٌ﴾ (البقرة /61)

ولكان ذلك كفراً للنعمة وجحوداً للمنة .

أهل السنة والجماعة طائفة أصيلة قديمة:

وخلاصة القول : أن هذه الروايات والواقعات تؤكد بما لا مزيد عليه أن طائفة «أهل السنة والجماعة» طائفة أصيلة قديمة اسماً ورسماً، وصورة وحقيقة ، وذوقاً و مذهباً، ولوناً وصبغةً. وهذه الطائفة جزء أصيل من الإسلام تَمثَّلَ فيه الإسلام منذ يومه الأول. وبذلك فإنها قد وُجِدَتْ في القرن الأول، وفيه وُضِعَ لقبه وعنوانه المذهبي، وفيه عُرِف هذا اللقب وشاع و ذاع؛ وذلك دليل قاطع على قدمها وأصالتها، وعلى أنها لم تُوجَدْ وليدةً للنظريات الطارئة في القرون اللاحقة، حتى تُتَّهَمَ بحداثة أو ابتداع أو زيغ وانحراف . وإنما الثابت المجزوم المسلَّم به أنّ الفرق الأخرى هي التي وُجِدَتْ شاذَّة عنها ومضادة لها وقائمة على العداء لها.

أما هي فلم تقم على خلاف أو على أساس من الجانب السلبي؛ فلقبُها هذا – لاحتوائه على العنصرين – قرآني وحديثي وفقهي وسلفي في وقتٍ واحد؛ وذلك دليل صارخ على أنها مظهر أوّل للإسلام ومورد كامل له.

ثم إنها لم تكن مظهراً للإسلام بالنسبة للقبها وعناصره الأساسية، وإنما كانت مظهراً أتم للإسلام بالنسبة للغرض الأساسي للدين كذلك؛ لأن الغرض الذي حدده القرآن الكريم لهذه الطائفة ضِمْنَ الجمع بين الكتاب والشخصية ، وهو العدل والاعتدال ، جعله بعينه غرضاً للإسلام كله. فعندما قال القرآن الكريم : ﴿لِيَقُوْمَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ وأشار إلى غرض الطائفة الحقة ، نصّ الكتاب والسنة على أن الإسلام إنما جاء ليجعل بني آدم يأخذون بالعدل والاعتدال اللذين لا علاقة لهما مع الإفراط والتفريط. وقد سلط القرآن الكريم الضوء على هذه الحقيقة في مواضع شتى:

  • إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإحْسَانِ. (النحل / 90)
  • اعْدِلُوْا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْوَى. (المائدة / 8)
  • وَ أمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ . (الشورى / 15)
  • إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِيْنَ. (المائدة / 42)
  • قُلْ أمَرَ رَبِّيْ بِالْقِسْطِ. (الأعراف/ 29)
  • كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلّهِ. (المائدة / 8)

وكذلك الحديث النبويّ يقول فيما يتعلق بالعقيدة والعمل في الإسلام:

  • لا تشددوا على أنفسكم فيُشَدَّدَ عليكم. (سنن أبي داؤد. كتاب الأدب، باب (25) في الحسد. رقم الحديث 4883)
  • من شاقّ شقّ اللهُ عليه . (مسند الإمام أحمد . ج4، ص:487. رقم الحديث 15328)

ونهى القرآن الكريم نهياً مؤكداً عن ممارسة الإفراط والتفريط والغلو والمبالغة في أمور الدين؛ لأن هذه العناصر ضد العدل والقسط اللذين يود الإسلام أن يتقيد بهما أبناؤه:

  • لا تَغْلُوْا في دِيْنِكُمْ. (المائدة / 77)

وقال القرآن الكريم في شأن الصلوات الجهرية :

  • لا تَجْهَرْ بِصَلوتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلكَ سَبِيْلاً. (بني إسرائيل / 110)
  • لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُوْلَةً إلَى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوْمًا مَحْسُوْراً. (بني إسرائيل / 29)

وقال في خصوص الفكر والموقف:

  • وَ لاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أمْرُهُ فُرُطًا. (الكهف / 28)

إن هؤلاء الآيات الكريمات والأحاديث النبوية تبين أن الإسلام يود أن يتبنى أتباعه العدل والاعتدال في كل من العبادات والمعاملات ، والسيرة والأخلاق، والماليات والاقتصاديات، والأفكار والنظريات ، وجميع الدينيات والدنيويات؛ وأن يجتنبوا الغلو والمبالغة والتشدد والتطرف. وإنّ هذا الغرض نفسه يتبناه أهل السنة والجماعة، الذين تجري في جميع مبادئهم وأصولهم وفروعهم، وكلياتهم وجزئياتهم، روح العدل والاعتدال اللذين إنما يُوْجَدان بالجمع بين عنصري الهداية: الكتاب والشخصية ؛ ذلك الذي تتجرد منه جميع الطوائف غير طائفة أهل السنة والجماعة ، التي تزهد في أحد العنصرين أو كليهما؛ ودلّ ذلك على أنها – الطوائف – لا تخلو من الغلو والمبالغة والتطرف والتشدد ؛ وبالتالي فإنهامجردة من العدل والاعتدال اللذين جعلهما الكتاب والسنة هدفاً شاخصاً للإسلام ولهذه الطائفة الحقة.. ومن هنا فيجوز أن يقال: إن ما جاء في الحديث النبوي أن الطوائف الاثنتين والسبعين كلها في النار وأن واحدة من الثلاثة والسبعين فرقة التي تفترق عليها الأمة ، ناجية من بينها، هي فرقة أهل السنة والجماعة المُعَبَّرَة بـ «ما أنا عليه وأصحابي».

علماء ديوبند يعضون بالنواجذ على مذهب أهل السنّة والجماعة

النظرة العادلة تؤكد أن ما يتميز به أهل السنة والجماعة من الجمع بين القانون – الشريعة– وبين الشخصيات، والاهتمام بفهم مرادات الكتاب والسنة من خلال درس وتدريس الأساتذة الثقات دون الاعتماد على الرأي الشخصي ، والاعتناء بتحقيق استقامة الفهم وتزكية القلب عن طريق ملازمة المربين الثقات ومعاشرتهم وفي ضوء توجيهاتهم وإرشاداتهم، والتعلق في شعبتي العلم والأخلاق بصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام من خلال السند المتصل ، واحترام السلف والتأدب معهم والاعتراف بعظمتهم فيما يخص الشعبتين؛ كل ذلك مبادئ تُشَكِّلُ بمجموعها مذهبَ أهل السنة والجماعة . وإن علماء ديوبند يعضون بالنواجذ على هذا المذهب بالذات دونما نقص وزيارة.

أما الاستناد العلمي فهناك أسناد القرآن والحديث التي لا يوجد لها مثيل لدى أي أمة من الأمم على وجه الأرض؛ ولكن علماء ديوبند لا يقبلون كتب بقية العلوم والفنون الدينية كذلك إلا إذا كانت مُسْنَدَةً، حتى الكتب الأساسية في الفقه والكلام لا تُعْتَبَرُ إلا مسندة يتصل نسبها بأئمة الفة والكلام الثقات.وبلغوا في الاهتمام بهذا الجانب أنهم لا يعتدّون بكتب التزكية والإجسان الأساسية أيضا إلا إذا كانت ذات سند؛ على حين إنها لا تتعلق بأحكام الحلال والحرام الظاهرة ، وإنما تتعلق بأحكام إصلاح الباطن، التي لا علاقة لها مع قضاء القاضي أو موضوع الحكومت أو ما تقوم عليه الشؤون الدنيوية . حتى إن الأحوال والكيفيات القلبية التي تنشأ من المجاهدة في العبادة وذكر الله عز وجل، لا يُعتدّ بها عندهم – علماء ديوبند – إلا إذا كانت مُتَوَارَثة لها شجرة نسب موثوق بها. بل إن ذوقهم ومزاجهم المذهبي هو الآخر متصل بالصحابة الكرام وصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام بسند متصل.

والشعبة الأولى وهي (العلم والتعليم) لا يمكن أن يتحقق – في الأغلب – فيها السند والاستناد وصحة الذوق وسلامة الفهم للمرادات الربانية وإنزالها في موضعها الصحيحة ، إلا عن طريق الدراسة والتدريس والتربية والتمرين. فلو أخذنا من شعبة العلم علم الكتاب والسنة لوجدنا أن أساسه أيضاً إنما جُعِلَ الدراسةَ والتدريسَ؛ فحينما استنكر القرآن الكريم إعجابَ اليهود برايهم وتقديس النصارى للشخصيات ، وأمرهم أن يكونوا علماء ربانيين ، فلم يجعل الطريق إلى الربانية مجرّد قراءة الكتاب أو مطالعةَ الأوراق، وإنما جعلها – الطريق إلى الربانية – الدرس والتدريسَ ، فقال:

﴿وَلَكِنْ كُوْنُوْا رَبَّانِيِّيْنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُوْنَ الْكِتَابَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُوْنَ﴾ (آل عمران / 79)

يقول العلامة الخازن [علي بن محمد علاء الدين المتوفى 741هـ / 1341م] في تفسيره «لباب التأويل في معاني التنزيل» المعروف بــ«تفسر الخازن» في تفسير الآية :

«أي كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب؛ فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً» (تفسير الخازن: 1/667)

مما يوضح أن «الربانية» إنما تتأتى عن طريق الدراسة والتدريس والتعليم، ولا تتحقق بمجرد تصفّح الأوراق ومطالعة الكتب.نعم لا تتحقق الربانية في غنى عن التدريس والدراسة كما لا تتحقق إذا كان التشاغل بهما بسوء النية أو بسوء الهدف، وإذاً فلا يكون الذنب هو ذنب الطريق، وإنما يكون الذنب هو ذنب النية التي تعني أن صاحبها لا يود أن يكون ربانياً.

وحين خاطب الله تعالى اليهودَ والنصارى بقوله «وَلَكِنْ كُوْنُوْا رَبَّانِيِّيْنَ﴾ فكأنّه نبّههم قائلاً : أيها اليهود والنصارى! إذا كنتم مشتغلين بالدراسة والتعليم اللذين هما المؤديان حتماً إلى الربانية، فلماذا لم تُوَفَّقُوْا أن تتحولوا ربانيين ؟ فلماذا ارتكبتم جريمة الإشراك بالألوهية والإشراك بالنبوة والإشراك بالكتاب؟. ومعنى ذلك أن هناك خللاً في نيتكم .

ودل ذلك دلالة واضحة على أن الطريق إلى الربانية أو بكلمة أخرى أن الطريق إلى تحصيل العلم الديني حسب القانون العاديّ الأغلب إنما هو الدراسة والتدريس، وليس مجرد قراءة الكتب أو دراستها. فلو لم ينتهج أحد هذه الطريق المؤدية إلى الربانية، أو انتهجها بسوء نية وبأسلوب خاطئ، لما استحق أن يُسمّى ربانياً أو عالماً دينياً؛ لأنه في هذه الحالة لم ينتهج طريق العلم الصحيح.

ومن البين أن الدرس والتدريس والتعليم والتربية أمور إنما تتعلق بالشخصية وتتوقف عليها، ولا يمكن أن تتحقق بمجرد معالجة الأوراق وفي غنى عن الأستاذ المربي ومصاحبته وتمرينه وترويضه. فقد كانت أوراق الكتاب من قبل بيد اليهود وكانوا يقرؤونها ؛ ولكنهم كانوا محرومين من تعليم المعلمين وتربيتهم ، وكانوا قد اقتصروا على قوة الدراسة منصرفين عن الشخصيات المقدسة ، مما جعلهم يشب زيغهم النفسي. ومن ثم قال التابعي الجليل الإمام ابن سيرين [أبوبكر محمد المتوفى 110هـ / 729م]. «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» (مقدمة صحيح مسلم ، ج1، ص78، باب بيان أن الإسناد من الدين، ط: دار الكتب العلمية، بيروت)

وإذا كانت الحال هذه فإنه سواء أكانت المسائل المُسْتَمَدَّة من مجرد ألفاظ النصوص أو المستقاة من مجرد إعمال التفكير – الذي يكون لا دخل فيه لتربية المربين أو تعليم المعلمين، ولا للذوق المُتَوَارَث والتهذيب الفكري – فإنه لا يعود هناك طيق لفهم المرادات إلا تخيل النفس غير الحظيّة بالتربية ، الأمر الذي ليست له أي قيمة فيما يتعلق بالدين. حتى لم يستثن الله عز وتبارك شخصَ النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من هذا الأسلوب للتعليم، وإنما قام تبارك و تعالى بنفسه بتعليمه صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيْمًا﴾ (النساء / 113)

وإذا كان الأمر كذلك فإن أمته صلى الله عليه وسلم كانت أحوج ما تكون إلى ذلك؛ فجعل صلى الله عليه وسلم هذه الطريق نفسها لأمته، فقال: «إنما بُعِثْتُ معَلمًا». (رواه ابن ماجة في مقدمة سننه/ باب فضل العلماء)

وجملة القول: إن تحصيل العلم في مذهب أهل السنة والجماعة المُتَّبَع من لدن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما يتوقّف على العالم المربّي الثبت المسند، ولا يتعلق بمجرد أوراق الكتاب. ولذلك فإن علماء ديوبند كذلك اتّخذوا تعليم و تدريس المعلمين الثقات أساسًا تعليميّاً لهم، سالكين في ذلك مسلكَ أهل السنة والجماعة . واختياراً منهم لأسلوب أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالتعليم ، أقاموا شبكة من آلاف المدارس الإسلامية في داخل البلادوخارجها ، تلك التي لا تقوم على الخطابة والوعظ فقط، وإنما تقوم على الدراسة والتدريس.

أما تطهير الأخلاق وتزكية القلوب فقد جعل في شأنه علماءُ ديوبند التزكية والتربيةَ مبدءاً أساسيّاً . والمنهج المتبعُ في ذلك هو توجيه المربي، وتقوى الله ، والمجاهدة في العبادة، وترويض النفس عليها؛ حيث لا يمكن بدون ذلك أن تترسخ في القلوب الكراهيةُ تجاه الكبائر والصغائر ، والرغبةُ في الطاعات والعبادات؛ ولذلك فقد اعتبر الله عزّ وجل بيعة أوليائه لنبيه صلى الله عليه وسلم بيعةً منهم له تعالى:

﴿إنَّ الَّذِيْنَ يُبَايِعُوْنَكَ إنَّمَا يُبَايِعُوْنَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيْهِمْ﴾ (الفتح / 10)

وعلى ذلك فإن الله تعالى لم يَدَعْ عباده يقتصرن على المُدَوَّن من فن الإحسان أو المصطنع الموضوع من الرياضات، وإنما دلّهم في هذا الصدد على الأصل الأصيل وهو التقوى ، وعلى ما تؤدي إليه من النتائج الخيرة، وعلى التمرن عليها بشكل ثابت ، فقال تعالى:

﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ (البقرة / 282)

وقال في معرض الحديث عن الخضر عليه السلام :

﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف / 65)

وكذلك فقد تكفل تعالى تعليمَ و تربيةَ الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كما تنص على ذلك آيات عديدة في القرآن ، نعرض عن سردها تفادياً من الإطالة.

فعلماءُ ديوبند أيضاً اعتمدوا فيما يتعلق بإصلاح الأخلاق وتزكية النفس على أسلوب التزكية والتربية ، وخرّجوا مشايخ ربانيين عملوا على تعميم «الإحسان» الذي دلّ عليه الكتاب والسنة؛ وذلك عن طريق التزكية والتربية ، وبذلك فقد استطاعوا القيام بإصلاح قلوب الآلاف من الناس.

وكما هو المعلوم أن هذين القسمين : العلم والأخلاق أو علم الظاهر وعلم الباطن، أوجِبَ في شأنها صحبةُ الصلحاء ومعيّةُ الأتقياء؛ حيث لا يُتَصَوَّرُ أن تعود بدون ذلك المفاهيمُ والمراداتُ العلميةُ جزءاً من الذهن الإنساني، وأن تثبت الأخلاق الظاهرة والقيم المثلى في القلوب ، وأن تتكيف الروح مع الأحوال الطيبة والخواطر الصادقة . ومن الواضح أن هذا الغرض لم يكن ليتحقق بمجرد الفتوى ما لم تصاحبها التقوى التي لم تكن لتكون فاعلة ما لم تعاضدها صحبة الصديقين ؛ ولذلك فقد قرن القرآن الكريم الأمر بالتقوى مع الأمر بصحة الصادقين، فقال:

﴿يَآ أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوا اللهَ وَ كُوْنُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ﴾ (التوبة / 119)

وكذلك فقد اعتبر القرآن هذه المعيةَ مصدراً لانشراح الصدر والحالات الباطنة والأفعال الحسنة للقلوب؛ فلما نشأ في قلب أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعضُ القلق من أجل الملابسات، طَمْأنَه النبي صلى الله عليه وسلم بالإحالة إلى هذه المعية ، فقال:

﴿لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (التوبة / 40)

وجملة القول أنه سواء أكان تحصيل العلم أو تكميل الأخلاق، إن الإسلام يطرح الاتّصال في الإسناد من العلماء الربانيين فيما يتعلق بالعلم وصحبة الصالحين وإصلاح الأخلاق، يطرحه كحجر للزاوية. ولذلك فقد انصبَ اهتمامُ علماء ديوبند أيضاً فيما يتصل بتعليمهم الظاهر والباطن على التقوى الداخلية وصحبة عباد الله الصالحين الخارجية؛ وذلك اتّباعاً منهم للسلف الصالح.

علماء ديوبند من أهل السنة والجماعة في الصورة والحقيقة:

ومجموع هذه الأمور الأساسية هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي يأخذ به علماء ديوبند بشكل متكامل ، بل يصح أن يقال: إنهم بدورهم أهل السنة والجماعة اسماً و رسماً، وصورة وحقيقة، وعلماً و عملاً، وذوقاً ووجداناً. فلا حاجة إلى شرح اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي بشكل مستقل؛ بل إن ما أسلفناه من الاتجاه الديني والمزاج المذهبي لأهل السنة والجماعة ، في الصفحات الماضية ، وما دل على أسسه الكتابُ والسنة، هو نفسه تفصيل للمزاج الديني لدى علماء ديوبند ؛ فهم ليسوا بحاجة إلى شرح مزيد وتفصيل جديدٍ أو لقب مستحدَث، وفعلاً ليس لهم لقب مستحدث. أما «الديوبندي» أو «القاسمي» فهو لقبهم التعليمي الانتمائي ، وليس لقبهم المذهبي والطائفي، كما يحاول معارضوهم أن يعرَّفوهم في الجماهير كفرقة مستقلة ، وهم براء من هذه التهمة ، كما أوضحنا ذلك في البنود التمهيدية.

فهم – علماء ديوبند – لسوا أهل سنة مصطنعين حتى يُطْلَقَ عليهم لقب «الطائفين» وليسوا من أهل السنة المزعومين الذي ولدتهم الحوادث والسوانح أو الطقوس والتقاليد الرائجة المُبْتَدَعَة ، ولا يحملون دستوراً سماوياً؛ وليسوا فرقة متحررة لا يشرف عليها المعلّمون الثقات والمربون المهذبون ، فيكونون لا يستندون إليهم ولا يصدرون عنهم ؛ بل إن ذوقهم وعملهم ، وهيئتهم العملية، كل ذلك يُوْجَد لديهم متوارثاً متصلاً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ماراً بالسلف الصالحين فالرعيل الأول من الأمة.

ومن أجل تشاغلهم الدائب المستمر بعلوم الكتاب والسنة تعلماً وتعليماً وفهماً وتنزيلاً وتطبيقاً، تَوَلَّد لديهم الشعُورُ القويّ بما يرضاه الله ولا يرضاه؛ وبالحلال والحرام، وبالمكروه والمستحب، وبالسنة والبدعة، وبالتوحيد والشرك، وحصلوا على العلم المُفَرِّق بين ما يصح وما لا يصح. الأمر الذي لم يكن ليُوْجَد بدون التقوى:

﴿إنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ (الأنفال / 29)

وفي جانب آخر أكسبتهم ملازمة الشخصيات المربية الصالحة ، وحبُّهم والإعجاب بهم، والتربي عليهم، والصدور عن تهذيبهم وتثقيفهم ، عواطفَ فائضةً من الحب: الحب لله ولرسوله وللصحابة وأهل بيت الرسول والأئمة المجتهدين و أولياء الله والعارفين به والعلماء وحكماء الإسلام . الأمر الذي لم يكن ليُوْجَدَ بدون المداومة على الذكر والتفكير في جانب الآخرة ، والإنابة إلى الله ، والانصراف إلى كتاب الله، وسنة رسوله تعلماً وتعليماً و نشراً و تعميماً ، أي عندما يكون الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿اَلَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ اللهَ قِيَامًا وَّ قُعُوْداً وَ عَلَى جُنُوْبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُوْنَ فِيْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ﴾ (آل عمران / 191)

وإلى جانب ذلك أكسبهم الجمعُ بين الكتاب والشخصية ، أي بين عنصري الهداية كليهما، الاعتدالَ والاتزان وسعة الأخلاق.

إن حبهم للشخصيات الصالحة زوّدهم بالتواضع لله وإنكار الذات. الأمر الذي حال دونهم ودون الغلو والاستكبار والغرور يتسرب إليهم. أما العلم بالكتاب والسنة فقد أكسبهم المعرفةَ بالحدود والمراتب والمراكز ، مما أثار فيهم الإباءَ والاعتدادَ بالنفس؛ فتفادَوا من الذل النفسي لصالح الخلق والعبودية لغير الله تعالى. وعلى ذلك فهم – علماء ديوبند ليسوا متورِّرطين في الشبهات التي كانت دائماً فتنةً للعلماء، والتي أوقعت اليهود في الكبر والاستعلاء والجحود والنكران؛ وبالتالي جعلتهم مغضوباً عليهم. وليسوا مُسْتَعْبَدِيْن للشهوات والأهواء التي كانت دائماً فتنة للعاملين ، ومؤدية إلى البدع والمحدثات ؛ وبالتالي إلى الشرك ، والتي جعلت النصارى عبيداً للشخصيات المقدسة فانتهوا إلى الضلال؛ بل إنهم تجنبوا طرفي الغلو كليهما، وصاروا جماعة حقيقية لأهل الحق، لا يصح أن يُطْلَقَ عليها إلا «أهل السنة والجماعة» فهم مُتَفَادُوْنَ من الإفراط والتفريط وقائمون على الاعتدال؛ وعلى ذلك فهم متواضعون وأبَاةٌ ، منكرون لذواتهم ومحتفظون بشخصياتهم ، أغرارٌ ولكن لا يغرّون أحداً ، مطيعون للسلف ؛ ولكنهم بعيدون كل البعد عن تصور ربوبية الخلق، غير مُعْجَبِيْنَ بأنفسهم ؛ ولكنهم يتمتعون بالطموح ، فهم «كتابيون» و «شخصانيون» في وقت واحد.

فهذا اللقب المركب من «أهل السنة والجماعة» لا ينطبق على طائفة بمثل ما ينطبق عليهم لامتيازهم بالصفات والخصائص التي أشرنا إليها. ولكل من اسمه نصيب.

وخلاصة القول أن مذهب علماء ديوبند و مزاجهم المذهبي لا يقتصران على «السنة» وحدها، حتى يصيروا جماعة قد نشأت آخذة فقط بمفهومها اللفظي أواللغوي، صادرة عن نزعاتها الشخصية ، فتتعرض للأمواج المتلاطمة في خضم «السنة» أو «القرآن» تعرضاً عشوائياً تُمْنَى به لثقتها برأيها الشخصي ، فلا تجد دالاًّ يهديها للصواب.

وكذلك لم يتكون مزاجهم من مجرد «الجماعة» حتى يصبحوا طائفة متعصبة ، صادرة عن الإعجاب الزائد بالشخصيات ، والثقة المطلقة والمحاكاة الظاهرة لكل قول من أقوالها، وكل فعل من أفعالها، وكل حال من أحوالها؛ فلا تحمل دستوراً، ولا تسير في ضوء من الدلائل والبينات؛ وإنما يكون جل اعتمادها على تقليد الآباء والأجداد.

إن علماء ديوبند يتجنبون جانبي الإفراد والتفريط لكلتا الطائفتين هاتين، فهم يحملون قانون الشريعة أي الكتاب والسنة والفقه الناشئ منهما، ويحملون قانون الإحسان والتزكية والتربية التي يقوم بها أشخاص المربّين من العلماء الربانيين الصالحين.

وعلى ذلك فهم يتمتعون بالطريق وبهداة الطريق وبالصراط و بــ«الَّذِيْنَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» وبسبيل الإنابة وجماعة المنيبين. وباجتماع العنصرين استقرَّت قلوبهم على الاستقامة ، فتوصّلت إلى مرتبة «القلب السليم» وتمتعت نفوسُهم بالتعليم والعلم بالأحكام، وبمعرفة ذات الله تعالى وصفاته ، وحب الله عز و جل والخشية منه.

وعلى ذلك فاتجاهُ علماء ديوبند الديني أو مزاجهم المذهبي إنما تَشَكَّلَ باجتماع «السنة» و «الجماعة» ؛ ولذلك فتسري روح الاعتدال والتوسط في جميع أحوالهم وكيفياتهم من المُعْتَقَدَاتِ والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والسياسيات والاجتماعيات.

ومن ثم فبموجب مذهبهم المركب من «الشخصية» و «القانون» لم يكن منهجهم في فهم مرادات الكتاب والسنة ذلك المنهجَ الذي عم اتباعُه في هذا «العصر الجاهلي» حيث قد نهض المُثَقَّفُوْنَ المزعومون والمفكرون المزعومون ليتخذوا منهجاً لفهم مرادات الكتاب والسنة حسب هواهم. ومن المناهج المصطنعة تلك الرأيُ المجرد الذي يُتَّخَذُ نظراً لأوراق الكتاب والسنة وحروفهما وبمساعدة من الذهن – ذهن القارئ –ويُعْتَبَرُ ذلك الرأي هو الرأيَ الربانيَّ. ومنها الاعتماد على مجرد لغة العرب، أي تحديد الرأي الرباني في ضوء مجرد أساليب العرب في الكلام واستناداً إلى العلم بالعربية والبراعة في الأدب العربي. ومنها الاعتماد على التقاليد والاتجاهات الشعبية، أي يُصاغ ا لكتاب والسنة في قالبها، ويُقَرَّرُ للنصوص المعاني التي تتبادر في ضوء تلك الأعراف والتقاليد التي تتبعها عامة الناس. ومنها الاستناد إلى مُقْتَضَيَات العصر، أي تُتخذ مُقْتَضَيات الحاضر عماداً ودليلاً لفهم مرادات النصوص، ويُصْهَرُ ما في الكتاب والسنة في قالبه، و يقال: إن ذلك هو المراد الإلهي. وما إلى ذلك من الطرق التي اصطنعها الناس من عند أنفسهم.

ولكن مذهبَ علماء ديوبند يختلف في هذا الشأن عن جميع هذه الطرق المصطنعة المُتَّبَعَةِ؛ فهم لا يعتمدون في فهم نصوص الشريعة على الرأي ، ولا على مجرد التضلع من اللغة العربية ، ولا على التقاليد والأعراف، ولا على الأساطير والحكايات، ولا على نظريات العصر ومُقْتَضَيات الزمان؛ وإنما يعتمدون على التعليم والتربية القائِمَيْن على العنصرين الأساسيين؛ الكتاب والسنة ، والمعلم المربي ، الذكي القلب ، الثاقب النظر ، الزكي الفؤاد، مع الشرطين الهامين، وهما: الإسناد والنفسيّة التي هذّبتها التربية المُتَوَارَثَة؛ كما يتمثَّل ذلك في أن الصحابة تعَلَّموا الكتاب والسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وأن التابعين تعلّموهما من الصحابة ، وأن أتباع التابعين تعلّموهما من التابعين ، وأن الأجيال اللاحقة أخذتهما ممن سبقها بشكل متَوَارَث وبإسنادغير منقطع وبسلسلة متصلة؛ وكسبت فيما يتعلق بفهم القرآن والحديث، بصحة من فوقها وتربيتهم ، ذلك الذوقَ المُتَوَارَث الذي كانوا يمتازون به، وعن تعليمهم وتربيتهم تلقَّوا مرادات الكتاب والسنة المقررة من عند الله تعالى. وتلك هي الطريقة التي لا يزال يتوارثها الخلف عن السلف بالسند العلمي والعملي، ومن خلالها ظلت تُرَسَّخُ في الأذهان المراداتُ المُتَوَارَثة المنتقلة من الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنه إلى الصحابة ، ومنهم إلى التابعين ، ومن أتباع التابعين إلى الأجيال التالية المتلاحقة لحد اليوم. ولم يكن بالإمكان أن تكسب الأذهانُ أهليةَ هذا الانصباغ وتلقّي هذه المرادات المأثورة من خلال مجرد الورق، أومجرد الدراسة ، أو الأعراف والتقاليد ، أوالظروف الموقتة، والملابسات الحاضرة، أو النظريات التي يطرحها الزمان ، أو اللغة والأدب، أو الأساطير والقصص، ما لم تتمتع بتربيةوصحبة الشخصيات المتذوقة للشريعة ، المتشربة لروح الدين.

ومن الحقيقة الجلية أن الهداية الحاصلة من اجتماع العنصرين، ستكون مُنَزَّهَةً من الإفراط والتفريط، قائمةً على الاعتدال . ومن الطبيعي أن المهتدين بها سيتمثّل فيهم الاعتدالُ الذي يؤدي أولاً إلى تجردهم كلياً من العنصر الفاسد للعصبية الجاهلية.

ومن ثم ظل علماء ديوبند المتلقّون للتربية عن هذه الطريق ممتازين بنزاهتهم، من حيث المجموع، من خصائل الجاهلية تلك؛ وظلوا دائماً على مستوى مثاليّ من الاعتدال والتوازن، مسالمين مع الجميع، بعيدين عن التورط في النزاع القائم على التعصب مع الطوائف الإسلامية؛ وإنما ظلوا ينظرون إليها نظرةَ الأخوة والمسالمة، ولم يزالوا يَسْعَوْنَ لجمعها على نقطة من الاعتدال.

نعم، ولكنه لئن وُجِدَ من تحامَلَ بسوء الأدب على مذهب الاعتدال لأهل السنة والجماعة، أو أساء الأدب مع السلف الصالحين أوالأئمة ، أو تجرّأ على تخطئتهم، أو اصطنع ممشىً بجانب جادّتهم ؛ فإنهم إذاً لم يلازموا السكوت، وإنما نهضوا للدفاع عن ذلك بشكل موضوعيّ جادّ مُعَضَّدٍ بالدلائل. ولكنه لا يجوز أن يُوْصَفَ موقفهم ذلك بـ«النزاع» أو بــ«العصبية» أو بـ«حمية الجاهلية» وإنما الواجب أن يوصف بـ«دفع النزاع» و «محاربة الشقاق» لأنهم امتثلوا ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أحْسَنُ﴾ (النحل / 125). فلا يخدش ذلك كونَهم مسالمين مع جميع الطوائف؛ لأن تأريخهم الممتدّ على أكثر من قرن و ربع قرن دليل ناطق على ذلك.