إلي رحمة الله
الموف حقٌّ ، وليس له وقتٌ في علم الإنسان رغمَ تقدّمه الذي يَتَبَاهَىٰ به بشكل مُتَنَاهٍ ، وإن كان له في علم الله أجل مُسَمًّى لايستأخر عنه حيٌّ ولايستقدم. نُجَرِّب ذلك صباحَ مساءَ . وقد تحدُث أمامنا وفياتٌ تُؤَكِّد لنا قدرةَ الله المطلقةَ على الإماتة متى يشاء . كان الشيخ المفتي كفيل الرحمن نشاط العثماني الديوبندي – أحد المفتين بقسم الإفتاء بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند – موفورَ الصحة والنشاط، مفعمًا بالحيوية رغم طعنه في السن وبلوغه 67 من عمره، يبدو بتحركه ومشيته شابًّا في العشرين أو الخمس والعشرين سنة من عمره ، كنتُ أراه في رحلات ذهابه إلى الجامعة مُغِذَّ الخُطَىٰ، مسرعَ المشية ؛ فأَغْبِطه على صحته وفعّاليته ، وأقول في نفسي وللطلاب الذين قد يرافقونني إلى الجامعة : يا ليتني كنت مثلَه في النشاط والابتعاد عن الأمراض.
ولذلك استغربتُ كلَّ الاستغراب عندما تسامعتُ في نحو الساعة العاشرة والنصف صباحًا من يوم الثلاثاء : 6/رجب 1427هـ الموافق 1/أغسطس 2006م ، على ألسنة بعض الطلاب ومن على منارات المساجـــد بديوبند ، نعيَ وفاته – رحمه الله – التي كانت في نحو الساعة العاشرة والـــربع . وكــدتُ أُنْكِرها لو لم يحصل أنَّ الإعلاناتِ عنها تَكَـرَّرَتْ ، والزائرين لبيته بعد وفاتـــه ، والملقين عليـــه النظرةَ الأخيـــرة وهــو ميّتٌ ، لَقُونِي ونَعَــوْه إليّ مباشرةً . وقد أفاد أهلُه أنه أصبح مصابًا بحمى خفيفة ، وقبل العاشرة بقليل شَعَرَ ببعض الألم في يديه ، وخلال ذلك أصابته نوبـــةٌ قلبيةٌ ، وما هي إلاّ دقائق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة . وكلُّ ذلك قــــد حَـــدَثَ وكأنّه طيف قد مَـــرَّ كالبرق لا يُصَدِّقـــه الـرائي ولا يُكَذِّبه . إن مثلَ هـــذا الحادث يؤكـــد من جديد للإنسان – الـــذي يحالفــه التوفيقُ للاعتبار والادّكار – أن الدنيا دارُ فناء وأن كلَّ حي مُعَرَّضٌ للهلاك كلَّ وقت ، وأنّ الحياة غيرُ جديرة بالثقة ، وأنّها مفطورة على الجفاء وعدم الوفاء ، وأنها سنواتٌ أو شهورٌ أو أيـــامٌ أو ساعاتٌ معــدوداتٌ ، وأنها لا تدوم لأحد مهما مَلَكَ من الدنيا كلَّ سبب وجَمَعَ من وسائلها كلَّ نوع ، وتَمَتَّعَ بكل قوة وسلطة ، وسيادة ومنعة .
أَحْزَنَ موتُه المُفَاجِئُ كلَّ صغير وكبير من المسلمين في ديوبند ، وهرع إلى بيته كلُّ من تَسَامَعَ بموته يُعَزِّي أهلَه وذويه، وشمل الحزنُ والألمُ الوسطَ الجامعيَّ ؛ حيث كان يعمل مفتيًا منذ نحو 35 عامًا في دار إفتائها ، وحَرَّر أجوبةَ مئات من المسائل التي وُجِّهت إلى دارالإفتاء استفتاءً فيها . وكان رجلاً صالحًا يخزن لسانَه وقلَمه إلاّ فيما يعنيه في الدين والدنيا ، وكان وجهُه وجميعُ مظاهر سلوكه تنطق بتديّنه وتمسّكه بالشرع ؛ فكان عالمًا عاملاً لايَكْثُرُ أمثالُه في دنيا اليوم ، وكان متقيدًا بالمواعيد ، محافظًا على الأوقات ، يستغلّ الفرصَ ولا يَدَعُها تضيع هدرًا، وكان يحضر الجامعةَ بمجرد بدء الدوام ، ولايتخلّف عن الميعاد ولا لادقيقة واحدة . وكان يؤمّ منذ سنوات طويلة في المسجد الصغير الذي ظَلَّ يؤم فيه أبوه العالم المقرئ جليل الرحمن العثماني (1325-1416هـ = 1907-1995م) وجدّه المفتي عزيز الرحمن العثماني (1275-1347هـ = 1858-1928م) رحمهما الله تعالى – وكان سكوتُه الدائمُ الذي تخترقه الحاجةُ الملحةُ للكلام ، يَشِي بتفكيره العميق ، وعقله الناضج ، وتجربته المختمرة ، وإيثاره التعمقَ على السطحية، والجدّ والوقار على الهزل والتصرف الأخرق ، وكان يعلم أن السكوتَ الدائمَ أجدى من الكلام الهاذي الذي لاينفع صاحبه فضلاً عن غيره .
وكانت له مقــدرةٌ على الترسّل باللغة الأردية ، فكان ينشئ بها مقالات وكلمات من حين لآخر في شتى الموضوعات الإسلامية ، تنشرها المجلات الأردية المحلية والصادرة في الهند . وكان لديه ميلٌ إلى قول الشعر في الحاجات التي تمسّه فـــردًا وجماعةً ، وكان يقول الشعر بأنواعه المتعـــــددة ، وظلت المطبوعات الأرديــــة والدورية والشهرية تنشر أبياته . وطُبِعَ له ديوانُ شعر باسم «شناسا» (المتعارف) يقول رحمه الله في أحد أبياته :
أيها الباحثُ عن الراحة والعافية في الحياة !
إنّ الحياةَ ليست كلُّها شمسًا ولاكلُّها ظلاًّ
ويقول :
إن تجاربَ الحياةِ عَلَّمَتْني من هو القريب ومن هو البعيد ؟!
إن الحَصَيَاتِ والصخورَ والجدرانَ والديارَ كلُّها ضَمَّتْنِي وبَكَتْنِي .
فالمدينةُ الغريبةُ بَدَتْ لي مُتَعَارِفَةً عَلَيَّ منذ سنوات طويلة .
وبَدَا لِي من كنتُ أظنُّه مُوَاسِيًا ظَالمًا ،
وبَدَا من كنتُ أَحْسَبُه قَاتِلاً وَاهِبًا للحياة
ومن كنتُ أَظُنُّه مُدْمِنًا للخمر
رأيتُه عن كَثَبٍ فوَجَدْتُه مَلَكاً
ويقول :
إنّ رحلاتِ الأحلام كَخَدَشَاتِ الحقائق
وبلادَ الذكرياتِ كلُّها كفراشٍ من الكآبة
وكلُّ صورة من الألم كصورةٍ خالبةٍ للفؤاد
وكلُّ أسلوبٍ للطَّرَب كجراحة من الألمِ
وهكذا فأبياتُه تُعَبِّر عن آلام الحياة المتجددة السيّارة المتقدمة التي تحقق انتصارات باهرة في جانب ، وتُمْنَىٰ بإخفاقات وهزائم منكرة في جانب آخر .
ومن رَأَى الشيخ المفتي كفيل الرحمن نشاط ، في سحنته البريئة ، ووجهه الساذج ، وسكوته الملازم ، وصمته المطبق ، وعزلته عن الناس التي تغلب احتكاكَه بهم ، لم يتبيّن قطّ أنه شاعر متعمق في المعاني المعبّرة عن آلام وأحلام الأمة الحيّة الساخنة . ولكن الساكت قد يكون متكلمًا تكلمًا أكثر من الذي يبدو متكلمًا في كل مناسبة، والمتكلم قد لا يتكلم بالمعاني التي يتكلم بها الصامت المفكر في الحياة وحقائقها ، وفي الكون وأسراره ، وفي الإنسان وأغواره ، وفي الدنيا وعجائبها التي لا تنتهي .
وصُلِّي عليه بعد صلاة المغرب من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء : 6-7/ رجب 1427هـ = 1-2/ أغسطس 2006م في «محيط مولسري» الشهير بالجامعة . وأَمَّ الصلاةَ عليه شقيقُه الأكبر الشيخ المفتي فضيل الرحمن هلال العثماني الديوبندي ، ووُرِّيَ جثمانُه بمقبرة الجامعة المسماة بـ«المقبرة القاسميّة» بجوار جدّه العظيم العبد الصالح المفتي عزيز الرحمن العثماني رحمه الله (1275-1347هـ = 1858-1928م) . وكانت الصلاةُ عليه مزدحمة حيث حَضَرَه معظمُ طلاّب الجامعة وأساتذتُها ومنسوبوها إلى جانب الحشد الهائل من أهالي ديوبند ، قامتدّت الصفوفُ من مبنى «نودره» إلى خارج البوّابة الرئيسة المُسَمَّاة بـ«بوابة قاسم» .
خَلَّفَ – رحمه الله – وراءه زوجتَه وخمسةَ بنين وبنتين . كان المفتي كفيل الرحمن وَرِثَ العلمَ والفضلَ والصلاحَ كابرًا عن كابر ! فقد كان والدُ جدّه : الشيخ فضل الرحمن العثماني الديوبندي (1247- 1325هـ = 1831- 1907م) أحد مؤسسي الجامعة وأحد المتبرعين الأولين الستة الذين جمعوا رأس مال أساسي لتأسيسها من جيوبهم وشغل عميدًا لها في بعض الفترات ، وظل يهتم بها عبر حياته . وكان جدّه المفتي عزيز الرحمن من كبار عباد الله الصالحين المتخرجين من الجامعة وشغل منصب المفتي الأكبر بها مدة طويلة ، وأصدر بقلمه من الفتاوى في القضايا المستجدة المسؤول عنها ما يربو على مائة ألف وخمس وعشرين ألف فتوى ، كما صرّح بذلك الرئيس السابق للجامعة الخطيب الإسلامي الكبير الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي رحمه الله تعالى (1315-1403هـ = 1897-1983م) وكان والده المقرئ جليل الرحمن أستاذًا للتجويد والقراءات بالجامعة عبر حياته ؛ فما كان يتمتع به من الصلاح ، وخزن اللسان ، والكلام عند الحاجة الملحة ، والتفكير في ما يعنيه ويعني أمته المسلمة ، والالتزام بالمواعيد ، والاهتمام بوظائف الحياة المُسْنَدَة إليه اهتمامًا بالغًا، مما كان يشكّل لديه قيمة كبيرة لايُخِلُّ بها مهما كانت الحالُ ؛ كان قد وَرِثـَه عن آبائه الكرام الذين تَوَافَرُوا على العمل بالدين وخدمته .
لا أزال أَتَمَثَّله وهو يطلع عليّ كلَّ يوم تقريبًا بعد صلاة الظهر مباشرةً من قبل مسجده الصغير وبيته المُتَوَارث وجهة بيت الشيخ أنظر شاه الكشميري وفي المساحة الممتدة بينه وبين الناحية الشماليّة من «مسجد تشته» يتأبّط حقيبته الصغيرة التي ملؤها الأوراق ، ويتجاوزني دائمًا إلى بوابة الجامعة الرئيسة بخطاه المسرعة كالسيارة التي تمرّ بجنب المشاة ، وكأنّ أحدًا يلاحقه ويكاد يسلبه حقيبتَه أو شيئًا من ما عنده من الغالي الباهظ الثمن فهو يهرب مُنَاهِبًا الطريقَ أمامي .
لم يتيسر لي أن أخاطبه في الطريق ولا في غيرها ، ولم يفاتحنى بكلمة قط منذ أن بَدأَ بيني وبينه «السباق» في رحلات الوصول إلى المدرسة : منذ أن بدأتُ أسكن مع العائلة في سكن الجامعة العائلي المسمى بـ«أفريقي منزل قديم» الملاصق لمسجد تشته، منذ نحو 17 عامًا ؛ ولكني كنت أُحَادِث سرعتَه ونشاطَه ومشيتَه الحثيثَةَ التي كان يحاكي فيها الصبيةَ الذين لاَ يَتْعَبُون من المشي والجري ومسابقة أمثالهم. كنت لا أعرف من حياته إلاّ القدرَ القليلَ الذي يماثل المسافة المكانية القليلةَ التي كنت أصادفه فيها كلَّ يوم تقريبًا في ذاك المكان الذي أشرتُ إليه ، ومن خلال ما قرأتُه من شعره المطبوع ونثره المنشور في شتى المجلات وما سمعتُه على ألسنة بعض الإخوة العارفين به من طلاب الجامعة وأساتذتها وأبناء ديوبند الداخلين عليّ من حين لآخر . وذلك كلّه نحت له صورة جميلة حبيبة لديّ ستظلّ حيّة شاخصة في مخيلتي ما أحيى : صورة رجل مضبوط الأوقات ، متوفر على المسؤوليات ، مهتمّ بالغايات ، محافظ على الصلوات بالجماعة ، مقدّر للصلاح والعلم اللذين تَوَارَثـَهُما عن آبائه ، مُحَاوِلٍ أن يكون على مستوى هذا الشرف من التوارث .
جزاه الله خيرًا ، ورَفَعَ درجاتِه في الجنة ، وأَلْهَمَ أهلَه وذويه الصبرَ والسلوانَ . ولله ما أَخَذَ وله ما أَعْطَى ، وكلُّ شيء عنده بمقدار ، وما كان كائنًا فَكَأَنْ قد .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1427هـ = أكتوبر – نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.