الحج فريضة إسلامية كبرى، وأحد أركان الإسلام الخمسة، يقول الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿وَلِلَّهِ ‌عَلَى ‌ٱلنَّاسِ ‌حِجُّ ‌ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران:97]. وقد تمالأ العلماء المسلمون على الاستدلال على وجوب الحج بهذه الآية التي نزلت سنة ثلاث من الهجرة. وعن ابن عمر¶ قال: قال رسول الله ﷺ «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»[البخاري:8].

         والناظر في الأعمال والتشريعات الإسلامية يرى بوضوح أن الله تعالى شرع لعباده أحكامًا ومجاهدات عدة لتزكية النفس وتطهير القلب فضلًا منه و رحمةً بهم. والصلاة والصوم والأضحية و نحوها؛ كل ذلك يدخل في مجاهدات النفس هذه. فالمجاهدات على نوعين: نوع يغلب فيه التعقل، والثاني ما لايغلب فيه التعقل؛ بل يغلب فيه الطبيعة والتعبد. والسر في هذا التنوع أن حاصل المجاهدات قهر منازعات النفس أي قهر القلوب التي تنازع في الطاعة، وكبح جماحها. ثم إن المنازعات أيضًا على أنواع، منها: ما يختص بقهره مجاهدة، وأخرى ما يختص بقهره مجاهدة أخرى. فمثلا الصلاة مجاهدة يقصد بها قهر منازعة الجاه والمنزلة، والصوم يقصد به قهر منازعة القوة البهيمية. فالمجاهدة تهدف إلى قهر المنازعات. 

         ولايغيبنَّ عن البال أن المنازعات على نوعين: العقل والطبيعة. فأعظم ما منع الحكماء والفلاسفة عن اتباع الحق والخضوع للأنبياء عليهم السلام هو العقل؛ فهم وإن عالجوا متطلبات الطبيعة كل المعالجة، وهذبوا أخلاقهم، ومارسوا أشد المجاهدات، فتلاشى فيهم المنازع الطبيعي إلا أن الذي منعهم من اتباع الأنبياء هو العقل. فقد اغتروا بعقلهم، واستصغروا علوم الأنبياء في جنب ما عندهم من العلم الموهم، وأعرضوا عن قبول هداية الرسل ومعارفهم، واستهزؤوا بهم، و سخروا منهم، وكأن قوله تعالى يشير إلى أمثال هؤلاء: ﴿فَلَمَّا ‌جَآءَتۡهُمۡ ‌رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [غافر:83]. قال ابن زيد: واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعايش، وظنوا أنه لا آخرة ففرحوا، وهذا كقوله تعالى: ﴿يَعۡلَمُونَ ‌ظَٰهِرٗا ‌مِّنَ ‌ٱلۡحَيَوٰةِ ‌ٱلدُّنۡيَا﴾ [الروم:7]. فالفرح هنا مكني عن ازدهائهم وغرورهم وتمسكهم بما هم عليه، وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم، وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل. ويطعن أدعياء العلم في القرآن الكريم بأنه كتاب عادي لا وزن له؛ فإنه يتحدث عن أهون خلق الله تعالى من البعوض والذباب، وكلام الله تعالى أرفع من التعرض لأمثالهما. وقد غفلوا عن أن ذكر البعوض والذباب في القرآن لم يأتِ إلا تمثيلا. والتمثيل يتطلب أن يكون المثال على مستوى الممثل له، فشبه القرآن الكريم الأصنام بالذباب إشارةً إلى ضعفها وعجزها: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌ضُرِبَ ‌مَثَلٞ ‌فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ﴾ [الحج:73]. وشبه الله تعالى اتخاذ آلهة من دونه سبحانه ببيت العنكبوت في ضعفها، فقال: ﴿‌مَثَلُ ‌ٱلَّذِينَ ‌ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتٗاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ﴾ [العنكبوت:41]. ولولا مراعاة المناسبة بين المشبه والمشبه به لعاد التشبيه لاغيا لاجدوى تحته.

         والمانع الآخر عن قبول الحق هو الطبيعة، فإنها تدعو إلى التمتع بجميع الملذات و الشهوات، وإخضاع كل ما سواها لها، والتغلب عليه، ومن الناس من يذهب إلى أبعد من ذلك فيحاول تسخير الجن؛ بله الإنس لهوى في نفسه. فالمانع عن قبول الحق أمران: العقل والطبيعة. والعقل قاطع طريق على خاصة الناس، وأما الطبيعة فتقطع الطريق على الناس جميعًا. والمجاهدة تتطلب التغلب على الأمرين: العقل والطبيعة. فالأعمال على نوعين:

         الأول: ما يغلب عليه العقلية، كالصلاة مثلا؛ فإن الغرض منها قهر الجاه، والتذلل إلى الله تعالى. والعقل يرى المناسبة بين التذلل والصلاة، فإن المرء يقوم في الصلاة مكتوف اليدين، ويضع أشرف الأجزاء – وهو الرأس- على أرذل العناصر، وهي الأرض. فما من جزء من أجزاء الصلاة إلا وينمّ عن غرضها وهدفها. وقس عليها الصوم؛ فإنه يهدف إلى كسر القوة البهيمية، والمناسبة بينهما معقولة. فالعقلية غالبة في هاتين العبادتين. والقيام بهما يتضمن مراعاة للعقل.

         والنوع الثاني من الأعمال ما يكون العقلية فيه مغلوبة، ولايدركه العقل مباشرةً. وإنما يغلب فيه الطبيعة، والقيام به مراعاة للطبيعة. وحيث يتم تسخيرهما مع مراعاة متطلباتهما فإنهما تصبحان على علاقة مع الله تعالى، وتنقادان لله تعالى، وتتصفان بالاعتدال والوسطية(1).

         يقول أهل العلم: مثل العقل كمثل قطع غيار المحرك في القطار، فلامانع من تحريك دولاب القطار بها، وإن كان يجلب ذلك مشقات عظيمة، ولاشك أنه يتوقف بعد ما يقطع مسافة قليلة، ويعجز عن قطع المسافات الطويلة. فبالإمكان استخدام الجسد بقوة العقل، ولكنه قليل جدًّا وبمشقةٍ عظيمةٍ. وأما إذا كان القطار يحمل معه النار والماء ثم يتم تحريك قطعها الحديدية فإنه لايصعب عليه قطع مسافة آلاف الأميال. فهذا مثال الطبيعة. فإذا انصاعت الطبيعة أمكن استخدامها في أعمال عظيمة.

         والحج من أعظم الأسباب التي تعين على تسخير الطبيعة وإخضاعها، ويشير إليه إضافة الحج إلى البيت في قوله تعالى: ﴿عَلَى ‌ٱلنَّاسِ ‌حِجُّ ‌ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ﴾ [آل عمران:97]. وذلك أن العقل يتطلب العناية بنفس العبادة والتركيز عليها، بعيدًا عن القيود والهيئات، فإن العقل يتطلب التجرد ويعاف التشخصات والتعينات، وأما الطبيعة فتأنس بالمحسوسات، فلاتأبى القيود و الهيئات والتعينات. ومن اتصف بالتجرد فَقَدَ الأنس والتألف. فالصلاة مثلا روحها الساري هو الخشوع والخضوع. والعقل يدرك مجرد هذا المعنى. والقيود على نوعين: نوع يتحقق داخل الصلاة، كالركوع والسجود، والعقل لايأباهما، فإنهما من وجوه وصور الخشوع والخضوع، كما لايأبى العقل قيد الطهارة. والنوع الثاني من القيود ما يتحقق خارج الصلاة، كالمخصوص من المكان والمخصوص من الزمان، فإن العقل لايجوِّز أمثال هذه القيودات. وإنما هي من حظ الطبيعة. فالصلاة -كما أسلفنا- يغلب عليها العقلية، ويستسلم فيها الطبيعة. فالعقل يجوِّز العبادة البعيدة عن قيود الزمان والمكان. مثلا ذكرُ الله تعالى ليس مقيدًا بزمان ولا مكان، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ‌يَذۡكُرُونَ ‌ٱللَّهَ ‌قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [آل عمران:191]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي ﷺ يذكر الله على كل الأحيان أي على كل الأزمان، في كل زمن يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا.

         وجاء فرض القيود على بعض العبادات مراعاةً للطبيعة؛ فإنها ألصق بالمحسوسات، وتتطلب القيود بأنواعها. فالعبادة التي تهدف إلى تسخير العقل يجب أن تخلو من القيود، والتي تهدف إلى تسخير الطبيعة يجب توفر القيود فيها. فالعبادات كلها لله تعالى.

         ولايغيبن عن البال أن القيود على ثلاثة أنواع: الأول: قيد الزمان، والثاني: قيد المكان، والثالث: قيد مناسب عداهما. فإذا تأملنا في هذه الأنواع الثلاثة من القيود تبين أن قيد الزمان لايستبعده العقل كثيرًا، استبعاده لقيد المكان. فإن الزمان- رغم أنه قيد من القيود- أكثر مناسبةً وتألفًا مع الإطلاق؛ فإنه بدوره يحمل نوعًا من الإطلاق. فالزمان قيد أكثر شبها بالإطلاق. فلايأباه العقل كثيرًا. وأما قيد الزمان والقيد الشبيه به حسًّا، فإن العقل يأباه كل الإباء. وهو ألصق وأوفق للطبيعة. وحيث إن الله تعالى أضاف الحج إلى البيت في محكم تنزيله، والبيت عبارة عن مكان خاص، فكانت هذه العبادة تهدف إلى تسخير الطبيعة، ولايجوزه العقل على الإطلاق(2).

         وإذا تأملنا في الحج تبين لنا أن أفعاله ومناسكه كلها على هذا النوع، فلننظر أن أول ما يبدأ به المرء في الحج هو أنه يغادر أعزته وأقاربه وبيته المريح ومتاعه وأثاثه ورياشه حين يستعد لرحلة الحج. وهنا يتعرض العقل له، ويقول: ما الداعي إلى مثل ذلك؟.

         فإذا بلغ المواقيت نزع ما كان عليه من الثياب الغالية العزيزة عليه، ولبس ثياب الإحرام وهو رداء يرتديه، ورداء آخر يغطي به جسده دون رأسه. فكأنه لبس ثياب الأموات، فيلومه العقل، وينكر عليه.

         يقول الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (2/91): «الإحرام في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم وضبط عزيمة الحج بفعلٍ ظاهرٍ، وفيه جعل النفس متذللةً خاشعةً لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغبر لله، وإنما شرع أن يجتنب المحرم هذه الأشياء تحقيقًا للتذلل وترك الزينة والتشعث، وتنويهًا لاستشعار خوف الله وتعظيمه، ومؤاخذة نفسه ألا تسترسل في هواها، وإنما الصيد تلهٍّ وتَوسعٌ، ولذلك قال النبي ﷺ «من اتبع الصيد لها»(3) ولم يثبت فعله عن النبي ﷺ ولا كبار أصحابه وإن سوغه في الجملة. والجماع انهماك في الشهوة البهيمية، وإذا لم يجز سد هذا الباب بالكلية؛ لأنه يخالف قانون الشرع، فلا أقل من أن ينهى في بعض الأحوال كالإحرام والاعتكاف والصوم وبعض المواضع كالمساجد. سئل النبي ﷺ ما يلبس المحرم من الثياب؟ «فقال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف»(4). وقال للأعرابي: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها»(5). والفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك، أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة، والثاني ستر عورة، و ترك الأول تواضع لله، وترك الثاني سوء أدب».اهـ

         ثم يصلي ركعتين، ويلبي: اللهم لبيك….، ويرفع صوته بالتلبية، فيقول العقل: مالك تصرخ، وترفع الصوت؟ وهو ماضٍ في تلبيته دون أن يستجيب لنداء العقل. فإذا وقع نظره على الكعبة المشرفة أجهش بالبكاء، وسقطت الدموع على وجنتيه، فيقول العقل: ما لك تبكي وتذرف الدموع؟

         ويعود من المزدلفة إلى منى ليرمي فيها الجمرات يومين أو ثلاثة أيام، والعقل يأبى ذلك، ويقول: مالك؟ هل بك جنون، ترمي هذه الجمرات التي لاحس لها ولا حياة. وإنما يأتي به العبد إظهارًا لعبوديته ورقه، يقول الغزالي في «إحيائه»(1/215): «وذلك كرمي الجمرات مثلاً إذ لا حظَّ للجمرة في وصول الحصى إليها فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل ليظهر العبد رقه و عبوديته بفعل ما لايعقل له معنى؛ لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه، ويدعوه إليه، فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية؛ إذ العبودية تظهر بأن تكون الحركة لحق أمر المعبود فقط، لا لمعنى آخر، وأكثر أعمال الحج كذلك. ولذلك قال ﷺ في إحرامه: «لبيك بحجة حقًا تعبدًا و رقًّا»(6)، تنبيهًا على أن ذلك إظهار للعبودية بالانقياد لمجرد الأمر وامتثاله كما أمر من غير استئناس العقل منه بما يميل إليه ويحث عليه».

         ثم انظر في مناسك الحج الأخرى من الطواف والسعي بين الصفا والمروة، والخروج إلى منى ثم إلى عرفات، ثم العودة إلى المزدلفة كل أولئك روعي فيه متطلبات الطبيعة، ويأباه العقل. فالحج من أهم ما يكبح جماح النفس، ويحد من غلوائها، ومن أعظم وسائل تزكيتها، وتطهير القلب من الأرجاس والأنجاس.

محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري            (تحريرًا في الساعة السابعة صباحًا من يوم الجمعة 22/شوال 1444هـ = 13/مايو 2023م)


(1)    التهانوي في خطبه، ص 255.

(2) التهانوي في خطبه،ص 260.

(3)    رواه أبوداود في السنن [2859] بلفظ: من اتبع الصيد غفل.

(4)    رواه البخاري [5803].

(5)    رواه البخاري [4329].

(6)    أخرجه الْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل من حَدِيث أنس.

مجلة الداعي، ذوالحجة 1444هـ = يونيو – يوليو 2023م، العدد: 12، السنة: 47

Related Posts