بقلم:  الشيخ د./ يوسف جمعة سلامة

         يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَذِّن ‌فِي ‌ٱلنَّاسِ ‌بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ﴾ (الحج:27).

         يتطلع كل مسلم لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام وهو حج بيت الله الحرام، حيث يتعلق قلبه وفؤاده بمشاهدة هذه الأماكن المقدسة التي فضلها الله تعالى وبارك فيها، يستوي في ذلك الغني والفقير، والقريب والبعيد، لأن حب المسلم له غريزة مطبوعة في نفسه، استجابة لدعوة أبينا إبراهيم ♠ في قوله تعالى: ﴿رَّبَّنَآ ‌إِنِّيٓ ‌أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ﴾ (إبراهيم:37).

         وما تكاد أشهر الحج تهل على العالم الإسلامي حتى تشتعل قلوب المسلمين بالشوق إلى بيت الله الحرام، وما جاوره من أماكن مقدسة، وزيارة مسجد رسول الله ﷺ، وغيره من المشاهد الإسلامية العظيمة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

         إن الحج اجتماع جامع للمسلمين قاطبة، يجدون فيه أملهم العريق الضارب في أعماق الأمة منذ سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فهو فريضة تأتلف فيها مصالح المسلمين وتجتمع منافعهم وتتجدد الروابط بينهم، وتصدق العزائم عند اللقاء الكريم.

         ومن المعلوم أن الله قد عظم بيته الحرام وجعله للمسلمين قبلة، كلما قاموا إلى الصلاة توجهوا إليه فرضًا ونفلًا، وفرض عليهم الحج إليه وأمرهم بالعمرة، وجعل الجزاء العظيم لمن حج بيته العتيق حجًا مبرورًا بأن يغفر له ذنوبه، كما جاء في الحديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) (متفق عليه)، والحج المبرور هو الذي يكون خالصا لوجه الله وعلى الوجه الشرعي.

         وفريضة الحج المقدسة هي أغلى وأسمى مناسبة في تاريخ الأمة الإسلامية، نسترجع فيها ذكريات الماضي العريق، التي تعود إلى أعماق التاريخ حين كانت مكة المكرمة واديًا قفرًا غير ذي زرع، وأرضًا جرداء لا زرع فيها ولا ماء، صحراء قاحلة مقفرة ليس بها إنسان أو طير أو حيوان، يأتي أبو الأنبياء إبراهيم ♠ ليقوم برفع قواعد الكعبة المشرفة في هذا المكان المقفر، لكن معجزة الواحد القهار الذي يقول لشيء كن فيكون، تغير ملامح المكان بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى أبا الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أن يؤذن في الناس بالحج، وتقبل أفواج الحجيج من كل صوب وحدب إلى هذه الأرض المقفرة لتتحول إلى أرض النور والقداسات والطهر.

         وتتوالى مواكب الحجيج عبر العصور والأزمان إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج.

         قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى ﴿وَأَذِّن ‌فِي ‌ٱلنَّاسِ ‌بِٱلۡحَجِّ﴾ أي ناد في الناس بالحج داعيًا لهم لحج هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله له أن يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك.

         إن الحج خامس أركان الإسلام، وقد فرضه الله على المستطيع مرة في العمر لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ‌عَلَى ‌ٱلنَّاسِ ‌حِجُّ ‌ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ (آل عمران:97)، ومن سور القرآن سورة سميت باسمه (سورة الحج) افتتحت بنداء البشرية قاطبة إلى الإيمان بالله وتذكيرهم بيوم البعث وما فيه من الهول العظيم: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌ٱتَّقُواْ ‌رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ ١ يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ﴾، وختمت السورة بما امتن الله به على عباده المسلمين ومنهم حجاج بيت الله، أن اصطفاهم من بين البشر فوفقهم للإيمان وسماهم مسلمين ورفع عنهم الحرج وأمرهم بالاعتصام بحبل الله ليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة بل وفي الدنيا، لما عندهم من العدل والإنصاف نتجية ما يقومون به من تحقيق العبودية لله من صلاة وصيام وزكاة وجهاد ودعوة في سبيل الله: ﴿وَجَٰهِدُواْ ‌فِي ‌ٱللَّهِ ‌حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ﴾ (الحج:78).

         وفي الحج تتجلى رحمة الله بعصاة المسلمين، لأنه من أفضل الأعمال التي يقبلها الله ويكفر بها ذنوب العاصين، فقد سئل رسول الله ﷺ أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (ثم جهاد في سبيل الله)، قيل ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور) (متفق عليه)، وقال ﷺ: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) (متفق عليه).

         إن الحج ملاذ كل المسلمين العابدين والعاصين، فالعابدون يزدادون قربًا من مولاهم بوفادتهم عليه في بيته، والعصاة يستروحون عبق الرحمات في تلك الأجواء الإيمانية الآمنة ليقروا بذنوبهم، آملين رحمة الله بعفوه ومغفرته ورضوانه، مجددين العهد على الطاعة وإخلاص العبودية لمولاهم الغفور الرحيم.

         إن الحج مؤتمر عالمي يتكرر كل عام مرة يعقد في الأرض المباركة بجوار الكعبة تحت شعار «أمة واحدة» قال تعالى: ﴿إِنَّ ‌هَٰذِهِۦٓ ‌أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾ (الأنبياء:92).

         ووحدة المسلمين في الحج تشمل عدة مظاهر من الوحدة يتعايش الناس على ضوئها:

         1- وحدة الأصل: قال تعالى: ﴿‌يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌إِنَّا ‌خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ (الحجرات:13)، وفي الحديث (ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) (أخرجه البيهقي).

         2- وحدة الزمان: قال تعالى: ﴿ٱلۡحَجُّ ‌أَشۡهُرٞ ‌مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ﴾ (البقرة:197).

         3- وحدة المكان: قال تعالى: ﴿جَعَلَ ‌ٱللَّهُ ‌ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ﴾ (المائدة:97)، وقوله أيضًا: ﴿وَٱتَّخِذُواْ ‌مِن ‌مَّقَامِ ‌إِبۡرَٰهِـۧمَ ‌مُصَلّٗىۖ﴾ (البقرة:125).

         4- وحدة في الشكل والمظهر تتجلى في لباس الإحرام المكون من إزار ورداء أبيضين، هو لباس كل الحجيج استعاضوا به عن لباسهم المعتاد في حياتهم العادية.

         ومن المعلوم أن الحج يستمد عالميته من عالمية الإسلام الذي جاء رحمة للناس كافة، قال تعالى:  ﴿وَمَآ ‌أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾، وقال أيضًا: ﴿وَمَآ ‌أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ (سبأ:28).

         فما أحوج الأمتين العربية والإسلامية بصفة عامة، وشعبنا الفلسطيني المرابط بصفة خاصة إلى الوحدة، خصوصا في هذه الظروف الصعبة والدقيقة من تاريخ شعبنا المرابط، لذلك نحن نتوجه إلى الله بالدعاء بأن ييسر لشعبنا الفلسطيني سبل الوحدة والمحبة إنه سميع قريب.

مجلة الداعي، ذوالحجة 1444هـ = يونيو – يوليو 2023م، العدد: 12، السنة: 47

Related Posts