بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله (1305-1369هـ/1887-1949م)

تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)

       وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَكَفَّرۡنَا عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ ٦٥

         أي لو أن أهل الكتاب – رغم هذه الجرائم الشنيعة والشرور – تابوا وآمنوا بمحمد ﷺ والقرآن الكريم، واتقوا الله تعالى، فإن التوبة بابها لم يغلق بعدُ، وإنه سبحانه يمن عليهم بالنعم في الدنيا والآخرة بفضله وكمال رحمته، وإن رحمته لايقنط منها حتى أكابر المجرمين إذا ندموا على ما فرط منهم، وتابوا وأنابوا إلى الله تعالى.

       وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ ٦٦

         أي يقيمون القرآن الكريم النازل بعد التوراة والإنجيل لتنبيههم وهدايتهم، فإنه يستحيل إقامة التوراة والإنجيل كما يجب من غير الإيمان بالقرآن الكريم. فإن إقامة التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية لاتعني إلا الإيمان بما جاء من القرآن والنبي الخاتم محمد ﷺ على وفق بشارة الكتب السابقة، فكأنه سبحانه نبه بذكر التوراة والإنجيل على أن عدم إيمانهم بالقرآن يعني أنهم أبوا حتى الإيمان بكتبهم.

           فائدة: أي لمتعناهم بالبركات الأرضية والسماوية كلها، ولرفعنا عنهم ما عوقبوا به على معصيتهم من الذل والبؤس وضنك العيش.

           فائدة: هؤلاء هم نفر ممن سلكوا طريق الوسط والاعتدال ولبوا نداء الحق بما فطروا عليه من السعادة، ومنهم عبد الله بن سلام، والنجاشي ملك الحبشة وغيرهما رضي الله عنهم.

         يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٦٧

         تحدثت الآية السابقة عن شرور أهل الكتاب، وكفرهم وسوء أعمالهم، ثم رغَّبت في إقامة التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من الكتب السماوية، وقوله فيما يأتي (قُلْ يَـٰٓأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلىٰ شَيءٍ) بمثابة الإعلان عن أن حياتكم الدينية لاشيء ولاقيمة لها من غير إقامة الدين. وقوله تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلرَّسُولُ ‌بَلِّغۡ ‌مَآ ‌أُنزِلَ ‌إِلَيۡكَ ‌مِن ‌رَّبِّكَۖ﴾ [المائدة:67] إعداد للنبي ﷺ وتهيئة له لهذا الِإعلان الصريح، أي بلغ – بغير دغدغة ولا مخافة ولا تأمل- ما أنزل الله تعالى عليك وخاصة مثل هذه الإعلانات الحاسمة.

         وهَب أنك قصَّرت في تبليغ شيء من ذلك، فكأنك لم تؤد – بصفتك رسولا من الله تعالى، وما أضفى الله عليك من هذا المنصب الجليل- شيئًا من حقه. وليس هناك أسلوب أكثر تأثيرًا منه في حق النبي ﷺ لتثبيت أقدامه أكثر فأكثر على أداء واجب الحق. فما قام به النبي ﷺ طوال عشرين أو اثنين وعشرين عامًا من أداء واجب الرسالة والتبليغ بعزيمة صادقة، ومشقة كبيرة، واجتهاد متواصل ، وصبر وثبات لامثيل له، أوضح دليل على أنه كان يستشعر ما نيط به من مسؤولية الرسالة والتبليغ أشد من أي شيء في الدنيا. ونظرا إلى استشعار النبي ﷺ هذا القوي، وجهاده الدعوي، وللتأكيد على مزيد من التثبت والصبر في أداء واجب التبليغ لم يكن هناك أسلوب أعمق تأثيرًا من أن يخاطب النبي ﷺ بـ(يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلرَّسُولُ)، ويقال له: هب أنك قصرت في شيء من الدعوة والتبليغ فكأنك فشلت في أداء واجبك نحو التبليغ والدعوة. وغير خافٍ أن ما بذله النبي ﷺ من المساعي والجهود، وما قدمه من التضحيات لم يكن يتوخى من خلاله إلا أن ينال أعلى درجات الفوز والفلاح في أداء واجب الرسالة عند الله تعالى. فهيهات أن يقصر في تبليغ شيء من الأحكام. ومن المجرب المشاهد أن المرء لايقصر في تبليغ الأحكام والدعوة إلا لأنه لايشعر بأهمية واجبه وفريضته، ولايولع به ولعًا، أو يصاب بضرر فاحش من معارضة الناس له بصورة عامة، أو يخاف فوات بعض الفوائد على أقل تقدير، أو يتوجس خيفة من تنمر من يدعوهم وطغيانهم – كما أشارت الآيات السابقة واللاحقة إلى ذلك في حق أهل الكتاب – فييأس من ترتب ثمرات الدعوة و نتائجها.  فالعلة الأولى رد عليها بقوله: (يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلرَّسُولُ) إلى قوله: (فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥ)، وكشف العلة الثانية بقوله: (وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ)، وأجاب عن العلة الثالثة بقوله: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ).

         أي داوم على أداء ما يجب عليك، والله تعالى حافظ لنفسك وعرضك، والله تعالى لايهدي أعداءك المعارضين لك على وجه البسيطة كلها. والهداية والإضلال بيد الله تعالى. فلاتحزن على قوم استعدت للكفر والإنكار، وحذارِ أن تتخلى عن وظيفتك يأسًا منهم. فقام النبي صلى الله تعالى بتبليغ كل صغير وكبير إلى الأمة نزولا عند هذا التوجيه الرباني والدستور السماوي. وبلغ النوع البشري كله عامتهم و خاصتهم ما يليق بكل واحد، وما يتهيأ له كل شيء من غير نقص ولازيادة، ولاخوف لومة لائم. فأتم الحجة على عباد الله تعالى، وأعلن قبل وفاته بنحو شهرين في حجة الوداع – التي شهدها أكثر من أربعين ألفًا من خدَم الإسلام، وعشاق الدعوة – على رؤوس الأشهاد: قد بلغت الأمانة، اللهم فاشهد.

         قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ٦٨

         أي القرآن الكريم خاتم سائر الكتب السماوية والمهيمن عليها. وسبق تفسير هذه الآية في الركوع الماضي.

           فائدة: أي حذار أن تحزن عليه، وتضيق ذرعًا به، وما عليك إلا أن تقوم بواجبك في طمانينة وراحة نفس.

         إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٩

         أي من يطلق على نفسه اسمَ الإسلام أو اليهودية أو النصرانية- أو غيرها من الأديان، وإنما سمى بعضها تمثيلا – لايفلح أحد منهم حق الفلاح الدائم بهذه الأسامي أو بالعرق واللون والحرفة والوطن، وغيرها من الأحوال والخصائص والميزات، وإنما يرجع الفلاح والأمن والوقاية إلى شيء واحد، وهو الإيمان والعمل الصالح. فمن زعم أنه على حظوة من الله تعالى وقرب إليه فليزن نفسه بهذا الميزان والمحك، فإن ارتقى إليه، فقد أفلح ونجا من غير دغدغة وخوف، وإلا فإنه معرض في كل وقت لغضب الله تعالى وقهره سبحانه.

         اختصت الآيات السابقة بدعوة أهل الكتاب، وأما هذه الآية الكريمة فتقدم إلى جميع الأمم قانونًا عجيبـــا منطقيًّا عادلا، لايــــدع أحدًا سليم الطبع يشك في صدق الإسلام وعمومه وشموله. ومالم يؤمن المرء بالله تعالى – أي وجوده، و وحدانيته، وصفاته الكمالية، ومعالم قدرته، وجميع الأحكام والقوانين، ورسله و أنبيائه- ويوم الدين، ولم يتقبل الصلاح، هل للعقل أن يقول بأنه يحظى بالنعيم الدائم، ومرضاة الله تعالى، و السرور الأبدي؟ والإيمان بالله تعالى يشمل ذلك كله. هَب أن أحدًا يستطيل في عرض نبي من الأنبياء رغم توفر الأدلة الواضحة المنيرة على نبوته – وتكذيبه في دعوى النبوة يعكس استطالته في عرض النبي- أ فليس النيل من سفير حكومة من الحكومات، وتكذيب أوراق إثباتات رسالته، يمثل إهانة واستطالة في عرض الحكومة نفسها؟ قِس عليه أن من كذب رسولا من الرسل الصادقين، ولم يؤمن به، فقد كذب في الواقع بآيات الله تعالى وأدلته الواضحة الصريحة، التي نزّلها تصديقا لنبوته (فَإِنَّهُمۡ ‌لَا ‌يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ) [الأنعام:33]. وهل لأحد أن يدعي الإيمان بالله تعالى وهو يكذب آياته الواضحة الصريحة؟وما أشار إليه القرآن الكريم هنا بصورة إجمال من تفاصيل الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح قد تعرض له في آيات أخرى بالبسط والتفصيل. و أصوب الأقوال وأقواها عندي أن الصابئة فرقة في العراق، استقت مبادئ دينها في الغالب من الإشراقيـــــــــة و الفلاسفـــــــــــة، وأهل الطبيعة. وكانوا يغلون كثيرًا في الــــــروحانيـــة؛ بل كانوا يعبدونها.

         ويرون أنه لايسع المرء الوصول إلى رب الأرباب – أي المعبود الأكبر- إلا بالاستعانة بالأرواح المجـــــــردة والمدبــــــرات الفلكية وغيرها، وأنه في غنًى عن اتباع الأنبياء. وكانوا ينحتون هياكل للكواكب ابتغاء مرضاة الأرواح المدبرة وغيرها من الروحانيات. ولأجلها كانوا يصلون و يصومون ويضحون ونحو ذلك. والحاصل أن الصابئة جماعة توازي الحنيفية. وكان أشد هجماتها تتوجه إلى النبوة ولوازمها وخواصها. وكانت قوم نمرود على عهد بعثة إبراهيم الحنيف على عقيدة الصابئة، التي استمات الخليل عليه السلام في الرد عليها وإبطالها.

         لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ ٧٠

         شرحت الآية السابقة ميزان القبول عند الله تعالى وهو الإيمان والعمل الصالح، وهذه الآية تشرح مدى ارتقاء اليهود إلى هذا الميزان والمحك.

           فائدة: واختبار العبد يتمثل في قيامه بما يأمره سيده وإن لم يرغب هو فيه، ويخضع رأيه أو رغبته لمرضاة سيده، وإلا فليس من الكمال في شيء أن يخضع المرء لما تهواه نفسه.

         وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتۡنَةٞ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ ٧١

         أي نقضوا العهد الموثق، وبغوا على الله تعالى، وقتلوا بعض رسله، وهذا ماكانوا عليه من الإيمان بالله والعمل الصالح. وأما إيمانهم باليوم الآخر فلك أن تقدر ذلك من ارتكابهم لهذه المظالم الشنيعة والجرائم الباغية الطاغية، ثم اطمأنوا إليها، فكأنهم ظنوا أنهم لايعاقبون على هذه الفعلات الشنيعة. ولا يواجهون أبدًا مغبة ما ولغوا فيه من الظلم والبغي. وانطلاقًا من ذلك عموا عن آيات الله تعالى وكلامه وصموا، وأقبلوا على المحرمات، حتى قتلوا بعض الأنبياء، وسجنوا بعضهم، حتى سلط الله تعالى عليهم بخت نصر ثم أنقذهم بعض ملوك فارس من الذل والهوان الذي ضربه عليهم بخت نصر، ورجع بهم من بابل إلى بيت المقدس. فتابوا وأقبلوا على إصلاح حالهم. فاستجاب الله توبتهم، ثم عادوا إلى شرورهم وفتنهم تلك، فعموا وصموا، ولم يبالوا بقتل زكريا ويحيى عليهما السلام. وتهيؤوا لقتل عيسى عليه السلام.

           فائدة: أي أنهم وإن عموا عن غضب الله تعالى وقهره، كان الله تعالى بصيرا بفعلاتهم الشنيعة كلها، فقيض الله تعالى لهم من أمة محمد ﷺ من يذيقهم عقوبة هذه الفعلات.

         لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢

         هذه الآية تشرح حال إيمان النصارى بالله تعالى، ومدى ارتقائهم إلى محك الصدق والحق. فحال إيمانهم بالله تعالى أنهم اتخذوا المسيح بن مريم إلها من دون الله تعالى على خلاف العقل والفطرة السليمة حتى على خلاف تصريحات المسيح نفسه. وليس تخبطهم في الواحد في ثلاثة أو الثلاثة في واحد إلا حيلة منهم، و إنما يركزون في الواقع على تأكيد ألوهية المسيح، في حين اعترف المسيح بدوره جهارًا وعلانيةً بأن الله تعالى هو الرب وأنه هو – المسيح- ليس إلا عبدًا مربوبًا على شاكلة غيره من البشر. أرأيت كيف أنه أكد بكل قوة على فساد الشرك الذي كان سيقع فيـــــــه قومه، ثم إن هؤلاء العميان لم يعتبروا به.

         لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ٧٣

         يعنون أن المسيح وروح القدس والله تعالى أو أن المسيح ومريم والله تعالى – والعياذ بالله- ثلاثتهم آلهة. والله تعالى شطر من هؤلاء، فكانوا –الثلاثة – واحدًا، والواحد ثلاثةً. هذا ما عليه عامة النصارى من العقيدة، ثم إنهم يعرضون هذه العقيدة بأسلوب مغلوط، وبعبارة معقدة جدًا، فإذا عجز الناس عن إدراكه قالوا: إنه حقيقة لايدركها العقل البشري، وصدق من قال: «لن يصلح العطار ما أفسده الدهر».

         أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧٤

         إن الله الغفور الرحيم هو الذي يعفو كلمح بالبصر عن جرائم أمثال هؤلاء البغاة والوقحين إذا ندموا على فعلهم، وعزموا على الإصلاح وأقبلوا على الله تعالى.

         مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٧٥

         أي أنه- المسيح- واحد من أعضاء هذه الجماعة المعصومة، وأن اتخاذكم إياه إلها سفه وحمق منكم.

           فائدة: ذهب جماهير الأمة إلى أنه ليس من النساء نبية، وأن هذه الوظيفة ظلت مختصة بالرجال، قال تعالى: (‌وَمَآ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌مِن ‌قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ) [يوسف:109]. وكانت مريم عليها السلام أمة ولية، ولم تكن نبية.

           فائدة: يتجلى – عند التأمل- أن المحتاج إلى الطعام والشراب، يحتاج إلى سائر حاجات الدنيا. فلايستغني عن الأرض والهواء والماء والشمس والحيوانات حتى من القاذورات والسماد. أرأيت كم يحتاج إليه الحبةُ مباشرة أو غير مباشرة منذ وصولها إلى البطن، وانهضامها؟ ثم ما ينتهي إليه ما يترتب على تناولها من الآثار والنتائج؟ ونظرًا إلى هذه السلسلة اللامتناهيـــــــــــة من الاحتيــــــــاج والافتقار لنا أن نشرح بطلان ألوهية المسيح ومــــــريم مستدلين على ذلك بأن المسيح ومــــــــــريـــــم لايستغنيان عن الأكل والشرب، مما يؤكده المشاهدة والتواتر. والذي لايستغني عـــــن الأكل والشرب ليس من شأنه أن يستغني عن شيء من حاجات الدنيا. أفرأيت الذي لايستغني في بقائه مثل سائر البشر- عن عالم الأسباب أنى يكون إلها؟ وهو دليل بالغ من القوة والوضوح ما يستوي في إدراكه وفهمه العالم والجاهل، أي أن الأكل والشرب مما ينافي الألوهية، وإن لم يكن عدم الأكل دليلا على الألوهية، وإلا صار الملائكة كلهم آلهة، والعياذ بالله منه.

         قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٧٦

         أي حين اتخذتم المسيح إلها لزم أن يُعبَد، إلا أن المعبودية تختص بمن يملك الضرر والنفع ملكا تامًا؛ لأن العبادة عبارة عن منتهى التذلل، ولايجوز منتهى التذلل إلا لمن كان على نهاية العز والغلبة، ويسمع كل أحدٍ في كل وقت، ويعلم أحوالهم علمًا تامًا. وهو رد على المشركين كلهم بجانب الرد على التثليث الذي هو عقيدة مشركة. *  *  *


(*)   أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.

مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47

Related Posts