الإسلام دين الله الخالد جاء ليخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لاشريك له، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وجاء الإسلام ليكرم بني آدم، ويفسح له مجال التفكير وحرية الرأي والنقاش، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا﴾ [الإسراء:70]. وأسمى تكريم الإنسان هو خلقه حرًّا طليقًا، ليفكر ويعمل رأيه فيما يختاره ويدعه ﴿وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ﴾ [البلد:10]. فالناس كلهم عبيد لله وحده، وليسوا عبيدًا لأحد سواه سبحانه وتعالى. فهذه هي رسالة الإسلام، وهذه هي دعوة الإسلام، دعوة للإنسان كل الإنسان، وفي الأرض كل الأرض. فلايستعبد بعضهم بعضًا، ولايتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله تعالى.
ومن الحريات التي كفلها الإسلام للإنسان حرية الرأي والمناقشة حتى مع الرسول ﷺ؛ بل مجادلته كما يتجلى من الأمثلة التالية.
مناقشة ومجادلة امرأة مع الرسول ﷺ:
تحكي لنا كتب الحديث والتفسير قصة خولة بنت ثعلبة التي ظاهر منها زوجها، وأفتاه الرسول ﷺ بتحريمها عليه، ثم نزلت أوائل سورة المجادلة.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ﴾.
قال الإمام أحمد: عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيّ- والله- وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه، قالت: فدخل علي يومًا فراجعته بشيء، فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: قلت: كلا، والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي، وقد قلتَ ما قلتَ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابًا، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله ﷺ فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله ﷺ يقول: «يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه». قالت: فو الله، ما برحت حتى نزل فيّ القرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه ثم سري عنه، فقال لي: «يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنًا- ثم قرأ علي ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ﴾- إلى قوله تعالى- ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾. قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: «مريه فليعتق رقبة» قالت: فقلت: يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، قال:«فليصم شهرين متتابعين» قالت: فقلت: والله، إنه لشيخ كبير ما به من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكينا وسقًا من تمر». قالت: فقلت: والله يا رسول الله، ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول الله ﷺ: «فإنا سنعينه بعرق من تمر» قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا سأعينه بعرق آخر. قال: «قد أصبت، وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا» قالت: ففعلت(1).
وقال الماوردي: روى الحسن أنها قالت: يا رسول الله، قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله ﷺ: «ما أوحي إليّ في هذا شيء» فقالت: يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء و طوي عنك هذا؟ فقال: «هو ما قلت لك». فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله، فأنزل الله تعالى: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ﴾ الآية(2).
وقال الثعلبي في تفسيره: وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنّ اسمها جميلة، و زوجها أوس بن الصامت- أخو عبادة بن الصامت-، وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدةً في صلاتها فنظر إلى عجزها، فلمّا انصرفت أرادها، فأبت عليه فغضب عليها، وكان امرءًا فيه سرعة ولمم. فقال لها: أنت عليّ كظهر أمّي. ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلّا قد حرمت عليّ. قالت: لا تقل ذلك، ائت رسول الله ﷺ فسله. فقال: إني أجدني أستحيي منه أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله. قال: سليه. فأتت النبي ﷺ، وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، إنّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني، وكنت شابّة جميلة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وتفرّق، وكبرت سنّي ظاهرَ منّي وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإيّاه ينعشني؟ فقال رسول الله ﷺ: «حرمت عليه». فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا، وإنّه أبو ولدي، وأحبّ الناس إليّ. فقال رسول الله ﷺ: «حرمت عليه». فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونفضت له بطني. فقال رسول الله -عليه السّلام-: «ما أراك إلّا وقد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك بشيء». فجعلت تراجع رسول الله ﷺ، فإذا قال لها رسول الله -عليه السّلام-: «حرمت عليه» هتفت، وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي، اللهمّ، فأنزل على لسان نبيّك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر، فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداك يا نبيّ الله. فقالت عائشة: اقصري حديثك ومحادثتك، أما ترين وجه رسول الله ﷺ إذا أنزل عليه أخذه مثل السبات؟ فلمّا قضي الوحي قال: «ادعي زوجك». فجاء، فقرأ ما نزل عليه ﷺ: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ﴾ ثم بيّن حكم الظهار، وجعل فيه الكفّارة، فقال سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ﴾ إلى آخرها، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها، إنّ المرأة لتحاور رسول الله، وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها، ويخفى عليّ بعضه، إذ أنزل سبحانه: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ﴾ «الآيات»(3).
وروي أنها قالت: وإن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي، وكان هذا أول ظهار في الإسلام(4).
وإنما سقتُ هذه الروايات المختلفة للقصة ليتبين بجلاء مدى حرية النقاش والحوار، التي كان يتمتع بها الصحابة رجالًا ونساءً حتى مع خاتم الأنبياء محمد ﷺ، دون أن يجد النبي ﷺ حزازة في نفسه تجاه من يناقشه ويراجعه.
النقاش حول النزول في بدر:
قال ابن إسحاق: مضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة. وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسًا، فأصاب رسول الله ﷺ و أصحابه منها ما لبد لهم الأرض، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشًا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به».
قال ابن إسحاق: حدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب و المكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» قال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم تغور ما وراءه من القلب؟ ثم تبني عليه حوضًا فتملأه ماءً ثم تقاتل فتشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ﷺ: «لقد أشرت بالرأي». فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه، ثم أمر القلب فغور، وبنى حوضًا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءً، ثم قذفوا فيه الآنية. وروينا عن ابن سعد في هذا الخبر: فنزل جبريل عليه السلام على النبي ﷺ فقال: الرأي ما أشار به الحباب(5).
ألا ترى كيف أن هذا الصحابي رغم ما يكنه في قلبه من الحب والاحترام المتناهي تجاه النبي ﷺ- لم يمنعه ذلك كله عن إبداء رأيه، ومناقشته معه -ﷺ- فيما رأى أنه خير، وأحسن مكيدةً في الحرب. وفعلًا استجاب النبي ﷺ لرأيه، وأمر الناس بالتوجه إلى المكان الذي أشار به. وهل تجد معشار هذه الحرية في النقاش مع أدنى موظفي الحكومات اليوم فضلًا عن الرئيس الأعلى، والملك ورئيس الوزراء؟ لا، والله، فهذا هو الإسلام الذي جاء ليحرر العباد من الرق والعبودية لبشر مثله.
النقاش في أسرى بدر:
وفي القصة ذاتها نرى صورة أروع أخرى لحرية النقاش والرأي حيث استشار النبي ﷺ أصحابه في أسرى بدر كيف يفعل بهم؟ ونحن إذ نقلب صفحات كتب التاريخ والتفسير وغيرها نجد أن الصحابة ناقشوا في هذا الأمر نقاشًا حادَّا حينئذ. لندع أنس بن مالك رضي الله عنه يحكي لنا هذه الحرية في النقاش الحاد، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عنه فقال: استشار النبي ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم». فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد رسول الله ﷺ فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس». فقام عمر، فقال:يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد النبي ﷺ فقال: للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله عز وجل: ﴿لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾، وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.
وقال الأعمش: عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله ﷺ: «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر:يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: «يا رسول الله، كذبوك، وأخرجوك فقدمهم، فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، أضرم الوادي عليهم نارًا، ثم ألقهم فيه، قال فسكت رسول الله ﷺ فلم يرد عليهم شيئًا، ثم قام فدخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.
ثم خرج عليهم رسول الله ﷺ، فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام، قال ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [إبراهيم:36]، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام، قال: ﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ [المائدة:118]، وإن مثلك يا عمر، كمثل موسى عليه السلام، قال: ﴿رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ﴾ [يونس:88] وإن مثلك يا عمر، كمثل نوح عليه السلام، ﴿وَقَالَ نُوحٞ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح:26] أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء، أو ضربة عنق».
قال ابن مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء، فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله ﷺ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله ﷺ: «إلا سهيل ابن بيضاء». فأنزل الله عز وجل ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ﴾ إلى آخر الآية(6).
لاتكسر ثنية الربيع:
ومن صور الحرية في النقاش والحوار مع رسول الله ﷺ، مارواه البخاري عن أنس، أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله ﷺ وأبوا، إلا القصاص فأمر رسول الله ﷺ بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله ﷺ: «يا أنس، كتاب الله القصاص». فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله ﷺ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره»(7).
أعرابي يراجع النبي صلى الله عليه وسلم:
وأعجب من ذلك وأطرف أن رجلًا من الأعراب، يشتري منه الرسول ﷺ فرسًا، ثم يزيد بعضهم في الثمن الذي بيع به الفرس دون علم بشراء رسول الله ﷺ، فيراجع الأعرابي ويناقشه،روى البيهقي في السنن الكبرى عن الزهري قال:حدثني عمارة بن خزيمة ، أن عمه، أخبره وكان من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ ابتاع فرسًا من رجل من الأعراب فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله ﷺ المشي وأبطأ الأعرابي، وطفق رجال يعترضون الأعرابي، فساوموه بالفرس، ولا يشعرون أن رسول الله ﷺ قد ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه رسول الله ﷺ، فلما زاده نادى الأعرابي رسول الله ﷺ، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه أو لأبيعنه، فقام رسول الله ﷺ حين سمع نداء الأعرابي حتى أتاه الأعرابي، فقال له: «أولست قد ابتعته منك؟». فقال الأعرابي: لا والله، ما بعتك. قال: فقال رسول الله ﷺ: «بلى قد ابتعته منك»، فطفق الناس يلوذون برسول الله ﷺ وبالأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك، إن رسول الله ﷺ لم يكن يقول إلا حقًّا، حتى جاء خزيمة فاستمع ما يراجع رسول الله ﷺ ويراجع الأعرابي وطفق الأعرابي يقول: «هلم شهداء يشهدون أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خزيمة قال: «بما تشهد؟» قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله ﷺ شهادة خزيمة شهادة رجلين»(8).
وروى البيهقي عن حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه، عن جده، أنه استأذن رسول الله ﷺ في خراج الحجام ، فمنعه إياه، فلم يزل يراجع رسول الله ﷺ، ويذكر له حاجته حتى أذن له أن يعلفه ناضحه ورقيقه(9).
هذه بعض صور حرية النقاش والحوار والرأي في الإسلام، وصفحات التاريخ الإسلامي ملآنة بمثل هذه الأحداث التي تؤكد حرص الإسلام على أن يعيش الناس أحرارًا، أحرارًا في الدين والعقيدة، و أحرارًا في مناقشة غيرهم، وإن كانوا حكامًا ورؤساء، مما لايجد الدارس معشاره في تاريخ غير الإسلام. وكل ذلك يشكل صفعةً قويةً في وجه كل من يتهم الإسلام بالجمود والخمود والتضييق على الرأي والحرية في الفكر والدين والعقيدة.
* * *
الهوامش:
(1) مسند الإمام أحمد برقم [27319]، وسنن أبي داود برقم [2214].
(2) النكت والعيون في تفسير الآية.
(3) الثعلبي في تفسير الآية.
(4) البغوي في تفسير الآية.
(5) عيون الأثر1/293.
(6) مسند الإمام أحمد برقم [13555]؛ دلائل النبوة للبيهقي 3/138؛ تفسير ابن كثير4/78.
(7) صحيح البخاري برقم [4500].
(8) السنن الكبرى برقم[13404].
(9) السنن الكبرى برقم[744].
محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري (تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم
الخميس: 5/جمادى الأولى 1444هـ الموافق 1/ديسمبر 2022م)
مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47