بقلم:  رئيس التحرير

         1- قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ﴾ [آل عمران:3]

         اختلفوافي المراد بقوله: (الفرقان) على ثمانية أقوال كمايقول أبوحيان. و على القول بأن المراد منه القرآن الكريم ما سبب إعادة ذكره، و قد مر في قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ﴾؟

         ذكر الرازي وجوها في الجواب عنه:

         الأول: إنما أعاده تعظيمًا لشأنه‏، ومدحًا بكونه فارقًا بين الحق والباطل. ذكره- أيضًا- أبوحيان، وأبو السعود، والآلوسي، وابن عاشور،و الشوكاني(1).

         الثاني: أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فارقًا بين ما اختلف فيه اليهود و النصارى من الحق و الباطل، وعلى هذا التقدير فلا تكرار(2).

         الثالث: إنما أعاد ذكره ليوصل الكلام به في قوله: ﴿إِنَّ ‌ٱلَّذِينَ ‌كَفَرُواْ ‌بِـَٔايَٰتِ ‌ٱللَّهِ﴾ [آل عمران:5] ذكره ابن عاشور(3).

         2- قال الله تعالى: ﴿فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌وَلَا ‌فِي ‌ٱلسَّمَآءِ﴾ [آل عمران:4]

         فإن قيل: ما الفائدة في قوله: ﴿فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌وَلَا ‌فِي ‌ٱلسَّمَآءِ﴾ مع أنه لو أطلقه كان أبلغ؟

         أجاب عنه الرازي فقال: الغرض بذلك إفهام العباد كمالَ علمه، و فهمهم هذا المعنى عند ذكر السماوات والأرض أقوى، وذلك لأن الحس يرى عظمة السماوات والأرض، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم و الإدراك أكمل، و لذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكرلها مثال، فإن المثال يعين على الفهم(4).

         وقال أبوحيان: في قوله: ﴿لَا ‌يَخۡفَىٰ ‌عَلَيۡهِ ‌شَيۡءٞ ‌فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ خصهما؛ لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا، و لأنهما محلان للعقلاء، و لأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده(5).

         3- قال الله تعالى:﴿لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:6]

         فإن قلت: ما فائدة تكرار هذه الجملة؟

         قلنا: لوجهين:

         الأول: أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجرًا للنصارى عن قولهم بالتثليث، قال: ﴿لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾ فـ«العزيز» إشارة إلى كمال القدرة و «الحكيم» إشارة إلى كمال العلم، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصورلا يكفي في كونه إلهًا؛ فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز، وكامل العلم وهو الحكيم. ذكره الرازي، ولبيد، و أبوحيان(6).

         الثاني: ﴿لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾ كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى و انحصارها فيه توكيدًا لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه السلام، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة، إذ مَن هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في القدرة و الحكمة؛ لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثرمن آثار ذلك. ذكره الآلوسي، و أبوحيان(7).

         4- قال الله تعالى: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18]

         فإن قلت: مافائدة إعادة قوله:(لاإله إلا هو)؟

         قلنا: الجواب من وجوه:

         الأول: أن تقدير الآية: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو، ونظيره قول من يقول: الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى. ذكره الرازي(8).

         الثاني: أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إله إلا هو، و شهدت الملائكة و أولو العلم بذلك صار التقدير،كأنه قال: يا أمة محمد! فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة و أولي العلم: ﴿لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ﴾ فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات. ذكره الرازي، وابن عاشور(9).

         الثالث: فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدًا في تكرير هذه الكلمة؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلًا بذكرها و بتكريرها كان مشتغلًا بأعظم أنواع العبادات، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها. ذكره الرازي(10).

         الرابع: ذكر قوله: ﴿لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أولًا: ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى، وذكرها ثانيًا: ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم. ذكره الرازي(11).

         الخامس: كرر التهليل توكيدًا. ذكره كل من أبي حيان، والشوكاني، وأبوالسعود، والآلوسي، وابن عاشور. وقال الآلوسي: و فيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته؛ لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه قوله تعالى: ﴿ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ﴾ فيعلم أنه المنعوت بهما(12).

         السادس: لا تكرار؛ فإن الأول شهادة الله، والثاني شهادة الملائكة و أولي العلم. ذكره الآلوسي.

         وقال: وهو ظاهر عند من يرفع –الملائكة- بفعل مضمر. واستبعده -جدا- أبوحيان، وعلل بأنه يؤدي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى، وعلى إضمار فعل رافع، أو على جعلهم مبتدأ، و على الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي، وهوقوله: ﴿قَائِمَاً بِالْقِسْطِ﴾(13).

         الوجه السابع: الأول جارٍ مجرى الشهادة، والثاني جارٍمجرى الحكم. ذكره أبوحيان والشوكاني، و القرطبي(14).

         الوجه الثامن: هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين، و هذا هو نتيجتهما، فكأنه قال: شهد الله و الملائكة وأولو العلم، وما شهدوا به حق، فلا إله إلا هو حق، فحذفت إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها. ذكره أبوحيان، ورده فقال: و هذا التقدير كله لايساعد عليه اللفظ(15).

         الوجه التاسع: قال الراغب:إنما كرر ﴿لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ﴾؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد؛ لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد، فيصح وصفهم بها، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر، و أبلغ ما وصف به من التنزيه: لا إله إلا الله، فتكريره هنا لأمرين:

         أحدهما: لكون الثاني قطعًا للحكم، كقولك: أشهد أن زيدًا خارج، و هو خارج.

         الثاني: لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه؛ إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى. ذكره أبو حيان(16).

         الوجه العاشر: قال جعفر الصادق: الأولى وصفٌ وتوحيدٌ، والثانية رَسْمٌ وتعليمٌ؛ يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم. ذكره القرطبي(17).

         الوجه الحادي عشر: ذكره أوّلًا للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، و أنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة، ثم ذكره ثانيا- بعد ما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل- للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين، ولذلك قرن به قوله: ﴿ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ﴾ لتضمنهما معنى الوحدانية والعدل. ذكره الزمخشري(18).

         5- قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران:21]

         في الآية بدهيتان:

         الأولى: من البدهي أن «القتل» قد علم مما سبق فما فائدة إعادته مع قوله:(ويقتلون الذين يأمرون بالقسط)؟

         والجواب من وجوه:

         الأول: كرر الفعل لإبراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع؛ لأن كل جملة مستقلة بنفسها. ذكره أبوحيان(19).

         الثاني: لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان. ذكره أبوحيان‏، وأبو السعود، والآلوسي(20).

         الثالث: يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح، و بالآخرالإهانة وإماتة الذكر، فيكونان إذ ذاك مختلفين. ذكره أبوحيان(21).

         الرابع: كرره للإشعار باختلافهما في الوقت. ذكره أبوالسعود، والآلوسي(22).

         الثانية:

         ما الفائدة في تقييده بـ(بغير حق)، وقتل الأنبياء لايكون إلا كذلك؟

         والجواب من وجهين:

         الأول: المراد منه شرح عظم ذنبهم. ذكره الرازي(23).

         الثاني: يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل(24).

         وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة.

          6- قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾[آل عمران:23]

         من البدهي أن التولي هو الإعراض فما الفائدة في قوله: (وَهُمْ مُعْرِضُوْنَ)؟

         والجواب من وجوه:

         الأول: المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل: ثم يتولى العلماء‏، و الأتباعُ معرضون عن القبول من النبي ﷺ لأجل تولي علمائهم. قاله الرازي، وذكره أيضا- الآلوسي، وأبوحيان، وعزاه لابن الأنباري(25).

         الثاني: أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، و المعنى أنه متولٍ عن استماع الحجة في ذلك المقام و معرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل: لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة؛ بل هو معرض عن الكل. قاله الرازي، و ذكره أبوحيان، وأبوالسعود، والآلوسي(26).

         الثالث: أنه للتاكيد. ذكره أبوحيان، و ابن عاشور، والآلوسي(27).

         الرابع: أن المراد التولي عن الداعي والإعراض عما دعا إليه. ذكره أبوحيان، والآلوسي(28).

         الخامس: أن المراد التولي بالبدن والإعراض بالقلب. ذكره أبوحيان، وأبو السعود، والآلوسي(29).

         7- قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوٓءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران:30]

         فإن قلت: مافائدة التحذير في قوله: (ويحذركم الله نفسه) وقد سبق؟

         قلنا: ذكروا فيه فوائد:

         الفائدة الأولى: هو لتأكيد الوعيد. ذكره الرازي، والزمخشري، والشوكاني(30).

         وذكرها أبوحيان وأضاف: (وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ). كررالتحذير للتوكيد و التحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه(31).

         وذكرها أبوالسعود وأضاف: تكرير لما سبق وإعادة له؛ لكن لا للتأكيد فقط؛ بل لإفادة مايفيده قوله عزوجل: ﴿وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم و رحمتِه الواسعةِ أو أن رأفته بهم لا تمنعُ تحقيقَ ما حذّرهُموه من عقابه وأن تحذيرَه ليس مبنيًّا على تناسي صفةِ الرأفة؛ بل هو متحققٌ مع تحققها أيضًا كما في قوله تعالى: ﴿يٰٓأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ﴾ فالجملة على الأول اعتراضٌ، وعلى الثاني حال. وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة(32).

         وذكرها أيضًا الآلوسي‏، وابن عاشور‏، و استشهد بقول لبيد:

         فتنازَعَا سَبِطا يَطير ظِلاله

كدُخان مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها

         مَشْمُولَةٍ غُلِثت بنابت عَرفج

كدُخَانِ نَارٍ سَاطِع أسْنَامُه(33)

         الفائدة الثانية: يجوز أن يكون الأول تحذيرًا من موالاة الكافرين، والثاني تحذيرًا من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضرًا. ذكره ابن عاشور(34).

         الفائدة الثالثة: ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار و هنا حثًّا على عمل الخير و المنع عن عمل السوء مطلقا.ذكره الآلوسي، ومراح لبيد(35).

         8- قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾[آل عمران:35].

         فإن قيل: إن الله سميع قبل أن قالت المرأة هذا القول، فما معنى هذا التقييد؟

         قلنا: الجواب من وجوه:

         الأول: سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات. ذكره الرازي(36).

         الثاني: هو تعليلٌ لاستدعاء القبول لامن حيث إن كونه تعالى سميعًا لدعائها عليمًا بما في ضميرها مصحّحٌ للتقبل في الجملة؛ بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نيتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك تفضلًا و إحسانًا. ذكره أبوالسعود‏، والآلوسي(37).

         9- قال الله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ ‌إِنِّي ‌وَضَعۡتُهَآ ‌أُنثَىٰ) [آل عمران:36]

         من البدهي هنا أن الله تعالى خبير بما وضعت فما فائدة الإخبار به؟

         والجواب من وجوه:

         الأول: أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر و يفرغ لخدمة المسجد و طاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت: ﴿رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ﴾ خائفةً أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم، فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها؛ بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار. قاله الرازي(38)، و ذكره الزمخشري، وأبوحيان، وأبوالسعود، وصاحب «مراح»(39).

         الثاني: يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام التحقير للمحرر استجلابًا للقبول؛ لأن من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه. ذكره الآلوسي، ورده فقال: مستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا(40).

         10- قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ﴾ [آل عمران:38]

         في الآية بدهيتان:

         الأولى:

         من البدهي هنا أن الولد لايكون إلا من الله تعالى فما فائدة قوله: (من لدنك)؟

         أجيب بأن الفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة، فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى: أُريد منك إلهي‏، أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة  وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب. ذكره الرازي، و أبوحيان، و أبوالسعود، والآلوسي(41).

         الثانية-:

          من المعلوم أن الله تعالى يسمع صوت الدعاء فما فائدة قوله: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاء﴾؟

         أثار هذا السؤال الرازي وأجاب عنه فقال: ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم؛ بل المراد منه أن يجيب دعاءه‏، ولا يخيب رجاءه، و هو كقول المصلين: سمع الله لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، و هذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا﴾ (مريم:4)(42).

         وقال أبوحيان: لما دعا ربه بأنه يهب له ولدًا صالحًا، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء. وليس المعنى على السماع المعهود؛ بل مثل قوله: سمع الله لمن حمده. عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد، و اقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذاك: ﴿ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَاء﴾ [سورة أبراهيم:39]، فأجاب الله دعاءه و رزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه. ألا ترى إلى قوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا﴾(43).

         وذكره أبو السعود – أيضا- وتبعه الآلوسي(44).

         11- قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ [الآية:42]

         فإن قلت: فما فائدة تكرار الاصطفاء وقد علم؟

         وأجيب عنه من وجوه:

         الوجه الأول: أن المراد من الاصطفاء الأول ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، و من الاصطفاء الثاني ما اتفق لها في آخر عمرها.

         أما النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى، ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث. و ثانيها: قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين؛ بل ألقتها إلى زكريا، و كان رزقها يأتيها من الجنة. وثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة. و رابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى: ﴿أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾. و خامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، و لم يتفق ذلك لأنثى غيرها. فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول.

         و أما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ. قاله الرازي(45). و أشار إليه صاحب مراح لبيد أيضًا(46).

         الوجه الثاني: كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وبيان من اصطفاها عليه. ذكره أبوحيان، وأبو السعود، والآلوسي، والشوكاني(47).

         الوجه الثالث: لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى؛ لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء و علو منزلة على الأكفاء. ذكره أبوحيان(48).

         الوجه الرابع: الاصطفاء الأول: اختيار عموم يدخل فيه صوالح من النساء، والثاني: اصطفاء على نساء العالمين. ذكره أبوحيان(49).

         الوجه الخامس: لماأطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. ذكره أبوحيان(50).

         الوجه السادس: اصطفاك أوّلًا حين تقبلك من أمّك و رباك، واختصك بالكرامة السنية، و طهرك مما يستقذر من الأفعال، و مما قذفك به اليهود، و اصطفاك آخرًاعلى نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غيرأب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. قاله الزمخشري(51) وذكره أبوالسعود، و الآلوسي، والشوكاني أيضا(52).

         الوجه السابع: تكرّر فعل ﴿اصطفاك﴾ لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي، وهو جعلها منزّهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير. فلذلك لم يُعَدّ الأول إلى متعلّق. وعدُيّ الثاني. ذكره ابن عاشور(53).

         12- قال الله تعالى: ﴿ذٰلِكَ مِنْ أَنبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾. الآية (آل عمران:44)

         في الآية بدهيتان:

         الأولى:

         إن قيل: لم نفيت هذه المشاهدة، و انتفاؤها معلوم بغير شبهة، و ترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها و هو موهوم؟

         قلنا: كان معلومًا عندهم علمًا يقينيًّا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين  للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة، و نظيره ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ﴾ ( القصص:44)، و ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّور﴾ (القصص:46)، و﴿مَا كُنْتَ لَدَيْهِم إذ أجمعوا أمرهم﴾ (يوسف: 102)، و ﴿وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا﴾ (هود:49). ذكره الزمخشري، والرازي، وأبوحيان، و أبو السعود، والآلوسي أيضًا(54).

         الثانية:

         ما فائدة تكرار قوله: (ما كنت لديهم) مع تحقق المقصودِ بعطف ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ على (إذ يُلقون) كما في قوله عزوجل: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ﴾؟

         أجيب بأنه للدِلالة على أن كلَّ واحدٍ من عدم حضورِه عليه السلام عند إلقاءِ الأقلام وعدمِ حضوره عند الاختصام مستقلٌّ بالشهادة على نبوَّته عليه السلام لا سيما إذا أريد باختصامهم تنازعُهم قبل الاقتراعِ، فإن تغييرَ الترتيبِ في الذكر مؤكدٌ. قاله أبو السعود، وتبعه الآلوسي(55).

         13- قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ﴾ [الآية:45]

         فإن قلت: ما فائدة وصفه بـ(ابن مريم)، والخطاب مع مريم؟

         قلنا: الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب، كان ذلك إعلامًا لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببًا لزيادة فضله وعلو درجته. قاله الرازي(56). و ذكره الزمخشري، وأبو حيان، وأبو السعود، والآلوسي، والشوكاني، ومراح لبيد(57).

         14- قال الله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ [آل عمران46].

         فإن قلت: إن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات، فماالفائدة في ذكره؟

         والجواب: من وجوه:

         الأول: أن المراد منه بيان كونه متقلبًا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة. والتغير على الإله تعالى محال، و المراد منه الرد على وفد نجران في قولهم: إن عيسى كان إلها. ذكره الرازي، وأبوحيان، و أبو السعود(58).

         الثاني: المراد منه أن يكلم الناس مرةً واحدةً في المهد لإظهار طهارة أمه، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة. ذكره الرازي(59).

         الثالث: قال أبو مسلم: معناه أنه يكلم حال كونه في المهد، وحال كونه كهلًا على حدٍّ واحدٍ و صفةٍ واحدةٍ‏، وذلك لا شك أنه غاية في المعجز. ذكره الرازي، والآلوسي(60).

         الرابع: فيه تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة، قاله الربيع. ذكره أبوحيان(61).

         الخامس: يقال: إن مريم ولدته لثمانية أشهر، و من ولد لذلك لم يعش، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. ذكره أبوحيان، والآلوسي(62).

         السادس: قال ابن كيسان: ذكرذلك قبل أن يخلقه إعلامًا به أنه يكتهل، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. ذكره أبو حيان(63).

         السابع: قيل: ينزل من السماء كهلًا ابن ثلاث وثلاثين سنة، فيقول لهم: إني عبد الله، كما قال في المهد، و هذه فائدة قوله: (وكهلًا)‏، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلًا، قاله ابن زيد. ذكره الرازي، وأبوحيان(64).

         الثامن: معناه: ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، و ينبأ فيها الأنبياء. ذكره الزمخشري، وأبوالسعود(65).

         التاسع: خُص تكليمُه بحالين: حالِ كونه في المَهد، و حال كونه كهلًا، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك؛ لأنّ لذَينك الحالين مزيدَ اختصاص بتشريف اللَّه إياه‏، فأما تكليمه الناس في المهد، فلأنه خارق عادة إرهاصًا لنبوته. و أما تكليمهم كهلًا فالمراد به دَعوتُه الناس إلى الشريعة. فالتكليم مستعمل في صريحه، وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين، وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين. قاله ابن عاشور(66).

         15- قال الله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ﴾.[الآية:48]

         من المعلوم أن الكتاب يشمل التوراة والإنجيل فما فائدة ذكرهما لاحقًا؟

         أجيب من وجوه:

         الأول: أن المراد بالكتاب الكتابة والخط باليد، وعزي هذا القول إلى ابن عباس. وقال الرازي: إن في هذه الآية أمورا أربعة معطوفًا بعضها على بعض بواو العطف، والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق؛ لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته و الخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صارعالما بالخط والكتابة، و محيطًا بالعلوم العقلية والشرعية، يعلمه التوراة، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة؛ لأن التوراة كتاب إلهي، و فيه أسرار عظيمة، والإنسان مالم يتعلم العلوم الكثيرة لايمكنه أن يخوض في البحث عن أسرار الكتب الإلهية، ثم قال في المرتبة الرابعة و الإنجيل، و إنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكرالتوراة؛ لأن من تعلم الخط ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء؛ فقد عظمت درجته في العلم، فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتابًا آخر و أوقفه على أسراره، فذلك هو الغاية القصوى، و المرتبة العليا في العلم، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، و الاطلاع على الحكم العلوية والسفلية، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة(67). ذكره أبوحيان، و أبوالسعود، والآلوسي(68).

         الثاني: أن المراد بالكتاب: الكتب المنزلة وإفرادُهما بالذكرعلى تقدير كونِ المرادِ بالكتاب جنسَ الكتب المنزلة لزيادة فضلِهما وإنافتِهما على غيرهما. ذكره أبوالسعود، والآلوسي، ومراح لبيد(69).

         16- قال الله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ (الآية:50)

         فإن قلت: ما فائدة إعادة قوله: (وجئتكم بآية من ربكم)؟

         قلنا: أجيب من وجوه:

         الأول: إنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعا في قلوبهم و مؤثرا في طباعهم. ذكره الرازي(70).

         الثاني: ظاهر اللفظ أن يكون قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ﴾ للتأسيس لا للتوكيد، لقوله: (قد جئتكم بآية من ربكم)، وتكون هذه الآية قوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾، لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القول آية وعلامة، لأنه رسول كسائر الرسل، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال. ذكره أبوحيان و الشوكاني، و أشار إليه الزمخشري(71).

         الثالث: أن الآية الأولى في قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ هي معجزة. وفي قوله: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ﴾ هي الآية من الإنجيل، فاختلف متعلق المجيء. ذكره أبوحيان(72).

         الرابع: يجوز أن يكون ﴿وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ﴾ كررت على سبيل التوكيد، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من: خلق الطير و الإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات، و بغيره من ولادتي من غير أب، ومن كلامي في المهد، وسائر الآيات. ذكره الزمخشري، وأبوحيان، وأبوالسعود، وابن عاشور(73).

         17- قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ ( الآية:51).

         فإن قلت: ما فائدة تكرار: (ربي وربكم) ولوقال: «ربنا» لكفى؟

         أجاب عنه أبوحيان فقال: تكرار: ربي و ربكم، أبلغ في التزام العبودية من قوله: ربنا، وأدل على التبري من الربوبية(74).

         18- قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.(الآية:55)

         فإن قيل: إن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي، وأوفاني، وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي، وتسلمتها منه، وقد يكون أيضًا توفى بمعنى استوفى، وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض، وإصعاده إلى السماء توفيًا له، فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَىَّ﴾ تكرارًا؟

         وأجيب من وجوه:

         الأول: قوله: ﴿إِنّي مُتَوَفّيكَ﴾ يدل على حصول التوفي و هو جنس تحته أنواع بعضها بالموت و بعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَىَّ﴾ كان هذا تعيينًا للنوع، ولم يكن تكرارًا. قاله الرازي(75).

         الثاني: أن المراد بالوفاة هي الوفاة يوم رفعه الله في منامه. قاله الربيع، من قوله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِالَّيْلِ﴾ أي: و رافعك وأنت نائم، حتى لايلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب. ذكره الزمخشري، وأبوحيان، و أبوالسعود، والشوكاني(76).

         الثالث: ﴿إِنّي مُتَوَفّيكَ﴾ أي مستوفي أجلك معناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار؛ ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. ومميتك حتف أنفك لا قتيلًا بأيديهم، ﴿وَرَافِعُكَ إِلَىَّ﴾ إلى سمائي و مقرّ ملائكتي. ذكره الزمخشري، وأبوحيان، و أبو السعود، و الألوسي، والشوكاني(77).

         الرابع: وفاة موت، قاله ابن عباس. و قال وهب: مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء، وفي بعض الكتب: سبع ساعات. ذكره الزمخشري، وأبوحيان، والشوكاني(78).

         19- قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾(الآية:67).

         فإن قلت: مافائدة قوله: (وماكان من المشركين) بعد أن نفى عنه اليهودية والنصرانية و وصفه بـ(حنيفا مسلما)؟

         أجيب عنه من وجوه:

         الأول: هو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح، و بكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه. ذكره الرازي، وأبوحيان، وأبوالسعود، و مراح لبيد، والآلوسي(79).

         الثاني: أن الله تعالى أعلم براءة إبراهيم من هذه الأديان وبدأ بانتفاء اليهودية؛ لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى وكرر ‏«لا» لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ثم استدرك ما كان عليه بقوله: (ولكن كان حنيفا مسلما)‏، و وقعت «لكن» هنا أحسن موقعها؛ إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل. ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى، كان الاستدراك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين، و هم: عبدة الأصنام، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم، وكالمجوس عبدة النار، و كالصابئة عبدة الكواكب، ولم ينص على تفصيلهم؛ لأن الإشراك يجمعهم(80).

         الثالث: ذلك ليَيْأس مُشْرِكو العرب من أن يكونوا على ملّة إبراهيم، وحتى لايتوهم متوهم أنّ القصر المستفاد من قوله: (ولكن حنيفًا مسلمًا) قصرٌ إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم لكنهم مشركون. قاله ابن عاشور‏، وذكره الألوسي(81).

         20- قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَـٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمَا هُوَمِنَ الْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَمِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَمِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(الآية:78).

         فإن قلت: إنه لا فرق بين قوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَبِ﴾‏، وبين قوله: ﴿وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾‏، فما فائدة التكرار؟

         أجيب عنه من وجوه:

         الأول: أنه كرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد. قاله الرازي. وذكره أبوحيان(82).

         وذكره الزمخشري وأشار إلى معنى آخر حيث قال: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ تأكيد لقوله: هو من الكتاب، و زيادة تشنيع عليهم، و تسجيل بالكذب، و دلالة على أنهم لا يعرضون، ولايوَرُّون، و إنما يصرحون بإنه في التوراة هكذا، و قد أنزله الله تعالى على موسى كذلك لفرط جراءتهم على الله و قساوة قلوبهم ويأسهم من الأخرة. وذكره الآلوسي أيضا(83).

         الثاني: المغايرة حاصلة، وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنة، و تارة بالإجماع، وتارة بالقياس، والكل من عند الله. فقوله: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـٰبِ﴾ هذا نفي خاص، ثم عطف عليه النفي العام فقال: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ﴾. قاله الرازي. وذكره مراح لبيد(84).

         21- قال الله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِى ٱللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ (الآية:86).

         فإن قلت: قال في أول الآية: ﴿كَيْفَ يَهْدِى ٱللَّهُ قَوْمًا﴾، وقال في آخرها: ﴿وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾، و هذا تكرار؟

         أثار هذا السؤال الرازي، وأجاب عنه فقال: والجواب: أن قوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِى ٱللَّهُ﴾ مختص بالمرتدين، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد، و في الكافر الأصلي فقال: ﴿وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾(85).

         22- قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلاٌّرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّٰصِرِينَ﴾ (الآية:91).

         من البدهي والمعلوم أن الكافر لايملك يوم القيامة نقيرًا، ولا قطميرًا‏، ومعلوم أنه بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب البتة في الدار الآخرة، فما فائدة قوله: ﴿لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء ٱلاْرْضِ ذَهَبًا﴾؟

         والجواب:فيه وجهان:

         أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكفر فلوأنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهبًا لن يقبل الله تعالى ذلك منهم؛ لأن الطاعة مع الكفر لاتكون مقبولة. ذكره الرازي(86). وهو قول الزجاج و استبعده أبو حيان حيث قال: والذي يظهر أن انتفاء القبول، و لوعلى سبيل الفدية، إنما يكون ذلك في الآخرة. و بينه ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس: أن النبي ﷺ قال: «يحاسب الكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لوكان لك ملء الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به؟

         فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت أيسر من ذلك»(87)، وهذا الحديث يبين أن قوله: ﴿فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء ٱلاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ﴾ هوعلى سبيل الفرض والتقدير. ثم ذكر أبو حيان القول الثاني، و رجحه(88).

         الثاني: أن الكلام وقع على سبيل الفرض، و التقدير: فالذهب كناية عن أعز الأشياء، و التقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدرعلى أعز الأشياء ثم قدرعلى بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله، وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب. قاله الرازي، وذكره أبوحيان و رجحه(89).

         الثالث: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولوافتدى بملء الأرض ذهبًا. ذكره الزمخشري.

         وتعقبه أبوحيان وقال: وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب، ولايحتمله، والذي يقتضيه هذا التركيب، و ينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرًا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها، ولو في حالة افتداء به من العذاب؛ لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن: (لو) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، و ما بعدها جاء تنصيصًا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله: «أعطوا السائل، ولو جاء على فرس و ردوا السائل ولو بظلف محرق»(90) كأن هذه الأشياء مما كان لاينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلايناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهبًا، لكنه لا يقبل. ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَٰدِقِينَ﴾؛ لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال، حتى في حالة صدقهم، و هي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها. فلفظ: (ولو) هنا لتعميم النفي والتأكيد له. وقد ذكرنا فائدة مجيئها(91).

         وذكر هذا القول أبوالسعود، و الآلوسي، وصاحب «مراح لبيد»أيضًا(92).

         الرابع: ذهب الزجاج إلى أن المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا، ولو افتدى أيضًا به في الآخرة لم يقبل منه. قال: فأعلم الله أنه لايثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب. قال ابن عطية: هذا قول حسن. و ذكره أبو حيان، وأبوالسعود(93).

         23- قال الله تعالى: ﴿قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾( آل عمران:98-99).

         فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: (قل يا أهل الكتاب) في الآيتين؟

         أجيب عنه من وجوه:

         الأول: أن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال‏، وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق. ذكره الرازي(94).

         الثاني: التكريرُ للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبـيخِهم، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم كما أن قطْعَ قولِه تعالى: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ عن قوله تعالى: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ، وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع‏؛ فإن ذلك العنوانَ كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ الناسِ فيه. ذكره أبو السعود، و تبعه الآلوسي(95).

         24- قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَاجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ وَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(آل عمران:105)

         فإن قلت: (تفرقوا واختلفوا) معناهما واحد فما فائدة تكراره؟

         أجيب من وجوه:

         الأول: ذكرهما للتأكيد. ذكره الرازي(96).

         الثاني: ليس فيه تكرار؛ فإن معناهما مختلف، ثم اختلفوا في معناهما:

         ا- فقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين. ذكره صاحب مراح  لبيد(97).

         2- وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه.

         3- الثالث: تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسًا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل. ذكر هذه الوجوه الثلاثة الرازيُّ. و ذكرها أيضا الآلوسي‏، و صاحب مراح لبيد(98).

         4- ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ﴾ هم أهلُ الكتابين حيث تفرقت اليهودُ فِرَقًا والنصارىٰ فِرَقًا ﴿وَٱخْتَلَفُواْ﴾ باستخراج التأويلاتِ الزائغةِ وكتمِ الآياتِ الناطقةِ وتحريفِها بما أخلدوا إليه من حُطام الدنيا الدنيئة. ذكره أبوالسعود(99).

         25- قال الله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ ٱللَّهِ وَ حَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِأٰيَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلاٌّنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ ( آل عمران:112).

         في الآية بدهيتان:

         الأولى:

         إن قيل: ما فائدة تكرار الـ«حبل»؟

         قلنا: لأنه أريد به حبلان ثم اختلف فيه على أقوال:

         الأول: المراد بـ«حبل الله» الإسلام، والمراد بـ«حبل الناس»: العهد و الذمة. ذكره أبوحيان، وذكره الرازي‏‏، و رده فقال: وهذا بعيد؛ لأنه لو كان المراد ذلك لقال: أو حبل من الناس(100).

         الثاني: حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية. والثاني: هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد. ذكره الرازي – ورجحه – وأبوحيان(101).

         الثانية:

         إن قلت: لم كرر قوله: ﴿ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ﴾‏، وما الحكمة فيه؟ ولايجوز أن يقال: التكرير للتأكيد؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد، والعصيان أقل حالًا من الكفر، فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان؟

         قلنا: الجواب من وجوه:

         الأول: أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء، و علة الكفر و قتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب‏، كانت ظلمات المعاصي تتزايد حالًا فحالًا، ونور الإيمان يضعف حالًا فحالًا، و لم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14) فقوله: ﴿ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ﴾ إشارة إلى علة العلة‏، ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات: من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، و من ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، و من ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، و من ابتلي بذلك وقع في الكفر. ذكره الرازي(102).

         الثاني: يحتمل أن يريد بقوله: ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ من تقدم منهم، ويريد بقوله: ﴿ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ﴾ من حضر منهم في زمان الرسول ﷺ، و على هذا لا يلزم التكرار، فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم، ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجبًا لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة. ذكره الرازي(103).

         الثالث: قال الآلوسي: ﴿ذٰلِكَ﴾ أي المذكور من المذكورات ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ﴾ الدالة على نبوة محمد ﷺ ﴿وَيَقْتُلُونَ ٱلاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ﴾ أصلًا، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة ﴿ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ إشارة إلى كفرهم و قتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار(104).

*  *  *

الهوامش:

(1)  الرازي 7/132-133؛  أبو حيان في تفسير الآية؛ أبو السعود 2/2؛ الآلوسي3/77؛ ابن عاشور في تفسير الآية؛ الشوكاني في تفسير الآية.

(2)  الرازي 7/132.

(3)  ابن عاشور في تفسير الآية.

(4)  الرازي 7/136.

(5)  أبوحيان في تفسير الآية.

(6)  الرازي 7/134؛ تفسير مراح لبيد تفسير الآية؛ أبوحيان في تفسير الآية.

(7)  الآلوسي 3/78؛ أبو حيان في تفسير الآية.

(8)  الرازي 7/170.

(9)  الرازي 7/170؛ ابن عاشور في تفسير الآية.

(10)   الرازي 7/170؛

(11)   الرازي 7/170.

(12)   أبوحيان في تفسير الآية؛ الشوكاني في تفسير الآية؛ أبوالسعود2/16؛ الآلوسي3/104؛ ابن عاشور في تفسير الآية.

(13)   الآلوسي 3/104؛ أبوحيان تفسير الآية.

(14)   أبوحيان في تفسير الآية ؛ الشوكاني في تفسير الآية؛ القرطبي4/42.

(15)   أبوحيان في تفسير الآية.

(16)   أبوحيان في تفسير الآية.

(17)   القرطبي 4/42.

(18)   الزمخشري في تفسير الآية.

(19)   أبوحيان في تفسير الآية.

(20)   أبوحيان في تفسير الآية؛ أبو السعود 2/16؛ الآلوسي3/109.

(21)   أبوحيان في تفسير الآية.

(22)   أبوالسعود 2/16؛ الآلوسي 3/109.

(23)   الرازي في تفسير الآية.

(24)   الرازي في تفسير الآية.

(25)   الرازي7/179؛ الآلوسي 3/110 ؛ أبوحيان في تفسير الآية.

(26)   الرازي7/179؛ أبوحيان في تفسير الآية؛ أبو السعود 2/16؛ الآلوسي 3/110.

(27)   أبوحيان في تفسير الآية ؛ الآلوسي 3/110؛  ابن عاشور في تفسير الآية.

(28)   أبوحيان في تفسير الآية ؛ الآلوسي 3/110.

(29)   أبوحيان في تفسير الآية؛ أبوالسعود 2/16؛ الآلوسي 3/110.

(30)   الرازي 8/196؛ الزمخشري في تفسير الآية؛ الشوكاني في تفسير الآية.

(31)   أبو حيان في تفسير الآية.

(32)   أبوالسعود 2/16.

(33)   الآلوسي 3/126؛ ابن عاشور في تفسير الآية.

(34) ابن عاشور في تفسير الآية.

(35) الآلوسي 3/126؛ مراح لبيد في تفسير الآية.

(36) الرازي في تفسير الآية.

(37) أبو السعود 2/25؛ الآلوسي 3/134.

(38) الرازي تفسير الآية.

(39) الزمخشري في تفسير الآية؛ أبوحيان في تفسير الآية؛ أبوالسعود 2/25؛ مراح لبيد في تفسير الآية؛ الآلوسي 3/134.

(40) الآلوسي 3/134.

(41) الرازي في تفسير الآية؛ أبوحيان في تفسير الآية؛ أبو السعود 2/32؛ الآلوسي 3/145.

(42) الرازي في تفسير الأية.

(43) أبوحيان تفسير الآية.

(44) أبو السعود 2/33؛ الآلوسي 3/145.

(45) الرازي 8/217 ملخصًا.

(46) مراح لبيد في تفسير الآية.

(47) الشوكاني في تفسير الآية ؛ الآلوسي 3/154؛ أبوالسعود 2/25؛ أبوحيان تفسير الآية.

(48) أبوحيان تفسير الآية.

(49) أبوحيان تفسير الآية.

(50) أبوحيان تفسير الآية.

(51) الزمخشري تفسير الآية.

(52) الشوكاني تفسير الآية؛ أبو السعود 2/25؛ الآلوسي 3/154.

(53) ابن عاشور تفسير الآية.

(54) الزمخشري في تفسير الآية؛ الرازي 8/219؛ أبوحيان في تفسير الآية؛  أبو السعود 2/25؛  الآلوسي 3/158.

(55) أبوالسعود 2/25؛ الآلوسي 3/158.

(56) الرازي 8/220.

(57) الزمخشري تفسير الآية؛ أبو حيان تفسير الآية؛ أبو السعود 2/25؛ الآلوسي 3/162؛ الشوكاني تفسير الآية ؛ مراح لبيد تفسير الآية.

(58) الرازي 8/223ـ224؛أبو حيان تفسير الآية؛ أبو السعود 2/36

(59) الرازي 8/223-224.

(60) الرازي 8/223-224؛ الآلوسي 3/163.

(61) أبو حيان تفسير الآية.

(62) أبو حيان تفسير الآية ؛ الآلوسي 3/163.

(63) أبو حيان تفسير الآية.

(64) الرازي 8/223،224؛ أبو حيان تفسير الآية.

(65) الزمخشري تفسير الآية؛ أبو السعود 2/36.

(66) ابن عاشور تفسير الآية.

(67) الرازي 8/26 ؛ أبوحيان تفسير الآية ؛ أبوالسعود 2/37.

(68) أبوالسعود 2/37؛ الآلوسي 3/166-167.

(69) أبو السعود 2/37؛ ؛ الآ لوسي 3/166-167؛ مراح لبيد تفسير الآية.

(70) الرازي 8/231.

(71) أبوحيان تفسير الآية ؛ الزمخشري تفسير الآية ؛ الشوكاني تفسير الآية.

(72) أبوحيان تفسير الآية.

(73) الزمخشري تفسير الآية؛  أبو حيان تفسير الآية ؛ أبو السعود 2/45؛ الشوكاني تفسير الآية؛ ابن عاشور تفسير الآية.

(74) أبوحيان تفسير الآية.

(75) الرازي تفسير الآية.

(76) الشوكاني تفسير الآية؛ أبو السعود تفسير الآية؛ الزمخشري تفسير الآية؛ أبوحيان تفسير الآية.

(77) أبوالسعود 2/49؛ الآلوسي تفسير الآية؛ الشوكاني تفسير الآية؛ الزمخشري تفسير الآية؛ أبوحيان تفسير الآية.

(78) الزمخشري تفسير الآية؛ أبوحيان تفسير الآية؛ الشوكاني تفسير الآية.

(79) الرازي تفسير الآية؛ أبوحيان تفسير الآية؛ أبو السعود 2/49؛  مراح لبيد تفسير الآية؛ الآلوسي 3/195.

(80) أبو حيان تفسير الآية.

(81) ابن عاشورتفسير الآية؛ الآلوسي 3/195.

(82) الرازي تفسير الآية؛  أبوحيان تفسير الآية.

(83) الزمخشري تفسير الآية؛ الآلوسي 3/205.

(84) الرازي تفسير الآية؛ مراح لبيد تفسير الآية.

(85) الرازي في تفسير الآية.

(86) الرازي في تفسير الآية.

(87) الحديث: رواه البخاري في الرقاق باب من نوقش الحساب عذب 5/2395[6173]

(88) أبو حيان تفسير الآية.

(89) الرازي في تفسير الآية؛ أبوحيان تفسير الآية.

(90) الحديث:رواه ابن حبان في «صحيحه» 8/167[3374]

(91) الزمخشري تفسير الآية؛ أبو حيان تفسير الآية.

(92) أبوالسعود 2/60.

(93) أبوالسعود 2/60؛ أبوحيان تفسير الآية؛ مراح لبيد تفسير الآية؛ الآلوسي3/220.

(94) الرازي تفسير الآية.

(95) أبوالسعود 2/65؛ الآلوسي 4/15.

(96) الرازي تفسير الآية.

(97) مراح لبيد تفسير الآية؛ الآلوسي 4/23.

(98) الرازي في تفسير الآية؛  الآلوسي 4/23.

(99) أبوالسعود 2/64.

(100) أبوحيان في تفسير الآية؛ الرازي في تفسير الآية.

(101) الرازي في تفسير الآية؛ أبوحيان في تفسير الآية.

(102) الرازي في تفسير الآية.

(103) الرازي تفسير الآية. (104) الآلوسي في تفسير الآية.

مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48

Related Posts