بقلم:  الدكتور/ محمد كامل الفقي(*)

         الذوق الذي يرسمه الإسلام ليكون نسقًا رفيعا يسلكه ذوو البصيرة والفطنة، وينتهجه ذووالحس واليقظة، يدق في معناه، ويرق في مغزاه، حتى يسمو على القوانين، ويجل عن أن تسعه النظم واللوائح، فلا تبلغ من دقائقه وأسراره شيئًا، فهو كالنور، يرى ولا يلمس، وكعبق المسك يشم ولا يمس.

         ونوهت بأن الذوق الإسلامي يأخذ بيد صاحبه إلى السلوك الرفيع، فيصل به إلى أرقى درجات المعاملة، بينه وبين جاره وخادمه، بل بينه وبين بني الإنسان عامة؛ بل بينه وبين الحيوان والطير.

         وتتبعنا مظاهر هذا الذوق الذي حرص الإسلام على مؤاخاته في جميع المعاملات والعبادات، فهو – مثلا – يؤاخيه ويصاحبه في فريضة الصلاة وفي مقدماتها من دخول الخلاء والوضوء، وغشيان بيوت الله، وعدم تخطي الرقاب، واختيار الثوب الحسن، واستحسان التطيب، وأخذ الزينة عند كل مسجد.

         ثم في مراعاة الإمام التخفيف في الصلاة فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة. وفي ظلال هذا الذوق، ومع الأدب الراقي والتوجيه السديد، يلذ للقلم أن ينوه بحال المائدة روعيت فيها هذه السنن الحميدة، وتلك المنازع الرشيدة.

         يدعو المؤدب الأعظم محمد ﷺ، الآخذ بيد الناس إلى صراط حميد، أن يغسلوا أيديهم قبل الأكل وبعده، وهو الذي يقول: الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم، وكان يأكل بيمينه ويشرب بها، وهو الذي قال: «إن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله».

         واعلم أن الخط ليس كمالا في حقهم، بل هو من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بمكال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود إلى أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. وقد كان ﷺ أميا، وكان ذلك كمالا في حقه، وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها، وليست الأمية كمالا في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا. شأن الصنائع كلها، حتى العلوم الاصطلاحية، فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا. انتهى كلام ابن خلدون.

         ورأى ابن خلدون فيما تقدم من كلامه من الوضوح بمكان، وقد لفت نظرنا – بصفة خاصة – ما أشار إليه من التمحلات التي يلتمسها أنصار الرسم القديم تبريرا لما فيه من مخالفة القياس من مثل «لأذبحنه» و«السماء بنيناها بأيد».

ما هو أغرب

         وقد اطلعت أنا على ما هو أغرب من ذلك مما يدخل في باب هذه التمحلات. قال الجعبري في سياق كلامه عن هجاء المصحف ما نصه «وأعظم فوائده – أي الرسم العثماني – أنه حجاب منع أهل الكتاب أن يقرؤوه على وجهه».

         وهذا الكلام واضح البطلان لسببين.

         السبب الأول أن القرآن نفسه يخاطب أهل الكتاب في غير موطن منه ﴿قُلۡ ‌يَـٰٓأَهۡلَ ‌ٱلۡكِتَٰبِ ‌تَعَالَوۡاْ ‌إِلَىٰ ‌كَلِمَةٖ ‌سَوَآءِۭ ‌بَيۡنَنَا ‌وَبَيۡنَكُمۡ.. الخ﴾ فكيف يخاطبهم بكلام لا يتمكنون من قراءته مكتوبا؟

         السبب الثاني أن هذا الرسم لا يحجب أهل الكتاب وحدهم عن قراءة القرآن؛ بل يحجب أعلام المسلمين عنها ممن لم يتخصصوا في العلوم الدينية كأطباء المسلمين ومهندسيهم وعلماء الذرة منهم، فإن واحدا من هؤلاء لا يستطيع أن يقرأ سورة من القرآن في المصحف العثماني دون أن يكون وراءه مقرئ – كالشيخ الحصري – يصحح له أخطاءه، ويهديه إلى الصواب، ولو لم يكن في رسم المصحف طبقا لقواعد الإملاء الحديث إلا تلافي هذا العيب لكفى.

         ولا يسعنا قبل أن نختم هذا الموضوع إلا أن نقدم لك نماذج مما يختلف فيه الرسم العثماني عن الرسم الإملائي الحديث، حتى تدرك اتساع مسافة الخلف، ومبلغ ما يقع فيه القارئ بدون مقرئ من البلبلة والاضطراب.

         وكان يشرب مصا، ولا يتجشأ ولا يتنفس في الكوب.

         وسن ﷺ ألا تبتدئ بطعام ومعك من هو أولى بالتقديم لسن أو لفضل، وألا يقصد أحد قوما متربصا لوقت طعامهم، فيدخل عليهم وقت أكلهم، فإن ذلك من المفاجأة، وقد نهى عنها ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَدۡخُلُواْ ‌بُيُوتَ ‌ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ﴾.

         إن الإسلام شرع الاستئذان، وألا ندخل بيوتا غير بيوتنا حتى نستأنس ونسلم على أهلها، وإذا قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم.

         وكان ﷺ إذا دعي لطعام وتبعه أحد أعلم به رب المنزل. وقال: «إن هذا تبعنا، فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع».

         هذه صورة للمائدة التي روعي فيها النسق الإسلامي، والنهج النبوي، لم توضع لها قوانين من حل أو تحريم؛ لكن وضع لها سياج متين من الذوق، لو أتبعه الناس جميعا لصفا سلوكهم من الشوائب، وارتقوا إلى الذروة، ولم يدانهم غيرهم في نهجهم مهما ادعى أنه على حظ من الحضارة والمدنية، وعلى قسط من اللباقة والحكمة عظيم.

         لقد نادى رجال من بني تميم سيدنا محمدا ﷺ من وراء الحجرات، وقالوا: اخرج إلينا، فأبى عليهم أدب السماء أن يكونوا على هذا النبو وتلك الغلظة في معاملة أكرم الناس على ربه، ومن هو في الأخلاق نسيج وحده.

         ونهاهم الله إذ نطق النبي ﷺ ونطقوا أن يبلغوا بأصواتهم وراء الحد الذي يبلغه بصوته. وأمرهم أن يغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا كلامهم، وجهره باهرا لجهرهم، حتى  تكون فريته عليهم لائحة، وسابغته واضحة. وحذرهم أن يجهروا له القول إذا كلموه، أو أن يخاطبوه بقولهم يا محمد، يا أحمد؛ بل يخاطبوه بالنبوة كما قيل في بعض ما قيل في معنى قوله تعالى ﴿لَّا ‌تَجۡعَلُواْ ‌دُعَآءَ ‌ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ﴾.

         لقد سلكت هذه الآيات في عقد الآيات المحكمات ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ ٢ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ ٣ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ٤ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَيۡهِمۡ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾.

         ولما كلم عروة بن مسعود الثقفي رسول الله ﷺ وعروة هذا هو عظيم القرشيين الذي قالت فيه قريش ﴿لَوۡلَا ‌نُزِّلَ ‌هَٰذَا ‌ٱلۡقُرۡءَانُ ‌عَلَىٰ ‌رَجُلٖ مِّنَ ٱلۡقَرۡيَتَيۡنِ عَظِيمٍ﴾.

         ويقال: إنه الوليد بن المغيرة المخزومي، فقال المغيرة بن شعبة لعروة. نح يدك عن لحية رسول الله قبل ألا ترجع إليك. فقال عروة: يا غدر(1)«1» وهل غسلت رأسك من غدرتك إلا بالأمس؟

         فقد رأى المغيرة أن الذوق الإسلامي والأدب العالي يمنعان أحدا مهما سما قدره، أن يحدث رسول الله ﷺ فيمس لحيته بيده.

         إن الناس يستطيعون أن يحولوا مجتمعهم إلى نموذج رفيع، لو احتكم كل واحد منهم إلى ذوق الإسلام، وجعل لتوجيهاته من القدسية والتكريم ما للقانون.

         ولو أن الناس احتفلوا بهذا الذوق وجعلوه قبلتهم، لرأيت إلى المحبة الشاملة والود الصادق والإخاء الكريم صورا رائعة من حسن المعاملة، وآيات بينات من نبل الأخلاق، وشرف السلوك.

         ثم لَوجَدت البيئة الإسلامية مهما ترامت أطرافها قد نقي أسلوبها من القول النابي، والعمل المؤذي، والتصرف السخيف، وساد المسلمين ما سادهم من طهر وملائكية تحول الحياة إلى جنات ونعيم مقيم.

         من آثار الذوق الذي نتعلق في هذا الحديث بأهدابه، أن يصعد إلى القطار والسيارة وأشباههما شيخ فان أو امرأة عجوز، أو مريض يتوكأ على نفسه، فيهم ليجلسه من هو على الوقوف أقدر وأصبر.

         ومن آثار هذا الذوق أن تميط الأذى عن الطريق، وأن تأخذ بيد الضرير لتجنبه المزالق ومظان الأذى.

         ومن آثار هذا الذوق أن لا يقحم من يرتدى ثوب العمل وقد نضح زيتا أو شحما نفسه في غمار الركاب متذرعا بالحرية الشخصية، مدعيا أنه لم يتجاوز الحق الذي كفله له القرش أو الدرهم.

         لو اتشح الناس بثوب هذا الذوق أو بحلته الرائعة لما استباح صاحب السيارة أن ينهب بها الطريق، فيثير العواصف، وينشر الفزع، ويهدد الحياة.

         ومن الطريف ما قرأته لأشهر الأطباء المعالجين قرحة المعدة، فقد كان في زيارة له في مصر، وسأله أحد الصحفيين عن أهم أسباب هذه القرحة، وكان جواب الطبيب. بوق السيارة، ثم أكد الطبيب أنه لم يستعمل بوق سيارته قط في حياته وأن أخذ نفسه بالهدوء في السير يمنعه استعماله.

         إن الإسلام لم يرد من المسلمين، أن يجعلوا  سلوكهم في نطاق الحل والحرمة، بل أخذهم مع ما له عنوان في الحل والحرمة بآداب ومنازع، تجمل بها حياتهم، وتصفو بمؤاخاتها مشاربهم، ومن ند عنها وتجافى عن شرعتها، كان إسلامه كالمصباح الذي لا يضيىء، وحسبك أن تنظر إلى الأعمى والمريض، فليست علتهما مسقطة عن سلوكهما أن يكون وفق الذوق، ومع أهدافه، وفي سمته الرفيع.

         إنه كلما عظم حظ المسلم من ذوق الإسلام، والتهدي بهديه، والسير على نهجه، والأخذ بآدابه، كان مسلما كاملا راقيا، وصار فيما يأتيه وفيما يدعه، أقرب الناس لأن يكون العظيم المقتدى به، وأصبح في الشرف والعقل من أروع الأمثال. *  *  *


(*)      الأستاذ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.

(1)    زعموا أن المغيرة صحب أناسًا أيام الجاهلية في تجارة إلى مصر، فلما كانوا ببعض الطريق قتلهم وأخذ أموالهم ثم ذهب فأسلم.

مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47

Related Posts