بقلم:  الأستاذ/محمد عزة دروزة – دمشق

         في كتب التفسير، وبخاصة المطولة التي تعتمد المأثور، مثل كتب الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والقرطبي وغيرهم، على هامش القصص القرآنية والشخصيات والأحداث المذكورة في القرآن على اختلافها، روايات مسهبة بسبيل توضيح جزئيات هذه القصص، والشخصيات والأحداث، وكيفياتها ووقائعها وظروفها، معزوة إلى كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وثعلبة ومحمد القرظيين، وابن جريج وابن نوف وأبناء منبه وغيرهم من مسلمي أهل الكتاب، وبخاصة من مسلمي اليهود، فيها كثير من المبالغات والغلو والصور العجيبة الغريبة. وقد سمى الباحثون هذه الروايات بالإسرائيليات، واعتبروها من دسائس اليهود التي استغفلوا بها الرواة والمشتغلين بتفسير القرآن، وقصدوا إلى التشويش على القرآن وأذهان المسلمين.

         والحق أن هذه الروايات التي امتلأت بها كتب التفسير المذكورة وغير المذكورة، والمطبوعة وغير المطبوعة قد استغرقت حيزا كبيرا، إن لم يكن الحيز الأكبر منها، وكادت تغطي على ما في القرآن من مبادئ وأحكام ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والذكرى والموعظة والنور والفرقان، حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسرا في كتاب تفسير من تلك الكتب. وحتى كادت تشغل المسلمين وتستغرق تفكيرهم بقصد استقصاء جزئيات القصص والأحداث والشخصيات القرآنية وظروفها الزمانية والمكانية بحيث صارت جل أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها، وبحيث صار القول أنها شوشت على القرآن وأهدافه وعلى أذهان المسلمين في محله تماما.

         ولقد كان كثير من القصص والشخصيات القرآنية مما ذكر في الكتب والأسفار التي كانت متداولة في أيدي أهل الكتاب واليهود بخاصة الذين كان في أيديهم القسم الأوفر منها والتي وصل طائفة كبيرة منها مما يعرف بأسفار العهد القديم. ولم تكن هذه الكتب والأسفار مترجمة إلى العربية، فكان هؤلاء يذكرون للرواة والأخباريين والسائلين على هامش تلك القصص والشخصيات والأحداث والبيانات فيروونها عنهم بدون تمحيص وانتباه إلى ما فيها من مبالغات وغرائب وعجائب.

         ولقد كانوا يعزون – أحيانا كثيرة – ما يقولون إلى الأسفار المتداولة في أيديهم، والتي غالبا ما كانوا يعبرون عنها باسم التوراة. ولم يكن الرواة والمدونون الأولون يعرفون اللغات التي كتبت بها.

         ولقد أثر حديث نبوي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، و قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ ‌وَمَآ ‌أُنزِلَ ‌إِلَيۡنَا ‌وَمَآ ‌أُنزِلَ ‌إِلَىٰٓ ‌إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ».

         كما أثر حديث نبوي آخر رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ جاء فيه (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

         ولقد كان جل الذين أسلموا من اليهود من الأحبار والراسخين في العلم كما يستفاد ذلك من آية سورة النساء هذه ﴿لَّـٰكِنِ ‌ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ…﴾.

تعالم اليهود

         وكان أحبار اليهود يتعالمون على المسلمين، ويتبجحون بتفوقهم عليهم في المعارف الدينية وغير الدينية مما أشار إليه القرآن في مواضع عديدة مثل آية سورة البقرة هذه ﴿وَإِذَا ‌لَقُواْ ‌ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ (76) وآية سورة البقرة هذه ﴿‌وَلَمَّا ‌جَآءَهُمۡ ‌كِتَٰبٞ ‌مِّنۡ ‌عِندِ ‌ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ..﴾-89، وآية سورة آل عمران هذه ﴿وَإِنَّ ‌مِنۡهُمۡ ‌لَفَرِيقٗا ‌يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾-78، وآيات سورة آل عمران هذه ﴿وَقَالَت ‌طَّآئِفَةٞ ‌مِّنۡ ‌أَهۡلِ ‌ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٧٢ وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ (72-73)، فكان كل هذا مما جعل الرواة والمدونين القدماء يتقبلون أقوالهم وبياناتهم على علاتها ويوردونها في كتبهم، وينقلونها إلى غيرهم، لتكون مادة ومصدرا لمدونين آخرين يأتون بعدهم. وهكذا عمت هذه الروايات معظم كتب التفسير المطولة القديمة دورا بعد دور؛ لأن المتأخرين كانوا ينقلون عن المتقدمين، بل وحذا حذوهم مؤلفو الكتب الحديثة أيضًا، وسميت بالإسرائيليات؛ لأنها مروية عن مسلمي اليهود في الدرجة الأولى.

         وفي كتب التفسير روايات تفيد أن المسلمين كانوا يسألون أهل الكتاب عن جزئيات الأحداث والقصص والشخصيات والأعلام القرآنية، وأن هذا بدأ منذ الصدر الأول.

         ومن الأمثلة على ذلك ما رواه المفسرون في سياق تفسير آيات ذي القرنين في سورة الكهف عن خلاف وقع بين ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما في قراءة جملة (عين حمئة) الواردة في آية سورة الكهف هذه ﴿حَتَّىٰٓ ‌إِذَا ‌بَلَغَ ‌مَغۡرِبَ ‌ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ﴾ حيث كان معاوية يقرأها (عين حامية) بمعنى نبع ماء حار، وكان ابن عباس يقرأها (عين حمئة) بمعنى طينة سوداء. فاتفقا على تحكيم كعب الأحبار فسألاه كيف تجد الشمس تغرب في التوراة، فقال لهم في طينة سوداء فوافق جوابه كلام ابن عباس.

         ومن ذلك اختلاف آخر كان بين أبي هريرة رضي الله عنه وصحابي آخر عن الساعة التي يستجيب الله فيها لعباده من يوم الجمعة التي ورد خبرها في حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» حيث اختلفوا فيما إذا كانت الساعة في كل يوم جمعة أو في يوم جمعة في السنة، واتفقوا على تحكيم كعب الأحبار وسألوه فقال: هي جمعة في السنة، فأنكر عليه أبو هريرة ذلك وقال: بل هي في كل يوم جمعة، فراجع كعب التوراة، ثم عاد فقال: إن التوراة تتوافق مع أبي هريرة(1).

         والجوابان – إن صحت الروايات – وليس هناك ما يمنع صحتها – تدليس؛ لأنه ليس في الأسفار شيء مما سئل عنه كعب الأحبار، ولكنهم قبلوا جوابه؛ لأنه ليس لهم إلى معرفة نصوص الأسفار من سبيل إلا سبيلهم. ولأنهم كانوا في نظرهم متفوقين عليهم في المعارف المتنوعة، بما كانوا يظهرونه من تعالم، ومما كان متفقا في ذلك مع الحقيقة من حيث إن العرب كانوا أمة أمية كما جاء في أحد أحاديث رسول الله، وكما سماهم القرآن في أكثر من موضع، في حين كان في أيدي أهل الكتاب واليهود خاصة كتب وأسفار دينية كثيرة، بالإضافة إلى أنهم كانوا يعيشون في بيئات متحضرة، وكانوا يساهمون في مختلف مجالات حياتها جيلا بعد جيل، ولأن النبي ﷺ أمر المسلمين أن يحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وأن يسمعوا لما يقولونه نسبة إلى التوراة فلا يكذبوهم ولا يصدقوهم على ما جاء في الحديثين اللذين أوردنا نصهما قبلا. ومن ثم تناقله الرواة ثم دونه المفسرون في كتبهم دون تمحيص ولا تدقيق.

         ونرجح أن جل ما روي عن مسلمة أهل الكتاب كان على هذه الصورة، أي أجوبة على أسئلة من المسلمين عن جزئيات الأحداث والشخصيات والأعلام والمسائل القرآنية. منها ما كان يأتي مسهبا، ومنها ما كان يأتي مقتضبا، وأنهم كانوا يعزون أجوبتهم إلى ما في أيديهم من الأسفار فيتقبله السامعون على علاته؛ ويرويه الرواة ويدونه المدونون، لأنه ليس إلى التحقق من صحته سبيل بالنسبة للسائلين والرواة والمدونين من أهل القرون الثلاثة الأولى، وإن كان لا يعني هذا أنهم كانوا لا يفيضون من أنفسهم من باب الشرح والتعليق المباشرين.

مسؤولية المفسرين

         وواضح من هذا أن مسؤولية ما أدت إليه الإسرائيليات في كتب التفسير من تشويش وإشغال أذهان وتغطية على المبادئ المحكمة والأمور الجوهرية في القرآن لا يتحملها مسلمة أهل الكتاب وحدهم، كما هو قائم في الأذهان، بل ولا النصيب الأوفر منها، وإنما يتحمله الرواة والمدونون القدماء سواء الذين رووا ودونوا أجوبتهم وشروحهم لأول مرة في كتب لم تصل إلينا، أم الذين دونوها في الكتب التي وصلت إلينا نقلا عن الكتب المتقدمة.

         وكلهم مفروض فيه القدرة على تمييز الغث من السمين، والباطل من الحق والكذب من الصدق، وعلى لمح ما في الروايات من غلو ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤيدها أثر صحيح، ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها واستغراقها الحيز الكبير أو الحيز الأكبر من الكتب من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب، وأهداف القرآن في آياته المحكمات، والقدرة على كون هذه دون تلك هي الجوهرية التي يجب الاهتمام لإبرازها وتجليتها، والتنبيه على ما فيها من حكم وأهداف جليلة لصلاح الإنسان والإنسانية في الدنيا والآخرة، وكون تلك لم تورد لذاتها وإنما أوردت بالأسلوب الذي اقتضت حكمة التنزيل ورودها به للتمثيل والتذكير والترغيب والترهيب والعبرة والموعظة لتكون وسائل تدعيمية للمحكمات وأهدافها، مما تقوم عليه الدلائل القطعية من سياقها وعبارتها وتكررها بأساليب يختلف بعضها عن بعض قليلا أو كثيرا، بقصد استكمال الهدف منها، وكون الواجب أن يوقف عندما اقتضت حكمة التنزيل منها، دون تزيد لاطائل من ورائه بالنسبة لما استهدف منها، ولكونها ليست مما يجب علمه دينا.

         وقد يكون هناك بعض مفسرين وقفوا من بعض هذه الروايات موقف الناقد المنكر لما يصادفه المطلعون على كتب التفسير وبخاصة المتأخرة قليلا أو كثيرا، التي تسنى لمؤلفيها الاطلاع على الأسفار بعد أن ترجمت وعُرِف مقدار ما فيها من تهافت ومغايرة وتحريف وتخريف. غير أن الحق يقتضينا أن نقول: إن هذا لم يكن شاملا ولا عاما، وإن الناقدين والمفكرين أنفسهم رووا كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد وإنكار في حين أنها لا تتوافق مع الأسفار وكثير منها ليس بينه وبين هذه الأسفار صلة..

أمثلة كثيرة

         وننبه على أن في كتب التفسير القديمة بيانات مسهبة حول القصص والشخصيات والأعلام والأحداث القرآنية معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم من غير مسلمي أهل الكتاب مثل عبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعبد الله بن جابر ومسروق ومجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وعطاء وطاووس وابن اسحاق وغيرهم فيها ما يماثل ما روي حول القصص والشخصيات والأعلام والأحداث القرآنية من إغراب ومبالغة وخيال وبعد عن المنطق والعقل والإمكان.

         ومنها ما رووه بصيغة أحاديث نبوية غير واردة في كتاب الأحاديث المعتبرة بحيث تكون تسمية البيانات جميعها بالإسرائيليات ليس صحيحا، وإنما هو من قبيل التغليب.

         ومن هذه البيانات ما هو حول قصص وشخصيات وأعلام وأحداث قرآنية ليست واردة في أسفار أهل الكتاب وبخاصة أسفار العهد القديم مثل قصص هود وقومه عاد في الأحقاف. وتبع وصالح وقومه ثمود في الحجر وشعيب وقومه في مدين. وأصحاب الأيكة وأهل الرس، ولقمان وذي القرنين وأصحاب الكهف وغير ذلك مما هو عربي أو غير إسرائيلي بالإضافة إلى البيانات التي تساق على هامش قصص إبراهيم عليه السلام التي لم تذكر في الأسفار.

         والأمثلة على ذلك مما يطيل المقال ولكنا رأينا أن نختار بعضا من غير المسهب.

         فمن ذلك ما يروى عن قتادة في سياق إنشاء إبراهيم بيت الله مع إسماعيل (إن الله وضع البيت مع آدم حينما أهبطه إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض. فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله عزوجل فقال له يا آدم: إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة، فأتى آدم البيت في مكة، فطاف به ومن بعده من الأنبياء)(2).

         ومن ذلك ما يروى عن السدي عن زيد بن أسلم في سياق المناظرة بين إبراهيم عليه السلام والملك نمرود قال: كان عند النمرود طعام وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطي الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدلين، وقال أشغل أهلي عني إذا قدمت إليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا، فعملت طعاما فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به، فعلم أنه رزق من عند الله عز وجل. قال زيد بن أسلم وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى وقال: اجمع جموعك واجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليهم البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت فيهما أربع مئة سنة يعذبه الله بها، حتى كان يضرب رأسه بالمرزبة في هذه المدة حتى أهلكه الله بها(3). على أن هناك وجها آخر لهذه المسألة. فنحن لا نعتقد أن هذه البيانات العجيبة الغريبة، وسواء منها ما روي عن أصحاب رسول الله وتابعيهم من غير مسلمي أهل الكتاب، أم ما روي عن مسلمي أهل الكتاب، ليست مخترعة من قبل الذين أوردوها جوابا عن سؤال أو توضيحا لمسألة من المسائل، أو قصة من القصص، لأن هذا يقتضي أن يكونوا جميعهم كذابين مفترين. ونحن ننزههم عن ذلك، ونرجح أن هذه البيانات مما كان متداولا في بيئتهم. ومن المحتمل جدا أن تكون واردة في كتب وقراطيس لم تصل إلينا.

أخبار انفرد بها القرآن

         وفي القرآن أخبار عن بعض الأنبياء والأمم والأحداث والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في الأسفار المتداولة اليوم ليست واردة في هذه الأسفار، مثل المحاورة بين الله والملائكة في صدر خلق آدم وخلافته. وأمر الله الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس، وتخلف أحد أبناء نوح عن الركوب في السفينة وغرقه، وتوبة آدم وقبولها من الله، وقصص إبراهيم مع أبيه وقومه، وإسكان إبراهيم بعض ذريته في منطقة المسجد الحرام، وبنائه البيت هو وإسماعيل، وإيمان سحرة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وصنع داود للدروع، وحكومة داود وسليمان في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم. وتسخير الخيل والطير لداود، وتسخير الجن والريح والطير لسليمان، وبناء الجن له التماثيل والمحاريب وغوصهم له وتقييده إياهم بالأغلال وقصة الهدهد وملكة سبا وعرشها، والصرح الممرد من القوارير. وإحضار الذي عنده العلم عرشها في لمح البصر، والجسد الملقى على عرشه، والصافنات الجياد، وكلام عيسى عن النبي، وبشارته وصفات النبي الصريحة في التوراة والإنجيل(4) ومائدة عيسى وكلامه في المهد، وغير ذلك كثير.

         هذا بالإضافة إلى ورود أشياء كثيرة في القرآن مغايرة قليلا أو كثيرا لما ورد في الأسفار، مثل نسبته صنع العجل للسامري في القرآن بدلا من هارون في الأسفار، وشق قميص يوسف وهمه بامرأة العزيز، ومثل ما جاء مباينا لما جاء في القرآن في قصص يونس وأيوب وزكريا ومريم وأمها وغير ذلك كثير أيضا. فنحن نرجح؛ بل نعتقد أنه كانت هناك أسفار وقراطيس لم يصل إلينا فيها ما هو المتطابق مع ما جاء في القرآن، سواء في ذلك ما لم يذكر في الأسفار المتداولة اليوم بالمرة، وما ذكر مباينا لما جاء في القرآن، وأنه كان في هذه الأسفار والقراطيس التي لم تصل إلينا كثير من البيانات التي تروى عن مسلمي أهل الكتاب، وعن بعض أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم من غير مسلمي أهل الكتاب.

         وفي الأسفار المتداولة اليوم ذكر لأسفار عديدة من عهد موسى ويوشع وداود وسليمان وغيرهم ليست بين الأسفار المتداولة اليوم. من جملتها توراة موسى التي كتبها بيده، ودون فيها تبليغات الله تعالى ووصاياه، والألواح ومدونة وصفت بالنشيد الرباني، وأسفار عديدة أخرى: مثل أسفار ياشر وعدي واخيلو وشيلو، وأخبار أيام كل ملك من ملوك إسرائيل ويهوذا إلخ مما يمكن أن يكون مثالا يقاس عليه.

         على أن هذا الوجه من المسألة ليس من شأنه أن يخفف من قولنا بمسؤولية الرواة والمدونين الأولين، ومن نقل عنهــــم بعـــــدهم جيلا بعد جيل عن روايــــــــــــة وتدوين، ونقل تلك البيانات والروايات الغريبـــــــة العجيبة وإشغال الحيز الكبير من كتب التفسير بها، وما أدت إليه من تشويش الأذهان والتغطية على محكم القرآن، لأن ورودها المفروض في كتب وقراطيس لا يبرر إيرادها في كتب التفسير على علاتها. لأن لهم القدرة على إدراك ولمح ما في إيرادها على علاتها من مأخذ، والقدرة على إدراك عدم ضرورة إيرادها وكونها تزيدا في شؤون لم تكن من أهدافها القرآنية حينما اقتضت حكمة التنزيل ايرادها في القرآن بالأسلوب الذي وردت به، وكونها ليست مما يجب علمه دينا، وكون الواجب أن يوقف عندما اقتضت حكمة التنزيل إيراده.

*  *  *

الهوامش:

  • في كتب التفسير أمثلة مماثلة كثيرة فاكتفينا بهذين المثالين تفاديا من التطويل الذي قد لا تتسع له المجلة.
  • انظر تفسير ابن كثير لآيات سورة البقرة.
  • من تفسير ابن كثير نكتفي بهذين المثالين اللذين لم نخترهما لأنهما أغرب من غيرهما فهناك ما يفوقهما غرابة.
  • صفات النبي ﷺ واسمه الصريح أحمد ومحمد، والبشارة به على لسان عيسى عليه السلام – ورد كل ذلك في إنجيل «برنابا» المطبوع بدار المنار بالقاهرة… (الوعي).

*  *  *

مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47

Related Posts