بقلم: الأستاذ محمد رضوان القاسمي(*)
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بما لا يعدّ ولا يحصى من النّعم العظيمة والآلاء الجسيمة، الظاهرة منها والباطنة، فقال: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ﴾ (إبراهيم:34) وقال: ﴿وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ﴾ (لقمان:20). ومن أهمّ النعم التي ميّز الله بها الإنسان عن غيره من الحيوانات والمخلوقات، والتي تستوجب منه حمدًا وشكرًا لله تعالى نعمةُ اللسان والبيان؛ فبها يعبّر عما يجيش في نفسه من مشاعر الفرح والحزن وعواطف المحبة والتقدير، وبها يعبّر عن أفكاره وأخْيلته وآرائه، وقد امتنّ الله تعالى علىه بهذه النّعمة قائلًا: ﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ ٨ وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ ٩ وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ﴾ (البلد: 8-10) وقال: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ ٣ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1-4)
ولكنّ قيمة هذه النعمة تكون بحسن استخدامها والاستفادة منها، بأن يستخدمها الإنسان في الخير: من تلاوة القرآن وذكر الله تعالى والتسبيح بحمده، وتعلّم العلم النّافع وتعليمه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، والتأليف بين قلوبهم، وما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة؛ وإلا فإنّها قد تنقلب إلى مشكلةٍ لصاحبها عند ما يستخدمها في الشرّ: من الكذب والغيبة والنميمة، والفتنة بين الناس والتفريق بينهم، وانتهاك أعراضهم، وتأييد الظالم وغير ذلك مما حرّمه الله ورسوله. قال الله تعالى: ﴿إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ﴾ (النور: 14-15) وقال: ﴿مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ﴾ (ق:18)
فهذا اللسان لاجرَم أنّه نعمةٌ إلهيّة عظيمة؛ ولكنّه في نفس الوقت نقمةٌ ومشكلة لصاحبها بحيث يمكن أن يكون مصدر الخطايا والذنوب، وأن يهبط بالإنسان إلى أسفل السافلين ويجرّه إلى الحضيض، كما ورد عن النّبي -ﷺ- أنّه قال: إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا يَرفَعُ الله بها درجات، وإنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنّم(1). وقال-ﷺ-: إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه(2).
وإن ّهذا اللسان الذي هو وسيلة التعبير عن النفس وسبيل التفاهم بين الناس سلاحٌ ذوحدّين؛ فإن استقام وصدر عنه الخير والصلاح والعفو والإحسان، استقامت الجوارح كلّها، وإن زاغ فقد زاغت كلّها؛ فهي كلّها تصدر عنه في استقامتها واعوجاجها، ولذلك تخاطبه برعاية أعمالها وخيراتها؛ بل تخضع وتذلّ له كلَّ يوم إذا أصبح الإنسان. كما روي عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- عن النبي-ﷺ- أنّه قال: إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاء كلّها تكفّر اللسان، فتقول: اتّق الله فينا فإنّما نحن بك! فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا(3).
فنظرًا لخطورة اللسان وضرره لقد أكّدت الشريعة الإسلامية على حفظ اللسان والعناية بحسن المنطق؛ بل جعل النّبي -ﷺ- ذلك أهمّ الأمور لمّا سأله معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قائلًا: يا نبيّ الله، أخبرني بعملٍ يدخلني الجنة، ويباعدني من النار! فقال: لقد سألتَ عن عظيم، وإنّه ليسيرٌ على من يسّره الله عليه، ثم أخبره بأركان الدين وبعض شعائره. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام وعمودُه: الصّلاة، وذروة سنامه: الجهاد، ثمّ قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه؟ فقلت له: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه، فقال: «كفّ عليك هذا»، فقلت: يا رسول الله! وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ فقال: ثكلتْك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم!(4).
قال العلاّمة ابن رجب الحنبلي: «المراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنّ الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيّئات، ثمّ يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيرًا من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرًّا من قول أو عمل حصد غدًا النّدامة. وظاهر الحديث يدلّ على أنّ أكثر ما يدخل به النّاس النّار النطق بألسنتهم؛ فإنّ معصية النّطق يدخل فيها الشّرك وهي أعظم الذنوب عند الله عزّ وجل، ويدخل فيها القول على الله بغير علم، وهو قرين الشّرك، ويدخل فيها شهادة الزّور التي عدلت الإشراك بالله عزّ وجل، ويدخل فيها السّحر والقذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر؛ كالكذب والغيبة والنّميمة، وسائر المعاصي الفعليّة لا يخلو غالبًا من قول يقترن بها يكون معينًا عليها»(5).
وقال الشاعر:
احفظْ لسانك أيّها الإنسانُ
لا يلـــــــدغنَّك إنّــــــــــــــــــه ثعبانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ
بل ما يكبّ النّاسَ في قعر لظى
إلا حصائده؛ فهل يقظانُ
يصغي لما يلقى إليه فيحذرن
من قبل ما يسْتهوه الشيطانُ
من كان يؤمن بالإله فلا يقل
إلا الذي يرضى به الرّحمنُ
وإنّ العبد الصالح ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، وهو المفلس الحقيقيّ في التعبير النبويّ، الذي قد أجهد نفسَه في الحياة الدنيويّة في جمع الأعمال الصالحة من صلاةٍ وصيام وزكاة، وإذا كان يوم القيامة شاهدها وهو في أمسّ الحاجة إليها تؤخذ منه إلى هذا وإلى ذاك، فيخسرها كلّها؛ فقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إنّ المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»(6).
ومن أعظم آفات اللّسان وأخطرها: الغيبة والنميمة، وإنّ هاتين الخصلتين من أقبح القبائح وأكثرها انتشارًا في الناس، حتى ما يسلمُ منهما حتى الخواصّ منهم، فالغيبة صفة ذميمة، ولقدعرَّفها النبي -ﷺ- بقوله في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه(7).
فالغيبة هي ذكرُك الإِنسانَ بما فيه ممّا يكره، سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه، أو خَلقه أو خُلقه، أو ماله أو ولده أو والده أو زوجه، أو خادمه أو مملوكه، أو عمامته أو ثوبه، أو مشيته وحركته، وبشاشته، وعبوسه وطلاقته، أو غير ذلك ممّا يتعلّق به، سواء ذكرتَه بلفظك أو كتابك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك. وضابطُه: «ذكرُه بما يكره». وقد نقل الإِمام الغزالي إجماع المسلمين على أنّ الغيبة: ذكرُك غيرَك بما يكرَهُ. وأمّا النّميمة: فهي نقلُ كلام الناس بعضِهم إلى بعضٍ على جهةِ الإِفساد(8).
والغيبة لا تختصّ باللسان، فحيثُ ما أفهمتَ الغيرَ ما يكرهه المغتابُ ولو بالتعريض أو الفعل، أو الإشارة أو الغمز أو اللمز، أو الكتابة، وكذا سائر ما يتوصّل به إلى المقصود؛ كأن يمشي مشيه فهو غيبة؛ بل هو أعظم من الغيبة؛ لأنه أعظم وأبلغ في التّصوير والتفهيم(9).
وأمّا تحريمهما فلا يخفى على أحدٍ، وقد تظاهرَ على تحريمهما الدلائلُ الصريحةُ من الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة. قال الله تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ﴾ (الحجرات:12) وقال: ﴿وَيۡلٞ لِّكُلِّ هُمَزَةٖ لُّمَزَةٍ﴾ (الهمزة:1) وقال: ﴿هَمَّازٖ مَّشَّآءِۭ بِنَمِيمٖ﴾ (القلم:11)
وعن عائشة –رضي الله عنها- قالتْ: قلتُ للنّبيّ- ﷺ-: حَسْبُكَ من صفِيَّةَ كذا وكذا، (قال الرّاوي): تعْني قصيرةً، فقال: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ»، قالت: وحكيتُ له إنسانًا، فقال: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا»(10).
قال الإمام النووي: «مَزَجَتْهُ: أي خالطته مخالطةً يتغيّر بها طعمُه أو ريحُه لشدّة نتنها وقبحها، وهذا الحديث من أعظم الزّواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث يبلغُ في الذمّ لها هذا المبلغ(11).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي -ﷺ- من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذَّبان في قبريهما فقال: يعذَّبان، وما يعذَّبان في كبيرٍ، وإنّه لكبير: كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنّميمة(12). وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتّبعَ عوراتِهمْ يتّبع الله عورتَهُ، ومن يتبعِ الله عورته، يفضحْهُ في بيته(13). وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي-ﷺ- قال: إنّ من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق(14). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: لمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم(15).
وما ذكرناه من نصوص في تحريم الغيبة والنميمة غيضٌ من فيضٍ، ولهذا الباب أدلّة كثيرةٌ في الكتاب والسنّة. قال الإمام النّووي: «اعلم أنّ الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها؛ فيجب على من سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرّمةٍ أن ينهاه إن لم يَخَفْ ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإِنكارُ بقلبه ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكّن من مفارقته، فإن قدر على الإِنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلامٍ آخر لزمه ذلك، إن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكتْ وهو يشتهي بقلبه استمراره، فقال أبو حامد الغزالي: ذلك نفاقٌ لا يخرجُه عن الإِثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطرّ إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة، وعجز عن الإِنكار، أو أنكر فلم يُقبل منه ولم يُمكنه المفارقة بطريقٍ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة؛ بل طريقه أن يذكرَ الله تعالى بلسانه أو بقلبه، أو يفكّر في أمرٍ آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرّه بعد ذلك السّماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة؛ فإن تمكّن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرّون في الغيبة ونحوها وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾ (الأنعام:68)(16).
و قال الإمام رحمه الله: اعلم أنّه لكلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة، فالسنّة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرامٍ أو مكروهٍ؛ بل هذا كثيرٌ أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء(17).
وقد قال النبي -ﷺ-: من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة(18). وقال-ﷺ-: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه(19). ولما سأل عقبة بن عامر -رضي الله عنه-: يا رسول الله، ما النجاة؟ فقال -ﷺ-: أمسك عليك لسانك، وليسعْك بيتُكَ، وابكِ على خطيئتك(20).
ولقد وصف الله تعالى أهل الإيمان وأصحاب التقوى، بالإعراض عن اللّغو ومجانبة الباطل من القول، فقال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ﴾ (المؤمنون:3) وقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ (القصص:55) وقال: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا﴾ (الفرقان:72)
فالصحابة -╚- والسلف الصالح كانوا يكفّون ألسنتهم عمّا لا يعنيهم، ويُطْلقونها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة؛ فلن تجد أحدًا منهم يتكلّم بكلمة تذهب عليه ضائعةً بدون منفعةٍ؛ فضلًا أن تضرّه في آخرته. والآثار عنهم في هذا الباب كثيرةٌ، وبعض منها فيما يلي:
* حدّث مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دخل على أبي بكر – رضي الله عنه- وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مَهْ، غفر الله لك، فقال أبو بكر: «إنّ هذا أوردني الموارد»(21).
* وقال ابن بريدة: رأيت ابن عبّاس رضي الله عنهما آخذًا بلسانه وهو يقول: ويحك! قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم؛ وإلا فاعلم أنك ستندم، فقيل له: يا ابن عباس لِمَ تقول هذا؟ قال: إنّه بلغني أنّ الإنسان – أراه قال -: ليس على شيءٍ من جسده أشدّ حنقًا وغيظًا يوم القيامة منه على لسانه، إلا ما قال خيرًا أو أملى به خيرًا.
* وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لساني(22).
* وكان أبو الدرداء-رضي الله عنه- يقول: أنصفْ أذنيك من فيك، فإنّما جُعل لك أذنان اثنتان وفم واحد، تسمع أكثر ممّا تقول(23).
* وقال الإِمامُ الشافعيُّ رحمه الله لصاحبه الرَّبِيع بن سليمان: يا ربيعُ لا تتكلّم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها(24).
* واجتمع قسّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةُ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي: قال: «حفظ اللسان»(25).
* وكان إبراهيم بن أدهم -♫- يطيل السكوت، فإذا تكلّم ربما انبسط قال: فأطال ذات يومٍ السّكوت، فقلت: لو تكلّمت، فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمن الكلام كلامٌ ترجو منفعته وتخشى عاقبته، والفضل في هذا السلامة منه، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقلّ ما لك في تركه خفّة المؤنة على بدنك ولسانك، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تأمن عاقبته، فهذا قد كفى العاقل مؤنته، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته فهذا الذي يجب عليك نشره(26).
إنّها أقوال السلف الصالح – رحمهم الله تعالى – وأحوالهم فيما يتعلّق بحفظ اللسان وضبطِه؛ ولكنّنا إذا استعرضنا اليوم بيوتنا ومجالسنا، وجدناها عامرة بالغيبة والنّميمة، والوقوعِ في أعراض الناس والتفكّه بلحومهم، والاستهزاء والازدراء، والأقوال العريضة والمظاهر الفارغة؛ إلا من رحم ربك. فنحن نتناول هذه الفاكهة المجلسيّة المسمومة المحرّمة، ونمتصّها ونجترّها ليلا ونهارًا، ولا نشعر بخطورتها وعاقبتها. وممّا يثير العجب أنّنا كما نحرص على اجتناب أكل الحرام، والظلم، والزّنا، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك من المحرّمات، لا نحرص على حفظ اللسان مما حرّمه الله ورسوله؛ فيقول الإمام ابن القيم:
«ومن العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفّظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزّنا والسّرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرّم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفّظ من حركة لسانه، حتى ترى الرّجل يشار إليه بالدّين والزّهد والعبادة، وهو يتكلّم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالًا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجلٍ متورّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول»(27).
نسأل الله تعالى أن يُعيننا على صون ألستنا عن الغيبة والنّميمة والهمز واللّمز، واللّغومن الكلام، وعن كلّ ما لايُرضيه قوله، ويجعل ألسنـتنا تلهج بذكره والتّسبيح بحمده وتلاوة كتابه، ويجعل مجالسنا عامرةً بالإيمان والخير، ومذاكرة العلم ومباحثته، ويجعلنا ممّن يستمعون القول ويتّبعون أحسنه.
* * *
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم 6478، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، برقم 49 – 2988.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم 6478، والترمذي، كتاب الزهد، باب في قلة الكلام، برقم 2319، والنسائي في الكبرى، كتاب الرقائق، برقم 11769، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم 3969، و3970.
(3) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم 2407،.
(4) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم 2616،وأخرجه ابن ماجه: 3973، والنسائي في الكبرى: (11394)، والبيهقي في الشعب: (3350)
(5) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، لابن رجب الحنبلي، 2/147، ط: بيروت.
(6) أخرجه مسلم، برقم: 2581.
(7) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، برقم 2589،
(8) الأذكارللنووي: 1/ 336.تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله، ط: دار الفكر، بيروت.
(9) آفات اللسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة، ص: 9، لمؤلفه: د. سعيد القحطاني. ط: مطبعة سفير، الرياض
(10) أخرجه أبو داود، برقم: 4875.
(11) الأذكارللنووي: 1/ 338 .
(12) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب النميمة من الكبائر، برقم 6055، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول، برقم 292.
(13) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4880، وأحمد، 4/ 421، 424.
(14) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4876، وأحمد، 1/ 190، وانظر: صحيح الجامع، 2/ 442.
(15) أخرجه أبو داود، كتاب الآداب، باب في الغيبة، برقم 4878،
(16) الأذكارللنووي: 1/336 .
(17) الأذكار للنووي: 1/ 332.
(18) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم 6474، وفي الترمذي: (من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة)، انظر: صحيح الترمذي، 2/ 287.
(19) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، بابٌ، برقم 2317، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم 3976، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 269، وصحيح ابن ماجه 2/ 360.
(20) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم 2406. وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 287، وصحيح الجامع، برقم 1388.
(21) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، 2/ 988، والنسائي في الكبرى، برقم 11841.
(22) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم لابن رجب الحنبلي، 2/148، ط: بيروت.
(23) عيون الأخبار:2/193،ط: دار الكتب العلمية –بيروت.
(24) الأذكار للنووي: 1/ 335.
(25) المصدر السابق.
(26) الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا: 1/67، ط: دار الكتاب العربي – بيروت.
(27) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء: 1/ 159، ط: دار المعرفة – المغرب. الطبعة: الأولى. * * *
(*) الأستاذ بالجامعة الإسلامية العربية بجامع أمروهة.
مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47