بقلم:  الدكتور/ عبد الرحمن عثمان

         استطاع الخليفة الحازم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يوائم بين تصريف شؤون الدولة الإسلامية الناشئة، وبين التصرف الحاذق في براعته الأدبية وعلمه بالشعر على نحو يثير العجب ويدعو إلى الإعجاب، فلم يصرفه جلال المنصب وخطورته عن الاستجابة لحاسته الأدبية التي شبت معه منذ حداثته، قبيل اعتناقه لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإقباله عليها إقبالا كان مضرب المثل في مدى ما تحدث العقائد القوية في نفوس الذين يؤمنون بها عن بصيرة واقتناع.

         وبهذه المواءمة البارعة اكتملت في الفاروق قدرات أدبية ثلاث: العلم برواية الشعر، والتذوق الفني لجماله وأصالته، والنقد لأنماطه المختلفة بطريقته التي ابتدعها في باب المعاني والألفاظ.

         ولم يشأ أن يحطب في حبل طرفة بن العبد، والنابغة الذبياني، أو يسلك طريقهما في النقد الذي نعرفه لهما في العصر الجاهلي، وإنما أخضع المعاني الشعرية لما وقر في قلبه من صدق ويقين، وآثر منها مالا يذهب به الخيال إلى المبالغة المستكرهة، أو الكذب المفضي إلى السخف والإحالة؛ لأن ذلك أدنى إلى طبعه السمح، ذلك الطبع الذي ينبو نبوا شديدا عن البهرج، وينفر أشد ما يكون النفور عن الافتعال والادعاء، ومن ثم شرع المشعر العربي مذهبا نقديًّا لم يسبقه إليه سابق، ورسم للشعراء منهجا يلتزم الوجهة التي يراها جديرة بفن شاعر إسلامي يريد أن يسهم في بناء الدولة الجديدة الناشئة، وهذا المنهج لا يقع بعيدًا عما نعرفه لابن الخطاب من واقعية إسلامية فاضلة، وسلوك اجتماعي مهذب، ومثالية خلقية عتيدة، ومن هنا جاء مذهبه النقدي على مثال تربيته الإسلامية إذ كره من الشعراء أن يهيموا في كل واد، أو أن تجرح ألسنتهم أعراضًا أمر الله أن تصان.

         وكما أحب الصدق في جانب المعنى، آثر الوضوح والسلاسة في جانب اللفظ، وإيثاره لهذين في صياغة الألفاظ، وإقامة الأسلوب يدل على ما في طبعه من وضوح وميل إلى البساطة الآسرة، ويدل كذلك على تأثره بالنسق القرآني الفريد، ذلك النسق الذي يبرأ من العوج، ويميل عن التعمية والغموض.

         ومذهب ابن الخطاب في نقد الشعر وتمييز الجيد منه – كما قلنا – يعتبر طرازًا جديدًا ظهر لأول مرة في النقد العربي متسما بالموضوعية الذكية، التي أحسنت الفهم والتعليل فيما قررت من مبادئ ثلاثة لها خطرها وأهميتها في الفن النقدي، الذي كان حينذاك حديث الولادة على ألسنة بعض الجاهليين ممن صحت عنهم الرواية، أو اكتنفت أخبارهم شبهات قامت على الجحد أو الاتهام بالتزيد في بعض النماذج النقدية.

         وخلاصة ما قرره عمر في مبادئه النقدية الثلاثة يتمثل بإيجاز فيما يلي:

         أولا: الحذق في الصناعة الشعرية، وذلك يتناول ما يسميه النقاد المحدثون. «بالشكل أو التصوير».

         وثانيا: الصدق في الوصف، بحيث لا يجانب المنطق، ولا يفضي إلى الكذب، وهذا يتعلق بما يسمى «بالمضمون».

         وثالثا: كراهية الإفحاش والثلب، وهنا يظهر جانب الالتزام والتوجيه للفن الشعري كما يظهر في المبدإ الثاني، ليسهم الشعر الجديد في بناء المجتمع الذي يريده الإسلام، وتقديما للناحية الجادة في إرساء قواعد الأخلاق والفضائل.

         لقد روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه. «أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولم كان كذلك، قال: «كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه».

         وهذه الرواية التي استفاضت في أمهات المراجع الأدبية تضع ابن الخطاب في الصدارة من نقاد العرب؛ لأنه وضع الأساس الذي قام عليه النقد العربي في أغلب صوره، حتى عصر عبد القاهر الجرجاني، حين تحدث في كتابه «دلائل الإعجاز» عن النظرة الجمالية في الشعر، فكان هذا سابقًا لنقاد الغرب في ذلك المضمار.

         وإعجاب عمر بالحذق في الصياغة الشعرية عند زهير بن أبي سلمى، يجعله – لا محالة – معجبًا بصياغة الشاعر الحطيئة وحوكه للقريض، لأنه تلميذ زهير وراويته، غير أن إعجابه بحكيم العرب من حيث صدقه وأمانته في محاكاة الصفات التي يألفها الموضوع الشعري ولا ينبو عنها باعتبارها صفات غير غريبة أو منحلة، يجعله كذلك منصرفا بعض الشيء عن شعر الحطيئة حين يجنح إلى صفات فيها إفحاش ولذع..، ولكنه انصراف فيه تلفت إلى حذق الصناعة الشعرية، وفيه كثير من الإعجاب ببراعة التلميذ، وأناته الحاذقة في تقويم قريضه، وذلك شأن الناقد الذواقة حين ينظر إلى فن شاعر جمع في نتاجه قبحا إلى حسن كثير.

         وبهذا المدخل الوجيز نستطيع أن نفسر موقف ابن الخطاب من شعر الحطيئة والنجاشي، غيرناسين ما عرضنا له في المقال الأول من توجيه وزجر رفيق بعض الشيء لعبد بني الحسحاس.

         ولكن الرواية مستفيضة في المراجع الأدبية القديمة بأن عمر كان يستعين على فهم الشعر بل والقضاء فيه بشعراء مشهود لهم بالحذق والدراية، مثل حسان بن ثابت وغيره..، ولقد كان ذلك في مقام الخصومة، وإقامة الحد على شاعر يظلم الناس، ويلغ في الإعراض، وقد أجاب محمد بن سلام وأبو عثمان الجاحظ وغيرهما على هذه الاستعانة التي كان عمر غنيا عنها دون أدنى ريب، ولكنه الخليفة الذي يقضي بين الخصوم المتنازعين.

         فالشاعر ينكر أنه أتى ظلما! ومن ألمه الهجاء يؤكد الظلم، ويؤيد العدوان على شخصه أو قبيلته، فابن الخطاب في موقف قضائي لا يبيح له أن يقضي بمقتضى علمه فقط، ثم وهو الخليفة لا ينبغي له أن يتعرض لسفه السفهاء بالقضاء في مثل هذه السفاهات دون التماس دليل حاسم من شاعر يؤمن بشاعريته ويرضى بشهادته المتقاضون، ليكون ذلك أدنى إلى العدل، وأدل على قيام الحجة التي تدرًا الشبهات، وتجعل الهجاء أمرا يحمل طابع الاعتداء دون شك أو جدال.

         وهكذا كان تعليل الجاحظ وغيره لموقف عمر بن الخطاب من القضاء في هجاء الحطيئة للزبرقان بن بدر، وفي تعريض الشاعر النجاشي ببني العجلان وغمزه لهم في جدهم الذي كانوا يفخرون به.

         فحينما شكا الزبرقان الحطيئة إلى عمر، واستعداه عليه، أقدمه عمر وقال للزبرقان. ما قال لك؟، فقال: قال لي:

         دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي

         فقال عمر لحسان بن ثابت: ما تقول؟، أهجاه؟، وعمر يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة، قال: ذرق عليه. فألقاه عمر في حفرة اتخذها محبسا.

         وابن قتيبة يزيد في هذه الرواية قوله: «فقال عمر للزبرقان بعد أن سمع هذا البيت. ما أراد هجاءك، أما ترضى أن تكون «طاعما كاسيا؟» قال: إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا فبعث إلى حسان يسأله».

         ولا أظن صحة ما يروي ابن قتيبة عن عمر الذكي الأديب، فإن صدر البيت على أنه هجاء مستقل يشير إلى المراد من «الطاعم الكاسي» في آخر البيت، إلا إذا كان مراد الخليفة حسم النزاع وإنهاء الخصومة.

         وحين هجا الشاعر النجاشي بني العجلان استعدوا عليه عمر، لأنه غيرهم بجدهم في شعره، وقد كان «العجلان» من دواعي فخرهم قبل هذا، لتعجيله القرى للضيفان، فقال عمر: وما قال فيكم؟، فأنشدوه قوله:

         إذا الله عادى أهل لؤم ورقة

فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل

         فقال عمر: إنما دعا عليكم.. ولعله لا يجاب..، فقالوا: إنه قال:

         قبيلته لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبة خردل

         فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، ونلاحظ هنا أن عمر انفصل عن بغي الجاهلية إلى وداعة الإسلام. قالوا: فإنه قال:

         ولا يردون الماء إلا عشية

إذا صدر الوراد عن كل منهل

         فقال عمر: فذلك أقل للسكاك (الزحام)، قالوا: فإنه قال:

         تعاف الكلاب الضاريات لحومهم

 وتأكل من «كعب بن عوف ونهشل»

         فقال عمر: كفى ضياعا من تأكل الكلاب لحمه..، قالوا: فإنه قال:

         وما سمي العجلان إلا لقولهم

خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل

         فقال: كلنا عبيد الله، وخير القوم خادمهم. فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: ما أسمع ذلك..، فقالوا: فاسأل حسان بن ثابت، فسأله، فقال: ما هجاهم، ولكن سلح عليهم.

         ولسنا نجد تعليقا على هذا الخبر خيرا مما علق به ابن رشيق في العمدة، قال: «.. فأسلم النظر (عمر) في أمرهم إلى حسان بن ثابت فرارًا من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلدين جهة الصناعة ولم يكن حسان على علمه بالشعر بأبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وإنما اعتل».

         والحق أن عمر كان بصيرًا بالشعر بصره بأمر صلاح هذه الأمة، ولهذا كان صاحب مذهب في تقويم الحياة والشعر جميعًا. *  *  *

مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47

Related Posts