بقلم: الشيخ عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني
لم يظهر النفاق في العقيدة والسلوك، إلا في المجتمع المدني بعد الهجرة؛ فقد ظهرت قوة المسلمين في المدينة، والنفاق ينمو كثيرا في ظل القوة، فلجأ فريق من الكفار والمشركين لإخفاء كفرهم وشركهم، وتظاهروا بأنهم مسلمون رهبة ورغبة: رهبة من قوة المسلمين، ورغبة في دفع الشر عن أنفسهم، وجلب النفع لها، و بذلك استطاع المنافقون أن يندسوا في تجمعات المسلمين، ويغشوا مجالسهم ويؤدوا معهم شعائر الدين من صلاة وحج، ويحضرون مجالس مشورتهم، ويطلعون على أسرارهم ولا يتراخون لحظة في تدبير المؤامرات ضد الإسلام والكيد له بما استطاعوا من الحيل بعد أن اتخذوا من النفاق غطاءً لكفرهم وسوء مقاصدهم، ولا ريب أن نفاق العقيدة كفر؛ بل هو أشنع من الكفر الظاهر، لأنه جمع الكذب والخداع إلى أصل الكفر.
ونفاق العقيدة الذي واجهته الدعوة لم ينسلخ عن نفاق السلوك، فالمنافقون كانوا يحرصون على أن يبدوا أمام الناس في سمت الصالحين من عباد الله؛ يذكرون الله بألسنتهم وقلوبهم أحلك من سواد الليل. وهم – في الواقع- أشد خطرا على الإسلام وعلى المسلمين من الذين أعلنوا كفرهم أمام الله والناس واعتزلوا المسلمين.
كيف واجه الإسلام ظاهرة النفاق والمنافقين؟
لم يُصِدر حكمًا بإعمال السلاح في رقاب المنافقين، للقضاء على دابرهم، ولم يحل بينهم وبين حقوقهم في الحياة، ولم يصادر حرياتهم لا في قول ولا في فعل، ولكنه وقف منهم موقفا سلميا فاقتصر دوره على فضح مؤامراتهم، وكشف أسرارهم، وتحذير المسلمين من الانخداع بهم، وتهديدهم بسوء المصير، ونهى الله صاحب الدعوة عن الركون إليهم والصلاة عليهم إذا ماتوا، ثم الاستغفار لهم أحياءً وأمواتًا.
وفي سورتي الأحزاب والتوبة تصدى القرآن – سلميًّا- لكثير من ألاعيب المنافقين في حدود الإطار العام لموقف الدعوة منهم.
فقد أرجف المنافقون إرجافًا شنيعًا وقت غزوة الخندق التي تحالفت قريش مع من استطاعت من قبائل العرب على غزو المدينة مقر الدولة الإسلامية الناشئة، وهي المعروفة بغزوة الأحزاب. وكان هدف المنافقين صد الناس عن الخروج مع صاحب الدعوة، لإضعاف قوته، وتمهيدًا لانتصار قريش وحلفائها عليه.
فكانوا يشيعون روح التخاذل ويكذّبون وعد الله ورسوله ويقولون: ﴿مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا﴾.
ثم يُحرّضون الناس على الانسلاخ من قوات الدعوة وينصحونهم بالعودة إلى المدينة ويقولون: ﴿يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ﴾.
ويبدؤون بتنفيذ مؤامرتهم الدنيئة فيستأذنون النبي في الرجوع إلى المدينة من ميدان القتال بدعوى حماية أموالهم وأسرهم من اللصوص: ﴿وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا﴾.
فماذا صنع القرآن إزاء هذا كله؟ لم يخط نحوهم خطوة واحدة فيها أمر بقتالهم والإطاحة بأعناقهم، وسبي نسائهم وذراريهم ومصادرة أموالهم ودورهم، أو حتى حرمانهم من حقوقهم المدنية؛ بل اقتصر دوره على تكذيبهم وكشف الأسباب الحقيقية لهروبهم ولتثبيط همم الناس …
ادعوا أن بيوتهم عورة فقال القرآن: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ﴾، ثم أفصح عن السبب الحقيقي الذي حملهم على ما صنعوا: ﴿إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا﴾، وأنهم بسبب نفاقهم لو اقتحم عليهم العدو دورهم ثم طلب منهم الانقضاض على النبي وصحبه، والإعلان عن كفرهم صراحة لما تلكؤوا لحظة في إجابة ما طلبه العدو منهم: ﴿وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا﴾.
ثم يأمر الله رسوله -ﷺ- أن يقول لهم: ﴿…. لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾.
ثم تابعت السورة كشف خباياهم حتى الآية رقم (20)، ومع هذا ظل المنافقون في المدينة بعد هذه الجرائم يتمتعون بكل حقوقهم في الحياة ويتنقلون بين أرجائها في حريات كاملة.
ترى: لو حدث مثل ما فعلوه ضد أي نظام حكم معاصر، ماذا يحدث من النظم الحاكمة؟
المصير معروف: عمالة -تعاون مع العدو – هروب من الميدان – خيانة كبرى للوطن – التحريض ضد النظام. ثم اعتقالات وتوجيه التهم المذكورة ثم تحقيقات، ثم محاكمات، وسعيد الحظ من يُحكم عليه بالمؤبد. و الشقي ليس له مصير إلا الإعدام شنقًا أو رميًا بالرصاص. ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إن جرؤ أحد على الشفاعة لم، ولو باسم القانون!!
فليسأل خصوم الإسلام في الخارج والداخل، ليسألوا أنفسهم: هل فعل الإسلام شيئًا من ذلك مع ألدّ خصومه؟ وأخطر أعدائه؟ حين كان الإسلام يطبق على أيدى قادة يعرفون حقيقة الإسلام، ويحرصون كل الحرص على الالتزام بأوامره ونواهيه؟ نازلين على حكم الله ورسوله-ﷺ-، تاركين هوى أنفسهم، ماضين على أمر الله فكان واقعهم هو الإسلام في أجلى معانيه. * * *
مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47