بقلم: الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي  المعروف بـ«حكيم الأمة» (1362هـ/1943م)

تعريب: الأستاذ أشرف عباس القاسمي(*)

المقصد الثاني: جواز تعليل النصوص وتقييدها بالاجتهاد:

         كما يجوز استنباط الأحكام بالاجتهاد، كذلك يجوز العمل بمقتضى الحديث نظرًا إلى كونه معلَّلا بالعلة، ومرجعه تعيين الأحكام الوضعية مثل الأحكام الشَّرعية؛ أو حملُه على أحد الوجوه التي ينطوي عليها أو تقييدُ المطلق وترك الأخذ بظاهره لايُعد مخالفةً للحديث أو رفضًا له. فيصح مثل هذا الاجتهاد والتقليد له كذلك.

      الحديث الأول: «عن ابن عمر قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ» [صحيح البخاري، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، رقم الحديث:899].

فائدة:

         فبعض هؤلاء ما صلوا صلاة العصر إلا عملا بقوة اجتهادهم، تبعا لظاهر الكلام؛ غير أن النبي ﷺ لم ينكر عليهم ولم يجعل هذا العمل ضمن رفض الحديث؛ فإنهم ما توصلوا إلا إلى ما قصده النبيﷺ وهو أحد المحتملين.

      الحديث الثاني: عن أنس بن مالك أنَّ رَجُلًا كانَ يُتَّهَمُ بأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ فأتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هو في رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقالَ له عَلِيٌّ: اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فأخْرَجَهُ، فَإِذَا هو مَجْبُوبٌ ليسَ له ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عنْه، ثُمَّ أَتَى النبيَّ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّه لَمَجْبُوبٌ ما له ذَكَرٌ.(صحيح مسلم:2771) وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ (أخرجه أحمد 1/83).

فائدة:

      كان أمر النبي ﷺ صريحًا بقتل الجاني، ولكن عليًّا اعتبره معللًا بالعلة، ولما لم يجد تلك العلة، امتنع عن عقابه وإنزال الحد عليه، وأقره النبي ﷺ بل استحسنه، مع أن عمل علي رضي الله عنه لم يكن يتوافق مع إطلاق الحديث. فثبت بذلك أن التوصل إلى علة الحديث والعمل بمقتضاه – و إن كان يأباه ظاهر الحديث – لايعد مخالفةً للحديث النبوي الشريف.

      الحديث الثالث:‏ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ‏ ‏أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ‏‏ﷺ‏ ‏وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ‏ ‏رَدِيفُهُ ‏‏عَلَى ‏‏الرَّحْلِ‏ ‏قَالَ يَا‏ ‏مُعَاذُ‏ ‏قَالَ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا‏ ‏مُعَاذُ ‏قَالَ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا ‏‏مُعَاذُ  ‏قَالَ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ‏ ‏مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ ‏مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ‏إِلَّا

حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا‏ ‏فَأَخْبَرَ بِهَا‏ ‏مُعَاذٌ‏ ‏عِنْدَ مَوْتِهِ‏ ‏تَأَثُّمًا» صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (حديث رقم:46 ).

فائدة:

      هذا الحديث صريح بلفظه، ومطلق في النهي عن الإخبار، ولكن معاذا زعم في أول الأمر أن الأمر للنصح والإرشاد، وأن احتمال «الاتّكال» مقيد بالزمان، فأخبر بها وأظهرها في آخر عمره فعُلم بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يرون بأسا في مثل هذا التعامل مع النصوص، وإلا فكان من الظاهر في مثل هذه الأمور أن يتفهموا أن هذه الأحكام مقصودة بذاتها دون أن يبحثوا عن العلل والقيود، ويعتبروا أنفسهم مخصوصين من الأدلة العامة المتعارضة على أساس هذه النصوص الجزئية – والأمر ليس كذلك -.

         الحديث الرابع: عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: خطبَ عليٌّ فقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا علَى أَرِقَّائِكُمُ الحَدَّ، مَن أَحْصَنَ منهمْ، وَمَن لَمْ يُحْصِنْ؛ فإنَّ أَمَةً لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ زَنَتْ، فأمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هي حَديثُ عَهْدٍ بنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذلكَ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: أَحْسَنْتَ. وفي روايةٍ: لَمْ يَذْكُرْ: مَن أَحْصَنَ منهمْ، وَمَن لَمْ يُحْصِنْ. وَزَادَ في الحَديثِ: اتْرُكْهَا حتَّى تَمَاثَلَ.صحيح مسلم، الرقم:1705. صحيح الترمذي، الرقم : 1441.

فائدة:

      هذا الحديث وإن لم يكن مقيدا بقيد؛ ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر في الدلائل الكلية الأخرى وحسِبَه – بقوة اجتهاده – مقيدا بما إذا كان المجرم قادرا على الصبر والاحتمال، وعمل بما أدى إليه اجتهاده، و صوّبه النبي ﷺ واستحسنه. ونظير ذلك تقييد من لا يرى القراءة خلف الإمام حديثَ «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» بمن يصلي منفردا، بقرينة الروايات الأخرى التي أوردها أبوداود عن سفيان، وسيأتي ذكرها في الخاتمة. فلا يصح أن يُنسب إلى هؤلاء كذلك رفض الحديث المذكور أعلاه.

      الحديث الخامس: عَنْ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏أَنَّ ‏سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ ‏قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ﷺ:‏ ‏لَا قَالَ‏ ‏سَعْدٌ‏ ‏بَلَى وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏ﷺ: ‏اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، ‏وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (كَلَّا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إِنْ كُنْت لَأُعَاجِلهُ بِالسَّيْفِ). صحيح مسلم كتاب اللعان (حديث رقم:2660 ).

فائدة:

      الذين لايرون إلا الظاهر سيعتقدون أن الصحابي رفض الحديث، حاشا لله. فإنه لو كان كذلك لزجره النبي ﷺ زجرًا، بدل أن يمدحه ويكرمه بلقب الشرف – السيد -، فإنه قد ورد النهي عن إطلاق لفظ السيد على المنافق فيما روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل «أخرجه أبو داود (4977)، والنسائي في «السنن الكبرى» (10073)، وأحمد (22939). ولاشك في نفاق من يدعي الإسلام ويرفض قول النبي ﷺ، ومع ذلك فقد سماه النبيﷺ بالسيد، فثبت أن مَعْنَاهُ أن سعدا فهم من نهيه ﷺ عن القتل أن لا يقتل الرجلُ ذلك الزاني لئلا ينزل على نفسه عقوبة القصاص؛ بل يأتي بالشهداء؛ وليس معناه أنه لايجوز قتله أصلًا؛ فكان سعد يعني بكلامه أنه لن يترك ذلك الزاني أبدًا، ولن يبالي بما إذا قُتل هو قصاصا بسبب فقدان البينة على ما يدعيه عند الحاكم؛ وأما عزمه علي قتل الزاني فلأن القتل مباح في هذا الموقف، فلَيْسَ قَوْله هُوَ رَدَّا لِقَوْلِ النَّبِيّ ﷺ وَلَا مُخَالَفَة مِنْ سَعْد بْن عُبَادَة لِأَمْرِهِ ﷺ، فدل ذلك على أن المجتهد لو وصل إلى ما يتضمنه الحديث من معنى دقيق يجوز له العمل به، وإن خالفه ظاهرُ الحديث، وبمثل ذلك الاجتهاد لايعد تاركًا للحديث.

         الحديث السادس: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، قالَ: ليسَ التَّحْصِيبُ بشيءٍ، إنَّما هو مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسولُ اللَّهِ ﷺ. [صحيح البخاري، حديث رقم:1766. صحيح مسلم (حديث رقم: 2221) صحيح الترمذي حديث رقم:922].

فائدة:

      والتَّحصيبُ هو نُزولُ المُحصَّبِ، وهو الأبطَحُ، وهذا عملٌ صدر من النبي ﷺ، وصدوره منه دليل ظاهر على سنيته، ولذلك يقول بسنيته عبد الله بن عمر، ولكن يقول ابن عباس الذي هو من أجلة الصحابة بمحض قوة اجتهاده: التَّحصيبُ ليس بشَيءٍ مِن مَناسِكِ الحجِّ، وليس من السنة، وإنما كان نزوله عليه السلام مصادفةً، فعُلم بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لايرون مثل هذا

الاجتهاد معارضا للحديث الشريف. ونظير ذلك ما قاله الحنفية من أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، ليست سنة مقصودة، وإنما قرأها النبي ﷺ دعاء وثناءً، وكذلك قولهم: إن القيام بحذاء وسط الميت لم يكن قصدًا؛ بل كان مصادفةً ومراعاةً لمصلحة من المصالح. فلم يبق هؤلاء أيضا ملومين.

         الحديث السابع: عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن أَسماءَ بنت عُمَيسٍ امرَأةَ أبي بَكرٍ غسَّلَت أبا بكرٍ حين تُوُفِّيَ، فسأَلَت مَن حضَرَها مِن المُهاجِرين، فقالت: إني صائِمَةٌ، وهذا يَومٌ شَديدُ البَردِ، فهل عليَّ مِن غُسْلٍ؟ فقالوا: لا. أخرجه مالك (1/223)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (10742).

فائدة:

         قد ورد حكم الاغتسال بصيغة الأمر لمن يغسّل الميت حيث قال رسول الله ﷺ «من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ». أخرجه أبو داود (2/62–63) والترمذي (2/132). وظاهر الأمر الوجوب، ولكن المهاجرين من الصحابـــــة حملوه على الاستحباب بقوتهم الاجتهادية وإلا لوَجب التيممُ نيابةً عن الغسل، إذا وُجِد العذر، ولكنهم لم يأمروها بذلك. ولم يعتبروا هذا الحمل معارضًا لإطلاق الحديث. ونظير ذلك ما قاله الحنفية من أن صيغة الأمر في «فليقاتل» في حديث «المرور بين يدي المصلي» ليست للوجوب؛ وإنما هو محمول على الزجر والسياسة. وكتب الحديث غنيةٌ بمثل هذه الروايات.

المقصد الثالث في منع الاجتهاد لمن يفقد قوته ولو كان محدّثا:

         في هذا المقصد الثالث، نتعرض لبيان معنى ملكة الاجتهاد، كما سنذكر ضِمنَ ذلك أنه لا يجوز الاجتهاد لمن لا يحظى بملكة الاجتهاد، ولو كان حافظا للحديث، فإنه من الممكن – رغم حفظه لمجموعة الأحاديث- أن لايبلغ مبلغ الاجتهاد، فلا

يلزم أن يكون كل حافظ للحديث إماما مُتبَعا.

         الحديث الأول: عن عبد الله بن عباس قال أصاب رجلا جرحٌ في عهد رسول الله ﷺ ثم احتلم فأمر بالاغتسال فاغتسل فمات فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ فقال: قتلوه قتلهم الله ألم يكن شفاء العي السؤال. (سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (337).

فائدة:

         لقد أفتى من كان معه من الصحابة بوجوب الاغتسال، عملا برأيهم وظنًّا منهم أن قول الله عز وجل: «وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّرُوا» يعمّ المعذورين وغير المعذورين، وأن قوله تعالى «وإن كنتم مرضى» إلخ يخص مَن له الحدث الأصغر. وأما رد النبيﷺ وإنكاره لتلك الفتوى فليس فيه دليل علي عدم حجية الاجتهاد أو القياس؛ فإن حجية القياس وتقريره من النبي ﷺ قد ثبت في المقصد الأول، فعُلم أن هذا الرد والإنكار على الصحابة الذين أفتوا بهذه الفتوى إنما كان لعدم أهليتهم للاجتهاد.

         الحديث الثاني: أَخَذَ عَدِيٌّ بن حاتمٍ- لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿حَتَّىٰ ‌يَتَبَيَّنَ ‌لَكُمُ ‌ٱلۡخَيۡطُ ‌ٱلۡأَبۡيَضُ ‌مِنَ ‌ٱلۡخَيۡطِ ‌ٱلۡأَسۡوَدِ﴾ [البقرة:187]- عِقَالًا أبْيَضَ، وعِقَالًا أسْوَدَ حتَّى كانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَسْتَبِينَا، فَلَمَّا أصْبَحَ قَالَ يا رَسولَ اللَّهِ: جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي عِقَالَيْنِ، قَالَ: إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ أنْ كانَ الخَيْطُ الأبْيَضُ، والأسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ.(أخرجه البخاري:4509، ومسلم:1090)

فائدة:

      فهذا الصحابي رغم كونه من أهل اللسان أخطأ فيما قصده القرآن الكريم من مراد؛ بسبب فقدانه لملَكَة الاجتهاد، وقد أنكر عليه النبي ﷺ إنكارا بأسلوب المزاح. وقد مر في الفصل الأول عدم إنكاره ﷺ على الاجتهاد وإن كان المجتهد مخطئا، فثبت بذلك أنه لم يكن متمتعًا بكفاءة الاجتهاد، ولأجل ذلك لم يضع النبي ﷺ رأيه و فهْمه في اعتبار.

         الحديث الثالث: عن عطاء بن يسار قال «جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء: فقلت إنما طلاق البكر واحدة. فقال لي عبد الله بن عمرو بن العاص: إنما أنت قاص. الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره». (موطأ الإمام مالك | كتاب الطلاق باب طلاق البكر (حديث رقم:1658)

فائدة:

      لم يُقِم عبد الله بن عمرو بن العاص وزنًا لإفتاء عطاء بن يسار مع جلالة علمه ومكانته في الحديث، لما رأى الخلل في قوة اجتهاده. وأشار بقوله «إنما أنت قاص» إلى أنه لم يفِ بحق الاجتهاد، فإن نقل الروايات يختلف تمامًا عن الإفتاء والاجتهاد. ويمكن أن لا يبلغ مبلغ الاجتهاد مع سعة روايته وحفظه للحديث. ويؤكده ما يلي:

         عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (رواه الشافعي والبيهقي في المدخل، مشکاة المصابيح، کتاب العلم). ورواه أحمد (21590) والترمذي (2656) وأبو داود (3660) وابن ماجه (4105) والدارمي(229)، عن زيد بن ثابت.

فائدة:

      فيه تصريح صريح بأن من الرواة وحفاظ الحديث من لا يعرفون معنى الحديث شيئًا، أو لايفهمون إلا قليلا حقيقة ملكة الاجتهاد:

         وفيما يلي نسرد بعض الأحاديث التي تكشف القناع عن حقيقة قوة الاجتهاد:

      الحديث الأول: أُنزِل القرآنُ على سبعةِ أحرُفٍ، لكلِّ آيةٍ منها ظهرٌ وبطنٌ، ولكلٍّ حدٌّ ومَطلَعٌ. (رواه في شرح السنة. وأخرجه البزار (2081)، وابن حبان (75) باختلاف يسير، والطبراني (10/125) (10090) مختصرًا)

فائدة:

      ظَهْرُها ما ظَهَرَ منها من مَعانيها، ولابد لذلك من الإلمام بالعلوم العربية، وبَطْنُها ما خَفيَ وأَشْكَلَ، ولابد للوصول إليه من قوة الفهم ومتانة الفطنة والإدراك.

      الحديث الثاني: عن عروة بن الزبير قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ ‌ٱلصَّفَا ‌وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ﴾ [البقرة:158]، فَوَاللَّهِ ما علَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لا يَطُوفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ، قالَتْ: بئْسَ ما قُلْتَ يا ابْنَ أُخْتِي! إنَّ هذِه لو كَانَتْ كما أَوَّلْتَهَا عليه، كَانَتْ: لا جُنَاحَ عليه أَنْ لا يَتَطَوَّفَ بهِمَا، قال الزهري: فأَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بنَ عبدِ الرَّحْمَنِ فَقالَ: إنَّ هذا لَعِلْمٌ ما كُنْتُ سَمِعْتُهُ. (صحيح البخاري، الرقم:1643).

      الحديث الثالث: عن ابن مسعود في فضل الصحابة: أولئك أصحاب محمد، أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُها تكلفًا، (أورده البغوي في «تفسيره» (1/284)، وابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/202-203)، والتبريزي في «مشكاة

المصابيح» (1/42)

      الحديث الرابع: عن أبي جحيفةَ قلتُ لعليٍّ يا أميرَ المؤمنينَ هل عندَكم سوداءُ في بيضاءَ ليسَ في كتابِ اللهِ، قالَ: والَّذي فلقَ الحبَّةَ وبرأ النَّسمةَ ما علمتُه إلَّا فَهمًا يعطيهِ اللَّهُ رجلًا في القرآنِ. أخرجه الترمذي (1412) صحيح البخاري، الرقم: 3047.

      الحديث الخامس: عن زيد بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه -، وكان ممن يكتب الوحي، قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبوبكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، (صحيح البخاري، سورة البراءة باب قوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم .حديث رقم:4679)

فائدة:

      قد ثبت بالأحاديث الخمسة المذكورة ما يلي من الفوائد:

         1- معاني النصوص بعضها ظاهرة، وبعضها خفية في مدلولها، دقيقة في مفهومها؛ لما تتضمن من الأسرار والعِلل والحِكم. أما في القرآن الكريم، فالحديث الأول يدل على ذلك بصراحة، حيث عبّر عن مثل هذه المدلولات ببطن القرآن. وأما في الحديث الشريف فيؤكده ما ذكرناه قبل ذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لا معنى لكون التلميذ أوعى وأفقهَ بالنسبة إلى مجرد المعاني الظاهرة، فثبت أن كلا هذين القسمين من المعاني في الحديث الشريف أيضا مثل القرآن.

         2- عقول الناس متفاوتة في فهم النصوص، فمنهم من يتوقف عند ظاهر النص، ومنهم من يتوصل إلى أعماقه، كما يؤكده الحديث الثاني، فإن النكتة الدقيقة التي تنطوي عليها الآية، رغم أنها ليست في غاية الخفاء إلا أن عروة بن الزبير لم يتوصل إليها، وأدركتها عائشة الصديقة  رضي الله عنها، وبما أنها كانت في غاية اللطافة، اهتز فرحا أبو بكر بن عبد الرحمن حينما سمعه من ابن شهاب الزهري وقال: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ ما كُنْتُ سَمِعْتُهُ.

         3- كل درجة لزيادة الفهم لا تُعد فضلًا وشرفًا في تفاوت الأفهام، فإنه لايخلو من ذلك اثنان، بل هناك درجة خاصة تحمل الشرف والكرامة لدقتها وعمقها، ويعتبر ذلك علما معتدا به، والحديث الثالث صريح في ذلك.

         4- هذه الدرجة المخصوصة من الفهم ليست كسبيةً، وإنما هي وهبية يهبها الله تعالى لمن يشاء، كما يدل عليه ما ورد في الحديث الرابع «إلَّا فَهمًا يعطيهِ اللَّهُ» نعم القلب له شأن كبير في اعتباره؛ فإنه يرفع التردد ويهب الطمأنينة كما ينم عنه الحديث الخامس. ففي بداية الأمر تردَّد أبوبكر الصديق في كونه خيرا نظرًا إلى ظاهر ما ورد من الأحاديث في ذم البدعة، ولكن أدرك قلبه المدلول الخفي وسِرَّ حكم الاجتناب عن البدعة، انكشف له أنه من جملة ما أُمر به من حفظ الدين، واستقر رأيه على أنه خارج عن البدعة المنهي عنها. وبعض الأحاديث الخمسة تدل على معاني أخرى كذلك، علاوةً على ما ذُكر، كما يظهر بالتأمل، ولكن اُكتفي بمدلولٍ من الحديث مما له مزية خاصة به رومًا للاختصار. فالمراد بالقوة الاجتهادية هي الدرجة الخاصة للفهم المذكور في الحديث.          فحقيقة القوة الاجتهادية في ضوء الأحاديث النبوية أنها «ملكة وقوة فهمية علمية وهبية خاصة يطلع بها صاحبها على مدلولات النصوص الخفية ومعانيها الدقيقة وعلى علل الأحكام وأسرارها أي الأحكام التكليفية والوضعية وينشرح بها صدره ويطمئن لها قلبه. – وهذه الدرجة لايصل إليها الآخرون – وإذا بدا له شق آخر، واستقر قلبه فيه، رجع عن الشق الأول. وهذه هي القوة الاجتهادية التي يعبر عنها في الآيات والأحاديث بالفهم والفقه والرأي والعلم والاجتهاد والاستنباط وشرح الصدر.


(*)      أستاذ بالجامعة.

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts