بقلم: الباحث محمد دانش أنور القاسمي(*)

         قد دعا الإسلام الناس دعوةً عامةً إلى التحلي بالأخلاق الحميدة و التخلي عن الأخلاق الرديئة. و كثرة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بموضوع الأخلاق تدل على أهميتها في المجتمع البشري الإسلامي. ومن الأخلاق الإسلامية المذكورة في الكتاب والسنة خلق العفو و التسامح، وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه بالتخلق به فقال: ﴿خُذِ ‌ٱلۡعَفۡوَ ‌وَأۡمُرۡ ‌بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ (الأعراف:199). وحث المؤمنين على أن يتحلوا به؛ لأن خلق العفو من صفات المؤمنين المتقين كما قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوٓاْ ‌إِلَىٰ ‌مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ١٣٣ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (آل عمران:133-134) ولأنه أقرب للتقوى فقال سبحانه: ﴿وَأَن ‌تَعۡفُوٓاْ ‌أَقۡرَبُ ‌لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (البقرة:237)، و هو أيضًا سبب لمرضاة الله ومغفرته وعفوه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِن ‌تُبۡدُواْ ‌خَيۡرًا ‌أَوۡ ‌تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا﴾ (النساء:149).

مفهوم العفو لغةً واصطلاحًا:

         معنى العفو لغة: العفو مصدر عَفَا يَعْفُو عَفْوًا، فهو عافٍ وعَفُوٌّ، والعَفْوُ: هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المـحو والطمس، وعفوت عن الحق: أسقطته، كأنك محوته عن الذي عليه، وقال الخليل: وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه. وقد يكون أن يعفو الإنسان عن الشيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق(1).

         معنى العفو اصطلاحًا: العفو هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب، وقال الراغب: «العفو هو التجافي عن الذنب وقيل: هو القصد لتناول الشيء، والتجاوز عن الذنب»(2).

         العفو قد يكون من الله عن عباده فيكون عفوه عنهم بترك مؤاخذتهم على ذنوبهم، وعدم محاسبتهم عليها، وفي هذا المعنى عَفُوٌّ، هو اسم من أسماء الله الحسنى، على وزن فعول بصيغة المبالغة، ومعناه:الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من اسم الغفور، وقد ورد في القرآن الكريم خمس مرات: ﴿فَٱمۡسَحُواْ ‌بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ (النساء:43) ﴿‌فَأُوْلَـٰٓئِكَ ‌عَسَى ‌ٱللَّهُ ‌أَن ‌يَعۡفُوَ ‌عَنۡهُمۡۚ ‌وَكَانَ ‌ٱللَّهُ ‌عَفُوًّا ‌غَفُورٗا﴾ (النساء:99) ﴿إِن ‌تُبۡدُواْ ‌خَيۡرًا ‌أَوۡ ‌تُخۡفُوهُ ‌أَوۡ ‌تَعۡفُواْ ‌عَن ‌سُوٓءٖ ‌فَإِنَّ ‌ٱللَّهَ ‌كَانَ ‌عَفُوّٗا ‌قَدِيرًا﴾ (النساء:149) ﴿ذَٰلِكَۖ ‌وَمَنۡ ‌عَاقَبَ ‌بِمِثۡلِ ‌مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ﴾ (الحج:6) ﴿وَإِنَّهُمۡ ‌لَيَقُولُونَ ‌مُنكَرٗا ‌مِّنَ ‌ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ﴾ (المجادلة:2).

         وجاء هذا اللفظ أي العفو في الأحاديث العديدة في نفس المعنى، منها: عن عائشة أنها قالت: «قلت: يا رسول الله، أرأيت إِن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟، قال «تقولين: «اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (رواه ابن ماجه) وعن أبي بكر قال: «قام رسول الله على المنبر ثم بكى، فقال: سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية» (رواه النسائي)، و عن عبد الله بن عمر قال: «لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم، إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم، إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم، استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال من تحتي»(رواه ابن ماجه).

أقوال العلماء في معناه:

         قال ابن جرير الطبري: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا» أي: إن الله لم يزل عَفوًّا عن ذنوب عباده، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به»(3) وقال السعدي: «العَفُوُّ، الغفور، الغفار الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا، كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها»، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي ‌لَغَفَّارٞ ‌لِّمَن ‌تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ﴾(4) (طه:82) وقال الزجاج: «والله تعالى عفوٌّ عن الذنوب، تارك العقوبة عليها»(5). وقال الخطابي: «العفو: الصفح عن الذنوب، وترك مُجازاة المسيء»(6) وقال الحليمي: «العفو، معناه: الواضع عن عباده تبعات خطاياهم وآثارهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا، أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا، فيكفر عنهم ما فعلوا بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به، وجزاء له بعمله»(7) وقال الغزالي: «العفو: هو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو قريب من الغفور ولكنه أبلغ منه، فإن الغفران ينبيء عن الستر والعفو ينبيء عن المحو والمحو أبلغ من الستر»(8) وقال محمد منير الدمشقي في الإتحافات السنية: «العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم، لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة؛ لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر»(9).

         و قد يكون العفو من العباد عن العباد، فالعفو بين الناس خلق محبوب عند الله تعالى، و من عادات النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يكثر من طلب العفو من الله تعالى، وأمر الله عز وجل به نبيه ﷺ، ودله عليه، كما قال ﴿خُذِ ‌ٱلۡعَفۡوَ ‌وَأۡمُرۡ ‌بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ (الأعراف:199)

         قال الإمام ابن كثير في تفسيره: «قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: «خذ العفو» أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم، وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى: «خذ العفو» قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس، وقال هشام بن عروة ، عن أبيه: أمر الله رسوله ﷺ أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، وفي رواية قال: خذ ما عفا لك من أخلاقهم، وهذا أشهر الأقوال، ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا: حدثنا يونس حدثنا سفيان – هو ابن عيينة – عن أمي قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه ﷺ: (خُذِ ‌ٱلۡعَفۡوَ ‌وَأۡمُرۡ ‌بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ) قال رسول الله ﷺ: «ما هذا يا جبريل؟» قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.

         وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.

         و جعل خلق العفو و الصفح صفة من صفات المؤمنين كما قال سبحانه و تعالى ﴿ٱلَّذِينَ ‌يُنفِقُونَ ‌فِي ‌ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾(آل عمران:134)

         وقال الإمام ابن كثير (وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ) أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: (وَٱللَّهُ ‌يُحِبُّ ‌ٱلۡمُحۡسِنِينَ) فهذا من مقامات الإحسان.

         وجاء في تفسير السعدي أن الله وصف المتقين وأعمالهم، فقال: «الذين ينفقون في السراء والضراء» أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل، (وَٱلۡكَٰظِمِينَ ‌ٱلۡغَيۡظَ) أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم، (وَٱلۡعَافِينَ ‌عَنِ ‌ٱلنَّاسِۗ) يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهةً لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: ﴿وَجَـزَـٰٓؤُاْ ‌سَيِّئَةٖ ‌سَيِّئَةٞ ‌مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾ (الشورى:40) وقال الشيخ السعدي: ذكر الله عز وجل في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم.

         فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.

         ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.

         وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.

         وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: «إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم، (قد تم ما قال السعدي).

         وإذا انتقلنا من القرآن الكريم إلى السنة المطهرة وآثار الصحابة وأقوال العلماء فوجدنا أن العفو استعمل في هذا المعنى أيضا مثلا: قال النبي ﷺ: «ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله»(رواه مسلم )، وعن أبي بن كعب، أن رسول الله ﷺ قال: «من سرَّه أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه» (رواه الطبراني)، وسُئِلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ قالت: «لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا (صياحا) في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» (رواه الترمذي)، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة» (ابن كثير ج1ص407).

         وقيل لأبي الدرداء: من أعز الناس؟ فقال: «الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله تعالى»(10).

         وعن وهب بن كيسان قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: ﴿خُذِ ‌ٱلۡعَفۡوَ ‌وَأۡمُرۡ ‌بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ [الأعراف:199] قال: «والله ما أمر بها أن تؤخذ إلا من أخلاق الناس، والله لآخذنها منهم ما صحبتهم»(11).

         وأُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة: «ماذا ترى؟» قال: «إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم»(12).

         وعن عمر بن عبد العزيز قال: «أحبُّ الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة»(13).

         وعن سعيد بن المسيب قال: «ما من شيء إلا والله يحب أن يعفى عنه، ما لم يكن حدّا» (رواه الإمام مالك)، وعن الحسن، قال: «أفضل أخلاق المؤمن العفو»(14).

         وقال الفضيل بن عياض: «إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا، فقل: يا أخي، اعف عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور؛ لأن الفُتُوَّة هي العفو عن الإخوان»(15).

         وقال إبراهيم النخعي: «كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا»(16)، وعن أيوب قال: «لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم»(17).

         فهذه الآيات والأحاديث و الأقوال تصور أمامنا صورة كاملة من العفو والتسامح، ومن الملاحظ أن العفو يصدر من العافي مع قوته وتمكنه وعزته وسيطرته على الجاني، فالله هو العفوُّ الذي يمحو سيئات عباده ويتجاوز عنها، ويطلب العبد عفو الله بالالتجاء إلى الله تعالى بدعاء العفو والتوبة من الذنب، والندم عليه.

         وهو من الأخلاق التي أمر الله تعالى نبيه بالتخلق بها، كما أن العفو من صفات المؤمنين المتقين المستحقين دخول الجنة، فالعفو سبب رفعة وقوة للعبد، وليس سبب ذل أو ضعف، إنما هو مبلغ الحكماء والعقلاء وتوثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن وسبيل إلى الألفة والمودة بين أفراد المجتمع وفيه الطمأنينة، والسكينة، وشرف النفس، وبه تنال العزة والمحبة عند الله وعند الناس وهوسبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى.

         وقال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دارالسعادة: «يا ابن آدم: إن بينك وبين الله خطايا وذنوبًا لا يعلمها إلا هو، وإنك تحب أن يغفرها لك الله، فإذا أحببت أن يغفرها لك، فاغفر أنت لعباده، وإن أحببت أن يعفوها عنك، فاعف أنت عن عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل، تعفو هنا يعفو هناك، تنتقم هنا ينتقم هناك».

*  *  *

الهوامش:

(1)    مقاييس اللغة لابن فارس ج 4ص56.

(2)    مفردات ألفاظ القرآن ص 574.

(3)    جامع البيان: ص 74ج5.

(4)    تيسير الكريم الرحمن: ص300ج5.

(5)    تفسير الأسماء: 62.

(6)    شأن الدعاء: 90.

(7)    المنهاج: ص201ج1.

(8)    المقصد الأسنى: ص140ج1.

(9)    الإتحافات السنية

(10) النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب: ص58ج6.

(11) الألباني، في صحيح الأدب المفرد: 244.

(12) الماوردي، أدب الدنيا والدين: 260.

(13) البستي، ابن حبان، روضة العقلاء: ص 167.

(14) ابن مفلح، الآداب الشرعية: ص71ج1.

(15) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره: ص3280 ج10.

(16) ابن كثير تفسير القرآن العظيم: ص210. (17)   البستي، ابن حبان، روضة العقلاء: ص 167.


(*)         قسم اللغة العربية جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية، فرع لكناؤ.

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts