بقلم:  أبو عائض القاسمي المباركفوري

         ذات ليلةٍ من ليالي السنة المنصرمة طَرَقَ بابي طارق، بعد صلاة المغرب في الوقت الذي ينصرف فيه معظم المدرسين أمثالي إلى المطالعة والتحضير للدرس القادم، ففتح الباب بعض أبنائي، فإذا الطارق أحد خريجي جامعة دارالعلوم فلاح دارين في «تركيسر» بولاية «غجرات»، وهو المقرئ محمد شعيب الكيرانوي الذي أبدى رغبته في لقائي بشدة، واعتذرت إليه على لسان ابني بأني مشغول في تحضير الدروس للغد، فهلا تزورني بعد صلاة العشاء؛ ولكن الطارق أصر على أنه لايريد إلا دقائق من أوقاتي، و وعدني بعدم الإطالة، فخرجت إليه، وحييته ورحبت به، وجلست إليه قليلا، فذكر لي أن مدير جامعة فلاح دارين وأساتذته يرغبون في زيارتي لهم، ولمدرستهم العريقة، فتواعدنا على هذه الزيارة في شهر رجب أو قريبًا منه. ثم استمر الأخ المقرئ الكريم على تواصل معي في خصوص هذه الزيارة الأخوية العلمية، ومضت الأيام والشهور حتى حان موعد الرحلة ولم يبق إلا أسبوعان أو نحو ذلك، فرغب الأخ في الحصول على صورة الهوية للحجز على الرحلة الجوية إلى هذه المنطقة، وكان فيروس كورونا بدأ ينشر أجنحته في مختلف أنحاء البلاد، وخاف الناس أن تعود الحكومة الهندية إلى فرض الحظر على الرحلات و التجوالات في أنحاء البلاد، وصدرت التشديدات الكبيرة على المطارات ومحطات القطارات في عدد من المدن الهندية بما فيها العاصمة: دهلي. وكنت أخشى أن ألدغ من جحر مرتين؛ فقد كنت في رحلة إلى «أورنك آباد» قبل فرض الإغلاق العام التام قبل سنوات، الذي استمر شهورًا، وجلب على الناس حيث كانوا متاعب ومعاناة لايعلمها إلا الله تعالى، ولايزال حاضرًا في عقولهم و في عيونهم ماثلا ليومنا هذا. وتوالى الإصرار من الأخ المقرئ، وتواصل الإنكار والإباء مني أيامًا وأسابيع، حتى انقطع رجاؤه مني في الرحلة.

         وفي هذه السنة وبالتحديد في شهر ربيع الآخر عاود الأخ المقرئ الاتصال بي، وأعاد رغبة مدير جامعة فلاح دارين في الزيارة في شهر جمادى الآخرة من هذا العام (1444هـ). و زالت مخاوف فرض الحظر على الرحلات، وكما تواصل معي مدير الجامعة فضيلة العالم الشاب الشيخ نذير حفظه الله بدوره في خصوص هذه الرحلة حتى اتفقنا على ذلك في أواخر عام 1444هـ/الموافق أوساط شهر يناير من عام 2023م.

         ومرت الأيام والأسابيع يومًا يومًا وأسبوعًا أسبوعًا. وخلال ذلك أبدت جامعة أخرى ومديرها أن أعرج عليهم خلال هذه الزيارة قبل الموعد المقطوع لجامعة فلاح دارين أو بعده. وتوصلنا إلى أن أبدأ هذه الرحلة بزيارة الجامعة الإسلامية/خرود بولاية «غجرات»، على بعد نحو 40 كيلو من مدينة «سورت» التجارية العريقة بوابة مكة في يوم من الأيام، لأشهد برنامجًا عربيًّا أرديًّا خليطًا يقام يوم السبت في 22/جمادى الآخرة عام 1444هـ، ثم أعرج في اليوم التالي على جامعة فلاح دارين. وقطعوا لي تذكرة ذهاب وعودة على شركة الخطوط الجوية الهندية المعروفة بـ(Indigo) الممتدة خدماتها إلى طول الهند وعرضها علاوة على رحلاتها خارج البلاد.

         وفي صبيحة اليوم الموعود يوم الجمعة 21/جمادى الآخرة 1444هـ الموافق 13/يناير عام 2023م خرجت من بيتي بعد الساعة العاشرة في سيارة أجرة خاصة حملتني إلى مطار دهلي العاصمة مطار إنديرا غاندي الدولية/المحلية، فمشت السيارة هادئة على الطريق السريع، وخالجني بعض الخلل في السيارة منذ ركبتها في ديوبند، وذكرت ذلك للسائق فرفض أي خلل في السيارة، ولم نكد نتجاوز مساكن مدينة «مظفر نغر» في طريقنا إلى «دهلي» حتى شعرت ببعض الهزات داخل السيارة، التي أكدت ما خالجني من الخلل، وبعد اللُّتيا والتي لم يجد السائق بدًّا من توقيف السيارة والتأكد من مصدر الخلل و عما إذاكان بإمكانه إصلاحه أم لا. وفعلا توقفت السيارة، ونزلت أنا وهو من السيارة، ثم تحدث إلى أحد معارفه، وأطلعه على الخلل الذي أصاب السيارة، فرجعنا القهقرى أميالا، حتى وصلنا إلى بعض ورشات السيارات، فنزلت وركب مهندس الورشة السيارة مع السائق ليتأكد من الخلل. ثم لم يمض إلا دقائق حتى عادا، وتوصلا إلى أن في السيارة خللا يستغرق إصلاحه ساعات، فأمرته بأن يطلب لي سيارة أخرى من ديوبند، فإن الوقت كان ينقضي بسرعة رهيبة، ولا أزال بعيدًا عن المطار الذي كانت وجهتي بهذه السيارة. وجاءت سيارة أخرى أقلتني إلى المطار، وحمدت الله تعالى، و زال عني كأبوس الانتظار والخوف من التأخر عن موعد إقلاع الطائرة. وكانت السيارة فارهة وحديثة. والسائق سائح خريت بالطريق ومنحنياته، ومطباته وأوهاده وأنجاده، فقاد السيارة بسرعة تفوق أحيانا مئة وخمسين في طريق يعرفها، وأرض يألفها حتى وقفت السيارة قبل إقلاع الطائرة بوقت كافٍ، على بوابة المطار الدولي/ المحلي، الصالة رقم:3. فتنفست الصعداء، وحمدت الله تعالى كثيرًا، ونزلت من السيارة، وتوجهت إلى المدخل، و قدمت لرجل أمن التذكرة وبطاقة الهوية، فأجال نظره من فوق ومن تحت، على دأب رجال الأمن والشرطة في الهند إذا مر بهم من يحمل دلًّا وسمتًا وثوبًا يشي بدينه وعقيدته الإسلامية، كأنه خلق من عالم آخر لم يعهده، ولم يسبق له النظر إليه، وبداخل المطار أقبلت إلى صراف آلي لبطاقات الدخول إلى الطائرة بدلا من التوجه إلى مكاتب شركة الطيران، فإذا أنا بموظفة، فاستخرجت لي بطاقة دخول إلى الطائرة على شركة إنديغو (Indigo) رقم الرحلة (6E 5216) المتجهة إلى مدينة «برودا» بولاية «غجرات»، ثم أويت بعد إتمام إجراءات المغادرة إلى بعض المصليات المتواجدة في المطار، التي تعتبر خير مكان لأداء الصلوات، وخير مكان للاختلاء فيه بعيدًا عن ضوضاء المطارات، وصخب المارة إلى بوابات الدخول إلى الطائرة. وقضيت فيه الوقت المتبقي من المغادرة. وهاجمني فيه رجل ليؤدي الصلاة، فلما رآني عرَّف بنفسه، وجلس هنيهة، يسأل عن أمور في الدين، توحي نبرته إلى أنه ممن ينكرون حجية الحديث، ويذهبون إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم في العمل بالدين وأحكامه.

         ثم غادرت المصلى إلى بوابة رقم 52 المحدد للدخول إلى الطائرة المتوجهة إلى «فدودرا» (Vadodra)، وقبل وقت الإقلاع دخلنا الطائرة، وتبوأ كل واحد من المسافرين مقاعدهم فيها. و تحركت الطائرة في الساعة السادسة والربع في طريقها إلى المدرج ثم حلقت في جو السماء الحالكة الظلام. وقضينا ساعةً وثلثًا على متن الطائرة، وقدمت المضيفة إلي طعامًا غريبًا اسمه على سمعي، ثم كان غريبًا على بصري منظره حين قدمته إلي مقرونًا بالوصاية بألا أفتح العلبة إلا بعد خمس دقائق على الأقل حتى ينضج ما بداخله من الرز والعدس. فوجدته لا أكاد أسيغه، فابتعلته على مضض. ثم أعلن طاقم الطائرة أنهم على وشك الوصول إلى مطار مدينة «فدودرا»، وجمعت أغراضي، ونزلت من الطائرة إلى صالة العفش، ومنها إلى خارج المطار، واتصلت بمن كان عليهم أن يستقبلوني على المطار، فردوا علي بأنهم قد تعرضوا لزحمة شديدة في الطريق وهم على مقربة من المطار بكيلوين أو أقل، فلجأت إلى بعض الكراسي من الألمنيوم للجلوس، التي ليس فيها عيب سوى أنها تكسر ظهر النائم إذا أراد أن يضطجع عليها، ويطرد النوم من عينيه، ولايستريح الجالس عليها. فلم ألبث حتى رنَّ الهاتف إشعارًا بأن المستقبلين قد وصلوا إلى رحاب المطار، فإذا أنا بالشيخ أرشد، والشيخ حمزة – من أساتذة الجامعة القاسمية العربية /خرود، بمديرية «إنكليشور» وجهتي الأولى في هذه الرحلة-، واستغرق السفر من المطار إلى مقر الجامعة ساعتين فأكثر، ونزلنا في الطريق على بعض المطاعم التي تتناثر هنا وهنا في طول الطريق من «مومبائ» إلى هذه المنطقة، ومعظم أصحابها مسلمون ملتزمون متقيدون بدينهم في دلهم وسمتهم، وتجد في معظم هذه المطاعم المرافق اللازمة للنازل فيها، ويتخذون بجانب منها مصلى للرجال والنساء. وقدم لنا صاحب المطعم- مطعم بوابة نرمدا- المدعو/ عمران بهائي ما لذ و طاب من الأطعمة المختلفة الألوان، وشايًا قويًّا جدًّا، لا أكاد أنساه ما حييت. وسبقنا مديرُ الجامعة الشيخ محمد أيوب وبعض أعضاء هيئة التدريس بها إلى هذا المطعم لاستقبالنا، فرحبوا بنا ترحيبًا يفوق ما نستحقه من الترحيب، والحفاوة. 

         وبلغت الجامعة في الساعة الحادية عشرة من الليلة المتخللة بين يومي الجمعة والسبت، وقد أرهقني السفر من أول النهار إلى وقت متأخر من الليل، وتجاوزت بوابة المدرسة فإذا أنا في حديقة غناء ذات أزهار مفتحة وثمار يانعة، ويحيط بها أبنية شامخة ذات طابقين أو ثلاثة طوابق، قالوا لي: هذه الجامعة القاسمية/خرود. واتجهنا إلى مضيف الجامعة، وألقينا فيه رحالنا. فطلبت منهم أن يدعوني وشأني حتى آخذ قسطًا من الراحة، وأصبح نشيطًا. ولم أحظ طوال الليل إلا بنوم متقطع: أغفو وأستيقظ رغم  أنهم لم يقصروا في توفير أسباب الراحة والنوم الهادئ في مضيف الجامعة. وقمت عند الفجر وصليت، واغتسلت، ثم جلست مع مدير الجامعة وغيره نتجاذب أطراف الحديث.

الجامعة القاسمية/خرود في سطور:

         أسست الجامعة في قرية «خرود» بمديرية «بروص» بولاية «غجرات» الهندية عام 1402هـ/ 1982م، على مرمى سهم من الطريق السريع بين العاصمة الهندية، ومدينة «مومباي» على أيدي مسلمين غيارى على دينهم وعقيدتهم، وعلى رأسهم الشيخ محمد إبراهيم -حفظه الله- الذي ولي مدةً طويلةً إدارتها، فسقاها بدمائه ودموعه،حتى ترعرعت، واستوت على سوقها، وبدأت تؤتي أكلها بإذن ربها. وهذه التسمية نسبة إلى الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله – أحد مؤسسي أم الجامعات الإسلامية الأهلية الهندية: دارالعلوم/ديوبند-. ومن أقسامها التعليمية: تحفيظ القرآن الكريم، والتجويد والقراءات، واللغة الأردية، واللغة الفارسية، واللغة الإنجلزية، والعلوم الشرعية العربية، والتخصص في الفقه والإفتاء، وعلوم الحاسوب، وتحسين الخطوط الأردية والعربية والإنجليزية علاوةً على لجان النشاطات الطلابية العربية والأردية. وتتضمن مرافق الجامعة دارًا للحديث، ومبنى للفصول الدراسية، ومبنى تحفيظ القرآن الكريم، والسكن الطلابي، والمضيف الواسع، وسكن الأساتذة والموظفين، والمسجد الكبير الشامخ، والمكتبة العامة، ومجمع الشيخ عبد الله الكافودروي رحمه الله. ويبلغ عدد الطلاب في العام الدراسي 1439هـ/2018م (520) طالبًا. وعدد أعضاء التدريس (45)، وعدد الموظفين (30). ويبلغ عدد الخريجين من قسم العلوم العالية الشرعية (828)، ومن قسم التخصص في الفقه والإفتاء (77) طالبًا، ومن قسم تحفيظ القرآن الكريم (880)، ومن قسم القراءة برواية حفص (114) طالبًا، ومن قسم القراءات السبع (92) طالبًا، و من قسم القراءات الثلاث (319) طالبًا حتى عام 1439هـ. والجامعة ماضية قدمًا في تقديم الخدمات الدينية والتعليمية لأبناء المنطقة وغيرهم على تبرعات بعض أهل الخير من سكانها المهاجرين إلى بعض البلاد.

         وفي نحو الساعة الثامنة صباحًا عقدت لجنة النادي العربي احتفالها السنوي، في قاعة المحاضرات الواسعة في الدور الثاني من مبنى المضيف، حضره – علاوةً على أساتذة الجامعة وطلابها- ضيوف آخرون، وأنا واحد منهم. وقدم الطلاب برنامجًا خليطًا من العربية والأردية: من أناشيد وخطب، و مقالات، ومحادثات ونحو ذلك بلسان عربي مبين، ولغة أردية سلسلة، مما يدل على عناية الجامعة و القائمين عليها بتثقيف الطلاب ثقافةً أدبيةً دينيةً، وتأهيلهم للقيام بمسؤوليتهم في مستقبل حياتهم: مسؤولية الدعوة والتبليغ، والإرشاد والتزكية، وتوجيه المسلمين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة. ولَشدَّ ما أعجبني تركيز الطلاب المقدمين للبرنامج على النطق والأداء اللغوي العربي الصحيح، مما لاينال حظًا وافرًا من الطلاب الأعاجم أمثالنا في خطبهم وإلقاءاتهم. وكانت لي في نهاية البرنامج كلمة ضافية حول اللغة العربية وأهميتها والحاجة إلى تعلمها ودراستها واستخدامها كلغة حية تنطق وتكتب.

         وكانت وجهتي في اليوم التالي22/6/ 1444هـ جامعةَ دارالعلوم فلاح دارين/ تركيسر، فأقلتني- أنا وثلاثة من أساتذة هذه الجامعة: الشيخ يحيى، والشيخ أبرار، والأستاذ محمد شاهد المعروفي – سيارةٌ كبيرة في نحو الساعة الخامسة مساءً، بعد أن ودعنا مدير وأساتذة الجامعة القاسمية/ خرود، وكانت المعانقة والمصافحة، ولساني ينطلق بالشكر والتقدير الكبير لما لقيته من الحفاوة البالغة منهم، وكل يدعو أن يجمع الله تعالى بيننا في فرصة سعيدة أخرى في الدنيا، وفي جنات النعيم في العقبى. وأعجلني الرحلة إلى «تركيسر» عن رؤية مكتبتها-البالغ عدد محتوياتها نحو أربعين ألفًا من الكتب والمصادر في مختلف العلوم والفنون الإسلامية، وفي مختلف الألسنة واللغات كالعربية والأردية، والغجراتية والإنجليزية – وكذلك مجمع الشيخ عبد الله الكافودروي رحمه الله المبنى الشامخ الحديث البناء.

ساعة في جامعة رياض العلوم الأكاديمية/كوسامبا:

         فما إن جاوزنا بوابة الجامعة حتى أخبرني أصحابي في السيارة بأننا سنعرج على مدرسة قريبة في طريقنا إلى «تركيسر»، وهي جامعة «رياض العلوم الأكاديمية» لصاحبها الشيخ محمد السارودي حفظه الله ورعاه – رجل عالم في ريعان الشباب، ولم يخط لحيته ورأسه الشيب، وقد رزقه الله تعالى بسطة في العلم، وقدرة على استهواء الحضور بكلامه، فهوخطيب من الخطباء المصاقع، لين الجانب، كثير التواضع وهضم الذات لمن يلقاه-الذي بلغه مروري بالقرب من جامعته، فأبدى رغبته الشديدة أن أزوره هو وجامعته، فانحرفنا قليلًا عن الشارع العام المتجه إلى «تركسير»، ولم نسر إلا أميالا حتى لاح لنا مبنى شامخ كبير، ومسجد جميل، فخطر ببالي أن أسأله عن هذا المبنى الجميل، وعن هذا المسجد الذي يبدو على غاية من الروعة والجمال من بعيد، ولكني أمسكت عن الفضول ثم انحرفت بنا السيارة إلى هذا المبنى والمسجد، و قالوا لي: هذه «جامعة رياض العلوم الأكاديمية» وجهتنا، فلما دنونا من الباب وهو مغلق، إذا نحن بحارس للباب قوي شديد الشعور بمسؤوليته، فطلب منا التعريف والتسجيل للأسماء في سجل كان يحمل بيده، وفيه أسماء الزوار والقادمين المارين بهذه البوابة. ثم دخلنا الباب بسلام آمنين، فاستقبلونا استقبالا حارًّا، وأخذوا بنا ذات اليمين إلى مكتب رئيس الجامعة الشيخ محمد السارودي، فكان اللقاء وكان العناق والترحيب والتقدير، وجلسنَا قليلا نتناول بعض الفواكه والشاي، حتى نادى المؤذن لصلاة المغرب، وطلب مني مدير الجامعة أن ألقي بعض الكلمات على الطلاب، في حين لم أكن مستعدًّا نفسيًّا على الإطلاق لإلقاء كلمة، ولكن رضيتُ ثقة بالله تعالى أن يوفقني لإلقاء بعض الكلمات التي تنفعني وتنفع الطلاب. ودخلنا المسجد فوجدته أحسن مما رأيته من الخارج وأنا أمر به: مسجد في منتهى الروعة والجمال، واسع الأرجاء، وعالي القبة، ولم أر مسجدًا بهذه الروعة والخلابة إلا قليلا. وكل ذلك يدل على العناية الفائقة من صاحبه بالتنظيف وتحسين المظهر و المخبر. ولَشد ما أثار إعجابي تلاوة الإمام للقرآن الكريم في صلاة المغرب، وتركيزه الشديد على الأداء الصحيح. وصلينا المغرب، ثم قمت وألقيت بعض الكلمات، ونصحت الطلاب فيه بالإكثار من الاجتهاد وقرح المآقي، والانصراف الكلي إلى تحصيل العلم، بالإضافة إلى ضرورة احترام الطالب نفسه، وعلمه الذي يتلقاه. وعلى جانب الداخل الأيسر إلى المسجد تجد مبنى شامخًا جميلًا آخر ذا أربعة طوابق. وأفادني رئيس الجامعة بأنها أول جامعة تجمع بين العلوم الدينية والعصرية على نطاق واسع يغني أطفال المسلمين عن الدخول إلى المدارس و الكليات العصرية الرسمية التي تسقي الطلاب الميوعة والانحلال والزندقة والإلحاد، مما يشكل أكبر هاجس للمسلمين الهنود، وشغلًا شاغلًا لكل من يعنيهم تعليم شباب المسلمين في دينهم ودنياهم. ولقيت المدرسة رغم قصر عمرها قبولًا وشعبيةً واسعةً منقطعةً النظير. وسبق أن زار هذه الجامعة كبار مشايخ دار العلوم/ديوبند أمثال شيخنا المحدث المفتي سعيد أحمد البالنبوري رحمه الله، وقضى بها أيامًا خلال جولته الأخيرة في هذه المناطق. ودَّعنا مدير الجامعة الذي ترك في قلوبنا بصمةً واضحةً لإخلاصه وتواضعه و بساطته وسذاجته.

جامعة رياض العلوم الأكاديمية في سطور:

         وضع حجر أساس هذه الجامعة في «كوسامبا» بـ«سورت» بولاية «غجرات» في 25/ديسمبر عام2015م على يد فضيلة المفتي أحمد الخانفوري حفظه الله – من أجلة خلفاء شيخنا المفتي محمود حسن الكنكوهي رحمه الله-، وبدأت الجامعة الدراسة بصورة نظامية في 21/يوليو عام 216م. ويتضمن المنهج الدراسي العلوم الشرعية والعلوم العصرية جنبًا إلى جنبٍ، وتوفر الجامعة لطلابها جميع التسهيلات المعروفة في هذا العصر: من الوجبات الغذائية، والسكن النظيف المريح، وغسيل الثياب، والعناية بالصحة الجسدية للطلاب النازلين فيها.

         ثم استأنفنا السير إلى جامعة «تركيسر»، وهي على بعد نحو عشرين كيلا من هذه الجامعة، و كادت الطرق تخلو من السيارات إلا قليلا، فسرنا بكل هدوء وطمانينة وصاحب السيارة رجل متواضع أمين، متقن للقيادة، خريت للطريق ومطباته. و وصلنا إليها في نحو الساعة الثامنة، وأخذوا بنا إلى مضيف الجامعة، وهو مبنى واسع ذو طوابق أربعة أطلق عليه «مضيف الشيخ قمر الزمان» – نسبةً إلى أحد كبار العلماء الصالحين المصلحين ومن أهل التزكية والسلوك في هذه الديار-، و وجدنا أساتذتها وطلابها علاوة على مديره الشيخ محمد نذير في انتظارنا واستقبالنا. وجلسنا في المضيف فحف بنا نخبة من هؤلاء العلماء الكبار يسألون عن أحوال مشايخ دارالعلوم/ديوبند وأساتذتها، ويستفسرون عن أوضاع المسلمين في الولاية الشمالية الهندية، وعما يعانون هم ومؤسساتهم الدينية والتعليمية والدعوية من المتاعب والويلات على المستوى الإقليمي. ثم تعشيت مع مدير الجامعة الشيخ محمد نذير ذلك العالم الشاب المتواضع الهين اللين العريكة، إذا رأيته بديهة هِبته، وإذا خالطته أحببته. وكنت تحدثت إليه بالجوال مرةً أو مرتين قبل زيارتي لجامعته المباركة، فكنت أظنه على أقل تقديري- في العقد السادس من عمره لما يعلو كلامه من الرزانة والجدية والوقار، و دهِشت حين قالوا لي: هذا هو الشيخ محمد نذير مدير هذه الجامعة. لايميزه عن غيره من أساتذة الجامعة والمسؤولين شيء.

جامعة دارالعلوم فلاح دارين/تركيسر في سطور:

         تقول المصادر التاريخية: إن أصل كلمة «تركيسر»، «ترك شهر» نسبة إلى فاتح هذه المنطقة الهندية، وهو القائد عبد الله سالار- من أصل تركي-، ولا زالت قبور آلاف الشهداء في هذه الحرب في شمال القصبة شاهدة على ذلك. وأقدم مسجدٍ تحتضنه هذه القصبة «المسجد الجامع» الذي شيده الملك غياث الدين بلبن عام 719هـ، ذلك الملك العادل الكريم الرحيم. تفوح كل لبنة من لبنات هذه البنية إخلاصًا وصدقًا له. وأعيد بناء هذا الجامع مرتين: الأولى عام916هـ. والأخرى عام1360هـ/1939م.

         وترجع نشأة جامعة فلاح دارين إلى أواخر القرن الرابع عشر الهجري؛ فقد كانت القصبة تشهد كتاتيب متفرقة تقوم بنشاطاتها في مختلف الأحياء، وفي بيوت أصحاب الخير، ثم جمعت هذه الكتاتيب في «الجامع»، ثم أنشؤوا للكتاب بناية مفردةً، تشتمل على عشر حجرات ومكتب إداري، وذلك عام 1929م. وأول من داعب قلبه أمنيةُ بناء مدرسة مستقلة دينية سكنية، وأحس بتباشير هذا الفجر هو رجل من هذه القصبة الشيخ آدم بتيل. وعرض الشيخ هذه الأمنية على الرجل الصالح الحاج يوسف راوت – من عائلة راوت الشهيرة النازلة في «ري يونين»، ولازالت هذه العائلة الكريمة تقوم بالإشراف المالي و الإداري على هذه الجامعة متمثلة في فضيلة الشيخ خليل أحمد راوت المدني رئيس هذه الجامعة في هذه الأيام – فصادف قلبا صالحًا، فتمكن منه،  وأعجبه كثيرًا، وفعلا توصل بالتشاور مع إخوته إلى تأسيس هذه الجامعة المباركة، ونيطت الأمور الإدارية بالشيخ غلام محمد نورغت رحمه الله. ووضع أساس مبنى الفصول الدراسية على يد العالم الرباني الشيخ أبي الحسن علي الندوي رحمه الله يوم الأحد 17/صفر عام 1384هـ= 28/يونيو عام 1964م. وتم افتتاح مبنى الفصول الدراسية هذا على يد العالم الهندي الشهير المقرئ محمد طيب رحمه الله- رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند سابقًا-. وقد زار هذه الجامعة كبار مشايخ ومسؤولي الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند أمثال: المفتي محمود الحسن الكنكوهي، والشيخ وحيد الزمان الكيرانوي، والشيخ عبد الحق الأعظمي، والشيخ أنظر شاه الكشميري، والشيخ رياست علي البجنوري رحمهم الله، والشيخ قمر الدين الكوركهفوري، والمفتي أبو القاسم النعماني – رئيس الجامعة-، وغيرهم كثيرون. ومن العلماء العرب: الأستاذ/ محمد المجذوب، والدكتورعائض القرني، والشيخ يحيى الهنيدي، والشيخ إبراهيم الأخضر-إمام الحرم-، والشيخ عبد الرحمن القحطاني، والشيخ أحمد طه، والشيخ عبد الناصر حرك،والشيخ عادل الباز.

         وعقد طلاب الجامعة في صبيحة اليوم التالي حفلًا خليطًا من اللغة العربية والأردية، كما وزعت الجوائز على الطلاب النابهين المتفوقين خلاله. وشهدت البرنامج العربي، و وَلَّوني أولا تقييم أداء الطلاب باللغة العربية ثم باللغة الإردية، فاستمعت إلى غير واحد من الخطب والأناشيد والمحادثات، والحوارات التي استقطبت اهتمامي، واهتمام الضيوف الآخرين القادمين من الأماكن القريبة والبعيدة. ولَشدَّ ما أثار إعجابي ما لمست بيدي في الطلاب من الأداء اللغوي الصحيح والأسلوب العربي الرصين. واستمرت الجلسة الأولى للحفل حتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وفي نهاية هذه الجلسة أعطوني الكلمة، فقمت، و شكرت القائمين على توجيه الدعوة إلي لزيارة هذه الجامعة وللمشاركة في البرنامج العربي. وتطرق الحديث إلى ما تشهد اللغة العربية من الإغماض والإقصاء عن واقع الحياة بصورةٍ مستمرةٍ حتى في بعض البلاد العربية التي تنادي من حينٍ لآخر برفع مستوى اللغة العربية الفصحى في الحياة العامة، مما يشكل وضعًا مأساويًّا، و وصمةَ عارٍ على جبينها. وحكيت بعض القصص التي عشتها في هذا الصدد.

         قضيت بين أيدي هؤلاء القوم الكرام نحو عشرين ساعةً من الليل والنهار، و رأيت فيهم- مسؤولين و أساتذة وطلابًا- الأدب الجم، والاحترام الكبير، والحفاوة البالغة للضيوف عمومًا، كما تجولت في مرافقها ومبانيها ومسجدها الكبير، الغاص بالمصلين من الطلاب والأساتذة وغيرهم. وأخذني صاحبي- الأخ محمد شاهد المعروفي- بعد صلاة الظهر في جولة لمكتبتها العامرة لهذه الجامعة. فدخلتها ووجدت مسؤول المكتبة في استقبالنا، فتجول بنا في مختلف أقسامها، وأزارنا كثيرًا من مصادرها وكتبها التي ترجع إلى شتى مجالات العلوم والفنون. وفي المكتبة جناح خاص بمؤلفات وأعمال خريجي هذه الجامعة، يحوي عددًا كبيرًا منها. و عدد المخطوطات نحو(50)، ورأيت في المكتبة مصحفًا مكتوبًا على القطن، من مطبوعات عام 1308هـ/1891م في دهلي، وعلى هامشه ترجمتان لمعانيه وتفسيران بالأردية والفارسية.      واستقى من هذا المنهل الفياض آلاف من طلبة العلم من داخل البلاد وخارجها أمثال: جنوب إفريقية، وري يونين، وإنكلترا، وأمريكا، وزامبيا، وملاوي، و ويست إنديز، وموريشوس، وكينيا، و    فيجي، ونيكوبار. وتتوزع الدراسة في الجامعة على أقسام وشعب مختلفة: المراحل العربية من الابتدائية إلى النهائية، واللغة الإنجليزية، والعلوم العصرية، وتحفيظ القرآن الكريم وتجويده. ولمست التركيز الشديد على التجويد والقراءات، فلاتكاد تجد طالبًا من طلابها إلا وقد تمكن من القراءة و التجويد،مما يلوح بقوة فائدته وبركاته على أدائهم اللغوي والأسلوب العربي. وشهدت الجلسة الثانية بعد الظهر في قاعة الشيخ قمر الزمان، والتي انتهت بدعاء العالم الأديب الشيخ محمد نور الديورياوي حفظه الله، الذي أتحفنا – الأساتذة والطلاب – بكثير من النصائح الغالية، وقص علينا شيئًا من القصص التي عاشها في حياته و التي تخص اللغة العربية وغيرها. وبادرنا إلى أداء صلاة العصر كي نخرج للمطار البعيد من الجامعة حوالي أربعين كيلو: مطار «سورت» للرحلات الداخلية، وخاصة كانت المخاوف قائمة من مواجهة الزحمة في الطريق؛ فإن الوقت كان وقت المساء،وهو وقت الذروة والازدحام في الشوارع. فودعنا فضيلة رئيس الجامعة الشيخ خليل الفلاحي المدني، والشيخ محمد نذير- مدير الجامعة- وخرجنا من رحاب الجامعة حاملين معنا كثيرًا من الذكريات الحلوة، واللقاءات المباركة مع مشايخ الجامعة وعلمائها والضيوف القادمين إليها من شتى أنحاء الولاية. وركبنا – أنا والشيخ عبد الرحمن سعيد، والشيخ صفي الله، والأستاذ محمد شاهد، والشيخ أمين، والشيخ أبرار من أساتذة الجامعة-، ونزلنا لصلاة المغرب في مسجد من مساجد بعض القرى التي مررنا عليها، و أعجلنا الوصول إلى المطار عن زيارة المسجد ولقاء المصلين، و بادرنا بعد الصلاة إلى السيارة، وتعجلنا السير مخافة أن نتأخر عن موعد الطائرة. و وصلنا إلى بوابة المطار في الساعة الثامنة إلا الربع، وكان موعد الطائرة الساعة التاسعة وبعض الدقائق. وأكملت إجراءت المغادرة في المطار، وجلست أنتظر الموعد المحدد، و رجع المشيعون إلى بيوتهم. وأقلعت الطائرة من شركة إنديغو (Indigo) رقم الرحلة (6E 2236) المتجهة إلى مطار دهلي للرحلات الداخلية صالة رقم (2)، متأخرة عشر دقائق عن موعد الإقلاع. و ركبنا الطائرة ولم يمض إلا قليل حتى حلقت في جو السماء المظلم، الظلام الحالك الذي إذا أخرج المرء يده فيه لم يكد يراها. و هبطت الطائرة على مطار دهلي قبل موعدها بعشر دقائق، وخرجنا من الطائرة متجهين إلى صالة الأغراض، وتأخر وصولها نصف ساعة، ثم خرجت من المطار، واتصلت بأحد الشباب ممن تواعدته أن يلاقيني بسيارة أجرة إلى ديوبند، وفعلا وصل إليه في الوقت المحدد، و ركبت السيارة والساعة تدق الحادية عشرة ليلا،والطرق قد خلت بعض الشيء اللهم إلا داخل مدينة دهلي، فقد واجهنا بعض الزحمة فما إن جاوزنا حدودها إلا وقد خلا الطريق تمامًا، فسرنا ندعو الله تعالى أن يطوي عنا البعد، و نزلنا في بعض المطاعم المتناثرة على طول الطريق من دهلي إلى ديوبند وما بعدها، وتناولنا الشاي وبعض الوجبات الخفيفة، ثم واصلنا السير حتى وصلنا إلى ديوبند والساعة تدق الثالثة فجرًا. وحمدت الله تعالى على الوصول بسلام آمنا إلى البيت.

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts