بقلم: رئيس التحرير
رنَّ جرس هاتفي الجوال في الساعة المتأخرة من الليل في الوقت الذي لم أتعود الرد على المكالمات الهاتفية؛ لأني آوي إلى الفراش بعد صلاة العشاء على عجل. فلما رددت على المكالمة على غير عادتي كان المتحدث الحافظ الشيخ عبد الحي الخير آبادي حفظه الله، وبعد أن تبادلنا التحية و التسليم والتساؤل عن الأحوال قال لي: سنعقد في الأيام القليلة القادمة – وبالتحديد في 25/ربيع الأول عام 1444هـ= 22/أكتوبر عام 2022م- حفلة بمناسبة توزيع الجوائز والشهادات على المتخرجين من مختلف الأقسام في المدرسة من قسم تحفيظ القرآن الكريم، وقسم التجويد والقراءات. ويسرني أن أقدم إليك الدعوة للمشاركة في هذه البرامج في مدرستنا «جامعة منبع العلوم/خيرآباد». وسبق أن أمرني فضيلة شيخنا العلامة بحر العلوم/ نعمت الله الأعظمي حفظه الله ورعاه أن أشارك في هذه الحفلة خلفًا عنه، فقد كان مدعوا إليها، ولكن ظروفه الصحية لم تسمح له بالسفر في تلك الأيام. فأبديت رضاي بالسفر امتثالا لأمر لشيخنا، ونزولا عند رغبة الحافظ الشيخ عبد الحي رئيس المدرسة المشار إليها آنفًا.
وفعلًا حجزوا مقعدًا في القطار السريع المتجه من «سهارن فور» إلى محطة «أكبر فور» على بعد نحو مئة كيلو من وجهتي «خير آباد». وفي اليوم الموعود خرجت أنا واثنان من الطلاب المنتمين إلى هذه القصبة وهما الأخوان: محمد ثاني، والآخر عارف أختر بعد صلاة المغرب مباشرةً من يوم الجمعة 24/ربيع الأول عام 1444هـ= 21/أكتوبر عام2022م، و وصلنا إلى محطة «سهارن فور» قبل وقت كافٍ من موعد القطار، فتوجهنا إلى مسجد المحطة، لنؤدي بها الصلاة، وأمضينا بعض الوقت فيه، نتناول العَشاء والشاي، فلما دنا موعد القطار توجهنا إلى الرصيف رقم 3 من المحطة حيث تقرر وقوف القطار عليه. وصادف ذلك يومًا من أيام أعياد الهندوس في هذه البلاد، وتشهد القطارات في مثل هذه الأيام زحمةً شديدةً غير عادية من الركاب المغادرين إلى أوطانهم لقضاء عطلة العيد، فكان الرصيف كأنه مراح ضأن ، وجاء القطار يتهادى حتى وقف على الرصيف فخف الناس إليه، كلهم يتسابق إلى ركوبه قبل صاحبه حتى يجد موطئ قدم بداخله، ورغم أننا حجزنا المقاعد في درجة التكييف إلا أننا واجهنا مشكلةً كبيرةً في الركوب، وبعد اللُّتَيَّا والتي وفقنا للوصول إلى مقعدنا المحجوز، وماذا عسى يغني الحجز في هذه الأيام؟ وحتى في الدرجات المكيفة المحجوزة، فقد حشر الناس بداخل العربة حشرًا لايخطر ببال، ولايخضع لنظام و قانون، فاستغفرنا الله تعالى، وتعوذنا من مثل هذه الرحلات في مثل هذه الأيام. و جلسنا نحن في مقعد واحدٍ بجوار النافذة، فإن حجزي كان قد تأكد أما حجوز بقية الأصحاب فلازالت في قائمة الانتظار. فلاتجد مقعدًا من المقاعد إلا وعليه أكثر من اثنين أو ثلاثة من الركاب، يكاد يختلف فيه أضلاعهم. و جلس أصحابي بعضهم بجواري وبعضهم بجوار المسافرين الآخرين حيث وجدوا سعةً في المكان، ورحابة في الصدور. وسار القطار مغادرًا محطة «سهارن فور»، فاضطجعت على شقٍ على المقعد حين صادفني فرصة لذلك، ولا أذوق النوم إلا غرارًا، وانقضى الليل، ودرج الصبح من ظلامه الحالك، ونتمثل بقول الشاعر:
أَلا أَيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلِ
بِصُبْحٍ، وما الإصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
فَيا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ
بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدّتْ بِيَذْبُلِ
وقول الشاعر:
وما في طلوع الشمس كشف لكربة
ولكنّ صدر المرء بالليل أضيق
وتأخر القطار عن موعده بساعتين أو أكثر، ولم نصل إلى محطة «أكبر فور» إلا بعد الظهر، وكان المفروض أن نصل إليها في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وكان بانتظارنا على المحطة اثنان جاؤوا لاستقبالنا، فلقيناهما، وأخذا بنا ذات اليمين من المحطة إلى موقف السيارات. وأدينا صلاة الظهر في مسجد قريب من المحطة، حيث لقينا بعض المتخرجين من جامعة ديوبند في الزمن القديم، وهو في الثمانينيات من عمره، يؤم الناس في هذا المسجد، ويقوم عليه. وعرض علينا أن نشرب الشاي معه؛ ولكن الرحيل إلى خير آباد أعجلنا من تحقيق رغبته، وبادرنا إلى السيارة الواقفة خارجه، وركبناها وركبها الأصحاب، وظل الشيخ الحافظ عبد الحي حفظه الله على تواصل مع السائق والقادمين لاستقبالنا؛ فإن مخاوف التأخر عن موعد الحفلة كانت قائمة بقوة. و واجهنا داخل المدينة بعض الزحمة ثم خلا الطريق فسارت السيارة بسرعة مئة كيلو أو أكثر حتى نلحق صلاة المغرب في «خيرآباد»، فقد أخبروني بأن علي أن أشهد افتتاح مسجد حديث البناء في ضواحي القصبة، وأصلي بالناس صلاة المغرب؛ وكانوا على موعدٍ مع فضيلة الشيخ المفتي أبي القاسم النعماني حفظه الله رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند ليقوم بافتتاح هذا المسجد، ولكن تأخره عن الموعد لزحمة في طريقه من موطنه «بنارس» إلى «خير آباد» دفعهم إلى أن يكلوا هذا الأمر إلى كاتب هذه السطور. ولم نصل إلى «خيرآباد» إلا قبل صلاة المغرب بثلث ساعة، واستقبلنا على بوابة المدرسة فضيلة الحافظ الشيخ عبد الحي حفظه الله وآخرون، وأخذوا بنا إلى مضيف الجامعة، وتوضأت، وتناولتُ بعض الوجبات الخفيفة على عجل، فقد كان علي أن أغادر المدرسة إلى المسجد الذي تقرر افتتاحه بصلاتي المغرب فيه. و وصلنا إلى المسجد، وقد نادى المؤذن للصلاة، وهم ينتظرون مقدمي. فما إن دخلت المسجد حتى أقام المؤذن الصلاة، وصليت بهم المغرب ثم طلبوا مني أن ألقي بعض الكلمات بهذه المناسبة السعيدة. تطرقت كلمتي إلى أهمية المسجد في الإسلام، و مكانته والحاجة إليه، وفضل بنائه، وماجعل الله تعالى من الأجر والمثوبة فيه. ثم رجعت إلى مدرسة «منبع العلوم» قبل صلاة العشاء، وأديت صلاة العشاء في الجامع الكبير الذي شيدته المدرسة على طراز معماري حديث مطعم بالهندسة الإسلامية العريقة. فما إن انصرفنا من الصلاة، وخرجنا من المسجد حتى قيل: إن ضيف الشرف رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند: فضيلة الشيخ المفتي أبو القاسم النعماني -حفظه الله- قد وصل إلى المدرسة، فهرع الناس مرةً أخرى المسجد حيث كان من المقرر أن يقرأ فضيلته خطبة القران على عدد من المقبلين على الزواج. ثم خرجت من المسجد خروج فضيلته وصادفته عند بوابته، فسعدت بالسلام والتحية عليه، ولم يكن على علمٍ بمقدمي ومشاركتي في هذه الحفلة. ثم شايعته إلى مثواه في المدرسة، والناس قد تحلقوا حوله، فلاتجد موطئ قدم في غرفته، حتى ضاقت عن أهلها، فخرجت مع الخارجين منها لنفسح المجال للداخلين الذين يودون السلام عليه ومصافحته.
ثم انعقدت الحفلة، وألقى فضيلته كلمةً ضافيةً قيمةً حول أهمية قراءة القرآن الكريم وحفظه و استظهاره، والحاجة إلى إتقانه وتجويده وترتيله. وكان له وقع طيب في نفوس السامعين والحاضرين. والكل يلهج بالثناء عليه ويكيل المدح له. ثم غادر الشيخ المنصة، و غادر المدرسة قافلا إلى وطنه «بنارس». ثم جاء دور توزيع العمائم بدلا من إناطتها برؤوس المتخرجين من قسم تحفيظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله، و البالغ عددهم نحوًا من ثلاث مئة طالب وطالبة. وقام بذلك الشيخ عبد الحي والشيخ عبد الرب – مدير مدرسة جهانا كنج بمديرية «أعظم كره»- حفظهما الله، ثم كلفوني أن أتولى عنهما ذلك العمل، فقام الشيخ عبد الرب من الكرسي وأجلسوني عليه، وظل الشيخ عبد الحي واقفًا على رجليه يعين الموزعين للعمائم، فكرهت أن أجلس وهو قائم وهو هو في سنه وعلمه، وبمنزلة والدي، فقمت بدوري من الكرسي و وقفت قائمًا على رجلي، أقوم بالتوزيع حتى كلت يداي، وكادت قواي تخور، وأرجلي لاتكاد تحملني، لتضاعف عدد الطلاب الخريجين. وبعد كل هذا الرهق والتعب بدأ فصل جديد من العمل، فقد كلفوني أن ألقي كلمة بهذه المناسبة. والحق أني كنت أعجز الناس عن إلقاء الكلمة بعد معاناة شقة بعيدة، وقطع مسافة طويلة من «ديوبند» إلى «خير آباد»، وما لقيت خلال الرحلة من التعب و النصب. ولكن كما يقال: «مكره أخاك لابطل» لم أجد بُدًّا من إلقاء بعض الكلمات حول فضل حفظ القرآن الكريم وضرورة مدارسته ومعارضته بعد الحفظ والاستظهار؛ لأنه أشد تفصيًا من الإبل في عقالها. وانصرفت من الخطبة، والساعة تدق الحادية عشرة ليلا، فاستأذنت الشيخ عبد الحي في مغادرة المدرسة إلى مسقط رأسي «مبارك فور» على بعد خمسة عشر كيلو من المدرسة، لزيارة أمي الحنون. فخرجت من المدرسة، وشيعني الحافظ عبد الحي حفظه الله – ذلك العالم المتواضع الكريم- رغم إصراري أن يستمر في مجلسه في المنصة، وشيعني إلى بوابة المدرسة، وشكرته على ما لقيت من الحفاوة البالغة منه رغم أني في سنِّ أحد أبنائه، فجزاه الله خير ما يجازي به عباده الصالحين. وقضيت الليلة في مسقط رأسي، ثم توجهت في نحو الساعة العاشرة إلى محطة «محمد آباد» بمديرية «مئو» حيث حجزوا لي في الدرجة المكيفة الثانية في القطار المتجه إلى محطة «غازي آباد» على بعد نحو مئة كيلو أو أكثر من مدينة «ديوبند»، و وصل القطار متأخرًا عن موعده بنحو ساعتين، ثم تحولت إلى قطار آخر متجه إلى «ديوبند»، و وصلت إليها في نحو الساعة السابعة صباحًا. وحمدت الله تعالى على الوصول إلى منزلي في «ديوبند» بسلام آمنًا.
مدرسة منبع العلوم/خير آباد في سطور:
تقع مدرسة «منبع العلوم» في قصبة «خيرآباد» الشهيرة في المنطقة الشرقية، على بعد كيلو أو كيلوين من الشارع العام المتجه من «أعظم كره» إلى «مئو» شرق البلاد، نسبةً إلى خير الله الشاه الذي أنشأ هذه القصبة قبل ثلاثة قرون ونصف قرن من الزمان. والقصبة معروفة بصناعتها القطنية. و ترجع بداية المدرسة ككتاب فيها من رواق الحاج ولي الله بالقرب من المسجد الجامع بها، ولايتوفر ما يؤكد تاريخ تأسيس هذه المدرسة ولا من قام بوضع حجر أساسها، إلا أن بعض الوثائق التاريخية تفيد تواجد هذه المدرسة في عام 1315هـ، وتؤكد الوثائق أن الشقيقين الحافظ عبد الغفور، والحافظ عبد الرحيم قاما بتقريب أهل القرية كلهم إلى المدرسة وتوطيد صلتهم بها، ثم ولي إدارتها الحافظ محمد يوسف، وفي عام 1959م تحولت المدرسة من المسجد الجامع بها على عهد إدارة الشيخ عبد الحق رحمه الله إلى مقرها اليوم، والذي كان مستودعًا للجلود، وشهدت المدرسة رقيًّا وازدهارًا مستمرين، وفي عام 1977م توفي الشيخ عبد الحق وخلفه في إدارتها الشيخ الحكيم عبد الحكيم، كما ولي الشؤون التعليمية الشيخ الحافظ عبد الحي حفظه الله، وقطعت المدرسة خلال ذلك أشواط تقدم حثيثة، وبعد ما لقي الشيخ عبد الحكيم في عام1995م ربه، تحولت مسؤوليات المدرسة الإدارية بجانب المسؤولية التعليمية إلى الحافظ عبد الحي المفتاحي حفظه الله-وهو رئيس هذه المدرسة في هذه الأيام عام1444هـ/2023م.
ويتبع المدرسة – علاوة على الفرع الرئيس- عدد من الفروع والكتاتيب في مختلف أحيائها: الحي الشمالي، والحي الغربي، وأنصارنغر، وقطب فور، و ديوكلي. وعلاوةً على تعليم البنين يتبع المدرسة فرعان لتعليم البنات، ومدرسة مستقلة لتعليمهن باسم «المدرسة العربية منبع العلوم/خيرآباد للبنات». ومن أقسام المدرسة التعليمية والتدريسية: الإعدادية، وتحفيظ القرآن الكريم، والقسم الفارسي، وقسم الدعوة والإرشاد، وقسم النشر والإعلام.
والقسم العربي إلى الصف الخامس العربي حسب نظام المدارس في هذه الديار، ويتخرج الطلاب من الصف الخامس العربي ليأخذوا سبيلهم إلى الجامعة الأم الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند. كما أقامت المدرسة مركزًا للإفتاء للرد على الأسئلة الدينية الموجهة إليها عام 1439هـ/ 2019م، وتلبي المدرسة لطلابها حاجاتهم كلها من الطعام والسكن الدراسي وما إلى ذلك. ويتكون طاقم المدرسة من عدد كبير من المدرسين والموظفين، ويبلغ عدد المدرسين والأساتذة (45)، وعدد المدرسات(20)، وعدد الطلاب الوافدين من شتى أنحاء البلاد (235) طالبًا. ولقيت المدرسة حتى أيامي الدراسية في المنطقة صيتًا واسعًا، وسار اسمها مسير الشمس والقمر، في حسن نظامها، وجودة دراستها، وتركيزها على التأهيل العلمي للطلبة أكثر من مضاعفة أعدادهم كما شاهدنا ونشاهد اليوم في كثير من المدارس الهندية الأهلية الدينية. فكان لذلك وقع طيب في الأوساط العلمية في شبه القارة الهندية. ولازال عدد كبير من خريجي هذه المدرسة في صفوفها الابتدائية إلى الصف العربي الخامس يتم ترشيحهم للدراسة في الجامعة الأم الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند بنسبة عالية جدا، ويمتاز طلابها المرشحون للدراسة فيها بالإتقان لكثير من المواد الدينية التي تدرَّس في المدارس و الجامعات الدينية الأهلية. ولعبت المدرسة ولاتزال تلعب دورًا ملموسًا في توعية الشعب المسلم توعيةً دينيةً وثقافيةً، وتقوم بجهود ومساعٍ مشكورة محفورة في جبين التاريخ. وتمتاز بأنها لاترسل من يجلب لها التبرعات الشعبية إلى مختلف أنحاء الهند، وإنما تغطي حاجتها بتبرعات سكان قصبة «خيرآباد»، السخية التي تغنيها عن تبرعات غيرهم، رغم النشاطات التعليمية والدعوية والتربوية الواسعة النطاق. فجزى الله تعالى القائمين والمقدمين لمساعدتهم إليها، وشدَّ أزر الشيخ الحافظ عبد الحي حفظه الله، وجعل ما يقوم به من الخدمات الدينية والاجتماعية هذه وغيرها في ميزان حسناته يوم لاينفع مال ولابنون. وما ذلك على الله بعزيز.
مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47