بقلم: الشيخ علي عبد المنعم عبد الحميد
يحرص الإسلام أشد الحرص على استدامة حسن الصلات بين المسلمين، ويعمل جاهدًا على تنقية المجتمع من كل ما يسيء، أو يكون مصدر إساءة، وفي الحديث الشريف بيان لصفات المسلم الذي انقاد لأوامر الله تبارك وتعالى، وأسلم وجهه لله رب العالمين، فترك هوى نفسه، وجانب ميولها السيئة، وكرّس كل ما يصح أن يقتني ويستأثر به في هذه الحياة، وصيّره تابعًا لمرضاة الله استجابة لأوامره وطاعة لرسوله، وعملا بما ورد في محكم التنزيل ﴿قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِيرَتُكُمۡ وَأَمۡوَٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَآ أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ﴾ (التوبة: 34).
فإذا تم للمسلم ذلك الحب الخالص، وبدأت ثماره تؤتي أكلها، بادر إلى امتثال أوامر الله ورسوله جميعها، فكف عن أخيه المسلم كل ما يستطيع كفه من شر، وقيد نفسه بأحكام الإسلام فلا يطاوع نزغات شيطانه ولا وساس نفسه ولا ثوران غضبه؛ بل يطرح كل ذلك وراء ظهره ويكبح جماحه ويقول: أسلمت نفسي وقوتي لله سيدي ومالكي رب العالمين، وكل امرئ يستطيع أن يزن أموره ويخلص إلى الخير وينأى عن الشر بمراقبة هواه حين يتعارض مع رضا ربه، فيحول اتجاهه بقوة الإيمان وينتصر عليه بما استكن في قلبه من ثقة بالله، وتلك هي الشدة الممدوحة التي يقول رسول الله ﷺ عنها: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(1).
ولما كانت اليد مظهر القدرة غالبا، دخل في السلامة منها السلامة من كل ما يعمل بها وينتج الإساءة كالقتل والسرقة والنهب والسلب والضرب وقطع الطريق. وتشمل الإساءة باليد الإساءة بالكتابة والإشارة، ومثلها العين في غمزاتها، ويدخل في هذا الباب أيضا، غصب الدور والاستيلاء على ما يخص الغير بغير حق، وإصدار الأوامر للأتباع بعمل ما يضر، وقد وردت أحاديث كثيرة تجل عن الحصر تحذر عاقبة الإساءة باليد واللسان وسائر الجوارح، منها ما روى البيهقي عن أم معبد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «.. اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرباء، ولساني من الكذب وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» وروى البيهقي أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ يقول: «اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضا بالقدر» وروى البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» فالمرء إذا حفظ لسانه، وراقب ما يصدر منه وعف عن الناس فلم يخض في أعراضهم كان مسلمًا حقًّا ومؤمنًا صدقًا، فمعظم الآفات من اللسان.
جراحات السهام لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
فرب كلمة أهلكت أمة، وأشعلت حربًا ضروسًا، وأفسدت ملكا كبيرًا، ولهذا قدم رسول الله ﷺ اللسان على اليد؛ لأن عمل اليد غالبا ما يجيء تاليًا لعمل اللسان وناجمًا عنه أو مترتبًا عليه، وقد حرم الإسلام على المسلم سباب أخيه والعدوان عليه خوفًا على روابط المسلمين أن تنماع وتتفكك قال ﷺ في حديث متفق عليه: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وروى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» ومن يعلم ما في القلوب غير علام الغيوب؟! وقد عاب رسول الله فعل من تسرع في إلحاق الأذى بمن نطق بالشهادتين وقال له: «هلا شققت عن قلبه» وجاء القرآن الكريم مؤيدا ما قصد إليه سيد الخلق فقال تبارك وتعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا..﴾ (النساء:94).
ومما حرم الله من الإيذاء باللسان النميمة والغيبة، فأما النميمة فهي السعي بين الناس بالفساد قال ﷺ: «لا يدخل الجنة فتات» أي نمام(2) وأما الغيبة فيكفي في شناعتها ومجافاتها للطبع السليم وبعدها عن الخلق الكريم، وتردي صاحبها في الحيوانية والوحشية قول العلي الكبير: ﴿وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ﴾ (سورة الحجرات:12) ويقول رسول الله ﷺ: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما قال؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»(3) ولا يظنن أحد أن ما يلقى من القول استهتارا ودون تروٍّ لا مسؤولية فيه، لا بل فيه مسؤولية وأية مسؤولية، قال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم»(4) وعن عقبة ابن عامر قال: لقيت رسول الله ﷺ فقلت: ما النجاة؟ فقال: «أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك»(5) وعن أبي سعيد (مرفوعا) قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تتذلل وتتواضع للسان فتقول: «اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا»(6) فاللسان إذا فسد أفسد الأعضاء جميعا، ومن فساده الكذب في الحديث ينقله ويرويه عن شخص لآخر ليوغر صدريهما ويسيء ما بينهما ويباعد شقة خلافهما، وقد نهى عن ذلك رسول الله ﷺ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»(7) وعن سفيان بن أسد الحضرمي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب»(8).
وقصارى القول أنه مهما لقي المسلم من عنت وإساءة فيجب عليه الصبر ودفع السيئة بالحسنة ولا يصح له اعتزال الناس ما دام قادرا على القيام بالخدمة النافعة للمجتمع الذي يعيش فيه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لايخالطهم ولا يصبر على أذاهم»(9).
ومما يزيد في تماسك المجتمع الإسلامي وإرساء قواعد الألفة بين أفرادهم بُعدهم عن الفحش في القول والعمل، وهجرهم كل ما من شأنه أن يؤرث نار العداوة والشقاق، ولهذا قال سيد الخلق: «والمهاجر من هجر ما نهى الله».
والأصل اللغوي للهجرة، الترك مطلقا وقد يراد به ترك الوطن إلى غيره، وفي الشرع مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوفا من الفتن ورغبة في إقامة الدين، وفي الحقيقة مفارقة كل ما يكرهه الله إلى ما يحبه.
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متحول
وتطلق الهجرة على هجرة القلب لما يكون عليه من يخالف في العقيدة، وعلى الشرائع الباطلة والعادات المستهجنة التي تهدم الإنسانية، وتنشب معاولها في بناء الخير الشامخ القوى، فالهجرة تنتظم الحسية منها والمعنوية، فلجوء المرء إلى وطن يحميه يعادل لجوء القلب إلى من يلوذ به وينطوي على وده ومحبته، وكل عند صاحبه حبيب.
وكل امرئ يولي الجميل محبب
وكل مكان ينبت العز طيب
ولما كان من المؤمنين الصادقين من فاتتهم الهجرة الكبرى من مكة إلى المدينة. تلك الهجرة التي كانت آية الإيمان الراسخ، والتي أشاد بفضلها القرآن الكريم وأعظم أجر من قام بها، وحكم لهم بالصدق في طاعة الله ونصرة رسوله، قال تعالى: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ﴾ (الحشر:8). – وواضح أنه بعد فتح مكة لم يبق من سبيل إلى تحصيل تلك الهجرة الخاصة – قال رسول الله ﷺ: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» معلنا أن الفضل في الحقيقة ليس راجعًا إلى ترك مكان إلى آخر، وإنما المقصود هو الفرار من الافتتان عن الدين والابتعاد عن الوقوع بين براثن الشيطان الرجيم، وعلى هذا فلا يزال باب الهجرة مفتوحًا وإن فات مظهره المحسوس وهو الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، فالمسلم في كل أحواله معرض للفتنة، ووساوس النفس الأمارة بالسوء، ومنازعة الهوى، وكلها شرور تحاول الاستيلاء على قلبه حتى تسلبه إيمانه، فمن تغلب عليها ولجأ إلى حمى ربه مستعيذا به فهو مهاجر إلى الله قاصد عونه راغب في رحمته. وفي الأحاديث الشريفة ما يدل على أن الهجرة الباقية هي هجرة السيئات، روى أحمد من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أين الهجرة إليك؟ حيث كنت أم إلى أرض معلومة أم لقوم خاصة أو إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله ﷺ ساعة ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟ قال: هأنذا يا رسول الله. قال: إذا أقمت الصلاة وآتيت الزكاة فأنت مهاجر وإن مت بالخضرمة» قال: يعني أرضا باليمامة، وفي رواية «الهجرة، أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالخضرمة».
فالله تبارك وتعالى نسأل أن يمكننا من التغلب على هوى النفس وكيد الشيطان وأعوانه من الجن والإنس، وأن يجعلنا ممن هجروا المعاصي وهاجروا في سبيله.
وقد عرفنا مما مر في شرح الحديث ا لشريف كل ما يؤكد المحبة بين الناس ويقوي ألفتهم، ويغرس روح التضامن والتكافل في المجتمع الإنساني، وأن من كف يده ولسانه عن إخوانه وعشرائه ومواطنيه فهو معدود في المهاجرين الذين ينأون عن الدنايا ويبتعدون بأنفسهم عما حرم الله لينالوا رضوانه ويحظوا بمغفرته ويدخلوا جنته وشعارهم دائما ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ﴾ (سورة الحشر:10).
مجلة الداعي، ربيع الآخر 1444هـ = نوفمبر 2022م، العدد: 4، السنة: 47
* * *
الهوامش:
- رواه البخاري.
- رواه البخاري.
- رواه مسلم.
- رواه البخاري.
- رواه أحمد والترمذي.
- رواه الترمذي.
- رواه أبوداود.
- رواه أبو داود.
- رواه الترمذي وابن ماجه.