بقلم: الشيخ الجليل المحقق حبيب الرحمان العثماني الديوبندي

(المتوفى: 1348هـ/ 1929م)

رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم، ديوبند، الأسبق

تعريب: الأستاذ محمد رضوان القاسمي(*)

         لما فرغ أبو بكر رضي الله عنه من مقاومة فتنة الردّة، عهد إلى خالد بن الوليد  أن يأتي العراق من أسفل منه، وإلى عياض بن غنم أن يأتي العراق من فوقه، وأيّهما سبق إلى «الحيرة» فهو أمير على الحيرة، وأمرهما  أبو بكر أن يستنفرا من قاتل أهل الردّة، وأن لا يغزونَّ معهما مرتدّ، ففعلا وكتبا إليه يستمدانه، فأمدّ خالدًا بالقعقاع بن عمرو التميمي، فقيل له: أتمدّه برجل واحد؟ فقال: لا يُهزَم جيش فيهم مثل هذا. وأمدّ عياضًا بعبد بن غوث الحميري. فلاريب  أنّ ذلك  إنّما  كان  من  فراسة أبي بكر رضي الله عنه ومن كمال إيمان أفراد المسلمين(1).

فتح  المسلمين  العراق  صلحًا:

         كانت «الحِيرة» تشكلّ بابًا للدّخول في العراق، ويتولىّ الحكمَ فيها حاكمٌ كبير من قِبل ملوك فارس؛  فكان دهاقينُ نواحي الحيرة يتربّصون بخالد، وينظرون ما يصنع أهلَ الحيرة، فلما صالحهم واستقاموا له أتته الدّهاقين من تلك النّواحي، وخرج إلى خالد للحوار عن المصالحة «إياس بن قبيصة»، وعمرو بن عبد المسيح، وهو ابن بُقيلة، –  وبُقيلة: تصغير بقلٍ، وإنّما سمّي بابن بُقيلة؛ لأنّه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا: ما أنت إلا بقيلة خضراء –  فأرسلوهم إلى خالد، فكان الذي يتكلّم عنهم عمرو بن عبد المسيح.

         فقال له خالد: كم أتت عليك من السنين قال: مئوسنين، قال: فما أعجب ما رأيتَ؟ قال: رأيت القرى منظومةً ما بين دمشق والحيرة، تخرج المرأة من الحيرة، فلا تزوّد إلا رغيفًا، فتبسّم خالد، وقال: هل لك من شيخك إلا عمله خرفتَ والله يا عمرو! ثم أقبل على أهل الحيرة،  فقال: ألم يبلغني أنكم خَبَثةٌ خَدَعةٌ مَكَرةٌ! فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يُدرى من أين جاء! فتجاهل له عمرو، وأحبّ أن يُرِيه من نفسه ما يُعرَف به عقلُه، ويستدلّ به على صحة ما حدّثه به، فقال: وحقِّك أيّها الأمير! إنّي لأعرف من أين جئت؟ قال: فمن أين جئت؟ قال: أقرب أم أبعد؟ قال: ما شئت، قال: من بطن أمي، قال: فأين تريد؟ قال: أمامي، قال: وما هو؟ قال: الآخرة، قال: فمن أين أقصى أثرِك؟ قال: من صلب أبي، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل؟ قال: إي والله وأقيدُ، قال: فوجده حين فره عضا، وكان أهل قريته أعلم به، فقال خالد: قتلتْ أرضٌ جاهلَها، وقتل أرضًا عالمُها، والقوم أعلم بما فيهم، فقال عمرو: أيّها الأمير! النّملة أعلم بما في بيتها من الجمل بما في بيت النّملة.

         وكان مع ابن بقيلة منصف له فعلّق كيسًا في حَقوِه، فتناول خالد الكيس، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمانةِ الله سُمُّ ساعةٍ، قال: لم تحتقب السّم؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحبّ إلي من مكروه أُدْخِلُه على قومي وأهل قريتي، فقال خالد: إنّها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال: «بسم الله خير الأسماء، ربّ الأرض وربّ السماء الذي ليس يضرّ مع اسمه داء، الرّحمن الرّحيم»؛  فأهْوَوا إليه ليمنعوه منه، وبادرهم فابتلعه، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكُنّ ما أردتم ما دام منكم أحد أيّها القرن، وأقبل على أهل الحيرة، فقال: لم أر كاليوم أمرًا أوضحَ  إقبالًا! فصالح ابن بقيلة خالدًا على تسعين ومئة ألف درهم  وقيل: على مئتي ألف وتسعين ألفًا  في كل سنة عوضًا عن المحافظة على أموال أهل الحيرة وأنفسهم. فما مضى على فتح الحيرة – وكان فتح الحيرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة – إلا وقت قليل حتى صالح رؤساءُ نواحي الحيرة و دهاقينُها أجمعون عن أهل منطقتهم.

         ولا يغيبنّ عن البال أنّ عمرو بن عبد المسيح كان بدوره عالـمًا كبيرًا من أهل الكتاب، و ممن حنّكتْه التّجاربُ  الطويلة  وحلب الدّهرَ أشطره، فتأكّدَ حين استمع لحديث خالد بن الوليد ورأى أحوالَ المسلمين بأم عينيه أنّهم  على الحق، وليغلبُنّ على العالم كائنًا ما كان. و لماّ رأى ما كان يتمتّع به خالد من قوّة الإيمان والتّوكل – حيث إنه قد ابتلع السمَّ القاتل دونما خوفٍ، و لم يؤثّر فيه شيئًا – بلغ علمُه درجةَ عين اليقين ؛ فلم يلبث أن صالح خالدًا، وآمن نفسَه وقومَه من كلّ نوع من المصائب والمتاعب؛ ولكن رغم هذه المواقف كلها لم يُكرهم المسلمون على اعتناق الإسلام قطّ؛ فلم يقولوا لهم:  «هلّا تدخلون في الإسلام إذا اعتقدتم حقانيّته؟!» و إنّما تركوهم وشأنَهم علمًا منهم أن الله هو يضلّ و يهدي من يشاء، فلم يُسلم أهل الحيرة؛ بل ولم يمض على هذا الصّلح إلا وقت قليل حتى نقضوا العهد بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه و استخفوا بالكتاب وضيّعوه، وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس. فلما افتتحها المثنّى رضي الله عنه ثانيةً أدلوا بذلك، فلم يجبهم إليه، وعاد بشرط آخر، فلما غلب المثنى على البلاد كفروا وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب. فلما افتتحها سعد رضي الله عنه وأدلوا بذلك، سألهم واحدًا من الشرطين، فلم يجيئوا بهما، فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنّهم مطيقون، فوضع عليهم أربع مئة ألف؛ ولكنه هوالآخر لم يُكرههم على اعتناق الإسلام(2).

 وقعة عجيبة في مدينة «أجنادين»:

         وأجنادين مدينة كبيرة بين «الرملة» و«بيت جبرين» من أرض الشّام، شهدتْ معركةً تأريخيّةً عظيمةً نشبت فيما  بين المسلمين والرّوم، وكان على الرّوم رجل منهم، يقال له «القبقلار»، وكان هرقل قد استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، فلما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلًا عربيًّا إلى جيش المسلمين فقال: ادخلْ في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يومًا وليلةً، ثم ائتني بخبرهم، فدخل فيهم رجل عربيٌّ لا ينكر، فأقام فيهم يومًا وليلةً، ثم أتاه، فقال له: ما وراءك؟ قال: «باللّيل رهبانٌ، وبالنّهار فرسانٌ، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم لإقامة الحق فيهم»، فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطنُ الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها(3).

         إنّها صورةٌ واقعيّةٌ تعكس أحوالَ الصّحابة – رضي الله عنهم – فكلُّ من رآهاولو كان معاندًا، تأثّر بها و عاد يعترف  بحقانيّة الإسلام، وربما لا تؤثّر دلائلُ عقليّة – ولو كانت ألفًا– تأثيرَها. و الإسلام ماكان ليبسط نفوذَه – مثلما بسط  الآن – عن طريق إبداء الشجاعة في المعارك والحروب. وتلك هي دعوانا أنّ الإسلام ما انتشر في العالم إلا ببركة صحبة الصحابة – رضي الله عنهم – وبمشاهدة أخلاقهم وعباداتهم وتعاملاتهم؛ ولكن رغم هذه المواقف الواضحة، والإذعانِ بحقانيّة الإسلام، لم يُسلم هذا القائد الروميُّ العظيم؛ لأنّ التوفيق الإلهيّ لم يكن يحالفه.

إسلام «جرجة» في ميدان اليرموك:

         وهناك قائد عظيم لمقدّمة الجيش الرّومي، اعتنق الإسلام في ميدان اليرموك في ساحة القتال، ألا وهو جرجة، فحديث إسلامه أنه لماّ التقى الفريقان خرج جرجة، حتى كان بين الصفّين، فنادى: ليخرجْ إليَّ خالد، فخرج إليه خالد، وأقام أبا عبيدة مكانه، فوافقه بين الصفّين، حتى اختلفت أعناق دابّتَيهما، وقد أمن أحدُهما صاحبَه، فقال جرجة: يا خالد أصْدِقْني ولا تكذبني؛ فإنّ الحرّ لا يكذب، ولا تخادِعْني؛ فإنّ الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيّكم سيفًا من السّماء فأعطاكه، فلا تسلّه على قوم إلا هزمتَهم؟ قال: لا، قال: فبم سُمِّيتَ سيف الله؟ قال: إنّ الله عز وجلّ بعث فينا نبيّه ﷺ، فدعانا، فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعًا، ثم إنّ بعضنا صدّقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذّبه، فكنت فيمن كذّبه وباعده وقاتله، ثم إنّ الله أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به، فتابعناه، فقال: «أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين»! ودعا لي بالنّصر، فسمِّيت «سيف الله» بذلك، فأنا من أشدّ المسلمين على المشركين، قال صدقتني. ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد! أخبرني إلام تدعوني؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، والإقرارِ بما جاء به من عند الله، قال: فمَن لم يُجِبْكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم، قال: فإن لم يُعطِها، قال: نؤذنه بحرب، ثم نقاتله قال: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدةٌ فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.

         ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذّخر؟ قال: نعم، وأفضل، قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ قال: إنّا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبيَّنا ﷺ، وهو حيٌّ بين أظهرنا، تأتيه أخبارُ السّماء ويخبرنا بالكتب، ويُرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منّا، قال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني! قال: بالله، لقد صدقتك وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة، وإن الله لولي ما سألت عنه، فقال: صدقتني. وقلب التُّرسَ ومال مع خالد، وقال: علِّمْني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشنّ عليه قِربةً من ماء، ثم صلىّ ركعتين، وحملت الرّوم مع انقلابه إلى خالد، وهم يرون أنها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا الحامية، عليهم عكرمة والحارث بن هشام، وركب خالد ومعه جرجة والروم خلال المسلمين، فتنادى الناس، فثابوا، وتراجعت الرّوم إلى مواقفهم، فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسّيوف، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النّهار إلى جنوح الشّمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصلّ صلاةً سجد فيها إلا الركعتين اللّتين أسلم عليهما(4).

         إنّ حديث خالد بن الوليد الذي جرى مع جرجة لصورةٌ صادقة للقوانين الإسلاميّة؛ لأنّها في الواقع  واضحةٌ خالصة ؛ حيث يتساوى في الإسلام في قوانين العدل والإنصاف والسّياسة والثقافة، كلٌّ من الحاكم والمحكوم والفاتحِ والمفتوح والمسلمِ وغيره على حدّ سواء، فضلًا عن أن يُتصوّر فيها الإكراهُ  والإجبار؛ فتوجيه الاتّهام بأنّ الإسلام قد انتشر في العالم بأسباب أخرى دون صدقه وحقانيّته، إنّما هو الظّلم والعسف ليس إلّا.

*  *  *

الهوامش:

(1)    الكامل: 2/147، ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة .

(2)    الطبري: 4/13 حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى.  الكامل: 2/147، ذكر وقعة يوم فرات بادقلى، وفتحه الحيرة .

(3)    الطبري: 4/40، ذكر وقعة أجنادين. البداية:7/77، وقعة اليرموك.

(4)    الطبري: 4/35، خبر اليرموك.

*  *  * *  *


(*)      الأستاذ بالجامعة الإسلامية العربية بجامع أمروهة/الهند.

مجلة الداعي، ربيع الآخر 1444هـ = نوفمبر 2022م، العدد: 4، السنة: 47

Related Posts