بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله

 (1305-1369هـ/1887-1949م)

تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)

         وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ ٤٦

         أي كانوا يقتفون آثارهم.

         فائدة: أي كان عيسى عليه السلام يصدق التوراة بلسانه، والكتاب الذي أعطيه – وهو الإنجيل- كان بدوره يصدق التوراة. وكان الإنجيل بمثابة التوراة في النور والهداية. ولايختلف أحدهما عن الآخر فيما يخص الشرائع والأحكام إلا قليلا، كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ ‌لَكُم ‌بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ﴾ [آل عمران:50]. وهذا الفرق لاينافي تصديق التوراة، كما نؤمن بالقرآن وحده، ولانعترف إلا بأحكامه، ورغم ذلك نصدق أن الكتب السماوية كلها من عند الله تعالى.

         وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٤٧

         إما أمر للنصارى الذين عاصروا نزول الإنجيل، وحكاه القرآن الكريم هنا. ويحتمل أن يتوجه الأمر إلى النصارى الذين عاصروا نزول القرآن الكريم بأن يحكموا بما أنزل الله تعالى في الإنجيل بالحق، أي يحذروا كتمان هذه البشارات التي نزل بها الإنجيل في حق خاتم الأنبياء والفارقليط المقدس ﷺ على لسان عيسى عليه السلام؛ و تحريفَها بالتأويلات اللاغية الباطلة. وما أعظم عصيان الله تعالى أن تكذبوا الهادي الجليل والمصلح العظيم- الذي قال فيه عيسى عليه السلام: «إذا جاءت هذه الروح الحق، أرشدتكم إلى سبل الصدق كلها»-، وتختاروا لأنفسكم الخسران الأبدي؟! وهل طاعة المسيح المقدس وربه تعني ذلك؟

         وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ ٤٨

         (مُهَيْمِنًا) له معانٍ عدة: الأمين، والغالب، والحاكم، والحافظ، والقائم على الشيء، وصح أن يكون القرآن الكريم مهيمنًا على الكتب السابقة بهذه المعاني كلها. فالأمانة الإلهية المودعة في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية قد احتفظ بها القرآن الكريم مع شيء زائد. ولم تتطرق إليه خيانة، ونسخ القرآن الكريم بعض الفروع الواردة في هذه الكتب مما يناسب ذلك الزمان أو يوافق المخاطبين المخصوصين، كما أكمل القرآن الكريم الحقائق الناقصة، وطوى كشحه عن الشطر الذي كان غير مبهم بالنسبة إلى ذلك الوقت.

         فائدة: اختلف اليهود فيما بينهم في شيء، فَقَدِم فريق منهم- وفيهم كبار ومشاهير أحبارهم القدوة- وسألوا النبي ﷺ أن يحكم بينهم. وقالوا: لايخفى عليك أن اليهود عامتهم يخضعون لنا وتحت سلطتنا، فإن حكمت لنا أسلمنا، فيسلم – بإسلامنا – جماهير اليهود. فلم يرض النبي ﷺ بهذا الإسلام الذي قدموه رشوة إليه، وأبى كل الإباء اتباع أهوائهم. فنزلت هذه الآية. (ابن كثير).

         فائدة: ويتجلى من الفوائد التي ذكرناها في سبب نزول الآيات السابقة أن الآية نزلت بعد أن أبى النبي ﷺ اتباع هواهم، فهذه الآيات نزلت تأييدًا لثباته ﷺ، وتأكيدًا لاستمراره على هذه العصمة مستقبلا، وما أقصر فهمًا من يرى هذه الآيات مناوئة لعصمته ﷺ؛ فإنه –أولا- لايدل المنعُ من شيء على أن الممنوع كان يريد ارتكابه، وثانيًا: معنى عصمة الأنبياء عليهم السلام أنه لاتصدر منهم معصية الله تعالى. أي لن يقدموا على أمر، وهم يعلمون أنه يجلب غضب الله تعالى وكراهيته. فإن اختاروا المرجوح والمفضول بدل الراجح والأفضل عن نسيان أو خطإ في الرأي والاجتهاد، أو ارتكبوا غير المرضي به ظنًا منهم أنه مرضي به عند الله تعالى، ويطلق عليه في الاصطلاح «زلة»، فمثل هذه الوقائع لاتنافي العصمة. كما تدل عليه قصص آدم وبعض الأنبياء غيره على ذلك. وإذا أدركت هذه الحقيقة لم يخالج قلبك شيء في فهم قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ﴾ [المائدة:48]، وقوله: ﴿وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ﴾ [المائدة:49] ونحوهما من الآيات القرآنية؛ فإنها إنما نبهت على ألاتتأثر أبدًا من زخرف قول هؤلاء الملعونين. ولاتعقد رأيًا يؤدي – من غير قصد- إلى صورة من صور اتباع أهوائهم. فمثلا هذه القصة –التي هي سبب نزول هذه الآيات- كيف احتالوا ومكروا بك أن اليهود كلهم سيتبعونك إذا ما حكمت لهم. فقد كانوا على علمٍ بأنه لا شيء أحب إلى محمد ﷺ في الدنيا من الإسلام. وفي مثل هذا الوضع قد يتوصل أعظم الناس استقامةً إلى أنه لابأس بتحقيق رغبة بسيطة لهم مادام يرجو من ورائه تحقق هذا النفع الديني العظيم. ففي مثل هذه الأوضاع الخطيرة التي تزل فيها الأقدام ينبه القرآن الكريم النبي ﷺ فيقول: حذارِ أن تكوِّن رأيًا لايناسب مقامك الرفيع. وكان ما عليه النبي ﷺ من كمال التقوى، وغاية تدبره وفهمه قد جعل مكر هؤلاء الملعونين وكيدهم هباءً منثورًا. وهَب أنه لو لم يكن وقع ذلك من قبل، فإن معنى الآية –كما أسلفنا- لاينافي عصمة الرسول ﷺ على الإطلاق.

         فائدة: أي أن الله تعالى وضع لكل أمة ما يناسب أحوالها واستعدادها من القوانين والمناهج، لاينسجم مع غيرها، ورغم أن الأنبياء كلهم والملل السماوية متفقة على أصول الدين والمقاصد الكلية- التي عليها مدار النجاة- ويصدق بعضها بعضًا. ثم خص كل أمة بما ينسجم مع أوضاعها واستعدادها من التوجيهات و الأحكام بالنظر إلى الفروع والجزئيات. وهذه الآية تشير إلى هذا الاختلاف في الفروع. روى البخاري في صحيحه حديثًا يفيد أن الأنبياء كلهم إخوة لعلات، أبوهم واحد، وأمهاتهم شتى. ولايعني ذلك إلا أن أصولهم جميعًا واحدة، و فروعهم مختلفة. وبما أن الأب فاعل ومفيض، والأم قابلة ومحل إفاضة في توليد الطفل، ففيه إشارة لطيفة إلى أن اختلاف الشرائع السماوية قائم على قابلية المخاطبين واستعدادهم. وإلا فلاتعدد في مبدإ الفياض.فمصدر الشرائع والأديان السماوية كلها واحد، وهو علمه الأزلي.

         فائدة: أي من منكم يؤمن بملك الله تعالى المطلق، وعلمــــــــه المحيط، وحكمتــــــه البالغة، ويصدق كل حكم جديد، ويقبله عن طوع ورغبة، ويستعد- استعداد العبد الوفي- لإسلام وجهه لكل حكم جديد.

         فائدة: أي لاتضيعوا أوقاتكم – دون جدوى- في التعرض للقيل والقال والخوض في النقاش السخيف بالنظر إلى اختلاف الشرائع. فمن ابتغى التوصل إلى الله تعالى فليواصل جهوده في الحياة العملية، وليحرص على أخذ ما تقدمه الشريعة الإسلامية من العقائد والأخلاق ومحاسن الأعمال.

         فائدة: واستعدوا لتحصيل الحسنات والخيرات بالنظر إلى العواقب، فإن القناع سينكشف يومئذ عن الاختلافات كلها.

         وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ٤٩

         أي أنت مأمور فيما يخص الخلافات بينهم مهما اشتد الصراع بين الناس- بأن تحكم بما أنزل الله تعالى، ولاتبال بما يقوله القائل منهم.

         فائدة1: أي يوفى العقاب يوم القيامة، وإنما يؤدب ببعض العقوبات الجاني أو من يرى هذه العقوبات نوعًا من التأديب.

         فائدة2: لاتكثر من الهم والحزن على إعراضهم وانحرافهم، فإن المطيعين من العباد عددهم في الدنيا قليل، ﴿وَمَا اَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِيْنَ﴾ [يوسف:103].

         أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠

         أي لايرى مَن يؤمن بملك الله تعالى المطلق، ورحمته الكاملة وعلمه المحيط، أمر أحد غيره سبحانه جديرا بالعناية والإقبال، فهل يُؤثِر هؤلاء اتباع الظنون والأهواء وظلمات الكفر والجاهلية رغم نزول نور الأحكام الإلهية؟

         يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٥١

         الأولياء مفرده ولي. والولي يطلق على الصديق والناصر والمعين أيضًا، والحاصل أنه ليس للمسلمين أن يوالوا اليهود والنصارى؛ بل الكفار عامة، كما صرحت به سورة النساء. ولابد أن نلاحظ هنا أن ثمة فرقًا بين المولاة والمروءة وحسن السلوك، والمصالحة، والمواساة، والعدل والإنصاف؛ فإن رأى أهل الإسلام مصلحة جاز لهم أن يصالحوا ويعاهدوا الكفرة على الوجه المشروع، كما قال تعالى: ﴿وَاِنْ جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ﴾ [الأنفال:61]. والأمر بالعدل والإحسان يعم المسلم والكافر وكل فرد من أفراد البشر كما دلت عليه الآيات السابقة. وأما المروءة وحسن السلوك والمواساة فإنما تصح مع الكفار الذين لايتظاهرون بالعناد والعداء ضد الإسلام. كما صرحت به سورة الممتحنة. وأما الموالاة أي الثقة الودية والنصرة الأخوية فليس لأحد من المسلمين أن يبذلها لغير المسلم. وأما الموالاة الصورية – التي تدخل ضمن ﴿إلَّا اَنْ تَتَّقُوْا مِنْهُمْ تُقٰىةً﴾ [آل عمران:28]، والمساعدة المطلقة مما لايضر موقف المسلمين فتجوز. وأما ما روي من التشديد والتضييق غير العادي من بعض الخلفاء الراشدين فيُحمل على سد الذرائع، ومزيد من الحذر والحيطة.

         فائدة 3: أي رغم التحزب الديني والعناد والبغضاء فيما بينهم يتولى بعضهم بعضًا، فيوالي اليهودي غيره من اليهود، والنصراني غيره من النصارى، وأما بإزاء جماعة المسلمين فالكفار أولياء بعضهم لبعض، وناصرون بعضهم بعضًا، فالكفرة ملة واحدة.

         فائدة 4: أي يكون من مجموعتهم وزمرتهم. ونزلت هذه الآيات في رئيس المنافقين عبد الله بن أبي. فقد كان يوالي اليهود ويصادقهم، فقد كان يظن أن المسلمين إذا نزلت عليهم دائرة، وانهزم الرسول وأصحابه، فإن موالاته لليهود تجلب عليه الخير. وإلى هذه القصة تشير الآيات التالية. ولم يتوخ المنافقون من وراء موالاة اليهود، إلا أنهم كانوا يرون اليهود عدوا لدودا للإسلام وأهله، ولايخفى أن من والى اليهود أو النصارى أو غيرهما من جماعة الكفرة بهذه النية وعلى هذا الوجه فلايخفى أنه عدو الإسلام، ولاشك في كفره. ومن المنافقين من رأى كفة الحرب تنقلب في غزوة أحد، فقالوا: لابد أن نوالي فلانًا من اليهود أو فلانًا من النصارى حتى نتحول إلى دينه عند الحاجة إليه، فأمثال هؤلاء يصدق عليهم معنى الآية الظاهر: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ﴾ [المائدة:51].

         وأما المسلمون الذين يتولون اليهود والنصارى من غير هذه النية والغرض، فإن المخافة الشديدة قائمة في حقهم من أن ينجرفوا إلى تبني دين الكفار من جراء الإكثار من مجالستهم ومخالطتهم مع مرور الأيام أو يعودوا لاتشمئز نفوسهم من شعائر الكفر والطقوس الشركية على أقل تقدير. فلا مانع أن يصدق عليهم إطلاق قوله: (فإنه منهم)، كما ينبه عليه حديث: «المرء مع من أحب»(1).

         فائدة 5: أي من والى أعداء الإسلام وظلم نفسه والمسلمين، وتربص هزيمة أهل الإسلام، فلايرجى لمثل هؤلاء القوم الأشقياء المعاندين الغادرين أن يهتدوا إلى الصراط المستقيم.

         فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ ٥٢

         هؤلاء هم الذين في قلوبهم مرض الشك والنفاق، ممن لايثقون بمواعيد الله تعالى وحقانية المسلمين، فيتسابقون إلى الانضواء تحت لواء الكفرة، ليتمتعوا بثمار الفتح عند ما تتحقق غلبة الكفرة، التي توهموها، وليتقوا بذلك ما زعموا من نزول بنات الدهر وآفاته على المسلمين. ومعنى قولهم: ﴿نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ﴾ [المائدة:52] هذا الذي كان تكنه قلوبهم، وأما إذا قالوا ذلك للمسلمين معتذرين عن موالاتهم اليهودَ، فكانوا يحملون الدائرة على أنهم يستقرضون اليهودَ، فإذا ما نزل القحوط أو غيره من المصائب فإنهم – اليهود- يقفون بجانبهم في الوقت الحرج، بناء على هذه العلاقات الودية معهم، والآية التالية تفند أوهامهم هذه:

         فائدة: أي عسى أن يرزق الله تعالى نبيه ﷺ الفتح الحاسم، والغلبةَ، ويدخله مكة المكرمة – وهي المركز المعترف به عند العرب كلهم- فاتحًا لها، أو يحقق غيره من الأحكام بقدرته الكاملة، فيجعل ذلك آمال المنافقين الباطلة كلها هباءً منثورًا، ويتجلى لهم أن موالاة أعداء الإسلام لاتجر إلا الذل والخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

         فإذا تحققت نتائج الذل والخسران هذه لم يكن نصيبهم إلا الذل وتقليب الأكف.الآن قد ندمت وما ينفع الندم؟. وفعلا تحقق ذلك، ولما رأى أعداء الإسلام الغلبة المطلقة للإسلام، وفتح مكة وغيرهما ثبطت هممهم، وقتل كثير من اليهود، ونفي كثيرون منهم، وخابت آمال المنافقين كلها، وذهبت مهب الريح، وصرَّح كذبهم للمسلمين، وحبطت مساعيهم كلها في موالاة اليهود، وطوِّقوا بالخسران الدنيوي، والهلاك الأبدي. وهذا المعنى يشرحه الآية التالية.

============= (1)  رواه البخاري برقم[6168]؛ومسلم برقم[2640].


(*)     أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.

مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47

Related Posts